شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

يحمده عليها أهل السموات والأرض والدنيا والآخرة ، فما قدّر أحكم الحاكمين ذلك باطلا ، ولا دبّره عبثا ، ولا أخلاه من حكمته البالغة وحمده التام ، وأيضا فإنه سبحانه قال للملائكة : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)) [البقرة].

ثم أظهر سبحانه من علمه وحكمته الذي خفي على الملائكة ، من أمر هذا الخليفة ، ما لم يكونوا يعرفونه ، بأن جعل من نسله من أوليائه وأحبائه ورسله وأنبيائه من يتقرب إليه بأنواع التقرب ، ويبذل نفسه في محبته ومرضاته ، يسبح بحمده آناء الليل وأطراف النهار ، ويذكره قائما وقاعدا وعلى جنبه ، ويعبده ويذكره ويشكره في السّراء والضراء والعافية والبلاء والشدة والرخاء ، فلا يثنيه عن ذكره وشكره وعبادته شدّة ولا بلاء ، ولا فقر ولا مرض ، ويعبده مع معارضة الشهوة وغلبات الهوى وتعاضد الطباع لأحكامها ، ومعاداة بني جنسه وغيرهم له ، فلا يصدّه ذلك عن عبادته وشكره وذكره والتقرب إليه ، فإن كانت عبادتكم لي بلا معارض ولا ممانع ، فعبادة هؤلاء لي مع هذه المعارضات والموانع والشواغل.

وأيضا فإنه سبحانه أراد أن يظهر لهم ما خفي عليهم من شأن ما كانوا يعظمونه ويجلونه ، ولا يعرفون ما في نفسه من الكبر والحسد والشر ، فذلك الخير وهذا الشر كامن في نفوس ، لا يعلمونها ، فلا بد من إخراجه وإبرازه لكي يعلم حكمة أحكم الحاكمين في مقابلة كل منهما بما يليق به.

وأيضا فإنه سبحانه لما خلق خلقه أطوارا وأصنافا ، وسبق في حكمه وحكمته تفضيل آدم وبنيه على كثير ممّن خلق تفضيلا ، جعل عبوديتهم أكمل من عبودية غيرهم ، وكانت العبودية أفضل أحوالهم وأعلى درجاتهم ، أعني العبودية الاختيارية التي يأتون بها طوعا واختيارا ، لا كرها واضطرارا.

٦٠١

ولهذا أرسل الله جبريل إلى سيد هذا النوع الإنساني ، يخيّره بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا نبيا ، فاختار ، بتوفيق ربه له ، أن يكون عبدا رسولا ، وذكره سبحانه بأتم العبودية في أشرف مقاماته وأفضل أحواله ، كمقام الدعوة والتحدي والإسراء وإنزال القرآن. (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ (١٩)) [الجن]. (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا (٢٣)) [البقرة]. (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ (١)) [الإسراء]. (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ (١)) [الفرقان].

فأثنى عليه ، ونوّه به لعبوديته التامة له ، ولهذا يقول أهل الموقف ، حين يطلبون الشفاعة : اذهبوا إلى محمد ، عبد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر (١).

فلما كانت العبودية أشرف أحوال بني آدم وأحبها إلى الله ، وكان لها لوازم وأسباب مشروطة ، لا يحصل إلا بها ، كان من أعظم الحكمة أن أخرجوا إلى دار ، تجري عليهم فيها أحكام العبودية وأسبابها وشروطها وموجباتها ، فكان إخراجهم من الجنة تكميلا لهم ، وإتماما لنعمته عليهم ، مع ما في ذلك من محبوبات الرب تعالى ، فإنه يحبّ إجابة الدعوات ، وتفريج الكربات ، وإغاثة اللهفات ومغفرة الزلات ، وتكفير السيئات ودفع البليّات ، وإعزاز من يستحق العز ، وإذلال من يستحق الذل ، ونصر المظلوم وجبر الكسير ، ورفع بعض خلقه على بعض ، وجعلهم درجات ، ليعرف قدر فضله وتخصيصه ، فاقتضى ملكه التام وحمده الكامل أن يخرجهم إلى دار ، يحصل فيها محبوباته سبحانه ، وإن كان لكثير منها طرق وأسباب يكرهها ، فالوقوف على الشيء لا بدونه ، وإيجاد لوازم الحكمة من الحكمة ، كما أن إيجاد لوازم العدل من العدل ، كما ستقف عليه في فصل إيلام الأطفال إن شاء الله.

__________________

(١) هو حديث الشفاعة ، وقد مر.

٦٠٢

الوجه الثامن والعشرون : أنه سبحانه أبرز خلقه من العدم إلى الوجود ، ليجري عليه أحكام أسمائه وصفاته ، فيظهر كماله المقدس ، وإن كان لم يزل كاملا ، فمن كماله ظهور آثار كماله في خلقه وأمره وقضائه وقدره ووعده ووعيده ومنعه وإعطائه وإكرامه وإهانته وعدله وفضله وعفوه وإنعامه وسعة حلمه وشدة بطشه ، وقد اقتضى كماله المقدس سبحانه أنه كل يوم هو في شأن ، فمن جملة شئونه أن يغفر ذنبا ، ويفرّج كربا ، ويشفي مريضا ، ويفك عانيا ، وينصر مظلوما ، ويغيث ملهوفا ، ويجبر كسيرا ، ويغني فقيرا ، ويجيب دعوة ، ويقيل عثرة ، ويعز ذليلا ، ويذل متكبرا ، ويقصم جبارا ، ويميت ويحيي ، ويضحك ويبكي ، يخفض ويرفع ، ويعطي ويمنع ، ويرسل رسله من الملائكة ومن البشر في تنفيذ أوامره وسوق مقاديره التي قدّرها ، إلى مواقيتها التي وقّتها لها ، وهذا كله لم يكن ليحصل في ذات البقاء ، وإنما اقتضت حكمته البالغة حصوله في دار الامتحان والابتلاء.

