شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

وقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً (٥٧)) [الكهف].

وقال تعالى : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ (٣٧)) [غافر] قرأها الكوفيون ، وصدّ بضم الصاد حملا على زيّن ، وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (٢٨)) [غافر] وقال : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)) [البقرة].

ومعلوم أنه لم ينف هدى البيان والدلالة الذي تقوم به الحجة ، فإنه حجته على عباده.

والقدرية تردّ هذا كله إلى المتشابه ، وتجعله من متشابه القرآن ، وتتأوّله على غير تأويله ، بل تتأوله بما يقطع ببطلانه ، وعدم إرادة المتكلم له ، كقول بعضهم : المراد من ذلك تسمية الله العبد مهتديا وضالا ، فجعلوا هداه وإضلاله مجرد تسمية العبد بذلك ، وهذا مما يعلم قطعا أنه لا يصحّ حمل هذه الآيات عليه ، وأنت إذا تأملتها ، وجدتها لا تحتمل ما ذكروه البتة ، وليس في لغة أمة من الأمم ، فضلا عن أفصح اللغات وأكملها ، هداه : بمعنى سماه مهتديا ، وأضلّه : سماه ضالا. وهل يصح أن يقال : علمه ، إذا سماه عالما ، وفهمه ، إذا سماه فهما؟! وكيف يصح هذا في مثل قوله تعالى (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (٢٧٢)) [البقرة].

فهل فهم أحد غير القدرية المحرّفة للقرآن من هذا ، ليس عليك تسميتهم مهتدين ، ولكن الله يسمي من يشاء مهتديا؟ وهل فهم أحد قط من قوله تعالى (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (٥٦)) [القصص] لا تسميه مهتديا ، ولكن الله يسميه بهذا الاسم ، وهل فهم أحد من قول الداعي (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)) [الفاتحة] وقوله : اللهم اهدني من عندك ، ونحوه ، اللهم سمني مهتديا؟!

٢٢١

وهذا من جناية القدرية على القرآن ، ومعناه نظير جناية إخوانهم من الجهمية على نصوص الصفات وتحريفها عن مواضعها ، وفتحوا للزنادقة والملاحدة جنايتهم على نصوص المعاد وتأويلها بتأويلات ، إن لم تكن أقوى من تأويلاتهم ، لم تكن دونها. وفتحوا للقرامطة والباطنية تأويل نصوص الأمر والنهي بنحو تأويلاتهم ، فتأويل التحريف الذي سلسلته هذه الطوائف أصل فساد الدنيا والدين وخراب العالم.

وسنفرد إن شاء الله كتابا نذكر فيه جناية المتأوّلين على الدنيا والدين.

وأنت إذا وازيت بين تأويلات القدرية والجهمية والرافضة ، لم تجد بينها وبين تأويلات الملاحدة والزنادقة ، من القرامطة الباطنية وأمثالهم ، كبير فرق. والتأويل الباطل يتضمن تعطيل ما جاء به الرسول. والكذب على المتكلم أنه أراد ذلك المعنى ، فتتضمن إبطال الحق وتحقيق الباطل ، ونسبة المتكلم إلى ما لا يليق به ، من التلبيس والإلغاز ، مع القول عليه ، بلا علم ، أنه أراد هذا المعنى. فالمتأوّل عليه أن يبيّن صلاحية اللفظ للمعنى الذي ذكره أولا ، واستعمال المتكلم له في ذلك المعنى في أكثر المواضع ، حتى إذا استعمله فيما يحتمل غيره ، حمل على ما عهد منه استعماله فيه ، وعليه أن يقيم دليلا سالما عن المعارض على الموجب ، لصرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه واستعارته ، وإلا كان ذلك مجرد دعوى منه ، فلا تقبل. وتأويل بعضهم هذه النصوص ، على أن المراد بها هداية البيان والتعريف ، لا خلق الهدى في القلب ، فإن الله سبحانه لا يقدر على ذلك ، عند هذه الطائفة ، وهذا التأويل من أبطل الباطل ، فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم هدايته للعبد قسمين ، قسما لا يقدر عليه غيره ، وقسما مقدورا للعباد ، فقال في القسم المقدور للغير : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)) [الشورى] وقال في غير المقدور للغير : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (٥٦)) [القصص] وقال : (مَنْ

