شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

بملكه وعدله فيهم بحمده ، وهو سبحانه له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير. ونظير هذا قوله سبحانه حكاية عن نبيه هود أنه قال : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)) [هود].

فقوله : ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ، مثل قوله : ناصيتي بيدك ، ماض فيّ حكمك. وقوله : إن ربي على صراط مستقيم ، مثل قوله : عدل فيّ قضاؤك ، أي : لا يتصرف في تلك النواصي إلا بالعدل والحكمة والمصلحة والرحمة ، لا يظلم أصحابها ، ولا يعاقبهم بما لم يعملوه ، ولا يهضمهم حسنات ما عملوه ، فهو سبحانه على صراط مستقيم ، في قوله وفعله ، يقول الحقّ ، ويفعل الخير والرشد ، وقد أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم في سورة هود : وفي سورة النحل ، فأخبر في هود أنه على صراط مستقيم ، في تصرفه في النواصي التي هي في قبضته وتحت يده ، وأخبر في النحل أنه يأمر بالعدل ، ويفعله.

وقد زعمت الجبرية أن العدل هو المقدور.

وزعمت القدرية أنّ العدل إخراج أفعال الملائكة والجن والإنس عن قدرته وخلقه. وأخطأ الطائفتان جميعا في ذلك.

والصواب : أن العدل وضع الأشياء في مواضعها التي تليق بها ، وإنزالها منازلها ، كما أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وقد تسمى سبحانه بالحكم العدل.

والقدرية تنكر حقيقة اسم الحكم ، وترده إلى الحكم الشرعي الديني ، وتزعم أنها تثبت حقيقة العدل ، والعدل عندهم إنكار القدر ، ومع هذا فينسبونه إلى غاية الظلم ، فإنهم يقولون : إنه يخلّد في العذاب الأليم من أفنى عمره في طاعته ، ثم فعل كبيرة ، ومات عليها ، فإن قيل : فالقضاء بالجزاء

٦٨١

عدل ، إذ هو عقوبة على الذنب ، فيكون القضاء بالذنب عدلا ، على أصول أهل السنة. وهذا السؤال لا يلزم القدرية ولا الجبرية ، أما القدرية فعندهم أنه لم يقض المعصية ، وأما الجبرية فعندهم أنّ كلّ مقدور عدل ، وإنما يلزمكم أنتم هذا السؤال ، قيل : نعم كل قضائه عدل في عبده ، فإنه وضع له في موضعه الذي لا يحسن في غيره ، فإنه وضع العقوبة ووضع القضاء بسببها وموجبها في موضعه ، فإنه سبحانه كما يجازي بالعقوبة ، فإنه يعاقب بنفس قضاء الذنب ، فيكون حكمه بالذنب عقوبة على ذنب سابق ، فإن الذنوب تكسب بعضها بعضا ، وذلك الذنب السابق عقوبة على غفلته عن ربه وإعراضه عنه ، وتلك الغفلة والإعراض هي في أصل الجبلّة والنشأة ، فمن أراد أن يكمله ، أقبل بقلبه إليه ، وجذبه إليه ، وألهمه رشده ، وألقى فيه أسباب الخير ، ومن لم يرد أن يكمله ، تركه وطبعه ، وخلّى بينه وبين نفسه ، لأنه لا يصلح للتكميل ، وليس محله أهلا ولا قابلا لما وضع فيه من الخير ، وهاهنا انتهى علم العباد بالقدر.

وأما كونه تعالى جعل هذا يصلح ، وأعطاه ما يصلح له ، وهذا لا يصلح ، فمنعه ما لا يصلح له ، فذاك موجب ربوبيته وإلاهيته وعلمه وحكمته ، فإنه سبحانه خالق الأشياء وأضدادها ، وهذا مقتضى كماله وظهور أسمائه وصفاته كما تقدم تقريره.

والمقصود : أنه أعدل العادلين في قضائه بالسبب وقضائه بالمسبب ، فما قضى في عبده بقضاء إلا وهو واقع في محله الذي لا يليق به غيره ، إذ هو الحكم العدل الغني الحميد.

