شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

مواجه لها ، وأنه لا يخشى الموت من ألقى نفسه من شاهق ، ونحو ذلك فأمنه في هذه المواطن دليل عدم علمه ، وأحسن أحواله أن يكون معه ظنّ ، لا يصل إلى رتبة العلم اليقيني.

فإن قيل : فهذا ينتقض عليكم بمعصية إبليس ، فإنها كانت عن علم ، لا عن جهل ، وبقوله (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى (١٧)) [فصلت] وقال (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً (٥٩)) [الإسراء] وقال عن قوم فرعون (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا (١٤)) [النمل] وقال (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)) [العنكبوت] وقال موسى لفرعون (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ (١٠٢)) [الإسراء] وقال (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ (١١٥)) [التوبة] وقال (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ (١٤٦)) [البقرة] يعني القرآن أو محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)) [آل عمران] وقال (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)) [الأنعام].

والجحود إنكار الحقّ بعد معرفته ، وهذا كثير في القرآن.

قيل : حجج الله لا تتناقض ، بل كلّها حقّ ، يصدق بعضها بعضا ، وإذا كان سبحانه قد أثبت الجهالة لمن عمل السوء ، وقد أقرّ به وبرسالته ، وبأنه حرّم ذلك وتوعّد عليه بالعقاب ، ومع ذلك يحكم عليه بالجهالة التي لأجلها عمل السوء ، فكيف بمن أشرك به ، وكفر بآياته ، وعادى رسله ، أليس ذلك أجهل الجاهلين؟ وقد سمّى تعالى أعداءه جاهلين ، بعد إقامة الحجة عليهم ، فقال : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)) [الأعراف] فأمره بالإعراض عنهم بعد أن أقام عليهم الحجة ، وعلموا أنه صادق وقال : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)) [الفرقان].

٤٤١

فالجاهلون هنا الكفار الذين علموا أنه رسول الله ، فهذا العلم لا ينافي الحكم على صاحبه بالجهل ، بل يثبت له العلم ، وينافي عنه في موضع واحد ، كما قال تعالى عن السحرة من اليهود : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)) [البقرة] فأثبت لهم العلم الذي تقوم به عليهم الحجة ، ونفى عنهم العلم النافع الموجب لترك الضار ، وهذا نكتة المسألة وسرّ الجواب ، فما دخل النار إلا عالم ، ولا دخلها إلا جاهل ، وهذا العلم لا يجتمع مع الجهل في الرجل الواحد ، يوضّحه أن الهوى والغفلة والإعراض تصدّ عن كماله واستحضاره ومعرفة موجبه على التفصيل ، وتقيم لصاحبه شبها وتأويلات تعارضه ، فلا يزال المقتضى يضعف ، والعارض يعمل عمله حتى كأنه لم يكن ، ويصير صاحبه بمنزلة الجاهل من كلّ وجه ، فلو علم إبليس أنّ تركه للسجود لآدم يبلغ به ما بلغ ، وأنه يوجب له أعظم العقوبة ، وتيقّن ذلك ، لم يتركه ، ولكن حال الله بينه وبين هذا العلم ، ليقضى أمره ، وينفذ قضاؤه وقدره ، ولو ظنّ آدم وحواء أنهما إذا أكلا من الشجرة ، خرجا من الجنة ، وجرى عليهما ما جرى ، ما قرباها ، ولو علم أعداء الرسل تفاصيل ما يجري عليهم ، وما يصيبهم يوم القيامة ، وجزموا بذلك ، لما عادوهم.

قال تعالى عن قوم فرعون : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦)) [القمر] وقال : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)) [سبأ] وقال عن المنافقين وقد شاهدوا آيات الرسول وبراهين صدقه عيانا : (وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (٤٥)) [التوبة] وقال : (وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ (١٤)) [الحديد] وقال : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ (١٠)) [البقرة] وهو الشك ، ولو كان هذا لعدم العلم الذي تقوم به الحجة عليهم ، لما كانوا في الدرك الأسفل من النار ، بل هذا بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم الذي لم ينفعهم ، فالعلم يضعف قطعا بالغفلة والإعراض

٤٤٢

واتباع الهوى وإيثار الشهوات ، وهذه الأمور توجب شبهات وتأويلات تضاده.

فتأمل هذا الموضع حق التأمل ، فإنه من أسرار القدر والشرع والعدل ، فالعلم يراد به العلم التام المستلزم لأثره ، ويراد به المقتضى ، وإن لم يتم بوجود شروطه وانتفاء موانعه ، فالثاني يجامع الجهل دون الأول ، فتبين أن أصل السيئات الجهل وعدم العلم ، وإن كان كذلك ، فعدم العلم ليس أمرا وجوديا ، بل هو لعدم السمع والبصر والقدرة والإرادة ، والعدم ليس شيئا حتى يستدعي فاعلا مؤثرا فيه ، بل يكفي فيه عدم مشيئة ضده ، وعدم السبب الموجب لضده. والعدم المحض لا يضاف إلى الله فإنه شرّ ، والشرّ ليس إليه ، فإذا انتفى هذا الجازم عن العبد ، ونفسه بطبعها متحركة مريدة ، وذلك من لوازم شأنها ، تحركت بمقتضى الطبع والشهوة ، وغلب ذلك فيها على داعي العلم والمعرفة ، فوقعت في أسباب الشر ، ولا بدّ.

