شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

وإقامة الحجج وجدال أهل الباطل بما يدحض شبهتهم ، وينصر الحق ويظهره على الباطل ، إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم التي لا يحصيها إلا الله. والله سبحانه يحبّ ظهور أسمائه وصفاته في الخليقة ، فلو اخترم كلّ من علم أنه يكفر إذا بلغ ، لفات ذلك ، وفواته مناف لكمال تلك الأسماء والصفات ، واقتضائها لآثارها ، وقد تقدم بسط ذلك أتم من هذا.

الوجه الأربعون : قوله أنه سبحانه رد الأمر إلى محض مشيئة بقوله : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ (٢١)) [العنكبوت] وقوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ (٢٨٤)) [البقرة] وقوله : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ (٨)) [فاطر] وقوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ (٢٣)) [الأنبياء] فهذا كلّه حقّ ، ولكن أين فيه إبطال حكمته وحمده والغايات المحمودة المطلوبة بفعله ، وأنه لا يفعل شيئا لشيء ، ولا يأمر بشيء لأجل شيء ، ولا سبب لفعله ولا غاية ، أفترى أصحاب الحكمة والتعليل يقولون : إنه لا يفعل بمشيئته ، أو أنه يسأل عما يفعل؟ بل إنه يفعل بمشيئته مقارنا للحكمة والمصلحة ووضع الأشياء مواضعها ، وأنه يفعل ما يشاء بأسباب وحكم ، ولغايات مطلوبة وعواقب حميدة ، فهم مثبتون لملكه وحمده ، وغيرهم يثبت ملكا بلا حمد أو نوعا من الحمد ، مع هضم الملك ، إذ الربّ تعالى له كمال الملك وكمال الحمد ، فكونه يفعل ما يشاء ، يمنع أن يشاء بأسباب وحكم وغايات ، وأنه لا يشاء إلا ذلك.

وأما قوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) [الأنبياء] فهذا لكمال علمه وحكمته ، لا لعدم ذلك ، وأيضا فسياق الآية في معنى آخر ، وهو إبطال إلهية من سواه ، وإثبات الألوهية له وحده ، فإنه سبحانه قال : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) [الأنبياء] فأين في هذا ما يدلّ

٦٦١

على إبطال التعليل بوجه من الوجوه؟ ولكنّ أهل الباطل يتعلقون بألفاظ ، نزّلوها على باطلهم ، لا تنزل عليه ، وبمعان متشابهة ، يشتبه فيها الحقّ بالباطل ، فعمدتهم المتشابه من الألفاظ والمعاني ، فإذا فصّلت وبيّنت ، يتبين أنها لا دلالة فيها ، وأنها مع ذلك قد تدلّ على نقيض مطلوبهم. وبالله التوفيق.

٦٦٢

الباب الرابع والعشرون

في قول السلف : من أصول الإيمان الإيمان بالقدر خيره

وشره حلوه ومرّه

قد تقدم أن القدر لا شر فيه ، بوجه من الوجوه ، فإنه علم الله وقدرته وكتابه ومشيئته ، وذلك خير محض وكمال من وجه ، فالشر ليس إلى الرب تعالى بوجه من الوجوه ، لا في ذاته ، ولا في أسمائه ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، وإنما يدخل الشرّ الجزئي الإضافي في المقضي المقدر ، ويكون شرا بالنسبة إلى محل ، وخيرا بالنسبة إلى محل آخر ، وقد يكون خيرا بالنسبة إلى المحل القائم به من وجه ، كما هو شرّ له من وجه ، بل هذا هو الغالب ، وهذا كالقصاص وإقامة الحدود وقتل الكفار ، فإنه شر بالنسبة إليهم لا من كلّ وجه ، بل من وجه دون وجه ، وخير بالنسبة إلى غيرهم لما فيه من مصلحة الزجر والنكال ودفع الناس بعضهم ببعض ، وكذلك الآلام والأمراض ، وإن كانت شرورا من وجه ، فهي خيرات من وجوه عديدة ، وقد تقدم تقرير ذلك. فالخير والشر من جنس اللذة والألم والنفع والضرر ، وذلك في المقضي المقدر ، لا في نفس صفة الرب وفعله القائم به ، فإن قطع يد السارق شر مؤلم ضار له ، وأما قضاء الرب ذلك وتقديره عليه ، فعدل ، خير وحكمة ومصلحة ، كما يأتي في الباب الذي بعد هذا ، إن شاء الله.