٢٢٢

يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ (١٨٦)) [الأعراف] ومعلوم قطعا أنّ البيان والدلالة قد تحصل له ، ولا تنفى عنه ، وكذلك قوله : (فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (٣٧)) [النحل] لا يصح حمله على هداية الدعوة والبيان ، فإن هذا يهدي ، وإن أضله الله بالدعوة والبيان وكذا قوله : (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ (٢٣)) [الجاثية] هل يجوز حمله على معنى «فمن يدعوه إلى الهدى ، ويبين له ما تقوم به حجة الله عليه» وكيف يصنع هؤلاء بالنصوص التي فيها أنه سبحانه هو الذي أضلّهم ، أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضلال؟ فإن قالوا : ليس ذلك معناها ، وإنما معناها : ألفاهم ووجدهم كذلك ، أو أعلم ملائكته ورسله بضلالهم ، أو جعل على قلوبهم علامة ، يعرف الملائكة بها أنهم ضلّال ، قيل : هذا من جنس قولكم : إنّ هداه سبحانه وإضلاله بتسميتهم مهتدين وضالين ، فهذه أربع تحريفات لكم ، وهو أنه سماهم بذلك ، وعلمهم بعلامة يعرفهم بها الملائكة ، وأخبر عنهم بذلك ، ووجدهم كذلك. فالإخبار من جنس التسمية ، وقد بيّنا أنّ اللغة لا تحتمل ذلك ، وأن النصوص إذا تأمّلها المتأمل ، وجدها أبعد شيء من هذا المعنى. وأما العلامة ، فيا عجبا لفرقة التحريف وما جنت على القرآن والإيمان!! ففي أي لغة وأي لسان يدل قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (٥٦)) [القصص] على معنى إنك لا تعلمه بعلامة ، ولكن الله هو الذي يعلمه بها وقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ (١٨٦)) [الأعراف] من يعلمه الله بعلامة الضلال ، لم يعلمه غيره بعلامة الهدى. وقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها (١٣)) [السجدة] لعلّمناها بعلامة الهدى الذي خلقته هي لنفسها ، وأعطته نفسها ، وفي أيّ لغة يفهم من قول الداعي (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)) [الفاتحة] علمنا بعلامة يعرف الملائكة بها أننا مهتدون ، وقولهم (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا (٨)) [آل عمران] لا تعلمها بعلامة أهل الزيغ ، وقوله : يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك ، يا مصرّف القلوب

٢٢٣

صرف قلبي على طاعتك ، وأمثال ذلك من النصوص. ففي أي لغة وأي لسان يفهم من هذا : علّمنا بعلامة الثبات والتصريف على طاعتك ، وفي أي لغة يكون معنى قوله : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً (١٣)) [المائدة] علّمناها بعلامة القسوة ، أو وجدناها كذلك.

نعم! لو نزل القرآن بلغة القدرية والجهمية وأهل البدع ، لأمكن حمله على ذلك ، أو كان الحق تبعا لأهوائهم ، وكانت نصوصه تبعا لبدع المبتدعين وآراء المتحيرين ، وأنت تجد جميع هذه الطوائف تنزل القرآن على مذاهبها وبدعها وآرائها. فالقرآن عند الجهمية جهمي ، وعند المعتزلة معتزلي ، وعند القدرية قدري ، وعند الرافضة رافضي. وكذلك هو عند جميع أهل الباطل ، وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لا يعلمون.

وأما تحريفهم هذه النصوص وأمثالها ، بأن المعنى : ألفاهم ووجدهم ، ففي أيّ لسان وأي لغة وجدتم : هديت الرجل إذا وجدته مهتديا؟ وختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة ، وجده كذلك ، وهل هذا إلا افتراء محض على القرآن واللغة؟! فإن قالوا : نحن لم نقل هذا في نحو ذلك ، وإنما قلناه في نحو : أضلّه الله ، أي : وجده ضالا ، كما يقال أحمدت الرجل ، وأبخلته ، وأجننته ، إذا وجدته كذلك ، أو نسبته إليه. فيقال لفرقة التحريف هذا : إنما ورد في ألفاظ معدودة نادرة ، وإلا فوضع هذا البناء على أنك فعلت ذلك به ، ولا سيما إذا كانت الهمزة للتعدية من الثلاثي ، كقام وأقمته ، وقعد وأقعدته وذهب وأذهبته ، وسمع وأسمعته ، ونام وأنمته ، وكذا ضلّ وأضله الله ، وأسعده وأشقاه وأعطاه وأخزاه وأماته وأحياه ، وأزاغ قلبه ، وأقامه إلى طاعته ، وأيقظه من غفلته ، وأراه آياته ، وأنزله منزلا مباركا ، وأسكنه جنته إلى أضعاف ذلك ، هل تجد فيها لفظا واحدا معناه ، أنه وجده كذلك ، تعالى الله عما يقول المحرفون.