٦٨٢

فصل

وقوله : أسألك بكل اسم سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك. إن كانت الرواية محفوظة هكذا ، ففيها إشكال ، فإنه جعل ما أنزله في كتابه ، أو علمه أحدا من خلقه ، أو استأثر به في علم الغيب عنده ، قسيما لما سمّى به نفسه ، ومعلوم أن هذا تقسيم وتفصيل لما سمى به نفسه ، فوجه الكلام أن يقال : سمّيت به نفسك ، فأنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، فإن هذه الأقسام الثلاثة تفصيل لما سمى به نفسه ، وجواب هذا الإشكال أن (أو) حرف عطف ، والمعطوف بها أخص مما قبله ، فيكون من باب عطف الخاص على العام. فإن ما سمى به نفسه يتناول جميع الأنواع المذكورة بعده ، فيكون عطف كل جملة منها من باب عطف الخاص على العام.

فإن قيل : المعهود من عطف الخاص على العام أن يكون بالواو ، دون سائر حروف العطف.

قيل : المسوغ لذلك في الواو ، وهو تخصيص المعطوف بالذكر ، لمرتبته من بين الجنس واختصاصه بخاصة غيره منه ، حتى كأنه غيره ، أو إرادتين لذكره مرتين باسمه الخاص وباللفظ العام ، وهذا لا فرق فيه بين العطف بالواو أو بأو ، مع أن في العطف بأو على العام فائدة أخرى ، وهي بناء الكلام على التقسيم والتنويع ، كما بني عليه تاما ، فيقال : سميت به نفسك ، فإمّا أنزلته في كتابك ، وإما علمته أحدا من خلقك.

٦٨٣

وقد دل الحديث على أن أسماء الله غير مخلوقة ، بل هو الذي تكلّم بها ، وسمّى بها نفسه ، ولهذا لم يقل : بكل اسم خلقته لنفسك ، ولو كانت مخلوقة ، لم يسأله بها ، فإنّ الله يقسم عليه بشيء من خلقه ، فالحديث صريح في أن أسماءه ليست من فعل الآدميين وتسمياتهم ، وأيضا فإن أسماءه مشتقة من صفاته ، وصفاته قديمة به ، فأسماؤها غير مخلوقة.

فإن قيل : فالاسم عندكم هو المسمى أو غيره؟.

قيل : طالما غلط الناس في ذلك ، وجهلوا الصواب فيه ، فالاسم يراد به المسمى تارة ، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى ، فإذا قلت : قال الله كذا ، واستوى الله على عرشه ، وسمع الله ورأى وخلق ، فهذا المراد به المسمى نفسه ، وإذا قلت : الله اسم عربي ، والرحمن اسم عربي ، والرحمن من أسماء الله ، والرحمن وزنه فعلان ، والرحمن مشتق من الرحمة ، ونحو ذلك ، فالاسم هاهنا للمسمى ، ولا يقال غيره ، لما في لفظ الغير من الإجمال ، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى ، فحقّ ، وإن أريد أن الله سبحانه كان ، ولا اسم له حتى خلق لنفسه اسما ، أو حتى سمّاه خلقه بأسماء من صنعهم ، فهذا من أعظم الضلال والإلحاد ، فقوله في الحديث : سمّيت به نفسك ، ولم يقل : خلقته لنفسك ، ولا قال : سماك به خلقك ، دليل على أنه سبحانه تكلم بذلك الاسم ، وسمى به نفسه ، كما سمى نفسه في كتبه التي تكلم بها حقيقة بأسمائه.

وقوله : أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، دليل على أن أسماءه أكثر من تسعة وتسعين ، وأن له أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده ، لا يعلمها غيره ، وعلى هذا فقوله : «إن لله تسعة وتسعين اسما ، من أحصاها

٦٨٤

دخل الجنة» (١) لا ينفي أن يكون له غيرها ، والكلام جملة واحدة ، أي : له أسماء موصوفة بهذه الصفة ، كما يقال : لفلان مائة عبد ، أعدّهم للتجارة ، وله مائة فرس ، أعدّها للجهاد ، وهذا قول الجمهور.

وخالفهم ابن حزم ، فزعم أن أسماءه تنحصر في هذا العدد ، وقد دل الحديث على أن التوسل إليه سبحانه ، بأسمائه وصفاته ، أحب إليه وأنفع للعبد من التوسل إليه بمخلوقاته ، وكذلك سائر الأحاديث كما في حديث الاسم الأعظم : «اللهم إني أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلا أنت ، المنان بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم» (٢).

وفي الحديث الآخر : «أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت ، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» (٣).

وفي الحديث الآخر : «اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق» (٤).