٦٦٣

فإن قيل : فما الفرق بين كون القدر خيرا وشرا ، وكونه حلوا ومرا؟.

قيل : الحلاوة والمرارة تعود إلى مباشرة الأسباب في العاجل ، والخير والشر يرجع إلى حسن العاقبة وسوئها ، فهو حلو ومرّ في مبدئه وأوله ، وخير وشر في منتهاه وعاقبته.

وقد أجرى الله سبحانه سنّته وعادته أنّ حلاوة الأسباب ، في العاجل ، تعقب المرارة في الآجل ، ومرارتها تعقب الحلاوة ، فحلو الدنيا مرّ الآخرة ، ومرّ الدنيا حلو الآخرة ، وقد اقتضت حكمته سبحانه أن جعل اللذات تثمر الآلام ، والآلام تثمر اللذات ، والقضاء والقدر منتظم لذلك انتظاما ، لا يخرج عنه شيء البتة ، والشرّ مرجعه إلى اللذات وأسبابها ، والخير المطلوب هو اللذات الدائمة ، والشر المرهوب هو الآلام الدائمة ، فأسباب هذه الشرور ، وإن اشتملت على لذة ما ، وأسباب تلك خيرات ، وإن اشتملت على ألم ما ، فألم يعقب اللذة الدائمة أولى بالإيثار والتحمل من لذة تعقب الألم الدائم ، فلذة ساعة في جنب ألم طويل كلا لذّة ، وألم ساعة في جنب لذة طويلة كلا ألم.

٦٦٤

الباب الخامس والعشرون

في امتناع إطلاق القول نفيا وإثباتا ، أنّ الرب تعالى

مريد للشرّ وفاعل له

هذا موضع اختلف فيه مثبتو القدر ونفاته ، فقال النفاة : لا يجوز أن يقال : إن الله سبحانه مريد للشر ، أو فاعل له. قالوا : لا يريد الشر ، وفاعله شرير. هذا هو المعروف لغة وعقلا وشرعا ، كما أنّ الظالم فاعل الظلم ، والفاجر فاعل الفجور ومريده ، والربّ يتعالى ويتنزه عن ثبوت معاني أسماء السوء له ، فإن أسماءه كلها حسنى ، وأفعاله كلها خير ، فيستحيل أن يريد الشرّ ، فالشر ليس بإرادته ولا بفعله. قالوا : وقد قام الدليل على أن فعله سبحانه غير مفعوله ، والشر ليس بفعل له ، فلا يكون مفعولا له.

وقابلهم الجبرية فقالوا : بل الربّ سبحانه يريد الشر ، ويفعله. قالوا : لأن الشر موجود ، فلا بدّ له من خالق ، ولا خالق إلا الله ، وهو سبحانه إنما يخلق بإرادته ، فكلّ مخلوق فهو مراد له ، وهو فعله ، ووافقوا إخوانهم على أنّ الفعل عين المفعول ، والخلق نفس المخلوق ، ثم قالوا : والشر مخلوق له ومفعول ، فهو فعله وخلقه ، وواقع بإرادته. قالوا : وإنما لم يطلق القول أنه يريد الشر ويفعل الشر أدبا لفظيا فقط ، كما لا يطلق القول بأنه رب الكلاب والخنازير ، ويطلق القول بأنه ربّ كلّ شيء وخالقه. قالوا : وأما قولكم : إن

٦٦٥

الشرير مريد الشر وفاعله ، فجوابه من وجهين.

أحدهما : إنما يمنع ذلك بأن الشرير من قام به الشر ، وفعل الشر لم يقم بذات الرب ، فإن أفعاله لا تقوم به ، إذ هي نفس مفعولاته ، وإنما هي قائمة بالخلق ، وكذلك اشتقت لهم منها الأسماء كالفاجر والفاسق والمصلي والحاج والصائم ونحوها.

