شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

شهود الأمر ، فيغيبون عن القدر ، وتارة يبقون في حيرة وعمى ، وهذا كله إنما سببه الأصول الفاسدة والقواعد الباطلة التي بنوا عليها ، ولو جمعوا بين الملك والحمد والربوبية والإلهية والحكمة والقدرة ، وأثبتوا له الكمال المطلق ، ووصفوه بالقدرة التامة الشاملة ، والمشيئة العامة النافذة التي لا يوجد كائن إلا بعد وجودها ، والحكمة البالغة التي ظهرت في كل موجود ، لعلموا حقيقة الأمر ، وزالت عنهم الحيرة ، ودخلوا إلى الله سبحانه من باب أوسع من السموات السبع ، وعرفوا أنه لا يليق بكماله المقدس إلا ما أخبر به عن نفسه على ألسنة رسله ، وأنّ ما خالفه ظنون كاذبة وأوهام باطلة ، تولّدت بين أفكار باطلة وآراء مظلمة ، فنقول ، وبالله التوفيق ، وهو المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الربّ تبارك اسمه ، وتعالى جده ، ولا إله غيره ، وهو المنعم ، على الحقيقة ، بصنوف النعم التي لا يحصيها أهل سماواته وأرضه ، فإيجادهم نعمة منه ، وجعلهم أحياء ناطقين نعمة منه ، وإعطاؤهم الأسماع والأبصار والعقول نعمة منه ، وإدرار الأرزاق عليهم على اختلاف أنواعها وأصنافها نعمة منه ، وتعريفهم نفسه بأسمائه وصفاته وأفعاله نعمة منه ، وإجراء ذكره على ألسنتهم ومحبته ومعرفته على قلوبهم نعمة منه ، وحفظهم بعد إيجادهم نعمة منه ، وقيامه بمصالحهم دقيقها وجليلها نعمة منه ، وهدايتهم إلى أسباب مصالحهم ومعايشهم نعمة منه. وذكر نعمه على سبيل التفصيل ، لا سبيل إليه ولا قدرة للبشر عليه ، ويكفي أن النفس من أدنى نعمه التي لا يكادون يعدونها ، وهو أربعة وعشرون ألف نفس في كل يوم وليلة ، فلله على العبد في النفس خاصة أربعة وعشرون ألف نعمة كل يوم وليلة ، دع ما عدا ذلك من أصناف نعمه على العبد ، ولكلّ نعمة من هذه النعم حقّ من الشكر ، يستدعيه ويقتضيه ، فإذا وزّعت طاعات العبد كلها على هذه النعم ، لم يخرج قسط كل نعمة منها إلا جزء يسير جدا ، لا نسبة له إلى قدر تلك النعمة بوجه من

٣٠١

الوجوه.

قال أنس بن مالك : ينشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين ، ديوان فيه ذنوبه ، وديوان فيه العمل الصالح ، فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من نعمه ، فتقوم فتستوعب عمله كله ، ثم تقول : أي ربّ : وعزّتك وجلالك ما استوفيت ثمني ، وقد بقيت الذنوب والنعم ، فإذا أراد الله بعبد خيرا قال : ابن آدم : ضعفت حسناتك ، وتجاوزت عن سيآتك ، ووهبت لك نعمي فيما بيني وبينك.

وفي صحيح الحاكم (١) حديث صاحب الرمانة الذي عبد الله خمس مائة سنة ، يأكل كل يوم رمانة ، تخرج له من شجرة ، ثم يقوم إلى صلاته ، فسأل ربه وقت الأجل أن يقبضه ساجدا ، وأن لا يجعل للأرض عليه سبيلا حتى يبعث وهو ساجد ، فإذا كان يوم القيامة ، وقف بين يدي الرب ، فيقول تعالى : أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ، فيقول : ربّ بل بعملي ، فيقول الرب جل جلاله : قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله ، فتؤخذ نعمة البصر بعبادة خمس مائة سنة ، وبقيت نعمة الجسد فضلا عليه ، فيقول : أدخلوا عبدي النار ، فيجرّ إلى النار ، فينادي : ربّ برحمتك ، ربّ برحمتك أدخلني الجنة ، فيقول : ردّوه ، فيوقف بين يديه ، فيقول : يا عبدي : من خلقك ولم تكن شيئا؟ فيقول : أنت يا رب ، فيقول : من قواك على عبادة خمس مائة سنة؟ فيقول : أنت يا رب ، فيقول : من أنزلك في جبل وسط اللّجّة ، وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح ، وأخرج لك كل يوم رمانة ، وإنما تخرج مرة في السنة؟ وسألتني أن أقبضك ساجدا ، ففعلت ذلك بك؟ فيقول : أنت يا رب ، فيقول الله : فذلك برحمتي ، وبرحمتي أدخلك الجنة.