٢٢٤

ثم انظر في كتاب «فعل ، وافعل» هل تظفر فيه ب «أفعلته» بمعنى وجدته ، مع سعة الباب إلا في الحرفين أو الثلاثة نقلا عن أهل اللغة؟ ثم انظر ، هل قال أحد من الأولين والآخرين ، من أهل اللغة : إنّ العرب وضعت «أضله الله ، وهداه ، وختم على سمعه وقلبه ، وأزاغ قلبه ، وصرفه عن طاعته ، ونحو ذلك» لمعنى «وجده» كذلك ، ولمّا أراد سبحانه الإبانة عن هذا المعنى قال (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧)) [الضحى] ولم يقل وأضلّك.

وقال في حق من خالف الرسول ، وكفر بما جاء به (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ (٢٣)) [الجاثية] ولم يقل : ووجده الله ضالا. ثم أي توحيد وتمدح وتعريف للعباد ، أن الأمر كله لله وبيده ، وأنه ليس لأحد من أمره شيء ، في مجرد التسمية ، والعلامة ومصادفة الرب تعالى عباده كذلك ، ووجوده لهم على هذه الصفات من غير أن يكون له فيها صنع أو خلق أو مشيئة ، وهل يعجز البشر عن التسمية والمصادفة والوجود كذلك ، فأيّ مدح وأي ثناء يحسن على الرب تعالى بمجرد ذلك؟! فأنتم وإخوانكم من الجبرية ، لم تمدحوا الرب بما يستحق أن يمدح به ، ولم تثنوا عليه بأوصاف كماله ، ولم تقدروه حق قدره. وأتباع الرسول وحزبه وخاصته بريئون منكم ومنهم في باطلكم وباطلهم ، وهو معكم ومعهم فيما عندكم من الحقّ ، لا يتحيزون إلى غير ما بيّنه الرسول ، وجاء به ، ولا ينحرفون عنه نصرة لآراء الرجال المختلفة وأهوائهم المتشتتة ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم.

قال ابن مسعود : علّمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم التشهد في الصلاة ، والتشهد في الحاجة ، أنّ الحمد لله نستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، ويقرأ ثلاث آيات (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ (١٠٢)) [آل عمران] الآية (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ

٢٢٥

رَقِيباً (١)) [النساء] (اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠)) [الأحزاب]. الآية قال الترمذي : هذا حديث صحيح (١).

وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير ، قال : أخبرنا سفيان ، عن خالد الحذّاء ، عن عبد الأعلى ، عن عبد الله بن الحارث ، قال : خطب عمر بن الخطاب بالجابية ، فحمد الله وأثنى عليه ، وعنده جاثليق يترجم له ما يقول ، فقال : من يهد الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، فنفض جبينه كالمنكر لما يقول ، قال عمر : ما يقول؟ قالوا : يا أمير المؤمنين يزعم أن الله لا يضلّ أحدا ، قال عمر : كذبت أي عدو الله ، بل الله خلقك ، وقد أضلّك ، ثم يدخلك النار ، أما والله لو لا عهد لك ، لضربت عنقك ، إن الله عزوجل خلق أهل الجنة ، وما هم عاملون ، وخلق أهل النار ، وما هم عاملون ، فقال : هؤلاء لهذه ، وهؤلاء لهذه (٢). قال : فتفرق الناس ، وما يختلفون في القدر.

فصل

المرتبة الرابعة من مراتب الهداية : الهداية إلى الجنة والنار يوم القيامة ، قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣)) [الصافات] وقال تعالى (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)

__________________

(١) صحيح. رواه الترمذي (١١٠٥) عن ابن مسعود ، وقد مر.

(٢) حسن. رواه أبو داود في «القدر» (وانظر تهذيب الكمال : (٣٦٨٥) ترجمة عبد الأعلى).

٢٢٦

سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥)) [محمد] فهذه هداية بعد قتلهم ، فقيل : المعنى : سيهديهم إلى طريق الجنة ، ويصلح حالهم في الآخرة ، بإرضاء خصومهم وقبول أعمالهم. وقال ابن عباس : سيهديهم إلى أرشد الأمور ، ويعصمهم أيام حياتهم في الدنيا. واستشكل هذا القول ، لأنه أخبر عن المقتولين في سبيله بأنهم سيهديهم ، واختاره الزجاج ، وقال : يصلح بالهم في المعاش وأحكام الدنيا. قال : وأراد به يجمع لهم خير الدنيا والآخرة.

وعلى هذا القول فلا بد من حمل قوله «قتلوا في سبيل الله» على معنى يصح معه إثبات الهداية وإصلاح البال.

٢٢٧
٢٢٨

الباب الخامس عشر

في الطبع والختم والقفل والغل والسد والغشاوة والحائل

بين الكافر وبين الإيمان وأن ذلك مجعول للرب تعالى

قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (٧)) [البقرة] وقال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)) [الجاثية] وقال تعالى : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ (١٥٥)) [النساء] وقال : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١)) [الأعراف] وقال : (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)) [الأعراف] وقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)) [محمد] وقال : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠)) [يس].