الجواب الثاني : أن أسماء الله تعالى توقيفية ، ولم يسم نفسه إلا بأحسن الأسماء. قالوا : والربّ تعالى أعظم من أن يكون في ملكه ما لا يريده ولا يخلقه ، فإنه الغالب غير المغلوب ، وتحقيق القول في ذلك أنه يمتنع إطلاق إرادة الشر عليه وفعله نفيا وإثباتا ، لما في إطلاق لفظ الإرادة والفعل من إبهام المعنى الباطل ونفي المعنى الصحيح فإن الإرادة تطلق بمعنى المشيئة وبمعنى المحبة والرضا ، فالأول كقوله : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ (٣٤)) [هود] وقوله (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ (١٢٥)) [الأنعام] وقوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً (١٦)) [الإسراء] والثاني كقوله : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (٢٧)) [النساء] وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (١٨٥)) [البقرة].

فالإرادة بالمعنى الأول تستلزم وقوع المراد ، ولا تستلزم محبته والرضا به ، وبالمعنى الثاني لا تستلزم وقوع المراد ، وتستلزم محبته ، فإنها لا تنقسم ، بل كل ما أراده من أفعاله فهو محبوب مرضيّ له ، ففرق بين إرادة أفعاله وإرادة مفعولاته ، فإن أفعاله خير كلها وعدل ومصلحة وحكمة لا شر فيها ، بوجه من الوجوه ، وأما مفعولاته فهي مورد الانقسام ، وهذا إنما يتحقق على قول أهل السنة أن الفعل غير المفعول ، والخلق غير المخلوق ، كما هو الموافق للعقول والفطر واللغة ودلالة القرآن والحديث وإجماع أهل السنة ، كما حكاه البغويّ في «شرح السنة» عنهم.

٦٦٦

وعلى هذا فهاهنا إرادتان ومرادان ، إرادة أن يفعل ، ومرادها فعله القائم به ، وإرادة أن يفعل عبده ، ومرادها مفعوله المنفصل عنه ، وليسا بمتلازمين ، فقد يريد من عبده أن يفعل ، ولا يريد من نفسه إعانته على الفعل وتوفيقه له وصرف موانعه عنه ، كما أراد من إبليس أن يسجد لآدم ، ولم يرد من نفسه أن يعينه على السجود ، ويوفقه له ، ويثبّت قلبه عليه ، ويصرفه إليه ، ولو أراد ذلك منه ، لسجد له لا محالة.

وقوله : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦)) [البروج] إخباره عن إرادته لفعله لا لأفعال عبيده ، وهذا الفعل والإرادة لا ينقسم إلى خير وشر ، كما تقدم ، وعلى هذا فإذا قيل : هو مريد للشر ، أوهم أنه محبّ له راض به ، وإذا قيل : إنه لم يرده ، أوهم أنه لم يخلقه ولا كوّنه ، وكلاهما باطل ، ولذلك إذا قيل : إن الشر فعله أو أنه يفعل الشر ، أوهم أن الشر فعله القائم به ، وهذا محال ، وإذا قيل : لم يفعله أو ليس بفعل له ، أوهم أنه لم يخلقه ولم يكوّنه ، وهذا محال.

فانظر ما في إطلاق هذه الألفاظ في النفي والإثبات ، من الحق والباطل ، الذي يتبين بالاستفصال والتفصيل ، وإنّ الصواب في هذا الباب ما دلّ عليه القرآن والسنة من أن الشر لا يضاف إلى الرب تعالى ، لا وصفا ولا فعلا ، ولا يتسمى باسمه بوجه من الوجوه ، وإنما يدخل في مفعولاته بطريق العموم ، كقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢)) [الفلق] فما هاهنا موصولة أو مصدرية ، والمصدر بمعنى المفعول ، أي : من شرّ الذي خلقه أو من شر مخلوقه ، وقد يحذف فاعله ، كقوله حكاية عن مؤمني الجن : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠)) [الجن] وقد يسند إلى محله القائم به كقول إبراهيم الخليل : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (٨٠)) [الشعراء] وقول

٦٦٧

الخضر : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها (٧٩)) [الكهف] وقال في بلوغ الغلامين : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما (٨٢)) [الكهف] وقد جمع الأنواع الثلاثة في الفاتحة ، في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧)) [الفاتحة] والله تعالى إنما نسب إلى نفسه الخير دون الشر ، فقال تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)) [آل عمران] وأخطأ من قال : المعنى : بيدك الخير والشر ، لثلاثة أوجه.