يوضحه الوجه التاسع والعشرون : أنّ كمال ملكه التام اقتضى كمال تصرّفه فيه بأنواع التصرف ، ولهذا جعل الله سبحانه الدور ثلاثة : دارا أخلصها للنعيم واللذة والبهجة والسرور ، ودارا أخلصها للألم والنّصب وأنواع البلاء والشرور ، ودارا خلط خيرها بشرّها ، ومزج نعيمها بشقائها ، ومزج لذتها بألمها يلتقيان ويطالبان ، وجعل عمارة تينك الدارين من هذه الدار ، وأجرى أحكامه على خلقه ، في الدور الثلاثة ، بمقتضى ربوبيته وإلهيته وعزته وحكمته وعدله ورحمته ، فلو أسكنهم كلهم دار البقاء من حين أوجدهم ، لتعطلت أحكام هذه الصفات ، ولم يترتب عليها آثارها.

يوضحه الوجه الثلاثون : أنّ يوم المعاد الأكبر يوم مظهر الأسماء والصفات وأحكامها ، ولهذا يقول سبحانه : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦)) [غافر] وقال : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ (٢٦)) [الفرقان] وقال : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ

٦٠٣

شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩)) [الانفطار] حتى إن الله سبحانه ليتعرف إلى عباده ذلك اليوم بأسماء وصفات ، لم يعرفوها في هذه الدار ، فهو يوم ظهور المملكة العظمى والأسماء الحسنى والصفات العلى.

فتأمّل ما أخبر به الله ورسوله من شأن ذلك اليوم وأحكامه ، وظهور عزته تعالى وعظمته وعدله وفضله ورحمته وآثار صفاته المقدسة التي لو خلقوا في دار البقاء ، لتعطّلت ، وكماله سبحانه ينفي ذلك ، وهذا دليل مستقل لمن عرف الله تعالى وأسماءه وصفاته ، على وقوع المعاد وصدق الرسل فيما أخبروا به عن الله عنه ، فيطابق دليل العقل ودليل السمع على وقوعه.

الوجه الحادي والثلاثون : أن الله سبحانه يحب أن يعبد بأنواع التعبّدات كلها ، ولا يليق ذلك إلا بعظمته وجلاله ، ولا يحسن ولا ينبغي إلّا له وحده.

ومن المعلوم أن أنواع التعبد الحاصلة في دار الابتلاء والامتحان ، لا يكون في دار المجازاة ، وإن كان في هذه الدار بعض المجازاة ، وكمالها وتمامها إنما هو في تلك الدار ، وليست دار عمل ، وإنما هي دار جزاء وثواب ، أوجب كماله المقدس أن يجزي فيها الذين أساءوا بما عملوا ، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، فلم يكن بدّ من دار تقع فيها الإساءة والإحسان ، ويجري على أهلها أحكام الأسماء والصفات ، ثم يعقبها دارا يجازى فيها المحسن والمسيء ، ويجري على أهلها فيها أحكام الأسماء والصفات.

فتعطيل أسمائه وصفاته ممتنع ومستحيل ، وهو تعطيل لربوبيته وإلهيته وملكه وعزه وحكمته ، فمن فتح له باب من الفقه في أحكام الأسماء والصفات ، وعلم اختصاصها لآثارها ومتعلقاتها ، واستحالة تعطيلها ، علم أن الأمر كما أخبرت به الرسل ، وأنه لا يجوز عليه سبحانه ، ولا ينبغي له غيره ،

٦٠٤

وأنه ينزّه عن خلاف ذلك ، كما ينزه عن سائر العيوب والنقائص. وهذا باب عزيز من أبواب الإيمان ، فيفتحه الله على من يشاء من عباده ، ويحرمه من يشاء.

الوجه الثاني والثلاثون : أنه كم لله سبحانه من حكمة وحمد وأمر ونهي وقضاء وقدر ، في جعل بعض عباده فتنة لبعض ، كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ (٥٣)) [الأنعام] وقال تعالى : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ (٢٠)) [الفرقان].

فهو سبحانه جعل أولياءه فتنة لأعدائه ، وأعداءه فتنة لأوليائه ، والملوك فتنة للرعية ، والرعية فتنة لهم ، والرجال فتنة للنساء ، وهن فتنة لهم ، والأغنياء فتنة للفقراء ، والفقراء فتنة لهم ، وابتلى كلّ أحد بضد ، جعله متقابلا ، فما استقرت أقدام الأبوين على الأرض إلا وضدّهما مقابلهما ، واستمر الأمر في الذرية كذلك إلى أن يطوي الله الدنيا ومن عليها.

وكم له سبحانه في مثل هذا الابتلاء والامتحان من حكمة بالغة ونعمة سابغة وحكم نافذ وأمر ونهي وتصريف دالّ على ربوبيته وإلهيته وملكه وحمده ، وكذلك ابتلاء عباده بالخير والشر ، في هذه الدار ، هو من كمال حكمته ومقتضى حمده التام.