__________________

(١) الحاكم ٤ / ٢٥٠.

٣٠٢

رواه من طريق يحيى بن بكير ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن سليمان بن هرم ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، والإسناد صحيح (١) ، ومعناه صحيح لا ريب فيه.

فقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لن ينجو أحد منكم بعمله» وفي لفظ : «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا : ولا أنت يا رسول الله ، قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (٢).

فقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا ينجي أحدا عمله من الأولين ولا من الآخرين إلا أن يرحمه ربه سبحانه ، فتكون رحمته خيرا له من عمله ، لأن رحمته تنجيه ، وعمله لا ينجيه ، فعلم أنه سبحانه لو عذّب أهل سماواته وأرضه ، لعذبهم ببعض حقه عليهم ، ومما يوضحه أنه كلما كملت نعمة الله على العبد ، عظم حقه عليه ، وكان ما يطالب به من الشكر أكثر مما يطالب من دونه ، فيكون حق الله عليه أعظم ، وأعماله لا تفي بحقّه عليه ، وهذا إنما يعرفه حقّ المعرفة من عرف الله ، وعرف نفسه ، هذا كله لو لم يحصل للعبد من الغفلة والإعراض والذنوب ما يكون في قبالة طاعاته ، فكيف إذا حصل له من ذلك ما يوازي طاعاته أو يزيد عليها.

فإنّ من حقّ الله على عبده أن يعبده ، لا يشرك به شيئا ، وأن يذكره ولا ينساه ، وأن يشكره ولا يكفره ، وأن يرضى به ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا ، وليس الرضا بذلك مجرد إطلاق هذا اللفظ ، وحاله وإرادته تكذّبه

__________________

(١) كيف يكون صحيحا وفيه سليمان بن هرم مجمع على ضعفه. وقد ساق الذهبي هذا الحديث في ترجمة سليمان بن هرم من الميزان (٢ / ١ ترجمة ٣٥٢٣) فقال : لم يصح هذا.

(٢) مر قريبا.

٣٠٣

وتخالفه.

فكيف يرضى به ربا من يسخط ما يقضيه له ، إذا لم يكن موافقا لإرادته وهواه ، فيظل ساخطا به متبرما ، يرضى وربه غضبان ، ويغضب وربه راض ، فهذا إنما رضي من ربه حظا ، لم يرض بالله ربا.

وكيف يدّعي الرضا بالإسلام دينا من ينبذ أصوله خلف ظهره ، إذا خالفت بدعته وهواه ، وفروعه وراءه إذا لم يوافق غرضه وشهوته.

وكيف يصح الرضا بمحمد رسولا من (١) لم يحكّمه على ظاهره وباطنه ، ويتلقّ أصول دينه وفروعه من مشكاته وحده؟!.

وكيف يرضى به رسولا من يترك ما جاء به لقول غيره ، ولا يترك قول غيره لقوله ، ولا يحكّمه ويحتجّ بقوله إلا إذا وافق تقليده ومذهبه؟! فإذا خالفه لم يلتفت إلى قوله.

والمقصود أن من حقه سبحانه على كلّ أحد من عبيده أن يرضى به ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ، وأن يكون حبه كله لله ، وبغضه في الله ، وقوله لله ، وتركه لله ، وأن يذكره ولا ينساه ، ويطيعه ولا يعصيه ، ويشكره ولا يكفره ، وإذا قام بذلك كله كانت نعم الله عليه أكثر من عمله ، بل ذلك نفسه من نعم الله عليه حيث وفّقه له ويسّره وأعانه عليه ، وجعله من أهله ، واختصّه به على غيره ، فهو يستدعي شكرا آخر عليه ، ولا سبيل له إلى القيام بما يجب لله من الشكر أبدا ، فنعم الله تطالبه بالشكر ، وأعماله لا تقابلها ، وذنوبه وغفلته وتقصيره قد تستنفد عمله ، فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفدان طاعاته كلها.