وكلها أحاديث صحاح ، رواها ابن حبان والإمام أحمد والحاكم ، وهذا تحقيق لقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها (١٨٠)) [الأعراف].

وقوله : أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري ، يجمع أصلين : الحياة والنور ، فإن الربيع هو المطر الذي يحيي الأرض ، فينبت الربيع ، فيسأل الله بعبوديته وتوحيده وأسمائه وصفاته أن يجعل كتابه الذي جعله روحا للعالمين

__________________

(١) رواه البخاري (٢٧٣٦) ، ومسلم (٢٦٧٧) عن أبي هريرة.

(٢) صحيح. رواه الترمذي (٣٥٤٤) ، وابن ماجة (٣٨٥٨) عن أنس.

(٣) صحح. رواه أحمد (٥ / ٣٤٩) ، ٣٥٠) وغيره عن بريدة.

(٤) مر سابقا.

٦٨٥

ونورا وحياة لقلبه ، بمنزلة الماء الذي يحيي به الأرض ، ونورا له بمنزلة الشمس التي تستنير بها الأرض والحياة. والنور جماع الخير كله ، قال تعالى : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ (١٢٢)) [الأنعام] وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا (٥٢)) [الشورى].

فأخبر أنه روح ، تحصل به الحياة ، ونور تحصل به الهداية ، فأتباعه لهم الحياة والهداية ، ومخالفوه لهم الموت والضلال. وقد ضرب سبحانه المثل لأوليائه وأعدائه بهذين الأصلين ، في أول سورة البقرة ، وفي وسط سورة النور ، وفي سورة الرعد ، وهما المثل المائي ، والمثل الناري. وقوله : وجلاء حزني ، وذهاب همي وغمي ، إن جلاء هذا يتضمن إزالة المؤذي الضار ، وذلك يتضمن تحصيل النافع السار ، فتضمن الحديث طلب أصول الخير كله ، ودفع الشر ، وبالله التوفيق.

٦٨٦

الباب الثامن والعشرون

في أحكام الرضا بالقضاء ، واختلاف الناس في ذلك ،

وتحقيق القول فيه

هذا الباب من تمام الإيمان بالقضاء والقدر ، وقد تنازع الناس فيه ، هل هو واجب ، أو مستحب ، على قولين : وهما وجهان لأصحاب أحمد ، فمنهم من أوجبه ، واحتج على وجوبه بأنه من لوازم الرضا بالله ربا ، وذلك واجب ، واحتج بأثر إسرائيلي : [من لم يرض بقضائي ، ولم يصبر على بلائي ، فليتّخذ له ربا سواي] ومنهم من قال : هو مستحبّ ، غير واجب ، فإن الإيجاب يستلزم دليلا شرعيا ، ولا دليل يدل على الوجوب ، وهذا القول أرجح ، فإن الرضا من مقامات الإحسان التي هي من أعلى المندوبات ، وقد غلط في هذا الأصل طائفتان أقبح غلط.

فقالت القدرية النفاة : الرضا بالقضاء طاعة وقربة ، والرضا بالمعاصي لا يجوز ، فليست بقضائه وقدره.

وقالت غلاة الجبرية الذين طووا بساط الأمر والنهي : المعاصي بقضاء الله وقدره ، والرضا بالقضاء قربة وطاعة ، فنحن نرضى بها ، ولا نسخطها.

واختلفت طرق أهل الإثبات في جواب الطائفتين.

٦٨٧

فأجابهم طائفة : بأنّ لها وجهين ، وجها يرضى بها منه ، وهو إضافتها إلى الله سبحانه خلقا ومشيئة ، ووجه يسخط منه ، وهو إضافتها إلى العبد فعلا واكتسابا ، وهذا جواب جيد ، لو وفّوا به ، فإنّ الكسب الذي أثبته كثير منهم ، لا حقيقة له ، إذ هو عندهم مقارنة الفعل للإرادة والقدرة إيجاد به ، من غير أن يكون لهما تأثير بوجه ما ، وقد تقدم الكلام في ذلك بما فيه كفاية.

وأجابهم طائفة أخرى : بأنّا نرضى بالقضاء الذي هو فعل الرب ، ونسخط المقضي الذي هو فعل العبد ، وهذا جواب جيد ، لو لم يعودوا عليه بالنقض وبالإبطال ، فإنهم قالوا : الفعل غير المفعول ، فالقضاء عندهم نفس المقضي ، فلو قال الأولون بأن للكسب تأثيرا في إيجاد الفعل ، وأنه سبب لوجوده. وقال الآخرون : بأن الفعل غير المفعول ، لأصابوا في الجواب.