فصل

والله سبحانه قد أنعم على عباده ، من جملة إحسانه ونعمه ، بأمرين ، هما أصل السعادة :

أحدهما : أن خلقهم في أصل النشأة على الفطرة السليمة ، فكلّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يخرجانه عنها ، كما ثبت ذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشبه ذلك بخروج البهيمة صحيحة سالمة حتى يجدعها صاحبها ، وثبت عنه أنه قال : «يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حنفاء ، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم ،

٤٤٣

وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا» (١) فإذا تركت النفس وفطرتها ، لم تؤثر على محبة باريها وفاطرها وعبادته وحده شيئا ، ولم تشرك به ، ولم تجحد كمال ربوبيته ، وكان أحبّ شيء إليها وأطوع شيء لها وآثر شيء عندها ، ولكن يعدها من يقترن بها ، من شياطين الجن والإنس ، بتزيينه وإغوائه حتى ينغمس موجبها وحكمها.

الأمر الثاني : أنه سبحانه هدى الناس هداية عامة بما أودعه فيهم من المعرفة ، ومكّنهم من أسبابها ، وبما أنزل إليهم من الكتب ، وأرسل إليهم من الرسل ، وعلّمهم ما لم يكونوا يعلمونه ، ففي كلّ نفس ما يقتضي معرفتها بالحق ومحبتها له ، وقد هدى الله كلّ عبد إلى أنواع من العلم ، يمكنه التوصل بها إلى سعادة الآخرة ، وجعل في فطرته محبة لذلك ، لكن قد يعرض العبد عن طلب علم ما ينفعه ، فلا يريده ولا يعرفه ، وكونه لا يريد ذلك ، ولا يعرفه ، أمر عدمي ، فلا يضاف إلى الرب ، لا هذا ولا هذا ، فإنه من هذه الحيثية شرّ ، والذي يضاف إلى الرب علمه به وقضاؤه له بعدم مشيئته لضده ، وإبقائه على العدم الأصلي ، وهو من هذه الجهة خير ، فإنّ العلم بالشر خير من الجهل به ، وعدم رفعه بإثبات ضده ، إذا كان مقتضى الحكمة ، كان خيرا ، وإن كان شرا بالنسبة إلى محله ، وسيأتي تمام تقرير هذا في باب دخول الشر ، في القضاء الإلهي ، إن شاء الله سبحانه.

__________________

(١) رواه مسلم (٢٨٦٥) عن عياض بن حمار.

٤٤٤

فصل

وهاهنا حياة أخرى غير الحياة الطبيعية الحيوانية ، نسبتها إلى القلب كنسبة حياة البدن إليه ، فإذا أمدّ عبده بتلك الحياة ، أثمرت له ، من محبته وإجلاله وتعظيمه والحياء منه ومراقبته وطاعته ، مثل ما تثمر حياة البدن له ، من التصرف والفعل وسعادة النفس ونجاتها وفلاحها ، بهذه الحياة ، وهي حياة دائمة سرمدية ، لا تنقطع ، ومتى فقدت هذه الحياة ، واعتاضت عنها بحياتها الطبيعية الحيوانية ، كانت ضالة معذبة شقية ، ولم تسترح راحة الأموات ، ولم تعش عيش الأحياء كما قال تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣)) [الأعلى] فإن الجزاء من جنس العمل ، فإنه في الدنيا لما لم يحيا الحياة النافعة الحقيقية التي خلق لها ، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم ، ولم يكن ميتا عديم الإحساس ، كانت حياته في الآخرة كذلك ، فإنّ مقصود الحياة حصول ما ينتفع به ويلتذّ به ؛ والحيّ لا بد له من لذة أو ألم ، فإذا لم تحصل له اللذة ، لم يحصل له مقصود الحياة ، كمن هو حيّ في الدنيا ، وبه أمراض عظيمة ، تحول بينه وبين التنعم بما يتنعم به الأصحاء ، فهو يختار الموت ويتمناه ، ولا يحصل له ، فلا هو مع الأحياء ولا مع الأموات.

إذا عرف هذا ، فالشرّ من لوازم هذه الحياة ، وعدمها شر ، وهو ليس بشيء حتى يكون مخلوقا ، والله خالق كلّ شيء ، فإذا أمسك عن عبد هذه الحياة ، كان إمساكها خيرا بالنسبة إليه سبحانه ، وإن كان شرا بالإضافة إلى العبد لفوات ما يلتذّ ويتنعم به ، فالسيئات من طبيعة النفس ، ولم يمد بهذه الحياة

٤٤٥

التي تحول بينها وبينها ، فصار الشر كله من النفس ، والخير كله من الله ، والجميع بقضائه وقدره وحكمته. وبالله التوفيق.