وقد دخل هذه الآيات ونحوها طائفتا القدرية والجبرية ، فحرّفها القدرية بأنواع من التحريف المبطل لمعانيها وما أريد منها ، وزعمت الجبرية أن الله أكرهها على ذلك ، وقهرها عليه ، وأجبرها من غير فعل منها ولا إرادة ولا اختيار ولا كسب البتة ، بل حال بينها وبين الهدى ابتداء ، من غير ذنب ولا

٢٢٩

سبب من العبد ، يقتضي ذلك ، بل أمره وحال مع أمره بينه وبين الهدى ، فلم ييسر إليه سبيلا ، ولا أعطاه عليه قدرة ، ولا مكّنه منه بوجه ، وأراد بعضهم بل أحب له الضلال والكفر والمعاصي ، ورضيه منه. فهدى أهل السنة والحديث وأتباع الرسول لما اختلف فيه هاتان الطائفتان من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

قالت القدرية : لا يجوز حمل هذه الآيات على أنه منعهم من الإيمان ، وحال بينهم وبينه ، إذ يكون لهم الحجة على الله ، ويقولون : كيف يأمرنا بأمر ، ثم يحول بيننا وبينه ، ويعاقبنا عليه ، وقد منعنا من فعله؟ وكيف يكلّفنا بأمر ، لا قدرة لنا عليه ، وهل هذا إلا بمثابة من أمر عبده بالدخول من باب ، ثم سدّ عليه الباب سدا محكما ، لا يمكنه الدخول معه البتة ، ثم عاقبه أشد العقوبة على عدم الدخول؟! وبمنزلة من أمره بالمشي إلى مكان ، ثم قيّده بقيد ، لا يمكنه معه نقل قدمه ، ثم أخذ يعاقبه على ترك المشي؟!.

وإذا كان هذا قبيحا في حق المخلوق الفقير المحتاج ، فكيف ينسب إلى الرب تعالى مع كمال غناه وعلمه وإحسانه ورحمته؟! قالوا : وقد كذّب الله سبحانه الذين قالوا : قلوبنا غلف ، وفي أكنّة ، وأنها قد طبع عليها ، وذمهم على هذا القول ، فكيف ينسب إليه تعالى؟! ولكن القوم لما أعرضوا وتركوا الاهتداء بهداه الذي بعث به رسله ، حتى صار ذلك الإعراض والنفار كالإلف والطبيعة والسجيّة ، أشبه حالهم حال من منع عن الشيء ، وصدّ عنه ، وصار هذا وقرا في آذانهم وختما على قلوبهم وغشاوة على أعينهم ، فلا يخلص إليها الهدى ، وإنما أضاف الله تعالى ذلك إليه ، لأن هذه الصفة قد صارت في تمكّنها وقوة ثباتها كالخلقة التي خلق عليها العبد. قالوا : ولهذا قال تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)) [المطففين] وقال : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ (١٥٥)) [النساء] وقال : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ (٥)) [الصف]

٢٣٠

وقال : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)) [التوبة].

ولعمر الله إنّ الذي قاله هؤلاء ، حقّه أكثر من باطله ، وصحيحه أكثر من سقيمه ، ولكن لم يوفوه حقه ، وعظّموا الله من جهة ، وأخلّوا بتعظيمه من جهة ، فعظموه بتنزيهه عن الظلم وخلاف الحكمة ، وأخلّوا بتعظيمه من جهة التوحيد وكمال القدرة ونفوذ المشيئة ، والقرآن يدل على صحة ما قالوه في الران والطبع والختم من وجه ، وبطلانه من وجه.

وأما صحته فإنه سبحانه جعل ذلك عقوبة لهم وجزاء على كفرهم وإعراضهم عن الحق ، بعد أن عرفوه ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥)) [الصف] وقال : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)) [المطففين] وقال : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)) [الأنعام] وقال : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ (١٢٧)) [التوبة].

وقد اعترف بعض القدرية بأن ذلك خلق الله سبحانه ، ولكنه عقوبة على كفرهم وإعراضهم السابق ، فإنه سبحانه يعاقب على الضلال المقدور بإضلال بعده ، ويثيب على الهدى بهدى بعده ، كما يعاقب على السيئة بسيئة مثلها ، ويثيب على الحسنة بحسنة مثلها ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)) [محمد] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٧١)) [الأحزاب] وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ (٢٩)) [الأنفال].

ومن الفرقان الهدى الذي يفرق به بين الحق والباطل ، وقال في ضد ذلك : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا (٨٨)) [النساء] وقال :

٢٣١

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً (١٠)) [البقرة] وقال : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ (١٢٧)) [التوبة].

