شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)) [عبس] وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها (٢١)) [الروم] وقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣)) [إبراهيم] وقوله : (اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢)) [الجاثية].

إلى أضعاف أضعاف ذلك في القرآن ، مما يفيد من له أدنى تأمّل القطع بأنه سبحانه فعل ذلك للحكم والمصالح التي ذكرها وغيرها مما لم يذكره.

وقوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩)) [النحل] وقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)) [المؤمنون] وقوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨)) [النحل].

فهل يستقيم ذلك ويصح فيمن لا يفعل لحكمة ولا لمصلحة ولا لغاية هي مقصودة بالفعل! ومعلوم بالضرورة أنّ هذا الإثبات وهذا النفي متقابلان أعظم التقابل.

٥٠١

فصل

النوع الحادي عشر : إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لغاية ولا لحكمة كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً (١١٥)) [المؤمنون] وقوله : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (٣٦)) [القيامة] وقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ (٣٩)) [الدخان].

والحقّ هو الحكم والغايات المحمودة التي لأجلها خلق ذلك كله ، وهو أنواع كثيرة :

منها : أن يعرف الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله وآياته.

ومنها : أن يحبّ ويعبد ويشكر ويذكر ويطاع.

ومنها : أن يأمر وينهى ويشرّع الشرائع.

ومنها : أن يدبّر الأمر ويبرم القضاء ويتصرّف في المملكة بأنواع التصرفات.

ومنها : أن يثيب ويعاقب ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ، فيوجد أثر عدله وفضله موجودا مشهودا فيحمد على ذلك ويشكر.

ومنها : أن يعلم خلقه أنه لا إله غيره ، ولا رب سواه.

ومنها : أن يصدق الصادق ، فيكرمه ، ويكذب الكاذب ، فيهينه.

ومنها : ظهور آثار أسمائه وصفاته على تنوّعها وكثرتها في الوجود الذهني

٥٠٢

والخارجي ، فيعلم عباده ذلك علما مطابقا لما في الواقع.

ومنها : شهادة مخلوقاته كلها بأنه وحده ربها وفاطرها ومليكها ، وأنه وحده إلهها ومعبودها.

ومنها : ظهور أثر كماله المقدس ، فإن الخلق والصّنع لازم كماله ، فإنه حي قدير ، ومن كان كذلك لم يكن إلا فاعلا مختارا.

ومنها : أن يظهر أثر حكمته في المخلوقات بوضع كل منها في موضعه الذي يليق به ومحبته على الوجه الذي تشهد العقول والفطر بحسنه ، فتشهد حكمته الباهرة.

ومنها : أنه سبحانه يحب أن يجود وينعم ويعفو ويغفر ويسامح ، ولا بد من لوازم ذلك خلقا وشرعا.

ومنها : أنه يحب أن يثنى عليه ، ويمدح ويمجّد ويسبّح ويعظّم.

ومنها : كثرة شواهد ربوبيته ووحدانيته وإلهيته إلى غير ذلك من الحكم التي تضمّنها الخلق ، فخلق مخلوقاته بسبب الحق ولأجل الحق ، وخلقها ملتبس بالحق ، وهو في نفسه حق ، فمصدره حقّ ، وغايته حق ، وهو يتضمن للحق ، وقد أثنى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية ، فقال تعالى : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ (١٩١)) [آل عمران] وأخبر أن هذا ظن أعدائه ، لا ظنّ أوليائه ، فقال (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا (٢٧)) [ص].

وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول : إنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له ، ولا أمر لحكمة ، ولا نهى لحكمة ، وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة ، لا لحكمة ، ولا لغاية مقصودة ، وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده؟

٥٠٣

بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات ، فهما مظهران بحمده وحكمته ، فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره ، فإن الذي أثبته المنكرون من ذلك ينزّه عنه الرب ، ويتعالى عن نسبته إليه ، فإنهم أثبتوا خلقا وأمرا لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة ، بل يجوز عندهم أو يقع أن يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه البتة ، وينهى عما فيه مصلحة ، والجميع بالنسبة إليه سواء.

ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه ، وينهى عن جميع ما أمر به ، ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي ، ويجوز عندهم أن يعذب من لم يعصه طرفة عين ، بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره ، وينعم على من لم يطعه طرفة عين ، بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور ، فلا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول ، وإلا فهو جائز عليه ، وهذا من أقبح الظن وأسوئه بالرب سبحانه ، وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور ، بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه.

والعجب العجاب أنّ كثيرا من أرباب هذا المذهب ينزّهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال ، ويزعمون أن إثباتها تجسيم وتشبيه ، ولا ينزهونه عن هذا الظلم والجور ، ويزعمون أنه عدل وحق ، وأن التوحيد عندهم لا يتم إلا به ، كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على عرشه وعلوه فوق سماواته وتكلّمه وتكليمه وصفات كماله ، فلا يتم التوحيد عند هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات. والله ولي التوفيق.

٥٠٤

فصل

النوع الثاني عشر : إنكاره سبحانه أن يسوّي بين المختلفين ، أو يفرّق بين المتماثلين ، وإن حكمته وعدله يأبى ذلك.