الوجه الثالث والثلاثون : أنه لو لا هذا الابتلاء والامتحان ، لما ظهر فضل الصبر والرضا والتوكل والجهاد والعفة والشجاعة والحلم والعفو والصفح ، والله سبحانه يحب أن يكرم أولياءه بهذه الكمالات ، ويحب ظهورها عليهم ، ليثني بها عليهم هو وملائكته ، وينالوا باتصافهم بها غاية الكرامة واللذة والسرور ، وإن كانت مرّة المبادي ، فلا أحلى من عواقبها. ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ، وقد أجرى الله سبحانه حكمته بأنّ كمال الغايات تابعة

٦٠٥

لقوة أسبابها ، وكمالها ونقصانها لنقصانها ، فمن كمّل أسباب النعيم واللذة كملت له غاياتها ، ومن حرمها حرمها ، ومن نقصها نقص له من غاياتها ، وعلى هذا قام الجزاء بالقسط والثواب والعقاب ، وكفى بهذا العالم شاهدا لذلك ، فربّ الدنيا والآخرة واحد ، وحكمته مطّردة فيهما ، وله الحمد في الأولى والآخرة ، وله الحكم وإليه ترجعون.

يوضحه الوجه الرابع والثلاثون : وهو أنّ أفضل العطاء وأجلّه على الإطلاق الإيمان وجزاؤه ، وهو لا يتحقق إلا بالامتحان والاختبار قال تعالى : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦)) [العنكبوت].

فذكر سبحانه في هذه السورة أنه لا بد أن يمتحن خلقه ، ويفتنهم ، ليتبين الصادق من الكاذب ، والمؤمن من الكافر ، ومن يشكره ويعبده ممن يكفره ويعرض عنه ويعبد غيره ، وذكر أحوال الممتحنين في العاجل والآجل ، وذكر أئمة الممتحنين في الدنيا ، وهم الرّسل وأتباعهم ، وعاقبة أمرهم ، وما صاروا إليه ، وافتتح بالإنكار على من يحسب أنه يتخلص من الامتحان والفتنة في هذه الدار ، إذا ادّعى الإيمان ، وأن حكمته سبحانه وشأنه في خلقه يأبى ذلك ، وأخبر عن سرّ هذه الفتنة والمحنة ، وهو تبيين الصادق من الكاذب والمؤمن من الكافر ، وهو سبحانه كان يعلم ذلك قبل وقوعه ، ولكن اقتضى عدله وحمده أنه لا يجزي العباد بمجرد علمه فيهم ، بل بمعلومه إذا وجد وتحقّق ، والفتنة هي التي أظهرته وأخرجته إلى الوجود ، فحينئذ حسن وقوع الجزاء عليه ، ثم أنكر سبحانه على من لم يلتزم الإيمان به ، ومتابعة رسله خوف الفتنة والمحنة التي يمتحن بها رسله وأتباعهم ، ظنه وحسبانه أنه

٦٠٦

بإعراضه عن الإيمان وتصديق رسله ، يتخلص من الفتنة والمحنة ، فإن بين يديه من الفتنة والمحنة والعذاب أعظم وأشق مما فرّ عنه ، فإنّ المكلفين بعد إرسال الرسل إليهم بين أمرين : إما أن يقول أحدهم : آمنت ، وإما أن لا يقول ، بل يستمر على السيئات ، فمن قال : آمنا ، امتحنه الرب تعالى ، وابتلاه لتتحقّق بالإيمان حجة إيمانه وثباته عليه ، وأنه ليس بإيمان عافية ورخاء فقط ، بل إيمان ثابت في حالتي النّعماء والبلاء ، ومن لم يؤمن ، فلا يحسب أنه يعجز ربه تعالى ، ويفوته ، بل هو في قبضته ، وناصيته بيده ، فله من البلاء أعظم مما ابتلي به من قال آمنت ، فمن آمن به وبرسله ، فلا بد أن يبتلى من أعدائه وأعداء رسله بما يؤلمه ويشق عليه ، ومن لم يؤمن به وبرسله ، فلا بد أن يعاقبه ، فيحصل له من الألم والمشقة أضعاف ألم المؤمنين ، فلا بد من حصول الألم لكل نفس مؤمنة أو كافرة ، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا أشد ، ثم ينقطع ، ويعقبه أعظم اللذة ، والكافر يحصل له اللذة والسرور ابتداء ، ثم ينقطع ، ويعقبه أعظم الألم والمشقة.

وهكذا حال الذين يتبعون الشهوات ، فيلتذون بها ابتداء ، ثم تعقبها الآلام بحسب ما نالوه منها ، والذين يصبرون عنها ، ينالون بفقدها ابتداء ، ثم يعقب ذلك الألم من اللذة والسرور بحسب ما صبروا عنه وتركوه منها ، فالألم واللذة أمر ضروري لكل إنسان ، لكن الفرق بين العاجل المنقطع اليسير والآجل الدائم العظيم بون (١) ، ولهذا كان خاصة العقل النظر في العواقب والغايات ، فمن ظنّ أنه يتخلص من الألم ، بحيث لا يصيبه البتة ، فظنّه أكذب الحديث ، فإن الإنسان خلق عرضة للذة والألم والسرور والحزن والفرح والغم ، وذلك من جهتين : من جهة تركّبه وطبيعته وهيئته ، فإنه مركّب من أخلاط متفاوتة متضادة ، يمتنع أو يعز اعتدالها من كل وجه ، بل

__________________

(١) بون : واسع كبير.