وهذا الذي ذهب إليه هؤلاء حقّ ، والقرآن دلّ عليه ، وهو موجب العدل ، والله سبحانه ماض في العبد حكمه ، عدل في عبده قضاؤه ، فإنه إذا دعا عبده إلى معرفته ومحبته وذكره وشكره ، فأبى العبد إلا إعراضا وكفرا ، قضى عليه بأن أغفل قلبه عن ذكره ، وصد عن الإيمان به ، وحال بين قلبه وبين قبول الهدى ، وذلك عدل منه فيه ، وتكون عقوبته بالختم والطبع والصد عن الإيمان كعقوبته به بذلك في الآخرة ، مع دخول النار ، كما قال : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦)) [المطففين].

فحجابه عنهم إضلال لهم وصدّ عن رؤيتهم وكمال معرفته ، كما عاقب قلوبهم في هذه الدار بصدها عن الإيمان ، وكذلك عقوبته لهم بصدهم عن السجود له يوم القيامة مع الساجدين ، هو جزاء امتناعهم من السجود له في الدنيا ، وكذلك عماهم عن الهدى في الآخرة عقوبة لهم على عماهم في الدنيا ، ولكن أسباب هذه الجرائم في الدنيا كانت مقدورة لهم واقعة باختيارهم وإرادتهم وفعلهم ، فإذا وقعت عقوبات لم تكن مقدورة ، بل قضاء جار عليهم ماض عدل فيهم ، وقال تعالى : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)) [الإسراء].

ومن هاهنا ينفتح للعبد باب واسع عظيم النفع جدا ، في قضاء الله المعصية والكفر والفسوق على العبد ، وإن ذلك محض عدل فيه ، وليس المراد بالعدل ما يقوله الجبرية : إنه الممكن ، فكل ما يمكن فعله بالعبد ، فهو عندهم عدل ، والظلم هو الممتنع لذاته ، فهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب الكلام في الأسباب والحكم. ولا المراد به ما تقوله القدرية النفاة : إنه إنكار عموم قدرة الله ومشيئته على أفعال عباده وهدايتهم وإضلالهم وعموم مشيئته

٢٣٢

لذلك ، وأن الأمر إليهم لا إليه.

وتأمل قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ماض فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك» (١) كيف ذكر العبد في القضاء مع الحكم النافذ ، وفي ذلك ردّ لقول الطائفتين القدرية والجبرية. فإنّ العدل الذي أثبتته القدرية مناف للتوحيد معطل لكمال قدرة الرب وعموم مشيئته. والعدل الذي أثبتته الجبرية مناف للحكمة والرحمة ولحقيقة العدل. والعدل الذي هو اسمه وصفته ونعته سبحانه خارج عن هذا وهذا ، ولم يعرفه إلا الرسل وأتباعهم ، ولهذا قال هود عليه الصلاة والسلام لقومه : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)) [هود] فأخبر عن عموم قدرته ونفوذ مشيئته وتصرفه في خلقه كيف شاء ، ثم أخبر أنه في هذا التصرف والحكم على صراط مستقيم.

وقال أبو إسحاق : أي : هو سبحانه ، وإن كانت قدرته تنالهم بما شاء ، فإنه لا يشاء إلا العدل.

وقال ابن الأنباري : لما قال : (هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) ، كان في معنى : لا يخرج من قبضته ، وأنه قاهر بعظيم سلطانه لكل دابة ، فأتبع قوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، قال : وهذا نحو كلام العرب ، إذا وصفوا بحسن السيرة والعدل والإنصاف قالوا : فلان على طريقة حسنة ، وليس ثمّ طريق. ثم ذكر وجها آخر ، فقال : لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل دابة ، أتبع هذا قوله : إن ربي على صراط مستقيم ، أي : لا تخفى عليه مشيئته ، ولا يعدل عنه هارب ، فذكر الصراط المستقيم ، وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه ، كما قال : إن ربك لبالمرصاد.

__________________

(١) سبق تخريجه.

٢٣٣

قلت : فعلى هذا القول الأول يكون المراد : إنه في تصرفه في ملكه يتصرف بالعدل ، ومجازاة المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته ، ولا يظلم مثقال ذرة ، ولا يعاقب أحدا بما لم يجنه ، ولا يهضمه ثواب ما عمله ، ولا يحمل عليه ذنب غيره ، ولا يأخذ أحدا بجريرة أحد ، ولا يكلف نفسا ما لا تطيقه ، فيكون من باب : له الملك وله الحمد ، ومن باب : ماض فيّ حكمك عدل فيّ قضاؤك ، ومن باب : الحمد لله رب العالمين ، أي : كما أنه رب العالمين المتصرف فيهم بقدرته ومشيئته ، فهو المحمود على هذا التصرف ، وله الحمد على جميعه.