__________________

(١) هكذا وردت ، والوجه أن تكون (ممّن).

٣٠٤

هذا وأعمال العبد مستحقة عليه بمقتضى كونه عبدا مملوكا مستعملا فيما يأمره به سيده ، فنفسه مملوكة ، وأعماله مستحقة بموجب العبودية ، فليس له شيء من أعماله ، كما أنه ليس له ذرة من نفسه ، فلا هو مالك لنفسه ولا صفاته ولا أعماله ولا لما بيده من المال في الحقيقة ، بل كلّ ذلك مملوك عليه ، مستحق عليه لمالكه أعظم استحقاقا من سيّد اشترى عبدا بخالص ماله ، ثم قال اعمل وأدّ إليّ ، فليس لك في نفسك ولا في كسبك شيء ، فلو عمل هذا العبد من الأعمال ما عمل ، فإن ذلك كله مستحق عليه لسيده ، وحق من حقوقه عليه ، فكيف بالمنعم المالك على الحقيقة ، الذي لا تعدّ نعمه وحقوقه على عبده ، ولا يمكن أن تقابلها طاعاته بوجه ، فلو عذبه سبحانه لعذبه وهو غير ظالم له ، وإذا رحمه فرحمته خير له من أعماله ، ولا تكون أعماله ثمنا لرحمته البتة.

فلولا فضل الله ورحمته ومغفرته ما هنّا أحدا عيش البتة ، ولا عرف خالقه ، ولا ذكره ، ولا آمن به ، ولا أطاعه. فكما أن وجود العبد محض وجوده وفضله ومنّته عليه ، وهو المحمود على إيجاده ، فتوابع وجوده كلها كذلك ، ليس للعبد منها شيء ، كما ليس له في وجوده شيء. فالحمد كله لله ، والفضل كله له ، والإنعام كله له ، والحق له على جميع خلقه ، ومن لم ينظر في حقه عليه وتقصيره وعجزه عن القيام به ، فهو من أجهل الخلق بربه وبنفسه ، ولا تنفعه طاعاته ، ولا يسمع دعاؤه.

قال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، عن وهب ، قال : بلغني أنّ نبيّ الله موسى مرّ برجل يدعو ويتضرع ، فقال : يا ربّ ارحمه ، فإني قد رحمته ، فأوحى الله تعالى إليه : لو دعاني حتى ينقطع فؤاده

٣٠٥

ما استجبت له حتى ينظر في حقّي عليه (١).

والعبد يسير إلى الله سبحانه ، بين مشاهدة منّته عليه ونعمه وحقوقه ، وبين رؤية عيب نفسه وعمله وتفريطه وإضاعته ، فهو يعلم أنّ ربه لو عذّبه أشدّ العذاب لكان قد عدل فيه ، وأنّ أقضيته كلها عدل فيه ، وأن ما فيه من الخير فمجرد فضله ومنّته وصدقته عليه ، ولهذا كان في حديث سيد الاستغفار : «أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي» (٢) فلا يرى نفسه إلا مقصرا مذنبا ، ولا يرى ربه إلا محسنا متفضلا.

وقد قسم الله خلقه إلى قسمين ، لا ثالث لهما : تائبين. وظالمين ، فقال : (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)) [الحجرات].

وكذلك جعلهم قسمين : معذبين. وتائبين ، فمن لم يتب فهو معذب ولا بد ، قال تعالى : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ (٧٣)) [الأحزاب] وأمر جميع المؤمنين من أولهم إلى آخرهم بالتوبة ، ولا يستثنى من ذلك أحد ، وعلّق فلاحهم بها ، قال تعالى (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)) [النور].

وعدّد سبحانه من جملة نعمه على خير خلقه وأكرمهم عليه ، وأطوعهم له وأخشاهم له أن تاب عليه وعلى خواص أتباعه ، فقال : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) ثم كرر توبته عليهم فقال : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١١٧)) [التوبة] وقدم توبته عليهم على توبة الثلاثة الذين خلّفوا ، وأخبر سبحانه أن الجنة التي وعدها أهلها ، في التوراة والإنجيل ، أنها

__________________

(١) رواه أحمد في «الزهد» / عن وهب وهو ابن منبه ، وفي السند انقطاع لعله من الناسخ.

(٢) رواه البخاري (٦٣٢٣) عن شداد بن أوس.