أحدها : أنه ليس في اللفظ ما يدلّ على إرادة هذا المحذوف ، بل ترك ذكره قصدا أو بيانا أنه ليس بمراد.

الثاني : أن الذي بيد الله تعالى نوعان : فضل ، وعدل ، كما في الحديث الصحيح ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يمين الله ملأى ، لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار» (١) أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق ، فإنه لم يغض ما في يمينه ، وبيده الأخرى القسط ، يخفض ويرفع ، فالفضل لإحدى اليدين ، والعدل للأخرى ، وكلاهما خير لا شرّ فيه بوجه.

الثالث : أنّ قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك» (٢) كالتفسير للآية ، ففرق بين الخير والشر ، وجعل أحدهما في يدي الرب سبحانه ، وقطع إضافة الآخر إليه ، مع إثبات عموم خلقه لكل شيء.

__________________

(١) رواه البخاري (٤٦٨٤) ، ومسلم (٩٩٣) عن أبي هريرة.

(٢) رواه مسلم (٧٧١) عن علي بن أبي طالب.

٦٦٨

فصل

والربّ تعالى يشتق له من أوصافه وأفعاله أسماء ، ولا يشتق له من مخلوقاته ، وكلّ اسم من أسمائه فهو مشتق من صفة من صفاته ، أو فعل قائم به ، فلو كان يشتق له اسم باعتبار المخلوق المنفصل ، يسمى متكونا ومتحركا وساكنا وطويلا وأبيض وغير ذلك ، لأنه خالق هذه الصفات ، فلما لم يطلق عليه اسم من ذلك ، مع أنه خالقه ، علم أنما يشتقّ أسماءه من أفعاله وأوصافه القائمة به ، وهو سبحانه لا يتصف بما هو مخلوق منفصل عنه ، ولا يتسمى باسمه ، ولهذا كان قول من قال : إنه يسمى متكلما بكلام منفصل عنه ، وخلقه في غيره ، ومريدا بإرادة منفصلة عنه ، وعادلا بعدل مخلوق منفصل عنه ، وخالقا بخلق منفصل عنه ، هو المخلوق ، قولا باطلا مخالفا للعقل والنقل واللغة ، مع تناقضه في نفسه ، فإن اشتق له اسم ، باعتبار مخلوقاته ، لزم طرد ذلك في كلّ صفة أو فعل خلقه ، وإن خص ذلك ببعض الأفعال والصفات دون بعض ، كان تحكما لا معنى له ، وحقيقة قول هؤلاء أنه لم يقم به عدل ولا إحسان ولا كلام ولا إرادة ولا فعل البتة ، ومن تجهّم منهم نفى حقائق الصفات ، وقال : لم تقم به صفة ثبوتية ، فنفوا صفاته ، وردّوها إلى السلوب والإضافات ، ونفوا أفعاله ، وردوها إلى المصنوعات المخلوقات. وحقيقة هذا أن أسماءه تعالى ألفاظ فارغة عن المعاني ، لا حقائق لها ، وهذا من الإلحاد فيها ، وإنكار أن يكون حسنا وقد قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)) [الأعراف] وقد دلّ القرآن والسنة على إثبات مصادر هذه الأسماء له سبحانه وصفا كقوله تعالى : (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٦٥)) [البقرة]

٦٦٩

وقوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨)) [الذاريات] وقوله : (فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ (١٤)) [هود] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١). وقول عائشة : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ برضاك من سخطك» (٢) ، وقوله : «أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق» (٣) ، وقوله : «أعوذ بعزتك أن تضلّني» (٤). ولو لا هذه المصادر ، لانتفت حقائق الأسماء والصفات والأفعال ، فإن أفعاله غير صفاته وأسماءه غير أفعاله وصفاته ، فإذا لم يقم به فعل ولا صفة ، فلا معنى للاسم المجرد ، وهو بمنزلة صوت لا يفيد شيئا ، وهذا غاية الإلحاد.