فصل

قال القدريّ : ونحن نعترف بهذا جميعه ، ونقرّ بأنّ الله خلق الإنسان مريدا ، ولكن جعله على خلقة يريد بها ، وهو مريد بالقوة والقبول ، أي : خلقه قابلا لأن يريد هذا وهذا ، وأما كونه مريدا لهذا المعنى ، فليس ذلك بخلق الله ، ولكنه هو الذي أحدثه بنفسه ، ليس هو من إحداث الله.

قال الجبريّ : هذه الإرادة حادثة ، فلا بد لها من محدث ، فالمحدث لها إما أن يكون نفس الإنسان ، أو مخلوق خارج عنها ، أو ربها وفاطرها وخالقها ، والقسمان الأولان محال ، فتعين الثالث.

أما المقدمة الأولى فظاهرة ، إذ المحدث إما النفس ، وإما أمر خارج عنها ، والخارج عنها إما الخالق ، أو المخلوق.

وأما المقدمة الثانية فبيانها أنّ النفس لا يصحّ أن تكون هي المحدثة لإرادتها ، فإنها إما أن تحدثها بإرادة أو بغير إرادة ، وكلاهما ممتنع ، فإنها لو توقّف إحداثها على إرادة أخرى ، فالكلام فيها كالكلام في الأولى ، ويلزم التسلسل إلى غير نهاية ، فلا توجد إرادة حتى يتقدمها إرادات لا تتناهى ، وإن لم يتوقف إحداثها على إرادة منها ، بطل أن تكون هي المؤثرة في إحداثها ، إذ وقوع الحادث بلا إرادة من الفاعل المختار محال ، وإذا بطل أن تكون محدثة للإرادة بإرادة ، وأن يحدثها بغير إرادة ، تعيّن أن يكون المحدث لتلك

٤٤٦

الإرادة أمرا خارجا عنها ، فحينئذ إما أن يكون مخلوقا ، أو يكون هو الخالق سبحانه ، والأول محال ، لأن ذلك المحدث إن كان غير مريد ، لم يمكنه جعل الإنسان مريدا وإن كان مريدا فالكلام في إرادته كالكلام في إرادة الإنسان سواء ، فتعيّن أن يكون المحدث لتلك الإرادة هو الخالق لكل شيء ، الذي ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن.

قال القدري : قد اختلفت طرق أصحابنا في الجواب عن هذا الإلزام ، فقال الجاحظ : العبد يحدث أفعاله بغير إرادة منه ، بل مجرد قدرته وعلمه بما في الفعل من الملاءمة ، فإذا علم موافقة الفعل له ، وهو قادر عليه ، أحدثه بقدرته وعلمه ، وأنكر توقّفه على إرادة محدثة ، وأنكر حقيقة الإرادة في الشاهد ، ولم ينكر الميل والشهوة ، ولكن لا يتوقف إحداث عليها ، فإن الإنسان قد يفعل ما لا يشتهيه ولا يميل إليه. وخالفه جميع الأصحاب ، وأثبتوا الإرادة الحادثة ، ثم اختلفوا في سبب حدوثها.

فقال طائفة منهم : كون النفس مريدة أمر ذاتي لها ، وما بالذات لا يعلّل ، ولا يطلب سبب وجوده ، وطريقة التعليل تسلك ما لم يمنع منها مانع ، واختصاص الذات بالصفة الذاتية لا تعلل ، فهكذا اختصاص النفس بكونها مريدة هو أمر ذاتي لها ، وبذلك كانت نفسا. فقول القائل : لم أردت كذا ، وما الذي أوجب لها إرادته ، كقوله : لم كانت نفسا؟ وكقوله : لم كانت النار محرقة أو متحركة؟ ولم كان الماء مائعا سيالا؟ ولم كان الهواء خفيفا؟ فكون النفس مريدة متحركة بالإرادة هو معنى كونها نفسا ، فهو بمنزلة قول القائل : لم كانت نفسا؟ وحركتها بمنزلة حركة الفلك ، فهي خلقت هكذا.

قالت طائفة أخرى : بل الله سبحانه أحدث فيها الإرادة ، والإرادة صالحة للضدين ، فخلق فيها إرادة تصلح للخير والشر ، فآثرت هي أحدهما على الآخر بشهوتها وميلها ، فأعطاها قدرة صالحة للضدين ، وإرادة صالحة لهما ،

٤٤٧

فكانت القدرة والإرادة من إحداثه سبحانه. واختيارها أحد المقدورين المرادين من قبلها ، فهي التي رجّحته.

قالوا : والقادر المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر بغير مرجّح ، كالعطشان إذا قدّم له قدحان متساويان من كل وجه ، والهارب إذا عنّ له طريقان ، كذلك فإنه يرجّح أحدهما بلا مرجح ، فالله سبحانه أحدث فيه إرادة الفعل ، ولكن الإرادة لا توجب المراد ، فإحداثها فيها امتحانا له وابتلاء ، وأقدره على خلافها ، وأمره بمخالفتها ، ولا ريب أنه قادر على مخالفتها ، فلا يلزم من كونها مخلوقة لله حاصلة بإحداثه وجوب الفعل عندها.

