شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

النعم ، ثم أخبر عمن كفره ، ولم يشكر نعمه بقوله : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها (٨٣)) [النحل].

قال مجاهد : المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ، ثم ينكرونه بأن يقولوا : هذا كان لآبائنا ، ورثناه عنهم.

وقال عون بن عبد الله : يقولون : لو لا فلان لكان كذا وكذا. وقال الفراء وابن قتيبة : يعرفون أن النعم من الله ، ولكن يقولون : هذه بشفاعة آلهتنا. وقالت طائفة : النعمة هاهنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، وإنكارها جحدهم نبوته ، وهذا يروى عن مجاهد والسّدي ، وهذا أقرب إلى حقيقة الإنكار ، فإنه إنكار لما هو أجلّ النعم أن تكون نعمة.

وأما على القول الأول والثاني والثالث ، فإنهم لما أضافوا النعمة إلى غير الله ، فقد أنكروا نعمة الله بنسبتها إلى غيره ، فإن الذي قال : إنما كان هذا لآبائنا ، ورثناه كابرا عن كابر جاحدا لنعمة الله عليه غير معترف بها ، وهو كالأبرص والأقرع اللذين ذكّرهما الملك بنعم الله عليهما ، فأنكرا ، وقالا : إنما ورثنا هذا كابرا عن كابر ، فقال : إن كنتما كاذبين فصيّر كما الله إلى ما كنتما (١).

وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في إنعام الله عليهم إذ أنعم بها على آبائهم ، ثم ورّثهم إياها ، فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمه. وأما قول الآخرين : لو لا فلان لما كان كذا ، فيتضمن قطع إضافة النعمة إلى من لولاه لم تكن ، وإضافتها إلى من لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرا ولا نفعا ، وغايته أن تكون جزءاً من أجزاء السبب ، أجرى الله تعالى نعمته على يده ، والسبب لا يستقل بالإيجاد ،

__________________

(١) انظر العزو الآنف إلى الصحيحين.

١٠١

وجعله سببا هو من نعم الله عليه ، وهو المنعم بتلك النعمة ، وهو المنعم بما جعله من أسبابها ، فالسبب والمسبب من إنعامه ، وهو سبحانه قد ينعم بذلك السبب ، وقد ينعم بدونه ، فلا يكون له أثر ، وقد يسلبه تسببيته ، وقد يجعل لها معارضا يقاومها ، وقد يرتب على السبب ضد مقتضاه ، فهو وحده المنعم على الحقيقة.

وأما قول القائل : بشفاعة آلهتنا ، فتضمن الشرك ، مع إضافة النعمة إلى غير وليّها ، فالآلهة التي تعبد من دون الله أحقر وأذل من أن تشفع عند الله ، وهي محضرة في الهوان والعذاب مع عابديها. وأقرب الخلق إلى الله وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه. فالشفاعة بإذنه من نعمه ، فهو المنعم بالشفاعة ، وهو المنعم بقبولها ، وهو المنعم بتأهيل المشفوع له إذ ليس كل أحد أهلا أن يشفع له ، فمن المنعم على الحقيقة سواه؟! قال تعالى (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ (٥٣)) [النحل].

فالعبد لا خروج له عن نعمته وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين ، لا في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا ذم الله سبحانه من آتاه شيئا من نعمه فقال : إنما أوتيته على علم عندي. وفي الآية الأخرى (فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ (٤٩)) [الزمر].

وقال البغوي : على علم من الله أنّي له أهل. وقال مقاتل : على خير علمه الله عندي. وقال آخرون : على علم من الله أني له أهل ، ومضمون هذا القول ، أن الله آتانيه على علمه بأني أهله. وقال آخرون : بل العلم له نفسه ، ومعناه : أوتيته على علم مني بوجوه المكاسب ، قاله قتادة وغيره ، وقيل : المعنى قد علمت أني لما أوتيت هذا في الدنيا ، فلي عند الله منزلة وشرف ، وهذا معنى قول مجاهد : أوتيته على شرف. قال تعالى : بل هي فتنة ، أي : النعم التي أوتيها ، فتنة نختبره فيها ومحنة نمتحنه بها ، لا يدل على اصطفائه

١٠٢

واجتبائه ، وأنه محبوب لنا مقرب عندنا ، ولهذا قال في قصة قارون (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً (٧٨)) [القصص].