٣٠٦

يدخلها التائبون ، فذكر عموم التائبين أولا ، ثم خصّ النبيّ والمهاجرين والأنصار بها ، ثم خص الثلاثة الذين خلفوا ، فعلم بذلك احتياج جميع الخلق إلى توبته عليهم ومغفرته لهم وعفوه عنهم.

وقال تعالى لسيد ولد آدم وأحبّ خلقه إليه : (عَفَا اللهُ عَنْكَ (٤٣)) [التوبة] فهذا خبر منه ، وهو أصدق القائلين ، أو دعاء لرسوله بعفوه عنه ، وهو طلب من نفسه.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في سجوده أقرب ما يكون من ربّه : «أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١).

وقال لأطوع نساء الأمة وأفضلهن وخيرهن الصديقة بنت الصديق ، وقد قالت له : يا رسول الله : لئن وافقت ليلة القدر فما أدعو به؟ قال : «قولي : اللهم إنك عفوّ تحبّ العفو فاعف عني» (٢) قال الترمذي : حديث حسن صحيح.

وهو سبحانه لمحبته للعفو والتوبة ، خلق خلقه على صفات وهيئات وأحوال ، تقتضي توبتهم إليه واستغفارهم وطلبهم عفوه ومغفرته.

وقد روى مسلم في صحيحه (٣) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ، فيستغفرون الله ، فيغفر لهم».

__________________

(١) رواه مسلم (٤٨٦) عن عائشة.

(٢) صحيح. رواه الترمذي (٣٥١٣) ، وابن ماجه (٣٨٥٠) ، وأحمد (٦ / ١٨٣) عن عائشة.

(٣) مسلم (٢٧٤٩) عن أبي هريرة.

٣٠٧

والله تعالى يحبّ التوابين. والتوبة من أحبّ الطاعات إليه ، ويكفي في محبتها شدة فرحه بها ، كما في صحيح مسلم (١) عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله عزوجل : «أنا عند ظنّ عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ، والله! لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم ، يجد ضالّته في الفلاة».

وفي الصحيحين (٢) من حديث عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لله أشدّ فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دويّة مهلكة ، معه راحلته ، عليها طعامه وشرابه ، فنام ، فاستيقظ وقد ذهبت ، فطلبها حتى أدركه العطش ، ثم قال : أرجع إلى المكان الذي كنت فيه ، فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت ، فاستيقظ وعنده راحلته ، عليها زاده وطعامه وشرابه ، فالله أشدّ فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وزاده».

وفي صحيح مسلم (٣) عن النعمان بن بشير ، يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لله أشدّ فرحا بتوبة عبده من رجل حمل زاده ومزاده على بعير. ثم سار حتى كان بفلاة ، فأدركته القائلة ، فنزل فقال (٤) تحت شجرة ، فغلبته عينه ، وانسلّ بعيره ، فاستيقظ فسعى شرفا فلم ير شيئا ، ثم سعى شرفا ثانيا ، ثم سعى شرفا ثالثا فلم ير شيئا ، فأقبل حتى أتى إلى مكانه الذي قال فيه ، فبينا هو قاعد فيه إذ جاء بعيره يمشي حتى وضع خطامه في يده ، فالله أشدّ فرحا بتوبة العبد من هذا حين وجد بعيره».

فتأمل محبته سبحانه لهذه الطاعة التي هي أصل الطاعات وأساسها ، فإن

__________________

(١) مسلم (٢٦٧٥).

(٢) البخاري (٦٣٠٨) ومسلم (٢٧٤٤).

(٣) مسلم (٢٧٤٥).

(٤) قال : نام ساعة القيلولة (عند الظهيرة).

٣٠٨

من زعم أن أحدا من الناس يستغني عنها ، ولا حاجة به إليها ، فقد جهل حق الربوبية ومرتبة العبودية ، وينتقص بمن أغناه ، بزعمه ، عن التوبة ، من حيث زعم أنه معظّم له ، إذ عطّله عن هذه الطاعة العظيمة التي هي من أجلّ الطاعات ، والقربة الشريفة التي هي من أجلّ القربات ، وقال : لست من أهل هذه الطاعة ، ولا حاجة بك إليها. فلا قدّر الله حق قدره ، ولا قدر العبد حق قدره ، وقد جعل بعض عباده غنيا عن مغفرة الله وعفوه وتوبته إليه ، وزعم أنه لا يحتاج إلى ربه في ذلك.