__________________

(١) رواه مسلم (١٧٩) عن أبي موسى الأشعري.

(٢) رواه مسلم (٤٨٦) عن عائشة.

(٣) صحيح. رواه أحمد (٤ / ٢٦٤) عن عمار بن ياسر.

(٤) رواه مسلم (٢٧١٧). وأصله في البخاري (٦٣١٧) عن ابن عباس.

٦٧٠

الباب السادس والعشرون

فيما دل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم إني

أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من عقوبتك ،

وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على

نفسك» (١) من تحقيق القدر وإثباته وما تضمنه الحديث

من الأسرار العظيمة

قد دلّ هذا الحديث العظيم القدر على أمور.

منها : أنه يستعاذ بصفات الرب تعالى ، كما يستعاذ بذاته ، وكذلك يستغاث بصفاته ، كما يستغاث بذاته ، كما في الحديث : «يا حيّ يا قيوم ، يا بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك أستغيث ، أصلح لي شأني كله ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك». وكذلك قوله في الحديث الآخر : «أعوذ بعزتك أن تضلّني» (٢). وكذلك استعاذته بكلمات الله التامات وبوجهه الكريم وتعظيمه ،

__________________

(١) رواه مسلم (٤٨٦) عن عائشة.

(٢) سبق تخريجه.

٦٧١

وفي هذا ما يدل على أن هذه صفات ثابتة وجودية ، إذ لا يستعاذ بالعدم ، وأنها قائمة به غير مخلوقة ، إذ لا يستعاذ بالمخلوق ، وهو احتجاج صحيح ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يستعيذ بمخلوق ، ولا يستغيث به ، ولا يدل أمته على ذلك.

ومنها : أنّ العفو من صفات الفعل القائمة به ، وفيه ردّ على من زعم أن فعله عين مفعوله ، فإن المفعول مخلوق ولا يستعاذ به.

ومنها : أنّ بعض صفاته وأفعاله سبحانه أفضل من بعض ، فإن المستعاذ به أفضل من المستعاذ منه ، وهذا كما أنّ صفة الرحمة أفضل من صفة الغضب ، ولذلك كان لها الغلبة والسبق ، ولذلك كلامه سبحانه هو صفته ، ومعلوم أن كلامه الذي يثني على نفسه به ، ويذكر فيه أوصافه وتوحيده ، أفضل من كلامه الذي يذم به أعداءه ، ويذكر أوصافهم ، ولهذا كانت سورة الإخلاص أفضل من سورة تبّت ، وكانت تعدل ثلث القرآن دونها ، وكانت آية الكرسي أفضل آية في القرآن ، ولا تصغ إلى قول من غلظ حجابه ، أنّ الصفات قديمة ، والقديم لا يتفاضل ، فإن الأدلة السمعية والعقلية تبطل قوله ، وقد جعل سبحانه ما كان من الفضل والعطاء والخير وأهل السعادة بيده اليمنى ، وما كان من العدل والقبض بيده الأخرى ، ولهذا جعل أهل السعادة في قبضته اليمنى ، وأهل الشقاوة في القبضة الأخرى ، والمقسطون على منابر من نور ، عن يمينه ، والسموات مطويات بيمينه ، والأرض بالأرض.

ومنها : أن الغضب والرضاء والعفو والعقوبة ، لما كانت متقابلة ، استعاذ بأحدهما من الآخر ، فلما جاء إلى الذات المقدسة التي لا ضدّ لها ولا مقابل ، قال : وأعوذ بك منك ، فاستعاذ بصفة الرضى من صفة الغضب ، وبفعل العفو من فعل العقوبة ، وبالموصوف بهذه الصفات والأفعال منه ، وهذا يتضمن كمال الإثبات للقدر والتوحيد بأوجز لفظ وأخصره ، فإن الذي يستعيذ به من

٦٧٢

الشر وأسبابه ، هو واقع بقضاء الرب تعالى وقدره ، وهو المنفرد بخلقه وتقديره وتكوينه ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فالمستعاذ منه إما وصفه وإما فعله وإما مفعوله الذي هو أثر فعله ، والمفعول ليس إليه نفع ولا ضر ، ولا يضر إلا بإذن خالقه ، كما قال تعالى في أعظم ما يتضرر به العبد وهو السحر : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (١٠٢)) [البقرة].