٦٠٧

لا بد أن يبغي بعضها على بعض ، فيخرج عن حدّ الاعتدال ، فيحصل الألم. ومن جهة بني جنسه ، فإنه مدنيّ بالطبع ، لا يمكنه أن يعيش وحده ، بل لا يعيش إلا معهم ، وله ولهم لذاذات ومطالب متضادة ومتعارضة ، لا يمكن الجمع بينها ، بل إذا حصل منها شيء ، فات منها أشياء ، فهو يريد منهم أن يوافقوه على مطالبه وإرادته ، وهم يريدون منه ذلك ، فإن وافقهم حصل له من الألم والمشقة بحسب ما فاته من إرادته ، وإن لم يوافقهم ، آذوه وعذبوه ، وسعوا في تعطيل مراداته ، كما لم يوافقهم على مراداتهم ، فيحصل له من الألم والتعذيب بحسب ذلك ، فهو في ألم ومشقة وعناء ، وافقهم ، أو خالفهم ، ولا سيما إذا كانت موافقتهم على أمور ، يعلم أنها عقائد باطلة وإرادات فاسدة وأعمال تضره في عواقبها ، ففي موافقتهم أعظم الألم ، وفي مخالفتهم حصول الألم ، فالعقل والدين والمروءة والعلم تأمره باحتمال أخفّ الألمين ، تخلصا من أشدهما ، وبإيثار المنقطع منهما ، لينجو من الدائم المستمر.

فمن كان ظهيرا للمجرمين ، من الظّلمة على ظلمهم ، ومن أهل الأهواء والبدع على أهوائهم وبدعهم ، ومن أهل الفجور والشهوات على فجورهم وشهواتهم ، ليتخلّص بمظاهرتهم من ألم أذاهم ، أصابه من ألم الموافقة لهم عاجلا وآجلا أضعاف أضعاف ما فرّ منه ، وسنة الله في خلقه أن يعذبهم بإنذار من إيمانهم وظاهرهم. وإن صبر على ألم مخالفتهم ومجانبتهم ، أعقبه ذلك لذة عاجلة وآجلة ، تزيد على لذة الموافقة بأضعاف مضاعفة. وسنة الله في خلقه أن يرفعه عليهم ، ويذلّهم له ، بحسب صبره وتقواه وتوكله وإخلاصه. وإذا كان لا بدّ (١) من الألم والعذاب ، فذلك في الله وفي مرضاته ، ومتابعة رسله أولى وأنفع منه في الناس ورضاهم وتحصيل

__________________

(١) سقطت من المطبوع.

٦٠٨

مراداتهم ، ولما كان زمن التألم والعذاب ، فصبره طويل ، فأنفاسه ساعات ، وساعاته أيام ، وأيامه شهور وأعوام بلى سبحانه الممتحنين فيه بأن ذلك الابتلاء آجلا ، ثم ينقطع ، وضرب لأهله أجلا للقائه ، يسلّيهم به ، ويشكر نفوسهم ، ويهون عليهم أثقاله ، فقال : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥)) [العنكبوت].

فإذا تصور العبد أجل ذلك البلاء وانقطاعه ، وأجل لقاء المبتلي سبحانه وإثباته ، هان عليه ما هو فيه ، وخفّ عليه حمله ، ثم لما كان ذلك لا يحصل إلا بمجاهدة للنفس وللشيطان ولبني جنسه ، وكان العامل إذا علم أن ثمرة عمله وتعبه يعود عليه وحده ، لا يشركه فيه غيره ، كان أتم اجتهادا وأوفر سعيا ، فقال تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦)) [العنكبوت].

وأيضا فلا يتوهم متوهّم أنّ منفعة هذه المجاهدة والصبر والاحتمال يعود على الله سبحانه ، فإنه غنيّ عن العالمين ، لم يأمرهم بما أمرهم به حاجة منه إليهم ، ولا نهاهم عما نهاهم عنه بخلا منه عليهم ، بل أمرهم بما يعود نفعه ومصلحته عليهم ، في معاشهم ومعادهم ، ونهاهم عما يعود مضرّته وعتيه عليهم ، في معاشهم ومعادهم ، فكانت ثمرة هذه الابتلاء والامتحان مختصة بهم ، واقتضت حكمته أن نصب ذلك سببا مفضيا إلى تميز الخبيث من الطيب ، والشقي من الغويّ ، ومن يصلح له ممن لا يصلح ، قال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (١٧٩)) [آل عمران].

فابتلاهم سبحانه بإرسال الرسل إليهم بأوامره ونواهيه واختياره ، فامتاز برسله طيبهم من خبيثهم وجيدهم من رديئهم ، فوقع الثواب والعقاب على معلوم ، أظهره ذلك الابتلاء والامتحان.

٦٠٩

ثم لما كان الممتحن لا بد أن ينحرف عن طريق الصبر والمجاهدة ، لدواعي طبيعته وهواه ، وضعفه عن مقاومة ما ابتلي به ، وعده سبحانه أن يتجاوز له عن ذلك ، ويكفره عنه ، لأنه لما أمر به والتزم طاعته ، اقتضت رحمته أن كفّر عنه سيئاته ، وجازاه بأحسن أعماله ، ثم ذكر سبحانه ابتلاء العبد بأبويه ، وما أمر به من طاعتهما وصبره على مجاهدتهما له على أن لا يشرك به ، فيصبر على هذه المحنة والفتنة ، ولا يطعهما (١) بل يصاحبهما على هذه الحال معروفا ويعرض عنهما إلى متابعة سبيل رسله وفي الإعراض عنهما وعن سبيلهما والإقبال على من خالفهما ، وعلى سبيله من الامتحان والابتلاء ما فيه ، ثم ذكر سبحانه حال من دخل في الإيمان على ضعف عزم وقلة وصبر وعدم ثبات على المحنة والابتلاء ، وأنه إذا أوذي في الله ، كما جرت به سنة الله ، واقتضت حكمته من ابتلاء أوليائه بأعدائه ، وتسليطهم عليهم بأنواع المكاره والأذى ، لم يصبر على ذلك ، وجزع منه ، وفرّ منه ، ومن أسبابه ، كما يفرّ من عذاب الله ، فجعل فتنة الناس له على الإيمان وطاعة رسله كعذاب الله ، لمن يعذبه على الشرك ومخالفة رسله ، وهذا يدلّ على عدم البصيرة ، وأن الإيمان لم يدخل قلبه ، ولا ذاق حلاوته ، حتى سوّى بين عذاب الله له على الإيمان بالله ورسوله وبين عذاب الله لمن لم يؤمن به وبرسله ، وهذا حال من يعبد الله على حرف واحد ، لم ترسخ قدمه في الإيمان وعبادة الله ، فهو من المفتونين المعذبين.