وأجابتهم طائفة أخرى بأن من القضاء ما يؤمر بالرضا به ، ومنه ما ينهى عن الرضا به ، فالقضاء الذي يحبه الله ويرضاه ، نرضى به ، والذي يبغضه ويسخطه ، لا نرضى به ، وهذا كما أن من المخلوقات ما يبغضه ويسخطه ، وهو خالقه كالأعيان المسخوطة له ، فهكذا الكلام في الأفعال والأقوال سواء ، وهذا جواب جيد ، غير أنه يحتاج إلى تمام ، فنقول : الحكم والقضاء نوعان : ديني ، وكوني.

فالدينيّ يجب الرضا به ، وهو من لوازم الإسلام. والكونيّ منه ما يجب الرضا به ، كالنّعم التي يجب شكرها ، ومن تمام شكرها الرضا بها ، ومنه ما لا يجوز الرضا به ، كالمعايب والذنوب التي يسخطها الله ، وإن كانت بقضائه وقدره ، ومنه ما يستحب الرضا به كالمصائب ، وفي وجوبه قولان. هذا كله في الرضا بالقضاء الذي هو المقضي ، وأما القضاء الذي هو وصفه سبحانه وفعله ، كعلمه وكتابه وتقديره ومشيئته ، فالرضا به من تمام الرضا بالله ربا وإلها ومالكا ومدبرا ، فبهذا التفصيل يتبين الصواب ، ويزول اللبس في هذه

٦٨٨

المسألة العظيمة التي هي مفرق طرق بين الناس.

فإن قيل : فكيف يجتمع الرضاء بالقضاء بالمصائب مع شدة الكراهة والنفرة منها ، وكيف يكلف العبد أن يرضى بما هو مؤلم له ، وهو كاره له ، والألم يقتضي الكراهة والبغض المضاد للرضا واجتماع الضدين محال.

قيل : الشيء قد يكون محبوبا مرضيا من جهة ، ومكروها من جهة أخرى ، كشرب الدواء النافع الكريه ، فإنّ المريض يرضى به مع شدة كراهته له ، وكصوم اليوم الشديد الحر ، فإن الصائم يرضى به مع شدة كراهته له ، وكالجهاد للأعداء ، قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ (٢١٦)) [البقرة].

فالمجاهد المخلص يعلم أنّ القتال خير له ، فرضي به وهو يكرهه لما فيه من التعرض لإتلاف النفس وألمها ومفارقة المحبوب ، ومتى قوي الرضا بالشيء وتمكن ، انقلبت كراهته محبة ، وإن لم يخل من الألم ، فالألم بالشيء لا ينافي الرضا به ، وكراهته من وجه لا ينافي محبته وإرادته والرضاء به من وجه آخر.

فإن قيل : فهذا في حكم رضا العبد بقضاء الرب ، فهل يرضى سبحانه ما قضي به من الكفر والفسوق والعصيان بوجه من الوجوه؟.

قيل : هذا الموضع أشكل من الذي قبله ، قال كثير من الأشعرية ، بل جمهورهم ومن اتبعهم : إن الرضا والمحبة والإرادة في حق الرب تعالى بمعنى واحد ، وإن كل ما شاءه وأراده ، فقد أحبه ورضيه ، ثم أوردوا على أنفسهم هذا السؤال ، وأجابوا بأنه لا يمتنع أن يقال : إنه يرضى بها ، ولكن لا على وجه التخصيص ، بل يقال : يرضى بكلّ ما خلقه وقضاه وقدره ، ولا نفرد من ذلك الأمور المذمومة ، كما يقال : هو ربّ كل شيء ، ولا يقال :

٦٨٩

رب كذا وكذا للأشياء الحقيرة الخسيسة ، وهذا تصريح منهم بأنه راض بها في نفس الأمر ، وإنما امتنع الإطلاق أدبا واحتراما فقط ، فلما أورد عليهم قوله : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ (٧)) [الزمر] أجابوا عنه بجوابين.

أحدهما : ممن لم يقع منه ، وأما من وقع منه ، فهو يرضاه ، إذ هو بمشيئته وإرادته.