وفي الصحيحين (١) من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب عن أحدكم ، من رجل كان على راحلته ، بأرض فلاة ، فانفلتت منه ، وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة ، فاضطجع وقد يئس من راحلته ، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده ، ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربّك ، أخطأ من شدة الفرح».

وأكمّل الخلق أكملهم توبة وأكثرهم استغفارا.

وفي صحيح البخاري (٢) عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».

ولما سمع أبو هريرة هذا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول ما رواه الإمام أحمد في «كتاب الزهد» عنه : إني لأستغفر الله في اليوم والليلة اثني عشر ألف مرة بقدر ديتي ، ثم ساقه من طريق آخر ، وقال : بقدر ذنبه.

__________________

(١) البخاري (٦٣٠٩) ومسلم (٢٧٤٧) عن أنس.

(٢) البخاري (٦٣٠٧) عن أبي هريرة.

٣٠٩

وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون : قال : أخبرنا محمد بن راشد ، عن مكحول ، عن رجل ، عن أبي هريرة قال : ما جلست إلى أحد أكثر استغفارا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال الرجل الآخر : وما جلست إلى أحد أكثر استغفارا من أبي هريرة» (١).

وفي صحيح مسلم (٢) عن الأغر المزني ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» (٣).

وفي السنن والمسند من حديث ابن عمر قال : «كنا نعدّ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المجلس الواحد مائة مرة رب اغفر لي وتب عليّ ، إنك أنت التواب الرحيم» (٤) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقال الإمام أحمد (٥) : حدثنا إسماعيل ، قال : حدثنا يونس عن حميد بن هلال ، عن أبي بردة قال : جلست إلى شيخ من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مسجد الكوفة ، فحدثني قال : سمعت رسول الله ، أو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أيها الناس : توبوا إلى الله عزوجل ، واستغفروه ، فإني أتوب إلى الله ، واستغفره كل يوم مائة مرة».

قال الإمام أحمد (٦) : وحدثنا يحيى ، عن شعبة ، قال : حدثنا عمرو بن

__________________

(١) صحيح. رواه عبد الله بن أحمد / وغيره عن أبي هريرة.

(٢) مسلم (٢٧٠٢).

(٣) رواه مسلم (٢٧٠٢) عن الأغر المزني.

(٤) صحيح. رواه أحمد (٢ / ٢١ ، ٦٧) ، والترمذي (٣٤٣٤) ، وابن ماجة (٣٨١٤) عن ابن عمر.

(٥) رواه أحمد (٥ / ٤١١) وهو حديث صحيح.

(٦) أحمد (٤ / ٢١١ ، ٢٦٠) وهو صحيح من حديث الأغر المزني.

٣١٠

مرة ، قال : سمعت أبا بردة قال : سمعت الأغرّ يحدّث ابن عمر ، أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم عزوجل ، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة».

وقال أحمد (١) : حدثنا يزيد قال : حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان النهدي ، عن عائشة قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا ، وإذا أساءوا استغفروا».

وكان من دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول الصلاة ، عند الاستفتاح بعد التكبير : «اللهم أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي ، واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق ، لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، لبّيك وسعديك والخير في يديك ، وأنا بك وإليك ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك» رواه مسلم (٢).

وفي الصحيحين (٣) عنه أنه كان يقول في دعائه : «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ، اللهم نقّني من خطاياي بالماء والثلج والبرد» وكان يقول هذا سرا ، لم يعلم به من خلفه حتى سأله عنه أبو هريرة.

وروي عن علي بن أبي طالب أنه كان إذا استفتح الصلاة قال : «لا إله إلا أنت ظلمت نفسي وعملت سوء ، فاغفر لي ، إنه لا يغفر الذنوب إلا

__________________

(١) أحمد (٦ / ١٢٩ ، ١٤٥ ، ١٨٨ ، ٢٣٩) وهو حديث ضعيف لضعف علي بن زيد ، وهو ابن جدعان.

(٢) رواه مسلم (٧٧١) عن علي بن أبي طالب.

(٣) رواه البخاري (٧٤٤) ، ومسلم (٥٩٨) عن أبي هريرة.

٣١١

أنت» (١).