وقال أبو الحسين البصري : إنّ الفعل يتوقف على الداعي والقدرة ، وهما من الله ، خلقا فيه ، وعندهما يجب وجود الفعل باختيار العبد وداعيه ، فيكون هو المحدث له بما فيه من الدواعي والقدرة.

فهذه طرق أصحابنا في الجواب عما ذكرتم.

قال السّنيّ : لم تتخلصوا بذلك من الإلزام ، ولم تبينوا به بطلان حجتهم المذكورة ، فلا منعتم مقدماتها ، وبينتم فسادها ، ولا عارضتموها بما هو أقوى منها ، كما أنهم لم يتخلصوا من إلزامكم ، ولم يبينوا بطلان دليلكم ، وكان غاية ما عندكم وعندهم المعارضة وبيان كل منكم تناقض الآخر ، وهذا لا يفيد نصرة الحقّ وإبطال الباطل ، بل يفيد بيان خطئكم وخطئهم وعدو لكم وإياهم عن منهج الصواب. فنقول وبالله التوفيق.

مع كلّ منكما صواب من وجه وخطأ من وجه ، فأما صواب الجبريّ ، فمن جهة إسناده الحوادث كلها إلى مشيئة الله وخلقه وقضائه وقدره. والقدري خالف الضرورة في ذلك ، فإن كون العبد مريدا فاعلا بعد أن لم يكن ، أمر حادث ، فإما أن يكون له محدث ، وإما أن لا يكون ، فإن لم يكن له محدث

٤٤٨

لزم حدوث الحوادث بلا محدث ، وإن كان له محدث ، فإما أن يكون هو العبد ، أو الله سبحانه ، أو غيرهما ، فإن كان هو العبد ، فالقول في إحداثه لتلك الفاعلية كالقول في إحداث سببها ، ويلزم التسلسل ، وهو باطل هاهنا بالاتفاق ، لأنّ العبد كائن بعد أن لم يكن ، فيمتنع أن تقوم به حوادث لا أوّل لها ، وإن كان غير الله ، فالقول فيه كالقول في العبد ، فتعين أن يكون الله هو الخالق المكوّن لإرادة العبد وقدرته وإحداثه وفعله ، وهذه مقدمات يقينية لا يمكن القدح فيها.

فمن قال : إن إرادة العبد وإحداثه حصل بغير سبب ، اقتضى حدوث ذلك ، والعبد أحدث ذلك ، وحاله عند إحداثه كما كان قبله ، بل خص أحد الوقتين بالإحداث من غير سبب اقتضى تخصيصه ، وأنه صار مريدا فاعلا محدثا بعد أن لم يكن كذلك ، من غير من جعله كذلك ، فقد قال ما لا يعقل ، بل يخالف صريح العقل ، وقال بحدوث حوادث بلا محدث.

وقولكم : إن الإرادة لا تعلل ، كلام باطل لا حقيقة له ، فإن الإرادة أمر حادث ، فلا بد له من محدث ، ونظير هذا المحال قولكم في فعل الرب سبحانه أنه بواسطة إرادة يحدثها ، لا في محل من غير سبب اقتضى حدوثها ، يكون مريدا بها للمخلوقات ، فارتكبتم ثلاث محالات : حدوث حادث بلا إرادة من الفاعل ، وحدوث حادث بلا سبب حادث ، وقيام الصفة بنفسها لا في محل. وادعيتم مع ذلك أنكم أرباب العقول والنظر ، فأي معقول أفسد من هذا ، وأي نظر أعمى منه؟.

وإن شئت قلت : كون العبد مريدا أمر ممكن ، والممكن لا يترجح وجوده على عدمه إلا لمرجّح تام ، والمرجّح التام إما من العبد ، وإما من مخلوق آخر ، وإما من الله سبحانه ، والقسمان الأولان باطلان ، فتعين الثالث كما تقدم ، فهذه الحجة لا يمكن دفعها ، ولا يمكن دفع العلم الضروري باستناد

٤٤٩

أفعالنا الاختيارية إلى إرادتنا وقدرتنا ، وإنا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة. وبالعكس ، فهذه الحجة لا يمكن دفعها ، والجمع بين الحجتين هو الحق ، فإن الله سبحانه خالق إرادة العبد وقدرته ، وجاعلهما سببا لإحداثه الفعل ، فالعبد محدث لفعله بإرادته واختياره وقدرته حقيقة ، وخالق السبب خالق للمسبّب ، ولو لم يشأ سبحانه وجود فعله ، لما خلق له السبب الموجد له. فقال الفريقان للسني : كيف يكون الرب تعالى محدثا لها والعبد أيضا؟.