فلو كان إعطاء المال والقوة والجاه ، يدل على رضاء الله سبحانه عمن آتاه ذلك ، وشرف قدره ، وعلو منزلته عنده ، لما أهلك من آتاه من ذلك أكثر مما آتى قارون ، فلما أهلكهم مع سعة هذا العطاء وبسطته ، علم أن عطاءه إنما كان ابتلاء وفتنة ، لا محبة ورضا واصطفاء لهم على غيرهم ، ولهذا قال في الآية الأخرى : بل هي فتنة ، أي : النعمة فتنة ، لا كرامة ، ولكن أكثرهم لا يعلمون.

ثم أكد هذا المعنى بقوله (قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا (٥١)) [الزمر] أي : قد قال هذه المقالة الذين من قبلهم ، لمّا آتيناهم نعمنا قال : قال ابن عباس : كانوا قد بطروا نعمة الله إذ آتاهم الدنيا ، وفرحوا بها وطغوا ، وقالوا : هذه كرامة من الله لنا. وقوله فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ، المعنى : أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا ، ولم يكن كذلك ، لأنهم وقعوا في العذاب ، ولم يغن عنهم ما كسبوا شيئا ، وتبين أن تلك النعم لم تكن لكرامتهم علينا ، وهو أن من منعناه إياها.

وقال أبو إسحاق : معنى الآية أن قولهم إنما آتانا الله ذلك لكرامتنا عليه ، وإنا أهله ، أحبط أعمالهم ، فكنى عن إحباط العمل بقوله (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠)) [الزمر] ثم أبطل سبحانه هذا الظن الكاذب منهم بقوله (أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ (٥٢)) [الزمر].

والمقصود أن قوله : على علم عندي ، إن أريد به علمه نفسه ، كان

١٠٣

المعنى : أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة والمعرفة التي توصّلت بها إلى ذلك ، وحصلته بها.

وإن أريد به علم الله ، كان المعنى : أوتيته على ما علم الله عندي من الخير والاستحقاق ، وأني أهله ، وذلك من كرامتي عليه ، وقد يترجح هذا القول بقوله : أوتيته ، ولم يقل : حصّلته واكتسبته بعلمي ومعرفتي ، فدل على اعترافه بأن غيره آتاه إياه ، ويدل عليه قوله تعالى (بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ (٤٩)) [الزمر] أي : محنة واختبار ، والمعنى : أنه لم يؤت هذا لكرامته علينا ، بل أوتيه امتحانا منا وابتلاء واختبارا ، هل يشكر فيه أم يكفر ، وأيضا فهذا يوافق قوله (فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦)) [الفجر] فهو قد اعترف بأن ربه هو الذي آتاه ذلك ، ولكن ظن أنه لكرامته عليه.

فالآية ، على التقدير الأول ، تتضمن ذمّ من أضاف النعم إلى نفسه وعلمه وقوته ، ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه ، وذلك محض الكفر بها. فإنّ رأس الشكر الاعتراف بالنعمة ، وأنها من المنعم وحده ، فإذا أضيفت إلى غيره كان جحدا لها ، فإذا قال : أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة التي حصلت بها ذلك ، فقد أضافها إلى نفسه ، وأعجب بها ، كما أضافها إلى قدرته الذين قالوا : من أشدّ منا قوة؟! فهؤلاء اغتروا بقوتهم ، وهذا اغترّ بعلمه ، فما أغنى عن هؤلاء قوتهم ، ولا عن هذا علمه.