وفي الصحيحين (٢) أنه كان يقول في ركوعه وسجوده : «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي».

وفي صحيح مسلم (٣) من حديث عبد الله بن أبي أوفى ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال : «سمع الله لمن حمده ، اللهم ربّنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد ، اللهم طهّرني بالثلج والبرد والماء البارد ، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقّي الثوب الأبيض من الوسخ».

وفي صحيح مسلم (٤) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول في سجوده : «اللهم اغفر لي ذنبي كله ، دقّه وجلّه أوّله وآخره ، علانيته وسره» (٥).

وفي مسند الإمام أحمد (٦) أنه كان يقول في صلاته : «اللهم اغفر لي ، ووسّع عليّ في داري ، وبارك لي فيما رزقتني».

وفي صحيح مسلم (٧) عن فروة بن نوفل قال : قلت لعائشة : حدّثيني بشيء كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو به في صلاته ، قالت : نعم كان يقول : «اللهم إني

__________________

(١) رواه مسلم (٧٧١) عن علي بن أبي طالب.

(٢) رواه البخاري (٧٩٤) ، ومسلم (٤٨٤) عن عائشة.

(٣) مسلم (٧٤٦).

(٤) رواه مسلم (٤٨٣) عن أبي هريرة.

(٥) رواه مسلم (٤٨٣) عن أبي هريرة.

(٦) أحمد (٥ / ٣٦٧) وهو صحيح.

(٧) رواه مسلم (٢٧١٦) عن عائشة.

٣١٢

أعوذ بك من شر ما علمت ومن شر ما لم أعلم» (١).

وكان يقول بين السجدتين : «اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني واهدني وارزقني. وكان يقول في قيامه إلى الصلاة بالليل : اللهم لك الحمد ، الحديث ، وفيه : فاغفر لي ما قدّمت وما أخّرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدّم وأنت المؤخر ، لا إله إلا أنت» (٢).

وفي الصحيحين (٣) عن أبي موسى الأشعري ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو بهذا الدعاء : «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني ، أنت المقدم وأنت المؤخر ، وأنت على كل شيء قدير».

وحقيقة الأمر أن العبد فقير إلى الله ، من كل وجه وبكل اعتبار ، فهو فقير إليه من جهة ربوبيته له وإحسانه إليه وقيامه بمصالحه وتدبيره له ، وفقير إليه من جهة إلهيته وكونه معبوده وإلهه ومحبوبه الأعظم الذي لا صلاح له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا بأن يكون أحب شيء إليه ، فيكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله ووالده وولده ومن الخلق كلهم ، وفقير إليه من جهة معافاته له من أنواع البلاء ، فإنه إن لم يعافه منها هلك ببعضها ، وفقير إليه من جهة عفوه عنه ومغفرته له ، فإن لم يعف عن العبد ويغفر له ، فلا سبيل إلى النجاة ، فما نجا أحد إلا بعفو الله ، ولا دخل الجنة إلا برحمة الله.

وكثير من الناس ينظر إلى نفس ما يتاب منه ، فيراه نقصا ، ولا ينظر إلى كمال الغاية الحاصلة بالتوبة ، وأنّ العبد بعد التوبة النصوح خير منه قبل

__________________

(١) رواه مسلم (٢٧١٦) عن عائشة.

(٢) صحيح. رواه الترمذي (٣٤١٨) ، وابن ماجة (١٣٥٥) عن ابن عباس.

(٣) البخاري (٦٣٩٨) ، ومسلم (٢٧١٩).

٣١٣

الذنب ، ولا ينظر إلى كمال الربوبية وتفرد الرب بالكمال وحده ، وأن لوازم البشرية لا ينفك منها البشر ، وأن التوبة غاية كل أحد من ولد آدم وكماله ، كما كانت هي غايته وكماله ، فليس للعبد كمال بدون التوبة البتة ، كما أنه ليس له انفكاك عن سببها ، فإنه سبحانه هو المتفرّد المستأثر بالغنى والحمد من كل وجه وبكل اعتبار ، والعبد هو الفقير المحتاج إليه المضطر إليه بكلّ وجه وبكل اعتبار ، فرحمته للعبد خير له من عمله ، فإن عمله لا يستقل بنجاته ولا سعادته ، ولو وكل إلى عمله لم ينج به البتة ، فهذا بعض ما يتعلق بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم» (١).