قال السني : إحداث الله سبحانه لها بمعنى أنه خلقها منفصلة عنه ، قائمة بمحلها ، وهو العبد ، فجعل العبد فاعلا لها بما أحدث فيه من القدرة والمشيئة ، وإحداث العبد لها بمعنى أنها قامت به ، وحدثت بإرادته وقدرته ، وكلّ من الإحداثين مستلزم للآخر ، ولكن جهة الإضافة مختلفة ، فما أحدثه الربّ سبحانه من ذلك فهو مباين له قائم بالمخلوق مفعول له لا فعل ، وما أحدثه العبد فهو فعل له ، قائم به يعود إليه حكمه ، ويشتق له منه اسمه ، وقد أضاف الله سبحانه كثيرا من الحوادث إليه ، وأضافها إلى بعض مخلوقاته كقوله : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها (٤٢)) [الزمر] وقال : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ (١١)) [السجدة] وقال : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا (٦١)) [الإنعام] وقال : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ (١٥١)) [آل عمران] وقال : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا (٢٧)) [إبراهيم] ، وقال : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ (١١٣)) [النساء] وقال : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ (١٠٢)) [النحل] وقال : (فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ (١١٣)) [النحل] (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ (٤١)) [المؤمنون] وقال : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ (٤٠)) [العنكبوت] (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢)) [القمر].

وهذا كثير ، فأضاف هذه الأفعال إلى نفسه إذ هي واقعة بخلقه ومشيئته وقضائه ، وأضافها إلى أسبابها ، إذ هو الذي جعلها أسبابا ، لحصولها بين

٤٥٠

الإضافتين ، ولا تناقض بين السببين ، وإذا كان كذلك تبين أنّ إضافة الفعل الاختياريّ إلى الحيوان بطريق التسبب ، وقيامه به ووقوعه بإرادته لا ينافي إضافته إلى الرب سبحانه خلقا ومشيئة وقدرا.

ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١)) [الحاقة] وقال لنوح : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ (٤٠)) [هود] فالربّ سبحانه هو الذي حملهم فيها بإذنه وأمره ومشيئته ، ونوح حملهم بفعله ومباشرته.

فصل

وأما قول الجاحظ : إنّ العبد يحدث أفعاله الاختيارية من غير إرادة منه ، بل بمجرد القدرة والداعي ، فإن أراد نفي إرادة العبد ، وجحد هذه الصفة عنه ، فمكابرة لا تنكر من طوائف ، هم أكثر الناس مكابرة وجحدا للمعلوم بالضرورة ، فلا أرخص من ذلك عندهم ، وإن أراد أنّ الإرادة أمر عدمي ، وهو كونه غير مغلوب ولا ملجأ ، فيقال : هذا العدم من لوازم الإرادة ، لا أنه نفسها ، وكون الإرادة أمرا عدميا مكابرة أخرى ، وهي بمنزلة قول القائل : القدرة أمر عدمي ، لأنها بمعنى عدم العجز والكلام عدمي ، لأنه عدم الخرس. والسمع والبصر عدمي ، لأنهما عدم الصمم والعمى ، وأما قوله : إن الفعل يقع بمجرد القدرة ، وعلم الفاعل بما فيه من الملاءمة فمكابرة ثالثة ، فإنّ العبد يجد من نفسه قدرة على الفعل وعلما بمصلحته ، ولا يفعله لعدم إرادته له ، لما في فعله من فوات محبوب له ، أو حصول مكروه إليه ، فلا يوجب القدرة والعلم وقوع الفعل ما لم تقارنهما الإرادة.

٤٥١

فصل

وأما قول الآخر : إنّ كون النفس مريدة أمر ذاتي لها ، فلا تعلل ، إلى آخره كلام في غاية البطلان ، فهب أنّا لا نطلب علة كونها مريدة ، فكونها كذلك هو مخلوق فيها أم غير مخلوق ، وهي التي جعلت نفسها كذلك ، أم فاطرها وخالقها هو الذي جعلها كذلك ، وإذا كان سبحانه هو الذي أنشأها بجميع صفاتها وطبيعتها وهيئاتها ، فكونها مريدة هو وصف لها ، وخالقها خالق لأوصافها ، فهو خالق لصفة المريدية فيها ، فإذا كانت تلك الصفة سببا للفعل ، وخالق السبب خالق للمسبب ، والمسبب واقع بقدرته ومشيئته وتكوينه ، وهذا مما لا ينكره إلا مكابر معاند.

فصل

وأما قول الطائفة الأخرى : إن الله سبحانه خلق فيه إرادة صالحة للضدين ، فاختار أحدهما على الآخر ، ولا ريب أن الأمر كذلك ، ولكن وقوع أحد الضدين باختياره وإيثاره له وداعيه إليه لا يخرجه عن كونه مخلوقا للرب سبحانه مقدورا له مقدّرا على العبد واقعا بقضاء الرب وقدره ، وأنه لو شاء لصرف داعية العبد وإرادته عنه إلى ضده ، فهذه هي البقية التي بقيت على هذه الفرقة من إنكار القدر ، فلو ضمّوها إلى قولهم لأصابوا كلّ الإصابة ، ولكانوا أسعد بالحقّ في هذه المسألة من سائر الطوائف.