وإن فرّ من عذاب الناس له على الإيمان ، ثم ذكر حال هذا عند نصرة المؤمنين ، وأنهم إذا نصروا لجأ إليهم ، وقال : كنت معكم ، والله سبحانه يعلم من قلبه خلاف قوله.

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «يطيعها».

٦١٠

ثم ذكر سبحانه ابتلاء نوح بقومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، وابتلاء قومه بطاعته ، فكذبوه ، فابتلاهم بالغرق ، ثم بعده بالحرق. ثم ذكر ابتلاء إبراهيم بقومه وما ردّوا عليه ، وابتلاهم بطاعته ومتابعته.

ثم ذكر ابتلاء لوط بقومه وابتلاءهم به ، وما صار إليه أمره وأمرهم.

ثم ذكر ابتلاء شعيب بقومه وابتلاءهم به ، وما انتهت إليه حالهم وحاله.

ثم ذكر ما ابتلى به عادا وثمودا وقارون وفرعون وهامان وجنودهم ، من الإيمان به وعبادته وحده ، ثم ما ابتلاهم به من أنواع العقوبات.

ثم ذكر ابتلاء رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنواع الكفار من المشركين وأهل الكتاب ، وأمره أن يجادل أهل الكتاب بالتي هي أحسن ، ثم أمر عباده المبتلين بأعدائه أن يهاجروا من أرضهم إلى أرضه الواسعة ، فيعبدونه فيها.

ثم نبّههم بالنقلة الكبرى من دار الدنيا إلى دار الآخرة ، على نقلتهم الصغرى من أرض إلى أرض ، وأخبرهم أن مرجعهم إليه ، فلا قرار لهم في هذه الدار دون لقائه ، ثم بيّن لهم حال الصابرين على الابتلاء فيه ، بأنه يبوّئهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، فسلّاهم عن أرضهم ودارهم التي تركوها لأجله. وكانت مباء (١) لهم بأن بوّأهم دارا أحسن منها وأجمع لكلّ خير ولذة ونعيم ، مع خلود الأبد ، وأن ذلك بصبرهم على الابتلاء وتوكّلهم على ربّهم ، ثم أخبرهم بأنه ضامن لرزقهم في غير أرضهم كما كان يرزقهم في أرضهم ، فلا يهتموا بحمل الرزق ، فكم من دابة سافرت من مكان إلى مكان ، لا تحمل رزقها.

ثم أخبرهم أن مدة الابتلاء والامتحان في هذه الدار قصيرة جدا بالنسبة

__________________

(١) مباء : مرجعا ، موئلا.

٦١١

إلى دار الحيوان والبقاء.

ثم ذكر سبحانه عاقبة أهل الابتلاء ممن لم يؤمن به ، وأن مقامهم في هذه الدار تمتّع ، وسوف يعلمون عند النقلة منها ما فاتهم من النعيم المقيم وما حصلوا عليه من العذاب الأليم.

وذكر عاقبة أهل الابتلاء ممن آمن به ، وأطاع رسله وجاهد نفسه وعدوه في دار الابتلاء ما به هاديه وناصره ، فأخبر سبحانه أن أجلّ عطائه وأفضله في الدنيا والآخرة هو لأهل الابتلاء الذين صبروا على ابتلائه ، وتوكّلوا عليه. وأخبر أنّ أعظم عذابه وأشقّه هو للذين لم يصبروا على ابتلائه ، وفروا منه ، وآثروا النعيم العاجل عليه.

فمضمون هذه السورة هو سرّ الخلق والأمر ، فإنها سورة الابتلاء والامتحان ، وبيان حال أهل البلوى في الدنيا والآخرة ، ومن تأمل فاتحتها ووسطها وخاتمها ، وجد في ضمنها أن أول الأمر ابتلاء وامتحان ، ووسطه صبر وتوكل ، وآخره هداية ونصر ، والله المستعان.

يوضحه الوجه الخامس والثلاثون : وهو أنه سبحانه أخبر أنه خلق السموات والأرض ، العالم العلوي والسفلي ، ليبلونا أيّنا أحسن عملا ، وأخبر أنه زيّن الأرض بما عليها من حيوان ونبات ومعادن وغيرها ، لهذا الابتلاء ، وأنه خلق الموت والحياة ، لهذا الابتلاء ، فكان هذا الابتلاء غاية الخلق والأمر ، فلم يكن من بد من دار يقع فيها هذا الابتلاء ، وهي دار التكليف ، ولما سبق في حكمته أنّ الجنة دار نعيم لا دار ابتلاء وامتحان ، جعل قبلها دار الابتلاء جسرا ، يعبر عليه إليها ، ومزرعة يبذر فيها ، وميناء يزود منها ، وهذا هو الحقّ الذي خلق الخلق به ولأجله ، وهو أن يعبد وحده بما أمر به على ألسنة رسله ، فأمر ونهى على السنة ، ووعدنا بالثواب والعقاب ، ولم

٦١٢

يخلق خلقه سدى ، لا يأمرهم ، ولا ينهاهم ، ولا يتركهم هملا ، لا يثيبهم ، ولا يعاقبهم ، بل خلقوا للأمر والنهي والثواب والعقاب ، ولا يليق بحكمته وحمده غير ذلك.