وعلى القول الثاني المراد به : التهديد والوعيد ، وأنّ مصير العباد إليه وطريقهم عليه ، لا يفوته منهم أحد ، كما قال تعالى : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١)) [الحجر].

قال الفراء : يقول : مرجعهم إليّ ، فأجازيهم ، كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)) [الفجر]. قال : وهذا كما تقول في الكلام : طريقك عليّ ، وأنا على طريقك ، لمن أوعدته. وكذلك قال الكلبي والكسائي. ومثل قوله (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ (٩)) [النحل] على أحد القولين في الآية.

وقال مجاهد : الحق يرجع إلى الله ، وعليه طريقه ، ومنها ، أي : ومن السبيل ما هو جائر عن الحق ، ولو شاء لهداكم أجمعين ، فأخبر عن عموم مشيئته ، وأن طريق الحق عليه موصلة إليه ، فمن سلكها فإليه يصل ، ومن عدل عنها ، فإنه يضل عنه.

والمقصود أن هذه الآيات تتضمن عدل الربّ تعالى وتوحيده ، والله يتصرف في خلقه بملكه وحمده وعدله وإحسانه ، فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وشرعه وقدره وثوابه وعقابه ، يقول الحقّ ويفعل العدل ، والله

٢٣٤

يقول الحقّ ، وهو يهدي السبيل. فهذا العدل والتوحيد اللذين دلّ عليهما القرآن ، لا يتناقضان. وأما توحيد أهل القدر والجبر وعدلهم ، فكلّ منهما يبطل الآخر ويناقضه.

فصل

ومن سلك من القدرية هذه الطريق ، فقد توسط بين الطائفتين ، لكنه يلزمه الرجوع إلى مثبتي القدر قطعا ، وإلّا تناقض أبين تناقض ، فإنه إذا زعم أنّ الضلال والطبع والختم والقفل والوقر وما يحول بين العبد وبين الإيمان مخلوق لله ، وهو واقع بقدرته ومشيئته ، فقد أعطى أن أفعال العباد مخلوقة ، وأنها واقعة بمشيئته ، فلا فرق بين الفعل الابتدائي والفعل الجزائي إن كان هذا مقدورا لله واقعا بمشيئته ، والآخر كذلك ، وإن لم يكن ذاك مقدورا ، ولا يصح دخوله تحت المشيئة ، فهذا كذلك ، والتفريق بين النوعين تناقض محض ، وقد حكى هذا التفريق عن بعض القدرية أبو القاسم الأنصاري في شرحه «الإرشاد» فقال : ولقد اعترف بعض القدرية بأنّ الختم والطبع توابع ، غير أنها عقوبات من الله لأصحاب الجرائم. قال : وممن صار إلى هذا المذهب عبد الواحد بن زيد البصري وبكر ابن أخته ، قال : وسبيل المعاقبين بذلك سبيل المعاقبين بالنار ، وهؤلاء قد بقي عليهم درجة واحدة ، وقد تحيّزوا إلى أهل السنة والحديث.

٢٣٥

فصل

وقالت طائفة منهم : الكافر هو الذي طبع على قلب نفسه في الحقيقة ، وختم على قلبه ، والشيطان أيضا فعل ذلك ، ولكن لما كان الله سبحانه هو الذي أقدر العبد والشيطان على ذلك ، نسب الفعل إليه ، لإقراره للفاعل على ذلك ، لأنه هو الذي فعله.

قال أهل السنة والعدل : هذا كلام فيه حق وباطل ، فلا يقبل مطلقا ، ولا يردّ مطلقا ، فقولكم : إن الله سبحانه أقدر الكافر والشيطان ، على الطبع والختم ، كلام باطل ، فإنه لم يقدره إلا على التزيين والوسوسة والدعوة إلى الكفر ، ولم يقدره على خلق ذلك في قلب العبد البتة ، وهو أقلّ من ذلك وأعجز ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بعثت داعيا ومبلغا ، وليس إليّ من الهداية شيء. وخلق إبليس مزيّنا ، وليس إليه من الضلالة شيء ، فمقدور الشيطان أن يدعو العبد إلى فعل الأسباب التي إذا فعلها ختم الله على قلبه وسمعه ، وطبع عليه ، كما يدعوه إلى الأسباب التي إذا فعلها ، عاقبه الله بالنار فعقابه بالنار كعقابه بالختم والطبع ، وأسباب العقاب فعله ، وتزيينها وتحسينها فعل الشيطان ، والجميع مخلوق لله.

وأما ما في هذا الكلام من الحق ، فهو أن الله سبحانه أقدر العبد على الفعل الذي أوجب الطبع والختم على قلبه ، فلولا إقدار الله له على ذلك ، لم يفعله ، وهذا حق.