٤٥٢

وتحقيق ذلك أن الله سبحانه بعدله وحكمته أعطى العبد قدرة وإرادة ، يتمكن بها من جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ، فأعانه بأسباب ظاهرة وباطنة ، ومن جملة تلك الأسباب القدرة والإرادة ، وعرّفه طريق الخير والشر ، ونهج له الطريق ، وأعانه بإرسال رسله وإنزال كتبه ، وقرن به ملائكته ، وأزال عنه كل علة يحتج بها عليه ، ثم فطرهم سبحانه على إرادة ما ينفعهم وكراهة ما يؤذيهم ويضرهم كما فطر على ذلك الحيوان البهيم ، ثم كان كثير مما ينفعهم لا علم لهم به على التفصيل ، والذي يعلمونه من المنافع أمر مشترك بينهم وبين الحيوانات ، وثمّ أمور عظيمة هي أنفع شيء لهم ، لا صلاح لهم ولا فلاح ولا سعادة إلا بمعرفتها وطلبها وفعلها ، ولا سبيل لهم إلى ذلك إلا بوحي منه وتعريف خاص ، فأرسل إليهم رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، فعرّفهم ما هو الأنفع لهم وما فيه سعادتهم وفلاحهم ، فصادفتهم الرّسل مشتغلين بأضدادها ، قد ألفوها وساكنوها ، وجرت عليها عوائدهم حين ألفتها الطباع ، فأخبرتهم الرسل أنها أضرّ شيء عليهم ، وأنها من أعظم أسباب ألمهم وفوات أربهم وسرورهم ، فنهضت الإرادة طالبة للسعادة والفلاح ، إذ الدعوة إلى ذلك محركة للقلوب والأسماع والأبصار إلى الاستجابة فقام داعي الطبع والإلف والعادة في وجه ذلك الداعي معارضا له ، يعد النفس ويمنّيها ويرغّبها ويزيّن لها ما ألفته واعتادته ، لكونه ملائما له ، وهو نقد عاجل وراحة مؤثرة ولذة مطلوبة ولهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر ، وداعي الفلاح يدعو إلى أمر آجل في دار غير هذه الدار ، لا ينال إلا بمفارقة ملاذّها وطيباتها ومسراتها وتجرّع مرارتها والتعرّض لآفاتها. وإيثار الغير لمحبوباتها ومشتهياتها ، يقول : خذ ما تراه ، ودع ما سمعت به. فقامت الإرادة بين الداعيين ، تصغي إلى هذا مرة وإلى هذا مرة ، فههنا معركة الحرب ومحل المحنة ، فقتيل وأسير وفائز بالظفر والغنيمة ، فإذا شاء الله سبحانه رحمة عبد جذب قوى إرادته وعزيمته إلى ما ينفعه ويحييه الحياة الطيبة ، فأوحى إلى ملائكته أن ثبّتوا

٤٥٣

عبدي ، واصرفوا همّته وإرادته إلى مرضاتي وطاعتي كما قال تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا (١٢)) [الأنفال].

وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن للملك بقلب ابن آدم لمة وللشيطان لمة ، فلمّة الملك ، إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ثم قرأ (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً (٢٦٨)) [البقرة]» (١).

وإذا أراد خذلان عبد أمسك عنه تأييده وتثبيته ، وخلّى بينه وبين نفسه ، ولم يكن بذلك ضالا له ، لأنه قد أعطاه قدرة وإرادة ، وعرّفه الخير والشر ، وحذّره طريق الهلاك وعرّفه بها ، وحضّه على سلوك طريق النجاة ، وعرّفه بها ، ثم تركه وما اختار لنفسه ، وولاه ما تولى ، فإذا وجد شرا فلا يلومنّ إلا نفسه.

قال القدريّ : فتلك الإرادة المعينة المستلزمة للفعل المعين ، إن كانت بإحداث العبد فهو قولنا ، وإن كانت بإحداث الرب سبحانه ، فهو قول الجبري ، وإن كانت بغير محدث لزم المحال.

قال السني : لا تفتقر كلّ إرادة من العبد إلى مشيئة خاصة من الله ، توجب حدوثها ، بل يكفي في ذلك المشيئة العامة لجعله مريدا ، فإنّ الإرادة هي حركة النفس ، والله سبحانه شاء أن تكون متحركة ، وأما أن تكون كل حركة تستدعي مشيئة مفردة ، فلا ، وهذا كما أنه سبحانه شاء أن يكون الحي متنفسا ولا يفتقر كل نفس من أنفاسه إلى مشيئة خاصة ، وكذلك شاء أن يكون هذا الماء بجملته جاريا ، ولا تفتقر كل قطرة منه إلى مشيئة خاصة ، يجري بها

__________________

(١) ضعيف. رواه الترمذي (٢٩٨٨) عن عبد الله بن مسعود ، وفيه عطاء بن السائب :

ضعيف.