فصل

وقد عرف من هذا الجواب عن قولهم : أيّ حكمة في خلق النفس مريدة للخير والشر ، وهلّا خلقت مريدة للخير وحده؟ وكيف اقتضت الحكمة تمكينها من الشر ، مع القدرة على منعها منه ، وأي حكمة في إعطائها قوة وأسبابا ، يعلم المعطي أنها لا يفعل بها إلا الشر وحده ، وأي حكمة في إقرار هذه النفوس على غيّها وظلمها وعدوانها ، ومعلوم أنّ من يفعل لحكمة ، لا يفعل ذلك ، وأن من يفعل لحكمة ، إذا رأى عبيده يقتل بعضهم بعضا ، ويفسد بعضهم بعضا ، ويظلم بعضهم بعضا ، وهو قادر على منعهم ، فلا تدعه حكمته ، وهما لهم ، بحيث يتركهم كذلك ، فإما أن يكون عالما بما يأتون ، أو لا يكون قادرا على منعهم ، أو لا يكون ممن يفعل لغرض وحكمة ، والأولان مستحيلان في حقّ الرب تعالى ، فتعين الثالث. ومبنى هذه الشبهة على أصل فاسد ، وهو قياس الربّ على خلقه ، وتشبيههم في أفعاله ، بحيث يحسن منه ما يحسن (١) منهم ، ويقبح منه ما يقبح منهم.

ولهذا كانت القدرية مشبهة الأفعال ، ومتأخروهم جمعوا بين هذا التشبيه وبين تعطيل الصفات ، فصاروا معطلين للصفات ، مشبهين في الأفعال ، وهذا

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «يحصن».

٦١٣

الأصل الفاسد مما ردّه عليهم سائر العقلاء ، وقالوا : قياس أفعال الرب على أفعال العباد من أفسد القياس ، وكذلك قياس حكمته على حكمتهم وصفاته على صفاتهم.

ومن المعلوم أن الرب تعالى ، علم أنّ عباده يقع منهم الكفر والظلم والفسوق ، وكان قادرا على أن لا يوجدهم ، وأن يوجدهم كلهم أمة واحدة على ما يحب ويرضى ، وأن يحول بينهم وبين بغي بعضهم ، ولكن حكمته البالغة أبت ذلك ، واقتضت إيجادهم على الوجه الذي هم عليه ، وهو سبحانه خلق النفوس أصنافا ، فصنف مريد للخير وحده ، وهي نفوس الملائكة ، وصنف مريد للشر وحده ، وهي نفوس الشياطين ، وصنف فيه إرادة النوعين ، وهي النفوس البشرية.

فالأولى الخير لهم طباع ، وهي محمودة عليه ، والشرّ للنفوس الثانية طباع ، وهي مذمومة عليه ، والصنف الثالث بحسب الغالب عليه من الوصفين ، فمن غلب عليه وصف الخير ، التحق بالصنف الأول ، ومن غلب عليه وصف الشر ، التحق بالصنف الثالث ، فإذا اقتضت الحكمة وجود هذا الصنف الثالث ، فأن يقتضي وجود الثاني أولى وأحرى ، والربّ تعالى اقتضت قدرته وعزته وحكمته إيجاد المتقابلات في الذوات والصفات والأفعال كما تقدم ، وقد نوّع خلقه تنويعا دالا على كمال قدرته وربوبيته ، فمن أعظم الجهل والضلال أن يقول القائل : هلّا كان خلقه كلهم نوعا واحدا؟ فيكون العالم علوا كله ، أو نورا كله. أو الحيوان ملكا كله ، وقد يقع في الأوهام الفاسدة ، أنّ هذا كان أولى وأكمل ، ويعرض الوهم الفاسد ما ليس ممكنا كمالا.

الوجه السادس والثلاثون : قوله : وأيّ حكمة في إيلام الحيوانات غير المكلفة؟.

٦١٤

فهذه مسألة تكلم الناس فيها قديما وحديثا ، وتباينت طرقهم في الجواب عنها ، فالجاحدون للفاعل المختار الذي يفعل بمشيئته وقدرته ، يحيلون ذلك على الطبيعة المجردة ، وأن ذلك من لوازمها ومقتضياتها ، ليس بفعل فاعل ولا قدرة قادر ولا إرادة مريد ، ومنكر والحكمة والتعليل يردون ذلك ، إلى محض المشيئة وصرف الإرادة ، تخصص مثلا على مثل ، بلا موجب ولا غاية ولا حكمة مطلوبة ولا سبب أصلا ، وظنوا أنهم بذلك يتخلصون من السؤال ، ويسدون على نفوسهم باب المطالبة ، وإنما سدّوا على نفوسهم باب معرفة الربّ وكماله وكمال أسمائه وأوصافه وأفعاله ، فعطّلوا حكمته وحقيقة إلهيته وحمده ، وكانوا كالمستجيرين من الرمضاء بالنار. وأما من أثبت حكمة وتعليلا ، لا يعود إلى الخالق ، بل إلى المخلوق ، سلكوا طريقة التعويض على تلك الآلام في حق من يبعث للثواب والعقاب ، وقالوا : قد يكون في ذلك إثابة لإثابتهم بصبرهم وتألمهم ، وإثابة لهم وتعويضا في القيامة بما نالهم من تلك الآلام ، فلما أورد عليهم إيلام الحيوانات التي لا تثاب ولا تعاقب (١).