لكن القدرية لم توف هذا الموضع حقه ، وقالت : أقدره قدرة تصلح للضدين ، فكان فعل أحدهما باختياره ومشيئته التي لا تدخل تحت مقدور

٢٣٦

الرب ، وإن دخلت قدرته الصالحة لهما تحت مقدوره سبحانه ، فمشيئته واختياره وفعله غير واقع تحت مقدور الرب.

وهذا من أبطل الباطل ، فإن كل ما سواه تعالى مخلوق له ، داخل تحت قدرته ، واقع بمشيئته ، ولو لم يشأ لم يكن.

قلت : القدرية لما أعرضوا عن التدبر ، ولم يصغوا إلى التذكّر ، وكان ذلك مقارنا لإيراد الله سبحانه حجته عليهم ، أضيفت أفعالهم إلى الله ، لأن حدوثها إنما اتفق عند إيراد الحجة عليهم.

قال أهل السنة : هذا من أمحل المحال ، أن يضيف الرب إلى نفسه أمرا لا يضاف إليه البتة ، لمقارنته ما هو من فعله ، ومن المعلوم أن الضد يقارن الضد ، فالشرّ يقارن الخير ، والحق يقارن الباطل ، والصدق يقارن الكذب. وهل يقال : إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان لمقارنتها ما يحبّه من الإيمان والطاعة؟ وأنه يحب إبليس لمقارنة وجوده لوجود الملائكة؟ فإن قيل : قد ينسب الشيء إلى الشيء لمقارنته له ، وإن لم يكن له فيه تأثير ، كقوله تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥)) [التوبة] ومعلوم أن السورة لم تحدث لهم زيادة رجس ، بل قارن زيادة رجسهم نزولها ، فنسب إليها.

قيل : لم ينحصر الأمر في هذين الأمرين اللذين ذكرتموهما ، وهما إحداث السورة الرجس ، والثاني مقارنته لنزولها ، بل هاهنا أمر ثالث وهو أنّ السورة لما أنزلت ، اقتضى نزولها الإيمان بها ، والتصديق والإذعان لأوامرها ونواهيها ، والعمل بما فيها ، فوطّن المؤمنون أنفسهم على ذلك ، فازدادوا إيمانا بسببها ، فنسبت زيادة الإيمان إليها ، إذ هي السبب في زيادته ، وكذّب

٢٣٧

بها الكافرون وجحدوها ، وكذبوا من جاء بها ، ووطنوا أنفسهم على مخالفة ما تضمنته وإنكاره ، فازدادوا بذلك رجسا ، فنسب إليها ، إذ كان نزولها ووصولها إليهم هو السبب في تلك الزيادة. فأين هذا من نسبة الأفعال القبيحة عندكم التي لا تجوز نسبتها إلى الله عند دعوتهم إلى الإيمان وتدبر آياته ، على أن أفعالهم القبيحة لا تنسب إلى الله سبحانه ، وإنما هي منسوبة إليهم ، والمنسوب إليه سبحانه أفعاله الحسنة الجميلة المتضمنة للغايات المحمودة والحكم المطلوبة.

والختم والطبع والقفل والإضلال أفعال حسنة من الله ، وضعها في أليق المواضع بها ، إذ لا يليق بذلك المحلّ الخبيث غيرها.

والشرك والكفر والمعاصي والظلم أفعالهم القبيحة التي لا تنسب إلى الله فعلا ، وإن نسبت إليه خلقا ، فخلقها غيرها ، والخلق غير المخلوق ، والفعل غير المفعول ، والقضاء غير المقضي ، والقدر غير المقدور.

وستمرّ بك هذه المسألة مستوفاة ، إن شاء الله ، في باب اجتماع الرضاء بالقضاء ، وسخط الكفر والفسوق والعصيان ، إن شاء الله.

قالت القدرية : لما بلغوا في الكفر إلى حيث لم يبق طريق إلى الإيمان لهم إلا بالقسر والإلجاء ، ولم تقتض حكمته تعالى أن يقسرهم على الإيمان ، لئلا تزول حكمة التكليف ، عبّر عن ترك الإلجاء والقسر بالختم والطبع إعلاما لهم بأنهم انتهوا في الكفر والإعراض إلى حيث لا ينتهون عنه إلا بالقسر ، وتلك الغاية في وصف لجاجهم وتماديهم في الكفر.

قال أهل السنة : هذا كلام باطل ، فإنه سبحانه قادر على أن يخلق فيهم مشيئة الإيمان وإرادته ومحبته ، فيؤمنون بغير قسر ولا إلجاء ، بل إيمان اختيار وطاعة ، كما قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ

٢٣٨

جَمِيعاً (٩٩)) [يونس].