ومما يوضحه أن شكره سبحانه مستحقّ عليهم بجهة ربوبيته لهم ، وكونهم عبيده ومماليكه ، وذلك يوجب عليهم أن يعرفوه ويعظموه ويوحدوه ، ويتقربوا إليه تقرّب العبد المحب الذي يتقلب في نعمه ، ولا غناء به عنه طرفة عين ، فهو يدأب في التقرب إليه بجهده ، ويستفرغ في ذلك وسعه وطاقته ، ولا يعدل به سواه في شيء من الأشياء ، ويؤثر رضا سيده على إرادته وهواه ، بل لا هوى له ولا إرادة إلا فيما يريد سيده ويحبه ، وهذا يستلزم علوما وأعمالا وإرادات وعزائم ، لا يعارضها غيرها ، ولا يبقى له معها التفات إلى غيره بوجه ، ومعلوم أن ما يطبع عليه البشر لا يفي بذلك ، وما يستحقه الرب تعالى لذاته ، وأنه أهل أن يعبد أعظم مما يستحقه لإحسانه ، فهو المستحق لنهاية العبادة والخضوع والذل لذاته ولإحسانه وإنعامه.

وفي بعض الآثار : لو لم أخلق جنة ولا نارا ، لكنت أهلا أن أعبد. ولهذا

__________________

(١) سبق تخريجه.

٣١٤

يقول أعبد خلقه له يوم القيامة ، وهم الملائكة : سبحانك ما عبدناك حقّ عبادتك. فمن كرمه وجوده ورحمته أن رضي من عباده بدون اليسير مما ينبغي أن يعبد به ، ويستحقه لذاته وإحسانه ، فلا نسبة للواقع منهم إلى ما يستحقه ، بوجه من الوجوه ، فلا يسعهم إلا عفوه وتجاوزه ، وهو سبحانه أعلم بعباده منهم بأنفسهم ، فلو عذبهم لعذبهم بما يعلمه منهم ، وإن لم يحيطوا به علما ، ولو عذبهم قبل أن يرسل رسله إليهم على أعمالهم ، لم يكن ظالما لهم ، كما أنه سبحانه لم يظلمهم بمقته لهم قبل إرسال رسوله ، على كفرهم وشركهم وقبائحهم ، فإنه سبحانه نظر إلى أهل الأرض ، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب (١) ، ولكن أوجب على نفسه إذ كتب عليها الرحمة أنه لا يعذب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه برسالته.

وسر المسألة أنه لما كان شكر المنعم على قدره وعلى قدر نعمه ، ولا يقوم بذلك أحد ، كان حقه سبحانه على كل أحد ، وله المطالبة به ، وإن لم يغفر له ويرحمه ، وإلا عذبه ، فحاجتهم إلى مغفرته ورحمته وعفوه كحاجتهم إلى حفظه وكلاءته ورزقه ، فإن لم يحفظهم هلكوا ، وإن لم يرزقهم هلكوا ، وإن لم يغفر لهم ويرحمهم هلكوا وخسروا ، ولهذا قال أبوهم آدم وأمهم حواء : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)) [الأعراف] وهذا شأن ولده من بعده.

وقد قال موسى كليمه سبحانه : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي (٤٤)) [النمل] وقال : (سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)) [الأعراف] وقال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)) [الأعراف] وقال :

__________________

(١) رواه مسلم (٢٨٦٥) عن عياض بن حمار المجاشعي.

٣١٥

(أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)) [الأعراف].

وقال خليله إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١)) [إبراهيم] وقال (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨)) إلى قوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (٨٢)) [الشعراء] وقال أول رسله إلى أهل الأرض : (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٤٧)) [هود].

وقال لأكرم خلقه عليه وأحبهم إليه (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ (١٩)) [محمد] وقال : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ (١٠٥)) ـ إلى قوله ـ (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٠٦)) [النساء] وقال : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢)) [الفتح].

وقد تقدم حديث ابن عباس في دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رب أعنّي ولا تعن عليّ» وفيه : ربّ تقبّل توبتي واغسل حوبتي» (١) الحديث.

وقد أخبر سبحانه عن أعبد البشر داود ، أنه استغفر ربه وخرّ راكعا وأناب ، وقال تعالى : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ (٢٥)) [ص] وقال عن نبيه سليمان : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (٣٤) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)) [ص] وقال عن نبيه يونس أنه ناداه في الظلمات : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧)) [الأنبياء].