٤٥٤

الماء ، وكذلك مشيئته لحركات الأفلاك وهبوب الرياح ونزول الغيث ، وكذلك خطرات القلوب ووساوس النفس ، وكذلك مشيئته أن يكون العبد متكلما ، لا يستلزم أن يكون كلّ حرف بمشيئته غير مشيئة الحرف الآخر ، وإذا تبين ذلك فهو سبحانه شاء أن يكون عبده شائيا مريدا ، وتلك الإرادة والمشيئة صالحة للضدين ، فإذا شاء أن يهدي عبدا صرف داعيه ومشيئته وإرادته إلى معاشه ومعاده ، وإذا شاء أن يضلّه تركه ونفسه وتخلّى عنه ، والنفس متحركة بطبعها لا بد لها من مراد محبوب هو مألوهها ومعبودها ، فإن لم يكن الله وحده هو معبودها ومرادها ، وإلا كان غيره لها معبودا ومرادا ، ولا بدّ ، فإن حركتها ومحبتها من لوازم ذاتها ، فإن لم تحبّ ربّها وفاطرها وتعبده أحبّت غيره وعبدته ، وإن لم تتعلق إرادتها بما ينفعها في معادها تعلقت بما يضرها فيه ولا بدّ ، فلا تعطيل في طبيعتها ، وهكذا خلقت.

فإن قلت : فأين مشيئة الله لهداها وضلالها.

قلت : إذا شاء إضلالها تركها ودواعيها ، وخلّى بينها وبين ما تختاره ، وإذا شاء هداها جذب دواعيها وإرادتها إليه وصرف عنها موانع القبول ، فيمدها على القدر المشترك بينها وبين سائر النفوس بإمداد وجودي ، ويصرف عنها الموانع التي خلّى بينها وبين غيرها فيها ، وهذا بمشيئته وقدرته ، فلم يخرج شيء من الموجودات عن مشيئته وقدرته وتكوينه البتة ، لكن يكون ما يشاء بأسباب وحكم ، ولو أنّ الجبرية أثبتت الأسباب والحكم ، لانحلّت عنها عقد هذه المسألة ، ولو أنّ القدرية سحبت ذيل المشيئة والقدر والخلق على جميع الكائنات ، مع إثبات الحكم والغايات المحمودة في أفعال الرب سبحانه ، لا نحلت عنها عقدها وبالله التوفيق.

٤٥٥
٤٥٦

الباب الحادي والعشرون

في تنزيه القضاء الإلهي عن الشر

قال الله تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)) [آل عمران] فصدّر الآية سبحانه بتفرّده بالملك كله ، وأنه هو سبحانه هو الذي يؤتيه من يشاء ، وينزعه ممن يشاء لا غيره ، فالأول : تفرّده بالملك ، والثاني : تفرده بالتصرف فيه ، وإنه سبحانه هو الذي يعزّ من يشاء بما يشاء من أنواع العز ، ويذل من يشاء بسلب ذلك العز عنه ، وأنّ الخير كله بيديه ، ليس لأحد معه منه شيء ، ثم ختمها بقوله : إنك على كل شيء قدير ، فتناولت الآية ملكه وحده وتصرّفه وعموم قدرته ، وتضمنت أن هذه التصرّفات كلها بيده ، وأنها كلها خير ، فسلبه الملك عمّن يشاء وإذلاله من يشاء خير ، وإن كان شرا بالنسبة إلى المسلوب الذليل ، فإن هذا التصرف دائر بين العدل والفضل ، والحكمة والمصلحة لا تخرج عن ذلك ، وهذا كله خير يحمد عليه الربّ ، ويثنى عليه به ، كما يحمد ويثنى عليه ، بتنزيهه عن الشر ، وأنه ليس إليه ، كما ثبت في صحيح مسلم ، أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يثني على ربه بذلك في دعاء الاستفتاح في قوله : «لبّيك وسعديك ، والخير في يديك والشر ليس إليك ،

٤٥٧

أنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت» (١) فتبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه ، بل كل ما نسب إليه فهو خير والشر إنما صار شرا لانقطاع نسبته وإضافته إليه ، فلو أضيف إليه لم يكن شرا ، كما سيأتي بيانه.

وهو سبحانه خالق الخير والشر ، فالشّرّ في بعض مخلوقاته لا في خلقه وفعله ، وخلقه وفعله وقضاؤه وقدره خير كله ، ولهذا تنزه سبحانه عن الظلم الذي حقيقته وضع الشيء في غير موضعه كما تقدم ، فلا يضع الأشياء إلا في مواضعها اللائقة بها. وذلك خير كله. والشر وضع الشيء في غير محله ، فإذا وضع في محله لم يكن شرا ، فعلم أنّ الشر ليس إليه ، وأسماؤه الحسنى تشهد بذلك ، فإن منها : القدوس السلام العزيز الجبار المتكبر.