وإيمان القسر والإلجاء لا يسمى إيمانا ، ولهذا يؤمن الناس كلهم يوم القيامة ، ولا يسمى ذلك إيمانا ، لأنه عن إلجاء واضطرار. قال تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها (١٣)) [السجدة] وما يحصل للنفوس من المعرفة والتصديق بطريق الإلجاء والاضطرار والقسر لا يسمى هدى ، وكذلك قوله : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً (٣١)) [الرعد].

فقولكم : لم يبق طريق إلى الإيمان إلا بالقسر باطل ، فإنه بقي إلى إيمانهم طريق ، لم يرهم الله إياه ، وهو مشيئته وتوفيقه وإلهامه ، وإمالة قلوبهم إلى الهدى ، وإقامتها على الصراط المستقيم ، وذلك أمر لا يعجز عنه ربّ كل شيء ومليكه ، بل هو القادر عليه ، كقدرته على خلقه ذواتهم وصفاتهم ودرائهم ، ولكن منعهم ذلك لحكمته وعدله فيهم وعدم استحقاقهم وأهليتهم لبذل ذلك لهم ، كما منع السّفل خصائص العلو ، ومنع الحار خصائص البارد ، ومنع الخبيث خصائص الطيب ، ولا يقال : فلم فعل هذا؟ فإن ذلك من لوازم ملكه وربوبيته ، ومن مقتضيات أسمائه وصفاته ، وهل يليق بحكمته أن يسوي بين الطيب والخبيث والحسن والقبيح والجيد والرديء؟!.

ومن لوازم الربوبية خلق الزوجين ، وتنويع المخلوقات وأخلاقها. فقول القائل : لم خلق الرديء والخبيث واللئيم؟ سؤال جاهل بأسمائه وصفاته وملكه وربوبيته ، وهو سبحانه فرّق بين خلقه أعظم تفريق ، وذلك من كمال قدرته وربوبيته ، فجعل منه ما يقبل جميع الكمال الممكن ، ومنه ما لا يقبل شيئا منه ، وبين ذلك درجات متفاوتة ، لا يحصيها إلا الخلّاق العليم. وهدى كل نفس إلى حصول ما هي قابلة له. والقابل والمقبول والقبول كله مفعوله ومخلوقه وأثر فعله وخلقه ، وهذا هو الذي ذهب عن الجبرية والقدرية ، ولم يهتدوا إليه ، وبالله التوفيق.

٢٣٩

قالت القدرية : الختم والطبع هو شهادته سبحانه عليهم ، بأنهم لا يؤمنون ، وعلى أسماعهم وعلى قلوبهم.

قال أهل السنة : هذا هو قولكم بأنّ الختم والطبع هو الإخبار عنهم بذلك ، وقد تقدم فساد هذا بما فيه كفاية ، وأنه لا يقال في لغة من لغات الأمم ، لمن أخبر عن غيره ، بأنه مطبوع على قلبه ، وأن عليه ختما ، أنه قد طبع على قلبه ، وختم عليه ، بل هذا كذب على اللغات وعلى القرآن ، وكذلك قول من قال : إنّ ختمه على قلوبهم اطّلاعه على ما فيها من الكفر ، وكذلك قول من قال : إنه إحصاؤه عليهم حتى يجازيهم به ، وقول من قال : إنه إعلامها بعلامة ، تعرفها بها الملائكة ، وقد بيّنا بطلان ذلك بما فيه كفاية.

قالت القدرية : لا يلزم من الطبع والختم والقفل أن تكون مانعة من الإيمان ، بل يجوز أن يجعل الله فيهم ذلك ، من غير أن يكون منعهم من الإيمان ، بل يكون ذلك من جنس الغفلة والبلادة والعشا في البصر ، فيورث ذلك إعراضا عن الحق وتعاميا عنه ، ولو أنعم النظر وتفكر وتدبر ، لما آثر على الإيمان غيره.

وهذا الذي قالوه يجوز أن يكون في أول الأمر ، فإذا تمكّن واستحكم من القلب ورسخ فيه ، امتنع معه الإيمان ، ومع هذا فهو أثر فعله وإعراضه وغفلته وإيثار شهوته وكبره على الحق والهدى ، فلما تمكن فيه واستحكم ، صار صفة راسخة وطبعا وختما وقفلا ورانا ، فكان مبدأه غير حائل بينهم وبين الإيمان ، والإيمان ممكن معه ، ولو شاءوا لآمنوا مع مبادئ تلك الموانع ، فلما استحكمت ، لم يبق إلى الإيمان سبيل ، ونظير هذا أن العبد يستحسن ما يهواه ، فيميل إليه بعض الميل ، ففي هذه الحال يمكن صرف الداعية له إذا الأسباب لم تستحكم ، فإذا استمر على ميله واستدعى أسبابه

٢٤٠