وعلى التقدير الثاني يتضمن ذمّ من اعتقد أن إنعام الله عليه ، لكونه أهلا ومستحقا لها ، فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بها على الله ، أن ينعم عليه ، وأن تلك النعمة جزاء له على إحسانه وخيره ، فقد جعل سببها ما اتصف به هو ، لا ما قام بربه من الجود والإحسان والفضل والمنة ، ولم يعلم أن ذلك ابتلاء واختبار له ، أيشكر أم يكفر ، ليس ذلك

١٠٤

جزاء على ما هو منه ، ولو كان ذلك جزاء على عمله أو خير قام به ، فالله سبحانه هو المنعم عليه بذلك السبب ، فهو المنعم بالسّبب والجزاء ، والكل محض منّته وفضله وجوده ، وليس للعبد من نفسه مثقال ذرة من الخير ، وعلى التقديرين ، فهو لم يضف النعمة إلى الرب من كل وجه ، وإن أضافها إليه من وجه دون وجه ، وهو سبحانه وحده هو المنعم من جميع الوجوه ، على الحقيقة ، بالنعم وأسبابها ، فأسبابها من نعمه على العبد ، وإن حصلت بكسبه ، فكسبه من نعمه.

فكل نعمة فمن الله وحده حتى الشكر ، فإنه نعمة وهي منه سبحانه ، فلا يطيق أحد أن يشكره إلا بنعمته ، وشكره نعمة منه عليه كما قال داود : يا رب كيف أشكرك ، وشكري لك نعمة من نعمك عليّ ، تستوجب شكرا آخر؟! فقال : الآن شكرتني يا داود. ذكره الإمام أحمد ، وذكر أيضا عن الحسن قال : قال داود : إلهي! لو أن لكل شعرة من شعري لسانين يذكرانك بالليل والنهار والدهر كله ، لما أدّوا ما لك عليّ من حق نعمة واحدة.

والمقصود أنّ حال الشاكر ضد حال القائل : إنما أوتيته على علم عندي. ونظير ذلك قوله (لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي (٥٠)) [فصلت].

قال ابن عباس يريد : من عندي. وقال مقاتل : يعني أنا أحق بهذا. وقال مجاهد : هذا بعملي ، وأنا محقوق به. وقال الزجاج : هذا واجب بعملي ، استحقيته. فوصف الإنسان بأقبح صفتين ، إن مسه الشر صار إلى حال القانط ، ووجم وجوم الآيس ، فإذا مسّه الخير نسي أنّ الله هو المنعم عليه المفضل بما أعطاه ، فبطر وظن أنه هو المستحق لذلك ، ثم أضاف إلى ذلك تكذيبه بالبعث فقال : وما أظن الساعة قائمة. ثم أضاف إلى ذلك ظنه

١٠٥

الكاذب أنه إن بعث ، كان له عند الله الحسنى ، فلم يدع هذا للجهل والغرور موضعا.

فصل

وفي قوله تعالى (وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ (٢٣)) [الجاثية] قول آخر أنه على علم الضال ، كما قيل : على علم منه أن معبوده لا ينفع ولا يضر ، فيكون المعنى : أضله الله مع علمه الّذي تقوم به عليه الحجة ، لم يضله على جهل وعدم علم ، هذا يشبه قوله (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)) [البقرة] وقوله (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)) [العنكبوت] وقوله (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ (١٤)) [النمل] وقوله (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها (٥٩)) [الإسراء] وقول موسى لفرعون (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ (١٠٢)) [الإسراء] وقوله تعالى (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)) [البقرة] وقوله (فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)) [الأنعام] وقوله (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ (١١٥)) [التوبة] ونظائره كثيرة.

وعلى هذا التقدير فهو ضال عن سلوك طريق رشده ، وهو يراها عيانا كما في الحديث «أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم ، لم ينفعه الله بعلمه» فإن الضال عن الطريق قد يكون متبعا لهواه ، عالما بأن الرشد والهدى في خلاف ما يعمل.