والثاني : لا يرضاه لهم دينا ، أي : لا يشرّعه لهم ، ولا يأمرهم به ، ويرضاه منهم كونا ، وعلى قولهم ، فيكون معنى الآية : ولا يرضى لعباده الكفر ، حيث لم يوجد منهم ، فلو وجد منهم ، أحبّه ورضيه ، وهذا في البطلان والفساد كما تراه ، وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضى ما وجد من ذلك ، وإن وقع بمشيئته كما قال تعالى : (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ (١٠٨)) [النساء] فهذا قول واقع بمشيئته وتقديره ، وقد أخبر سبحانه أنه لا يرضاه ، وكذلك قوله سبحانه : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥)) [البقرة].

فهو سبحانه لا يحبه كونا ولا دينا ، وإن وقع بتقديره ، كما لا يحبّ إبليس وجنوده وفرعون وحزبه ، وهو ربّهم وخالقهم ، فمن جعل المحبة والرضا بمعنى الإرادة والمشيئة ، لزمه أن يكون الله سبحانه محبا لإبليس وجنوده وفرعون وهامان وقارون وجميع الكفار وكفرهم والظلمة وفعلهم ، وهذا كما أنه خلاف القرآن والسنة والإجماع المعلوم بالضرورة ، فهو خلاف ما عليه فطر العالمين التي لم تغير بالتواطؤ والتواصي بالأقوال الباطلة ، وقد أخبر سبحانه أنه يمقت أفعالا كثيرة ، ويكرهها ويبغضها ويسخطها ، فقال : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)) [النساء] وقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ (٢٨)) [محمد] وقال : (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣)) [الصف] وقال : (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ (٤٦)) [التوبة] ومحال حمل هذه

٦٩٠

الكراهة على غير الكراهة الدينية الأمرية ، لأنه أمرهم بالجهاد وقال : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)) [الإسراء].

فأخبر أنه يكره ويبغض ويمقت ويسخط ويعادي ويذم ويلعن ، ومحال أنه يحب ذلك ويرضى به ، وهو سبحانه يكره ويتقدّس عن محبة ذلك وعن الرضا به ، بل لا يليق ذلك بعبده ، فإنه نقص وعيب في المخلوق أن يحبّ الفساد والشر والظلم والبغي والكفر ويرضاه ، فكيف يجوز نسبة ذلك إلى الله تبارك وتعالى ، وهذا الأصل من أعظم ما غلط فيه كثير من مثبتي القدر ، وغلطهم فيه يوازن غلط النفاة في إنكار القدر ، أو هو أقبح منه ، وبه تسلط عليهم النفاة وتمادوا على قبح قولهم ، وأعظموا الشناعة عليهم به ، فهؤلاء قالوا : يحبّ الكفر والفسوق والعصيان والظلم والبغي والفساد ، وأولئك قالوا : لا يدخل تحت مشيئته وقدرته وخلقه ، وأولئك قالوا : لا يكون في ملكه إلا ما يحبه ويرضاه ، وهؤلاء قالوا : يكون في ملكه ما لا يشاء ، ويشاء ما لا يكون ، فسبحان الله وتعالى عما يقول الفريقان علوّا كبيرا ، والحمد لله الذي هدانا لما أرسل به رسوله ، وأنزل به كتابه ، وفطر عليه عباده ، وبرّ أنا من بدع هؤلاء وهؤلاء ، فله الحمد والمنّة والفضل والنعمة والثناء الحسن ، ونسأله التوفيق لما يحبه ويرضاه ، وأن يجنبنا مضلات البدع والفتن.

٦٩١
٦٩٢

الباب التاسع والعشرون

في انقسام القضاء والحكم والإرادة والكتابة والأمر

والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم

والإنشاء إلى كونيّ متعلق بخلقه ، وإلى دينيّ متعلق

بأمره ، وما يحقق ذلك من إزالة اللبس والإشكال

هذا الباب متصل بالباب الذي قبله ، وكل منهما يقرر لصاحبه ، فما كان من كونيّ ، فهو متعلق بربوبيته وخلقه ، وما كان من الديني ، فهو متعلق بإلاهيته وشرعه ، وهو كما أخبر عن نفسه سبحانه له الخلق والأمر ، فالخلق قضاؤه وقدره وفعله ، والأمر شرعه ودينه ، فهو الذي خلق وشرع وأمر ، وأحكامه جارية على خلقه قدرا وشرعا ، ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني القدري ، وأما حكمه الديني الشرعي فيعصيه الفجّار والفسّاق ، والأمران غير متلازمين ، فقد يقضي ويقدّر ما لا يأمر به ولا شرعه ، وقد يشرّع ويأمر بما لا يقضيه ولا يقدّره ، ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم ، وينتفي الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر ، وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي في ما أمر به وشرعه ، ولم يفعله المأمور ، وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي.