فالذي يستعاذ منه هو بمشيئته وقضائه وقدرته ، وإعاذته منه وصرفه عن المستعيذ إنما هو بمشيئته أيضا وقضائه وقدره ، فهو المعيذ من قدره بقدره ، ومن ما يصدره عن مشيئته وإرادته بما يصدره عن مشيئته وإرادته ، والجميع واقع بإرادته الكونية القدرية ، فهو يعيذ من إرادته بإرادته ، إذ الجميع خلقه وقدره وقضاؤه ، فليس هناك خلق لغيره ، فيعيذ منه هو ، بل المستعاذ منه خلق له ، فهو الذي يعيذ عبده من نفسه بنفسه ، فيعيذه مما يريده به بما يريده به ، فليس هناك أسباب مخلوقة لغيره ، يستعيذ منها المستعيذ به ، كما يستعيذ من رجل ظلمه وقهره برجل أقوى أو نظيره.

فالمستعاذ منه هو الذنوب ، وعقوباتها ، والآلام وأسبابها ، والسبب من قضائه ، والمسبّب من قضائه ، والإعاذة بقضائه ، فهو الذي يعيذ من قضائه بقضائه ، فلم يعذ إلا بما قدّره وشاءه ، وذلك الاستعاذة منه ، وشاءها ، وقدر الإعاذة وشاءها ، فالجميع قضاؤه وقدره وموجب مشيئته ، فنتجت هذه الكلمة التي لو قالها غير الرسول ، لبادر المتكلم الجاهل إلى إنكارها وردّها ، إنه لا يملك الضر والنفع والخلق والأمر والإعاذة غيرك ، وإنّ المستعاذ منه هو بيدك وتحت تصرفك ومخلوق من خلقك ، فما استعذت إلا بك ، ولا استعذت إلا منك ، وهذا نظير قوله في الحديث الآخر : «لا ملجأ ولا منجا

٦٧٣

منك إلا إليك» (١) فهو الذي ينجي من نفسه بنفسه ، ويعيذ من نفسه بنفسه. وكذلك الفرار ، يفر عبده منه إليه.

وهذا كله تحقيق للتوحيد والقدر ، وأنه لا ربّ غيره ، ولا خالق سواه ، ولا يملك المخلوق لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، بل الأمر كله لله ، ليس لأحد سواه منه شيء ، كما قال تعالى لأكرم خلقه عليه وأحسنهم إليه : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ (١٢٨)) [آل عمران] وقال جوابا لمن قال : هل لنا من الأمر شيء؟ (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ (١٥٤)) [آل عمران] فالملك كلّه له ، والأمر كله له ، والحمد كله له ، والشفاعة كلها له ، والخير كله في يديه. وهذا تحقيق تفرّده بالربوبية والألوهية ، فلا إله غيره ، ولا ربّ سواه : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨)) [الزمر] (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)) [الأنعام] (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)) [فاطر].

فاستعذ به منه ، وفرّ منه إليه ، واجعل لجأك منه إليه ، فالأمر كله له ، لا يملك أحد معه منه شيئا ، فلا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يذهب بالسيئات إلا هو ، ولا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه ، ولا يضرّ سمّ ولا سحر ولا شيطان ولا حيوان ولا غيره إلا بإذنه ومشيئته ، ويصيب بذلك من يشاء ، ويصرفه عمن يشاء ، فأعرف الخلق به وأقواهم بتوحيده من قال في دعائه : وأعوذ بك منك. فليس للخلق معاذ سواه ولا مستعاذ منه إلا وهو ربه وخالقه ومليكه وتحت قهره وسلطانه.

__________________

(١) رواه البخاري (٢٤٧) ، ومسلم (٢٧١٠) عن البراء بن عازب.