ولما كان الهدى هو معرفة الحق والعمل به ، كان له ضدان : الجهل ،

١٠٦

وترك العمل به. فالأول : ضلال في العلم ، والثاني : ضلال في القصد والعمل ، فقد وقع قوله : على علم ، في قوله تعالى (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ (٣٢)) [الدخان] وفي قوله : وأضله الله على علم ، وفي قوله : قال : إنما أوتيته على علم ، فالأول : يرجع العلم فيه إلى الله قولا واحدا. والثاني والثالث فيهما قولان.

والراجح في قوله : وأضله الله على علم ، أن يكون كالأول ، وهو قول عامة السلف.

والثالث فيه قولان محتملان ، وقد ذكر توجههما ، والله أعلم.

والمقصود ذكر مراتب القضاء والقدر علما وكتابة ومشيئة وخلقا.

١٠٧
١٠٨

الباب الحادي عشر

في ذكر المرتبة الثانية وهي مرتبة الكتابة

وقد تقدم في أول الكتاب ما دل على ذلك ، من نصوص القرآن والسنة الصحيحة الصريحة ، فنذكر هنا بعض ما لم نذكره ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦)) [الأنبياء].

فالزبور هنا جميع الكتب المنزلة من السماء ، لا تختص بزبور داود. الذّكر : أمّ الكتاب الذي عند الله. والأرض : الدنيا. وعباده الصالحون : أمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، هذا أصح الأقوال في هذه الآية ، وهي علم من أعلام نبوة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، فإنه أخبر بذلك بمكة ، وأهل الأرض كلهم كفار أعداء له ولأصحابه ، والمشركون قد أخرجوهم من ديارهم ومساكنهم ، وشتّتوهم في أطراف الأرض ، فأخبرهم ربهم تبارك وتعالى أنه كتب في الذّكر الأول ، أنهم يرثون الأرض من الكفار ، ثم كتب ذلك في الكتب التي أنزلها على رسله.

والكتاب قد أطلق عليه الذكر في قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، في الحديث المتفق على صحته : «كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه

١٠٩

على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء» (١) فهذا هو الذّكر الذي كتب فيه أن الدنيا تصير لأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم.

والكتب المنزلة قد أطلق عليها الزّبر في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ (٤٤)) [النحل] أي : أرسلناهم بالآيات الواضحات والكتب التي فيها الهدى والنور. والذكر هاهنا : الكتابان اللذان أنزلا قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما التوراة والإنجيل.

والذكر في قوله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ (٤٤)) [النحل] هو القرآن ، ففي هذه الآية علمه بما كان قبل كونه ، وكتابته له بعد علمه ، وقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)) [يس] فجمع بين الكتابين الكتاب السابق لأعمالهم قبل وجودهم ، والكتاب المقارن لأعمالهم ، فأخبر أنه يحييهم بعد ما أماتهم للبعث ، ويجازيهم بأعمالهم ، ونبّه بكتابته لها على ذلك ، قال : نكتب ما قدّموا من خير أو شر فعلوه في حياتهم ، وآثارهم ما سنّوا من سنة خير أو شر ، فاقتدي بهم فيها بعد موتهم.

وقال ابن عباس في رواية عطاء : آثارهم : ما أثروا من خير أو شر كقوله (يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣)) [القيامة].

فإن قلت : قد استفيد هذا من قوله : قدموا ، فما أفاد قوله آثارهم على قوله؟.

(قلت) أفاد فائدة جليلة ، وهو أنه سبحانه يكتب ما عملوه وما تولّد من

__________________

(١) رواه البخاري (٣١٩٠) و (٣١٩١) عن عمران بن حصين.

١١٠

أعمالهم ، فيكون المتولد عنها ، كأنهم عملوه في الخير والشر ، وهو أثر أعمالهم ، فآثارهم هي آثار أعمالهم المتولدة عنها ، وهذا القول أعمّ من قول مقاتل ، وكأن مقاتلا أراد التمثيل والبيان ، على عادة السلف في تفسير اللفظة العامة بنوع أو فرد من أفراد مدلولها تقريبا وتمثيلا لا حصرا وإحاطة.