إذا عرف ذلك ، فالقضاء في كتاب الله نوعان : كوني قدري ، كقوله :

٦٩٣

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ (١٤)) [سبأ] وقوله : (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ (٦٩)) [الزمر] وشرعي ديني كقوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ (٢٣)) [الإسراء] أي : أمر وشرع ، ولو كان قضاء كونيا لما عبد غير الله.

والحكم أيضا نوعان : فالكوني كقوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ (١١٢)) [الأنبياء] أي : افعل ما تنصر به عبادك وتخذل به أعداءك والديني كقوله : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ (١٠)) [الممتحنة] وقوله : (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)) [المائدة] وقد يرد بالمعنيين معا كقوله : (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)) [الكهف] فهذا يتناول حكمه الكوني وحكمه الشرعي.

والإرادة أيضا نوعان : فالكونية كقوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦)) [البروج] وقوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً (١٦)) [الإسراء] وقوله : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ (٣٤)) [هود] وقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ (٥)) [القصص] والدينية كقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (١٨٥)) [البقرة] وقوله : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ (٢٧)) [النساء].

فلو كانت هذه الإرادة كونية ، لما حصل العسر لأحد منا ، ولو وقعت التوبة من جميع المكلفين ، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في مسألة الأمر والإرادة ، هل هما متلازمان أم لا.

فقالت القدرية : الأمر يستلزم الإرادة ، واحتجوا بحجج ، لا تندفع ، وقالت المثبتة : الأمر لا يستلزم الإرادة ، واحتجوا بحجج لا تندفع.

والصواب أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية ، ولا يستلزم الإرادة الكونية ، فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعا ودينا ، وقد يأمر بما لا يريده كونا وقدرا ، كإيمان من أمره ، ولم يوفّقه للإيمان مرادا له دينا لا كونا ، وكذلك أمر خليله بذبح ابنه ، ولم يرده كونا وقدرا ، وأمر رسوله بخمسين صلاة ، ولم يرد ذلك

٦٩٤

كونا وقدرا ، وبين هذين الأمرين وأمر من لم يؤمن بالإيمان فرق ، فإنه سبحانه لم يحب من إبراهيم ذبح ولده ، وإنما أحبّ منه عزمه على الامتثال ، وأن يوطّن نفسه عليه ، وكذلك أمره محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء بخمسين صلاة ، وأما أمر من علم أنه لا يؤمن بالإيمان ، فإنه سبحانه يحب من عباده أن يؤمنوا به وبرسله ، ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ، ووفقه له ، وخذل بعضهم ، فلم يعنه ولم يوفقه ، فلم تحصل مصلحة الأمر منهم ، وحصلت من الأمر الذبح.

فصل

وأما الكتابة فالكونية كقوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (٢١)) [المجادلة] وقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥)) [الأنبياء] وقوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)) [الحج] والشرعية الأمرية كقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ (١٨٣)) [البقرة] وقوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ (٢٣)) [النساء] إلى قوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ (٢٤)) [النساء] وقوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (٤٥)) [المائدة] فالأولى كتابة بمعنى القدر ، والثانية كتابة بمعنى الأمر.

٦٩٥

فصل

والأمر الكوني كقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)) [يس] وقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠)) [القمر] وقوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧)) [النساء] وقوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١)) [مريم] وقوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها (١٦)) [الإسراء] فهذا أمر تقديري كوني ، لا أمر ديني شرعي ، فإن الله لا يأمر بالفحشاء. والمعنى : قضينا ذلك وقدرناه. وقالت الطائفة : بل هو أمر ديني ، والمعنى : أمرناهم بالطاعة ، فخالفونا وفسقوا ، والقول الأول أرجح لوجوه.

أحدها : أن الإضمار على خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلا إذا لم يمكن تصحيح الكلام بدونه.

الثاني : أن ذلك يستلزم إضمارين أحدهما : أمرناهم بطاعتنا ، الثاني : فخالفونا أو عصونا ، ونحو ذلك.