٦٧٤

ثم ختم الدعاء بقوله : لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ، اعترافا بأن شأنه وعظمته ونعوت كماله وصفاته أعظم وأجلّ من أن يحصيها أحد من الخلق ، أو بلغ أحد حقيقة الثناء عليه غيره سبحانه ، فهو توحيد في الأسماء والصفات والنعوت ، وذاك توحيد في العبودية والتأله ، وإفراده تعالى بالخوف والرجاء والاستعاذة ، وهذا مضاد الشرك ، وذاك مضاد التعطيل. وبالله التوفيق.

٦٧٥
٦٧٦

الباب السابع والعشرون

في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد

والحكمة تحت قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ

قضاؤك وبيان ما في هذا الحديث من القواعد

ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ما أصاب عبدا قطّ همّ ولا غمّ ولا حزن ، فقال : اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي ، إلا أذهب الله همّه وغمه ، وأبدله مكانه فرحا ، قالوا : يا رسول الله : أفلا نتعلمهن قال : بلى : ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن» (١).

فقد دلّ هذا الحديث الصحيح منها ، أنه استوعب أقسام المكروه الوارد على القلب ، فالهمّ يكون على مكروه ، يتوقّع في المستقبل ، يهتم به القلب ، والحزن على مكروه ماض ، من فوات محبوب ، أو حصول مكروه ، إذا تذكره ، أحدث له حزنا ، والغم يكون على مكروه حاصل في الحال ، يوجب

__________________

(١) صحيح. رواه أحمد (١ / ٣٩١ ، ٤٥٢) عن عبد الله بن مسعود.

٦٧٧

لصاحبه الغم ، فهذه المكروهات هي من أعظم أمراض القلب وأدوائه ، وقد تنوّع الناس في طرق أدويتها والخلاص منها ، وتباينت طرقهم في ذلك تباينا لا يحصيه إلا الله ، بل كلّ أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهم أنه يخلصه منها ، وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها ، لا يزيدها إلا شدّة لمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلافها ، من أكبر كبائرها إلى أصغرها ، وكمن يتداوى منها باللهو واللعب والغناء وسماع الأصوات المطربة وغير ذلك ، فأكثر سعي بني آدم أو كله إنما هو لدفع هذه الأمور والتخلص منها ، وكلهم قد أخطأ الطريق إلا من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها ، وهو دواء مركب من مجموع أمور ، متى نقص منها جزء ، نقص من الشفاء بقدره ، وأعظم أجزاء هذا الدواء هو التوحيد والاستغفار ، قال تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ (١٩)) [محمد].

وفي الحديث : «فإن الشيطان يقول : «أهلك بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله ، فلما رأيت ذلك ، بثثت فيهم الأهواء» (١) فهم يذنبون ولا يتوبون ، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

ولذلك كان الدعاء المفرج للكرب محض التوحيد ، وهو : «لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا هو رب العرش العظيم ، لا إله إلا هو رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم» (٢).

وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دعوة أخي ذي النون ، ما دعاها مكروب إلا فرّج الله كربه : لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من

__________________

(١) انظر الدارمي (١ / ٩٢).

(٢) رواه البخاري (٦٣٤٥) ، ومسلم (٢٧٣٠) عن ابن عباس.

٦٧٨

الظالمين» (١).