وقال أنس وابن عباس في رواية عكرمة : نزلت هذه الآية في بني سلمة ، أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد ، وكانت منازلهم بعيدة ،. فلما نزلت قالوا : بل نمكث مكاننا. واحتج أرباب هذا القول بما في صحيح البخاري ، من حديث أبي سعيد الخدري قال : كانت بنو سلمة في ناحية المدينة ، فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد ، فنزلت هذه الآية : «إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم» فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم» (١).

وقد روى مسلم في صحيحه نحوه من حديث جابر وأنس (٢).

وفي هذا القول نظر ، فإن سورة يس مكية ، وقصة بني سلمة بالمدينة إلا أن يقال : هذه الآية وحدها مدنية ، وأحسن من هذا أن تكون ذكرت عند هذه القصة ، ودلت عليها ، وذكّروا بها عندها إما من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإما من جبريل ، فأطلق على ذلك النزول. ولعل هذه مراد من قال في نظائر ذلك : نزلت مرتين ، والمقصود أن خطاهم إلى المساجد من آثارهم التي يكتبها الله لهم.

__________________

(١) رواه البخاري (٦٥٥) و (٦٥٦) و (١٨٨٧) عن أنس ، ولفظه : «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم». ولم أره عن أبي سعيد ، ثم إن اللفظ الذي ساقه المؤلف مما رواه مسلم ، وانظر ما بعده.

(٢) رواه مسلم (٦٦٥) عن جابر بن عبد الله.

١١١

قال عمر بن الخطاب : لو كان الله سبحانه تاركا لابن آدم شيئا ، لترك ما عفت عليه الرياح من أثر.

وقال مسروق : ما خطا رجل خطوة إلا كتبت له حسنة أو سيئة. والمقصود أن قوله (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (١٢)) [يس] وهو اللوح المحفوظ ، وهو أم الكتاب ، وهو الذّكر الذي كتب فيه كل شيء ، يتضمن كتابة أعمال العباد قبل أن يعملوها. والإحصاء في الكتاب يتضمن علمه بها ، وحفظه لها ، والإحاطة بعددها ، وإثباتها فيه.

وقال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)) [الأنعام].

وقد اختلف في الكتاب هاهنا ، هل هو القرآن أو اللوح المحفوظ؟ على قولين : فقالت طائفة : المراد به القرآن ، وهذا من العام المراد به الخاص ، أي : ما فرّطنا فيه من شيء يحتاجون إلى ذكره ، وبيانه ، كقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ (٨٩)) [النحل] ويجوز أن يكون من العام المراد به عمومه ، والمراد : أنّ كل شيء ذكر فيه مجملا ومفصّلا ، كما قال ابن مسعود ، وقد لعن الواصلة والمستوصلة : ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه؟! فقالت امرأة : لقد قرأت القرآن فما وجدته ، فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدته ، قال تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا (٧)) [الحشر].

ولعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الواصلة والمستوصلة (١).

__________________

(١) رواه البخاري (٥٩٣٤) ، ومسلم (٢١٢٣) عن عائشة. وفي الباب عن أسماء وأبي هريرة وابن عمر.

١١٢

وقال الشافعي : ما نزل بأحد من المسلمين نازلة إلا وفي كتاب الله سبيل الدلالة عليها.

وقالت طائفة : المراد بالكتاب في الآية اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شيء ، وهذا إحدى الروايتين عن ابن عباس ، وكان هذا القول أظهر في الآية ، والسياق يدل عليه ، فإنه قال (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ (٣٨)) [الأنعام] وهذا يتضمن أنها أمم أمثالنا في الخلق والرزق والأكل ، والتقدير الأول ، وأنها لم تخلق سدى ، بل هي معبّدة مذللة ، قد قدّر خلقها وأجلها ورزقها وما تصير إليه ، ثم ذكر عاقبتها ومصيرها بعد فنائها ، ثم قال : إلى ربهم يحشرون ، فذكر مبدأها ونهايتها ، وأدخل بين هاتين الحالتين قوله «ما فرّطنا في الكتاب من شيء» أي : كلها قد كتبت وقدّرت وأحصيت ، قبل أن توجد ، فلا يناسب هذا ذكر كتاب الأمر والنهي ، وإنما يناسب ذكر الكتاب الأول.