وأما المثبتون لحقائق أسماء الرب وصفاته وحكمته التي هي وصفه ، ولأجلها تسمّى بالحكيم ، وعنها صدر خلقه وأمره ، فهم أعلم الفرق بهذا الشأن ، ومسلكهم فيه أصح المسالك وأسلم من التناقض والاضطراب ، فإنهم جمعوا بين إثبات القدرة والمشيئة العامة ، والحكمة الشاملة التي هي غاية الفعل ، وربطوا ذلك بالأسماء والصفات ، فتصادق عندهم السّمع والعقل والشرع والفطرة ، وعلموا أن ذلك مقتضى الحكمة البالغة ، وأنه من لوازمها ، وأنّ لازم الحقّ حقّ ، ولازم العدل عدل ، ولوازم الحكمة من الحكمة.

__________________

(١) بياض بالأصل.

٦١٥

فاعلم أن هاهنا أمرين : نفسا متحركة بالإرادة والاختيار ، وطبيعة متحركة بغير الاختيار والإرادة ، وأن الشر منشؤه من هذين المتحركين وعن هاتين الحركتين ، وخلقت هذه النفس وهذه الطبيعة على هذا الوجه ، فهذه تتحرك لكمالها ، وهذه تتحرك لكمالها ، وينشأ عن الحركتين خير وشر ، كما ينشأ عن حركة الأفلاك والشمس والقمر وحركة الرياح والماء والنار خير وشر.

فالخيرات الناشئة عن هذه الحركات مقصودة بالقصد الأول ، إمّا لذاتها وإما لكونها وسيلة إلى خيرات أتمّ منها ، والشرور الناشئة عنها غير مقصودة بالذات ، وإن قصدت قصد الوسائل واللوازم التي لا بدّ منها ، فما جبلت عليه النفس من الحركة ، هو من لوازم ذاتها ، فلا تكون النفس البشرية نفسا إلا بهذا اللازم ، فإذا قيل : لم خلقت متحركة على الدوام؟ فهو بمنزلة أن يقال : لم كانت النفس نفسا ، ولم كانت النار نارا ، والريح ريحا؟ فلو لم يخلق هذا ، ما كانت نفسا ، ولو لم تخلق الطبيعة هكذا ، ما كانت طبيعة ، ولو لم يخلق الإنسان على هذه الصفة والخلقة ما كان إنسانا.

فإن قيل : فلم خلقت النفس على هذه الصفة؟.

قيل : من كمال الوجود خلقها على هذه الصفة كما تقدم ، وكذلك كمال فاطرها ومبدعها اقتضى خلقها على هذه الصفة ، لما في ذلك من الحكم التي لا يحصيها إلا مبدعها سبحانه ، وإن كان في إيجاد هذه النفس شرّ ، فهو شرّ جزئي بالنسبة إلى الخير الكلي الذي هو سبب إيجادها ، فوجودها خير من أن لا توجد ، فلو لم يخلق مثل هذه النفس ، لكان في الوجود نقص وفوات حكم ومصالح عظيمة موقوفة على خلق مثل هذه النفس.

ولهذا لما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان وقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ

٦١٦

يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ (٣٠)) [البقرة] أجابهم سبحانه بأنّ في خلقه من الحكم والمصالح ما لا تعلمه الملائكة ، والخالق سبحانه يعلمه ، وإذا كانت الملائكة لا تعلم ما في خلق هذا الإنسان الذي يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء ، من الحكم والمصالح ، فغيرهم أولى أن لا يحيط به علما.

فخلق هذا الإنسان من تمام الحكمة والرحمة والمصلحة ، وإن كان وجوده مستلزما لشر ، فهو شر مغمور بما في إيجاده من الخير ، كإنزال المطر والثلج وهبوب الرياح وطلوع الشمس وخلق الحيوان والنبات والجبال والبحار ، وهذا كما أنه في خلقه ، فهو في شرعه ودينه وأمره ، فإنّ ما أمر به من الأعمال الصالحة ، خيره ومصلحته راجح ، وإن كان في شر ، فهو مغمور جدا بالنسبة إلى خيره ، وما نهى عنه من الأعمال والأقوال القبيحة ، فشرّه ومفسدته راجح ، والخير الذي فيه مغمور جدا بالنسبة إلى شره ، فسنّته سبحانه في خلقه وأمره فعل الخير الخالص والراجح ، والأمر بالخير الخالص والراجح ، فإذا تناقضت أسباب الخير والشر ، والجمع بين النقيضين محال ، قدّم أسباب الخير الراجحة على المرجوحة ، ولم يكن تفويت المرجوحة شرا ، ودفع أسباب الشر الراجحة بالأسباب المرجوحة ، ولم يكن حصول المرجوحة شرا بالنسبة إلى ما اندفع بها من الشر الراجح ، وكذلك سنته في شرعه وأمره ، فهو يقدم الخير الراجح ، وإن كان في ضمنه شر مرجوح ، ويعطل الشر الراجح ، وإن فات بتعطيله خير مرجوح ؛ هذه سنته فيما يحدثه ويبدعه في سماواته وأرضه ، وما يأمر به وينهى عنه.