فالقدّوس : المنزّه من كل شرّ ونقص وعيب ، كما قال أهل التفسير. هو الطاهر من كل عيب المنزه عما لا يليق به ، وهذا قول أهل اللغة. وأصل الكلمة من الطهارة والنزاهة ، ومنه : بيت المقدس ، لأنه مكان يتطهّر فيه من الذنوب ، ومن أمّه لا يريد إلا الصلاة فيه ، رجع من خطيئته كيوم ولدته أمه. ومنه : سميت الجنة حظيرة القدس لطهارتها من آفات الدنيا. ومنه : سمي جبريل روح القدس لأنه طاهر من كل عيب. ومنه : قول الملائكة (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (٣٠)) [البقرة] فقيل : المعنى : ونقدّس أنفسنا لك ، فعدى باللام ، وهذا ليس بشيء ، والصواب أن المعنى : نقدّسك وننزّهك عما لا يليق بك ، هذا قول جمهور أهل التفسير.

وقال ابن جرير : ونقدس لك : ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس ، ومما أضاف إليك أهل الكفر بك. قال : وقال بعضهم : نعظّمك ونمجّدك ، قاله أبو صالح.

__________________

(١) مر بنحوه.

٤٥٨

وقال مجاهد : نعظمك ونكبرك ، انتهى.

وقال بعضهم : ننزهك عن السوء ، فلا ننسبه إليك ، واللام فيه على حدّها ، في قوله : (رَدِفَ لَكُمْ (٧٢)) [النمل] ، لأن المعنى تنزيه الله لا تنزيه نفوسهم ، لأجله قلت : ولهذا قرن هذا اللفظ بقولهم : نسبح بحمدك. فإنّ التسبيح تنزيه الله سبحانه عن كل سوء.

قال ميمون بن مهران : سبحان الله كلمة يعظّم بها الرب ، ويحاشى بها من السوء.

وقال ابن عباس : هي تنزيه لله من كل سوء. وأصل اللفظ من المباعدة ، من قولهم : سبحت في الأرض ، إذا تباعدت فيها. ومنه : كلّ في فلك يسبحون. فمن أثنى على الله ونزّهه عن السوء فقد سبحه. ويقال : سبح الله وسبح له وقدسه وقدس له.

وكذلك اسمه السلام ، فإنه الذي سلم من العيوب والنقائص ، ووصفه بالسلام أبلغ في ذلك من وصفه بالسالم ، ومن موجبات وصفه بذلك سلامة خلقه من ظلمه لهم ، فسلم سبحانه من إرادة الظلم والشر ومن التسمية به ومن فعله ومن نسبته إليه ، فهو السلام من صفات النقص وأفعال النقص وأسماء النقص ، المسلّم لخلقه من الظلم ، ولهذا وصف سبحانه ليلة القدر بأنها سلام ، والجنة بأنها دار السلام ، وتحية أهلها السلام ، وأثنى على أوليائه بالقول السلام. كل ذلك السالم من العيوب.

وكذلك الكبير من أسمائه والمتكبر. قال قتادة وغيره : هو الذي تكبّر عن السوء. وقال أيضا : الذي تكبر عن السيئات.

وقال مقاتل : المتعظّم عن كل سوء.

٤٥٩

وقال أبو إسحاق : الذي يكبر عن ظلم عباده.

وكذلك اسمه العزيز : الذي له العزّة التامة ، ومن تمام عزّته براءته عن كلّ سوء وشر وعيب ، فإن ذلك ينافي العزة التامة.

وكذلك اسمه العليّ : الذي علا عن كل عيب وسوء ونقص. ومن كمال علوّه أن لا يكون فوقه شيء ، بل يكون فوق كل شيء.

وكذلك اسمه الحميد : وهو الذي له الحمد كله ، فكمال حمده يوجب أن لا ينسب إليه شر ولا سوء ولا نقص ، لا في أسمائه ولا في أفعاله ولا في صفاته.

فأسماؤه الحسنى تمنع نسبة الشر والسوء والظلم إليه ، مع أنه سبحانه الخالق لكلّ شيء ، فهو الخالق للعباد وأفعالهم وحركاتهم وأقوالهم ، والعبد إذا فعل القبيح المنهيّ عنه كان قد فعل الشر والسوء ، والرب سبحانه هو الذي جعله فاعلا لذلك ، وهذا الجعل منه عدل وحكمة وصواب ، فجعله فاعلا خير ، والمفعول شر قبيح ، فهو سبحانه بهذا الجعل قد وضع الشيء موضعه ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة التي يحمد عليها ، فهو خير وحكمة ومصلحة ، وإن كان وقوعه من العبد عيبا ونقصا وشرا.

وهذا أمر معقول في الشاهد ، فإنّ الصانع الخبير إذا أخذ الخشبة العوجاء والحجر المكسور واللبنة الناقصة ، فوضع ذلك في موضع يليق به ويناسبه ، كان ذلك منه عدلا وصوابا ، يمدح به ، وإن كان في المحل عوج ونقص وعيب ، يذم به المحل. ومن وضع الخبائث في موضعها ومحلها اللائق بها ، كان ذلك حكمة وعدلا وصوابا ، وإنما السّفه والظلم أن يضعها في غير موضعها ، فمن وضع العمامة على الرأس ، والنعل في الرجل ، والكحل في العين ، والزبالة في الكناسة ، فقد وضع الشيء موضعه ، ولم يظلم النعل

٤٦٠