ولمن نصر القول الأول أن يجيب عن هذا ، بأن في ذكر القرآن هاهنا الإخبار عن تضمنه لذكر ذلك والإخبار به ، فلم نفرط فيه من شيء ، بل أخبرناكم بكل ما كان وما هو كائن إجمالا وتفصيلا ، ويرجحه أمر آخر ، وهو أن هذا ذكر عقيب قوله (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧)) [الأنعام] فنبههم على أعظم الآيات وأدلّها على صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو الكتاب الذي يتضمن بيان كل شيء ، ولم يفرط فيه من شيء ، ثم نبههم بأنهم أمة من جملة الأمم التي في السموات والأرض ، وهذا يتضمن التعريف بوجود الخالق وكمال قدرته وعلمه ، وسعة ملكه وكثرة جنوده والأمم التي لا يحصيها غيره ، وهذا يتضمن أنه لا إله غيره ، ولا ربّ سواه ، وأنه رب العالمين ، فهذا دليل ، على وحدانيته وصفات كماله من جهة خلقه وقدره.

١١٣

وإنزال الكتاب الذي لم يفرط فيه من شيء دليل ، من جهة أمره وكلامه ، فهذا استدلال بأمره ، وذاك بخلقه ، ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ، وشهد لهذا أيضا قوله (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١)) [العنكبوت].

ولمن نصر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أن يقول : لما سألوا آية ، أخبرهم سبحانه بأنه لم يترك إنزالها لعدم قدرته على ذلك ، فإنه قادر على ذلك ، وإنما لم ينزلها لحكمته ورحمته بهم وإحسانه إليهم ، إذ لو أنزلها على وفق اقتراحهم ، لعوجلوا بالعقوبة ، إن لم يؤمنوا ، ثم ذكر ما يدل على كمال قدرته بخلق الأمم العظيمة التي لا يحصي عددها إلا هو ، فمن قدر على خلق هذه الأمم ، مع اختلاف أجناسها وأنواعها وصفاتها وهيئاتها ، كيف يعجز عن إنزال آية؟! ثم أخبر عن كمال قدرته وعلمه ، بأنّ هؤلاء الأمم قد أحصاهم وكتبهم ، وقدّر أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم في كتاب ، لم يفرط فيه من شيء ، ثم يميتهم ، ثم يحشرهم إليه ، والذين كذبوا بآياتنا صمّ وبكم في الظلمات عن النظر والاعتبار الذي يؤديهم إلى معرفة ربوبيته ووحدانيته وصدق رسله ، ثم أخبر أن الآيات لا تستقل بالهدى ، ولو أنزلها على وفق اقتراح البشر ، بل الأمر كله له ، من يشأ يضلله ، ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ، فهو أظهر القولين ، والله أعلم.

وقال (حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)) [الزخرف] قال ابن عباس : في اللوح المحفوظ المقرى عندنا. قال مقاتل : إن نسخته في أصل الكتاب ، وهو اللوح المحفوظ ، وأمّ الكتاب أصل الكتاب ، وأمّ كل شيء أصله ، والقرآن كتبه الله في اللوح المحفوظ ، قبل خلق السموات والأرض كما قال

١١٤

تعالى (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)) [البروج].

وأجمع الصحابة والتابعون وجميع أهل السنة والحديث أنّ كلّ كائن إلى يوم القيامة ، فهو مكتوب في أم الكتاب ، وقد دلّ القرآن على أن الرب تعالى كتب في أم الكتاب ما يفعله ، وما يقوله ، فكتب في اللوح أفعاله وكلامه ، فتبّت يدا أبي لهب ، في اللوح المحفوظ ، قبل وجود أبي لهب. وقوله : «لدينا» يجوز فيه أن تكون من صلة أم الكتاب ، أي : أنه في الكتاب الذي عندنا ، وهذا اختيار ابن عباس ، ويجوز أن يكون من صلة الخبر «إنه عليّ حكيم» عندنا ليس هو كما عند المكذبين به ، أي : وإن كذبتم به ، وكفرتم فهو عندنا في غاية الارتفاع والشرف والإحكام.