وقال صدّيق الأمة وخيرها وأبرّها وأتقاها لله بعد رسوله : يا رسول الله

__________________

(١) مر سابقا.

٣١٦

علّمني دعاء ، أدعو به في صلاتي ، فقال : قل : «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كبيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» (١).

فاستفتح الخبر عن نفسه بأداة التوكيد التي تقتضي تقرير ما بعدها ، ثم ثنى بالإخبار عن ظلمه لنفسه ، ثم وصف ذلك الظلم بكونه ظلما كبيرا ، ثم طلب من ربه أن يغفر له مغفرة من عنده ، أي : لا يبلغها علمه ولا سعيه ، بل هي محض منّته وإحسانه ، وأكبر من عمله ، فإذا كان هذا شأن من وزن بالأمة فرجح بهم ، فكيف بمن دونه؟!.

__________________

(١) رواه البخاري (٨٣٤) ، ومسلم (٢٧٠٥) عن أبي بكر الصديق.

٣١٧
٣١٨

الباب السابع عشر

في الكسب والجبر ومعناهما لغة واصطلاحا وإطلاقهما

نفيا وإثباتا وما دل عليه السمع والعقل من ذلك

أما الكسب فأصله في اللغة الجمع ، قاله الجوهري ، وهو طلب الرزق. يقال : كسبت شيئا ، واكتسبته ، بمعنى. وكسبت أهلي خيرا ، وكسبت الرجل مالا ، فكسبه ، وهذا مما جاء على فعلته ففعل. والكواسب الجوارح ، وتكسّب : تكلّف الكسب ، انتهى.

والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه :

أحدها : عقد القلب وعزمه ، كقوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ (٢٢٥)) [البقرة] أي : بما عزمتم عليه وقصدتموه. وقال الزجاج : أي : يؤاخذكم بعزمكم على أن لا تبروا ، وأن لا تتقوا وأن تعتلّوا في ذلك بأنكم حلفتم ، وكأنه التفت إلى لفظ المؤاخذة ، وأنها تقتضي تعذيبا ، فجعل كسب قلوبهم عزمهم على ترك البر والتقوى ، لمكان اليمين ، والقول الأول أصح ، وهو قول جمهور أهل التفسير ، فإنه قابل به لغو اليمين ، وهو أن لا يقصد اليمين ، فكسب القلب المقابل للغو اليمين هو عقده وعزمه ، كما قال في الآية الأخرى : (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ (٨٩)) [المائدة] فتعقيد الأيمان هو كسب القلب.

٣١٩

الوجه الثاني : من الكسب كسب المال من التجارة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ (٢٦٧)) [البقرة] فالأول للتجار ، والثاني للزّراع.

الوجه الثالث : من الكسب السّعي والعمل ، كقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ (٢٨٦)) [البقرة] وقوله : (بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)) [الأعراف] (وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ (٧٠)) [الأنعام] فهذا كله للعمل ، واختلف الناس في الكسب والاكتساب ، هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق ، فقالت طائفة : معناهما واحد. قال أبو الحسن علي بن أحمد ، وهو الصحيح عند أهل اللغة ، ولا فرق بينهما ، قال ذو الرمة :

ألفى أباه بذاك الكسب يكتسب

وقال الآخرون : الاكتساب أخصّ من الكسب ، لأن الكسب ينقسم إلى كسبه لنفسه ولغيره ، ولا يقال : يكتسب ، قال الحطيئة :

ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة

فاغفر هداك مليك الناس يا عمر

قلت : والاكتساب افتعال ، وهو يستدعي اهتماما وتعملا واجتهادا ، وأما الكسب فيصح نسبته بأدنى شيء ، ففي جانب الفضل جعل لها ما لها فيه أدنى سعي ، وفي جانب العدل لم يجعل عليها إلا ما لها فيه اجتهاد واهتمام ، وأما الجبر فيرجع في اللغة إلى ثلاثة أصول ، أحدها : أن يغنى الرجل من فقر ، أو يجبر عظمه من كسر ، وهذا من الإصلاح ، وهذا الأصل يستعمل لازما ومتعديا ، يقول : جبرت العظم ، وجبر ، وقد جمع العجّاج بينهما في قوله :

قد جبر الدين الإله فجبر

٣٢٠