فالتوحيد يدخل العبد على الله ، والاستغفار والتوبة يرفع المانع ، ويزيل الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه ، فإذا وصل القلب إليه ، زال عنه همّه وغمّه وحزنه ، وإذا انقطع عنه ، حصرته الهموم والغموم والأحزان ، وأتته من كل طريق ، ودخلت عليه من كل باب ، فلذلك صدر هذا الدعاء المذهب للهم والغم والحزن ، بالاعتراف له بالعبودية حقا منه ، ومن آياته ، ثم أتبع ذلك باعترافه بأنه في قبضته وملكه ، وتحت تصرفه ، بكون ناصيته في يده ، يصرفه كيف يشاء ، كما يقاد من أمسك بناصيته شديد القوى ، لا يستطيع إلا الانقياد له ، ثم أتبع ذلك بإقراره له ، بنفاذ حكمه فيه ، وجريانه عليه ، شاء أم أبى ، وإذا حكم فيه بحكم ، لم يستطع غيره رده أبدا ، وهذا اعتراف لربه بكمال القدرة عليه ، واعتراف من نفسه بغاية العجز والضعف ، فكأنه قال : أنا عبد ضعيف مسكين ، يحكم فيه قويّ قاهر غالب ، وإذا حكم فيه بحكم ، مضى حكمه فيه ولا بد ، ثم أتبع ذلك باعترافه بأنّ كلّ حكم وكل قضية ينفذها فيه هذا الحاكم ، فهي عدل محض منه ، لا جور فيها ولا ظلم ، بوجه من الوجوه ، فقال : ماض في حكمك ، عدل في قضائك. وهذا يعمّ جميع أقضيته سبحانه في عبده قضاءه السابق فيه قبل إيجاده ، وقضاءه فيه المقارن لحياته ، وقضاءه فيه بعد مماته ، وقضاءه فيه يوم معاده ، ويتناول قضاءه فيه بالذنب وقضاءه فيه بالجزاء عليه ، ومن لم يثلج صدره لهذا ، ويكون له كالعلم الضروري ، لم يعرف ربه وكماله ونفسه وعينه ، ولا عدل في حكمه ، بل هو جهول ظلوم ، فلا علم ولا إنصاف.

وفي قوله : ماض فيّ حكمك ، عدل في قضاؤك ، ردّ على طائفتي القدرية

__________________

(١) صحيح. رواه الترمذي (٣٥٠٥) عن سعد بن أبي وقاص.

٦٧٩

والجبرية ، وإن اعترفوا بذلك بألسنتهم ، فأصولهم تناقضه ، فإنّ القدرية تنكر قدرته سبحانه على خلق ما به يهتدي العبد غير ما خلقه فيه وجبله عليه ، فليس عندهم لله حكم نافذ في عبده غير الحكم الشرعي بالأمر والنهي ، ومعلوم أنه لا يصحّ حمل الحديث على هذا الحكم ، فإنّ العبد يطيعه تارة ، ويعصيه تارة ، بخلاف الحكم الكونيّ القدري ، فإنه ماض في العبد ، ولا بد (١) قائمة بكلماته التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر. ثم قوله بعد ذلك : عدل فيّ قضاؤك ، دليل على أنّ الله سبحانه عادل في كل ما يفعله بعبده ، من قضائه كله خيره وشره حلوه ومره فعله وجزائه ، فدل الحديث على الإيمان بالقدر ، والإيمان بأن الله عادل فيما قضاه ، فالأول التوحيد ، والثاني العدل. وعند القدرية النفاة ، لو كان حكمه فيه ماضيا ، لكان ظالما له بإضلاله وعقوبته.

أما القدرية الجبرية ، فعندهم الظلم لا حقيقة له ، بل هو الممتنع لذاته ، الذي لا يدخل تحت القدرة ، فلا يقدر الرب تعالى ، عندهم ، على ما يسمى ظلما ، حتى يقال : ترك الظلم ، وفعل العدل ، فعلى قولهم ، لا فائدة في قوله : عدل في قضاؤك ، بل هو بمنزلة أن يقال : نافذ فيّ قضاؤك ولا بد ، وهو معنى قوله : ماض في حكمك ، فيكون تكريرا لا فائدة فيه ، وعلى قولهم ، فلا يكون ممدوحا بترك الظلم ، إذ لا يمدح بترك المستحيل لذاته ، ولا فائدة في قوله : إني حرّمت الظلم على نفسي ، أو يظن معناه : إني حرمت على نفسي ما لا يدخل تحت قدرتي ، وهو المستحيلات. ولا فائدة في قوله : (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)) [طه] فإن كل أحد لا يخاف من المستحيل لذاته أن يقع. ولا فائدة في قوله : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (٣١)) [غافر] ولا في قوله : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩)) [ق] فنفوذ حكمه في عباده

__________________

(١) هكذا بالأصل.

٦٨٠