وقال تعالى (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ (٣٧)) [الأعراف] قال سعيد بن جبير ومجاهد وعطية : أي ما سبق لهم في الكتاب من الشقاوة والسعادة ، ثم قرأ عطية (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ (٣٠)) [الأعراف] والمعنى أن هؤلاء أدركهم ما كتب لهم من الشقاوة ، وهذا قول ابن عباس ، في رواية عطاء قال : يريد ما سبق عليهم في علمي في اللوح المحفوظ ، فالكتاب على هذا القول : الكتاب الأول ، ونصيبهم ما كتب لهم من الشقاوة وأسبابها. وقال ابن زيد والقرطبي والربيع بن أنس ، ينالهم ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال ، فإذا فني نصيبهم ، واستكملوه ، جاءتهم رسلنا يتوفونهم. ورجّح بعضهم هذا القول لمكان حتى التي هي للغاية ، يعني أنهم يستوفون أرزاقهم وأعمارهم إلى الموت.

ولمن نصر القول الأول أن يقول : حتى في هذا الموضع ، هي التي تدخل على الجمل ، ويتصرف الكلام فيها إلى الابتداء كما في قوله : فيا عجبا حتى كليب تسبّني.

١١٥

والصحيح أن نصيبهم من الكتاب يتناول الأمرين ، فهو نصيبهم من الشقاوة ، ونصيبهم من الأعمال التي هي أسبابها ، ونصيبهم من الأعمار التي هي مدة اكتسابها ، ونصيبهم من الأرزاق التي استعانوا بها على ذلك ، فعمت الآية هذا النصيب كله ، وذكر هؤلاء بعضه وهؤلاء بعضه. هذا على القول الصحيح ، وأن المراد ما سبق لهم في أم الكتاب.

وقالت طائفة : المراد بالكتاب القرآن. قال الزجاج : معنى نصيبهم من الكتاب ، ما أخبر الله من جزائهم نحو قوله : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤)) [الليل] وقوله : (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧)) [الجن] قال أرباب هذا القول : وهذا هو الظاهر ، لأنه ذكر عذابهم في القرآن في مواضع ، ثم أخبر أنه ينالهم نصيبهم منه. والصحيح القول الأول ، وهو نصيبهم الذي كتب لهم أن ينالوه قبل أن يخلقوا ، ولهذا القول وجه حسن ، وهو أنّ نصيب المؤمنين منه الرحمة والسعادة ، ونصيب هؤلاء منه العذاب والشقاء ، فنصيب كل فريق منه ما اختاروه لأنفسهم ، وآثروه على غيره ، كما أن حظ المؤمنين منه كان الهدى والرحمة ، فحظ هؤلاء منه الضلال والخيبة ، فكان حظهم من هذه النعمة أن صارت نقمة وحسرة عليهم. وقريب من هذا قوله (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢)) [الواقعة] أي : تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم التكذيب به قال الحسن : تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون.

قال : وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله إلا التكذيب به وقال تعالى (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢)) [القمر].

قال عطاء وقاتل : كل شيء فعلوه مكتوب عليهم في اللوح المحفوظ.

وروى حماد بن زيد ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي : وكل شيء فعلوه في الزبر قال : كتب عليهم قبل أن يعملوه ، وقالت طائفة : المعنى أنه يحصي عليهم في كتب أعمالهم.

١١٦

وجمع أبو إسحاق بين القولين فقال : مكتوب عليهم قبل أن يفعلوه ، ومكتوب عليهم إذا فعلوه ، للجزاء ، وهذا أصح ، وبالله التوفيق.

وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال : ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة : إن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال : «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنفس تمني وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك ويكذبه» (١).

وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كتب على ابن آدم نصيبه من الزّنا ، مدرك ذلك لا محالة ، فالعينان زناهما النظر ، والأذنان زناهما الاستماع ، واللسان زناه الكلام ، واليد زناها البطش ، والرجل زناها الخطا ، والقلب يهوى ويتمنى ، ويصدق الفرج ذلك كله ويكذبه» (٢).

وفي صحيح البخاري (٣) وغيره عن عمران بن حصين قال : دخلت على النبيّ صلى الله تعالى عليه وسلم ، وعقلت ناقتي بالباب ، فأتاه ناس من بني تميم ، فقال : اقبلوا البشرى يا بني تميم قالوا : قد بشّرتنا فأعطنا ، مرتين ، ثم دخل عليه ناس من اليمن ، فقال : اقبلوا البشرى يا أهل اليمن ، إذ لم يقبلها بنو تميم ، قالوا : قد قبلنا يا رسول الله ، قالوا : جئنا لنسألك عن هذا الأمر ، قال : كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض. فنادى مناد : ذهبت ناقتك يا ابن

__________________

(١) رواه البخاري (٦٦١٢) ، ومسلم (٢٦٥٧) عن ابن عباس ، عن أبي هريرة.

(٢) رواه مسلم (٢٦٥٧) (٢١) عن أبي هريرة.

(٣) البخاري (٧٤١٨).

١١٧

الحصين ، فانطلقت ، فإذا هي ينقطع دونها السراب ، فو الله لوددت أني كنت تركتها.

فالرب سبحانه كتب ما يقوله وما يفعله وما يكون بقوله وفعله ، وكتب مقتضى أسمائه وصفاته وآثارها ، كما في الصحيحين (١) ، من حديث أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «لما قضى الله الخلق كتب في كتابه ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت غضبي».

__________________

(١) البخاري (٧٤٢٢) ، ومسلم (٢٧٥١).

١١٨

الباب الثاني عشر

في ذكر المرتبة الثالثة من مراتب القضاء والقدر وهي

مرتبة المشيئة

وهذه المرتبة قد دلّ عليها إجماع الرسل ، من أولهم إلى آخرهم ، وجميع الكتب المنزلة من عند الله ، والفطرة التي فطر الله عليها خلقه ، وأدلة العقول والعيان ، وليس في الوجود موجب ومقتض إلا مشيئة الله وحده ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن. هذا عموم التّوحيد الذي لا يقوم إلّا به. والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن. وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع ، وإن كان منهم في موضع آخر ، فجوّزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء الله ، وأن يشاء ما لا يكون ، وخالف الرسل كلهم وأتباعهم من نفي مشيئة الله بالكلية ، ولم يثبت له سبحانه مشيئة واختيارا ، أوجد بها الخلق ، كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم.

والقرآن والسنة مملوءان بتكذيب الطائفتين ، فقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)) [البقرة] وقال تعالى (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠)) [آل عمران] وقال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا

١١٩

شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (١١٢)) [الأنعام] وقال (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً (٩٩)) [يونس] وقال (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً (١١٨)) [هود] وقال (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى (٣٥)) [الأنعام] وقال (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها (١٣)) [السجدة] وقال (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ (٤)) [محمد] وقال (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ (٨٦)) [الإسراء] وقال (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ (٢٤)) [الشورى] وقال (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣)) [النساء] وقال (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٢٧)) [الفتح].

وقال عن نوح أنه قال لقومه : (قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ (٣٣)) [هود].

وقال إمام الحنفاء وأبو الأنبياء لقومه : (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٨٠)) [الأنعام].

وقال الذبيح له (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢)) [الصافات].

وقال خطيب الأنبياء شعيب (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا (٨٩)) [الأعراف].

وقال الصّدّيق الكريم ابن الكريم ابن الكريم (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩)) [يوسف].

وقال حمو موسى (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)) [القصص].

وقال كليم الرحمن للخضر (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)) [الكهف].

١٢٠