وكذلك سنته في الآخرة ، وهو سبحانه قد أحسن كل شيء خلقه ، وقد أتقن كل ما صنع ، وهذا أمر يعلمه العالمون بالله جملة ، ويتفاوتون في العلم بتفاصيله ، وإذا عرف ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة ، وإما عدل وحكمة ، وإما إصلاح وتهيئة لخير ، يحصل بعدها ، وإما لدفع ألم ، هو

٦١٧

أصعب منها ، وإما لتولدها عن لذات ونعم ، يولدها عنها أمر لازم لتلك اللذات ، وإما أن يكون من لوازم العدل أو لوازم الفضل والإحسان ، فيكون من لوازم الخير التي إن عطلت ملزوماتها ، فات بتعطيلها خير أعظم من مفسدة تلك الآلام. والشرع والقدر أعدلا شاهد بذلك ، فكم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر ، وكم في نزول الغيث والثلوج من أذى ، كما سماه الله بقوله : وإن كان بكم أذى من مطر. وكم في هذا الحر والبرد والرياح من أذى موجب لأنواع من الآلام لصنوف الحيوانات ، وأعظم لذات الدنيا لذة الأكل والشرب والنكاح واللباس والرئاسة ، ومعظم آلام أهل الأرض أو كلها ناشئة عنها ومتولدة منها ، بل الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق ، كالعلم والشجاعة والزهد والعفة والحلم والمروءة والصبر والإحسان ، كما قال :

لو لا المشقة ساد الناس كلّهم

الجود يفقر والإقدام قتّال

وإذا كانت الآلام أسبابا للذّات أعظم منها وأدوم ، كان العقل يقضي باحتمالها ، وكثيرا ما تكون الآلام أسبابا لصحة ، لو لا تلك الآلام لفاتت ، وهذا شأن أكبر أمراض الأبدان ، فهذه الحمى فيها من المنافع للأبدان ما لا يعلمه إلا الله ، وفيها من إذابة الفضلات وإنضاج المواد الفجة وإخراجها ما لا يصل إليه دواء غيرها ، وكثير من الأمراض إذا عرض لصاحبها الحمى ، استبشر بها الطبيب.

وأما انتفاع القلب والروح بالآلام والأمراض فأمر لا يحس به إلا من فيه حياة ، فصحة القلوب والأرواح موقوفة على آلام الأبدان ومشاقها ، وقد أحصيت فوائد الأمراض ، فزادت على مائة فائدة ، وقد حجب الله سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره ، وجعلها جسرا موصلا إليها ، كما حجب أعظم الآلام بالشهوات واللذات ، وجعلها جسرا موصلا إليها ، ولهذا قالت العقلاء

٦١٨

قاطبة ، على أن النعيم لا يدرك بالنعيم ، وأن الراحة لا تنال بالراحة ، وأنّ من آثر اللذات فاتته اللذات.

فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النعم ، إذ هي أسباب النعم ، وما تنال الحيوانات غير المكلفة منها فمغمور جدا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها ، كما ينالها من حرّ الصيف وبرد الشتاء وحبس المطر والثلج وألم الحمل والولادة والسعي في طلب أقواتها وغير ذلك ، ولكن لذّاتها أضعاف أضعاف آلامها ، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام ، فسنّة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته ، ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها ، لعجزوا عن ذلك ، وقيل لكل منهم : أرجع بصر العقل ، فهل ترى من خلل : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)) [الملك].

فتبارك الذي من كمال حكمته وقدرته أن أخرج الأضداد من أضدادها والأشياء من خلافها ، فأخرج الحي من الميت والميت من الحي والرطب من اليابس واليابس من الرطب ، فكذلك أنشأ اللذات من الآلام والآلام من اللذات ، فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها ، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها ، وبعد فاللذة والسرور والخير والنعم والعافية والمصلحة والرحمة ، في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء ، أكثر من أضدادها بأضعاف مضاعفة ، فأين آلام الحيوان من لذته ، وأين سقمه من صحته ، وأين جوعه وعطشه من شبعه وريه ، وتعبه من راحته؟ قال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦)) [الشرح] ولن يغلب عسر يسرين ، وهذا لأن الرحمة غلبت الغضب ، والعفو سبق العقوبة ، والنعمة تقدمت المحنة. والخير في الصفات والأفعال. والشر في المفعولات لا في الأفعال.

فأوصافه كلها كمال ، وأفعاله كلها خيرات ، فإن ألم الحيوان لم يعدمه

٦١٩

بألمه عافية من ألم ، هو أشد من ذلك الألم ، أو تهيئة لقوة وصحة وكمال ، أو عوضا لا نسبة لذلك الألم إليه بوجه ما.

فآلام الدنيا جميعها نسبتها إلى لذات الآخرة وخيراتها أقلّ من نسبة ذرة إلى جبال الدنيا بكثير ، وكذلك لذات الدنيا جميعها بالنسبة إلى آلام الآخرة. والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سدى ، ولم يقدرهما عبثا. ومن كمال قدرته وحكمته أن جعل كل واحد منهما يثمر الآخر ، هذا ولوازم الخلقة يستحيل ارتفاعها كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق ، فلا يكون المخلوق إلا فقيرا محتاجا ناقص العلم والقدرة ، فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يتألم في عالم الكون والفساد ، لم يكن حيوانا ، ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة ، والله لم يجعلها كذلك ، وإنما جعلها دارا ممتزجا ألمها بلذتها وسرورها بأحزانها وغمومها وصحتها بسقمها ، حكمة منه بالغة.

فصل

ولما كانت الآلام أدوية للأرواح والأبدان ، كانت كمالا للحيوان ، خصوصا لنوع الإنسان ، فإن فاطره وبارئه إنما أمرضه ليشفيه ، وإنما ابتلاه ليعافيه ، وإنما أماته ليحييه ، فهو سبحانه يسوق الحيوان والإنسان في مراتب كماله طورا بعد طور إلى آخر كماله بأسباب لا بد منها ، وكماله موقوف على تلك الأسباب ، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ، كوجود المخلوق بدون الحاجة والفقر والنقص. ولوازم ذلك ، ولوازم تلك اللوازم ، ولكن أكثر النفوس جاهلة بالله وحكمته وعلمه وكماله ، فيفرض أمورا ممتنعة ، ويقدّرها

٦٢٠