الثالث : أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه ، كقولك : أمرته ففعل ، وأمرته فقام ، وأمرته فركب ، لا يفهم المخاطب غير هذا.

الرابع : أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور ، ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك ، بل هو سبب للنجاة والفوز ، فإن قيل : أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك ، قيل : هذا يبطل :

٦٩٦

بالوجه الخامس : وهو أنّ هذا الأمر لا يختصّ بالمترفين ، بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتّباع رسله المترفين وغيرهم ، فلا يصحّ تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين. يوضحه :

الوجه السادس : أن الأمر لو كان بالطاعة ، لكان هو نفس إرسال رسله إليهم ، ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال : أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ، ففسقوا فيها. فإن الإرسال لو كان إلى المترفين ، لقال من عداهم : نحن لم يرسل إلينا.

السابع : أن إرادة الله سبحانه لإهلاك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل إليهم وتكذيبهم ، وإلا فقبل ذلك هو لا يريد إهلاكهم ، لأنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم ، قال تعالى : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)) [هود] فإذا أرسل الرسل ، فكذبوهم ، أراد إهلاكها ، فأمر رؤساءها ومترفيها أمرا كونيا قدريا ، لا شرعيا دينيا ، بالفسق في القرية ، فاجتمع أهلها على تكذيبهم وفسق رؤسائهم ، فحينئذ جاءها أمر الله ، وحقّ عليها قوله بالإهلاك. والمقصود ذكر الأمر الكوني والديني. ومن الديني قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ (٩٠)) [النحل] وقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها (٥٨)) [النساء] وهو كثير.

فصل

وأما الإذن الكوني فكقوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ (١٠٢)) [البقرة] أي : بمشيئته وقدره ، وأما الديني ، فكقوله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ (٥)) [الحشر] أي : بأمره ورضاه

٦٩٧

وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)) [يونس] وقوله : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ (٢١)) [الشورى].

فصل

وأما الجعل الكوني فكقوله : (إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا (٩)) [يس] وقوله : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠)) [يونس] وقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً (٧٢)) [النحل] وهو كثير.

وأما الجعل الديني فكقوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ (١٠٣)) [المائدة] أي : ما شرع ذلك ولا أمر به ، وإلا فهو مخلوق له واقع بقدره ومشيئته.

وأما قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ (٩٧)) [المائدة] فهذا يتناول الجعلين ، فإنها جعلها كذلك بقدره وشرعه ، وليس هذا استعمالا للمشترك في معنييه ، بل إطلاق اللفظ وإرادة القدر المشترك بين معنييه ، فتأمله.

٦٩٨

فصل

[الكلمات الكونية والكلمات الدينية]

وأما الكلمات الكونية فكقوله : (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)) [يونس] وقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا (١٣٧)) [الأعراف] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر ، من شرّ ما خلق» (١).

فهذه كلماته الكونية التي يخلق بها ويكوّن ، ولو كانت الكلمات الدينية هي التي يأمر بها وينهى لكانت مما يجاوزهن الفجار والكفار.

وأما الديني فكقوله : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ (٦)) [التوبة] والمراد به القرآن وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النساء : «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» (٢) أي : بإباحته ودينه وقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ (٣)) [النساء] وقد اجتمع النوعان في قوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ (١٢)) [التحريم] فكتبه كلماته التي يأمر بها وينهى ويحل ويحرم ، وكلماته التي يخلق بها ويكوّن ، فأخبر أنها ليست جهمية تنكر كلمات دينه وكلمات تكوينه ، وتجعلها خلقا من جملة مخلوقاته.

__________________

(١) صحيح. رواه أحمد (٣ / ٤١٩) وغيره عن عبد الرحمن بن خنبش ، وله شواهد.

(٢) رواه مسلم (١٢١٨) عن جابر بن عبد الله.

٦٩٩

فصل

[البعث الكوني والبعث الديني]

وأما البعث الكوني فكقوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ (٥)) [الإسراء] وقوله : (فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ (٣١)) [المائدة].

وأما البعث الديني فكقوله : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ (٢)) [الجمعة] وقوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ (٢١٣)) [البقرة].

فصل

[الإرسال الكوني والإرسال الديني]

وأما الإرسال الكوني فكقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣)) [مريم] وقوله (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ (٤٨)) [الفرقان].

وأما الديني فكقوله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ (٣٣)) [التوبة] وقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥)) [المزمل].

٧٠٠