أما الأول : فكقوله : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٦)) [القلم] فأخبر أن هذا حكم باطل جائر ، يستحيل نسبته إليه ، كما يستحيل نسبة الفقر والحاجة والظلم إليه ، ومنكر والحكمة والتعليل يجوّزون نسبة ذلك إليه ، بل يقولون بوقوعه وقال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)) [ص] وقال : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١)) [الجاثية].

فجعل سبحانه ذلك حكما سيئا ، يتعالى ويتقدس عن أن يجوز عليه ، فضلا عن أن ينسب إليه ، بل أبلغ من هذا أنه أنكر على من حسب أن يدخل الجنة بغير امتحان له وتكليف يبين به صبره وشكره ، وإن حكمته تأبى ذلك كما قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)) [آل عمران] وقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا (٢١٤)) [البقرة] وقال : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً (١٦)) [التوبة] فأنكر عليهم هذا الظن والحسبان لمخالفته لحكمته.

وأما الثاني : وهو أن لا يفرق بين المتماثلين فكقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ

٥٠٥

وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩)) [النساء] وقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ (٧١)) [التوبة] وقوله : (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ (٦٧)) [التوبة] وقوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ (١٩٥)) [آل عمران] وقوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)) [يوسف] وقوله : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ (٤٣)) [القمر] وقوله : (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠)) [محمد] وقوله : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)) [الإسراء] وقوله : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣)) [الفتح] وقوله : (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ (٢٣)) [الفتح].

فسنّته سبحانه عادته المعلومة في أوليائه وأعدائه بإكرام هؤلاء وإعزازهم ونصرتهم ، وإهانة أولئك وإذلالهم وكبتهم ، وقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (٥)) [المجادلة] والقرآن مملوء من هذا يخبر تعالى أن حكم الشيء في حكمته وعدله حكم نظيره ومماثله ، وضد حكم مضاده ومخالفه ، وكل نوع من هذه الأنواع لو استوعبناه ، لجاء كتابا مفردا.

فصل

النوع الثالث عشر : أمره سبحانه بتدبير كلامه ، والتفكر فيه ، وفي أوامره ونواهيه وزواجره ، ولو لا ما تضمنه من الحكم والمصالح والغايات المطلوبة ، والعواقب الحميدة التي هي محل الفكر ، لما كان للتفكر فيه معنى ، وإنما دعاهم إلى التفكّر والتدبّر ليطلعهم ذلك على حكمته البالغة وما فيه من

٥٠٦

الغايات والمصالح المحمودة التي توجب لمن عرفها إقراره بأنه تنزيل من حكيم حميد ، فلو كان الحقّ ما يقوله النّفاة ، وأن مرجع ذلك وتصوره مجرد القدرة والمشيئة التي يجوز عليها تأييد الكاذب بالمعجزة ونصره وإعلاؤه وإهانة الحق وإذلاله وكسره ، لما كان في التدبر والتفكر مما يدلّهم على صدق رسله ، ويقيم عليهم حجته ، وكان غاية ما دعوا إليه القدر المحض ، وذلك ، مشترك بين الصادق والكاذب والبر والفاجر.

فهؤلاء بإنكارهم الحكمة والتعليل سدّوا على نفوسهم باب الإيمان والهدى ، وفتحوا عليهم باب المكابرة وجحد الضروريات ، فإن ما في خلق الله وأمره من الحكم والمصالح المقصودة بالخلق والأمر والغايات الحميدة أمر تشهد به الفطر والعقول ، ولا ينكره سليم الفطرة ، وهم لا ينكرون ذلك ، وإنما يقولون وقع بطريق الاتفاق ، لا بالقصد ، كما تسقط خشبة عظيمة ، فيتفق عبور حيوان مؤذ تحتها ، فتهلكه.

ولا ريب أن هذا ينفي حمد الرب سبحانه ، على حصول هذه المنافع والحكم ، لأنها لم تحصل بقصده وإرادته ، بل بطريق الاتفاق الذي لا يحمد عليه صاحبه ، ولا يثنى عليه ، بل هو عندهم بمثابة ما لو رمى رجل درهما ، لا لغرض ولا لفائدة ، بل لمجرد قدرته ومشيئته على طرحه ، فاتفق أن وقع في يد محتاج ، انتفع به ، فهذا من شأن الحكم والمصالح عند المنكرين.

فصل

النوع الرابع عشر : إخباره عن صدور الخلق والأمر عن حكمته وعلمه ، فيذكر هذين الاسمين عند ذكر مصدر خلقه وشرعه تنبيها على أنهما إنما

٥٠٧

صدرا عن حكمة مقصودة مقارنة للعلم المحيط التام لقوله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)) [النمل] وقوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)) [الزمر] فذكره العزّة المتضمنة لكمال القدرة والتصرف ، والحكمة المتضمنة لكمال الحمد والعلم.

وقوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)) [المائدة] وسمع بعض الأعراب قارئا يقرؤها : والله غفور رحيم ، فقال : ليس هذا كلام الله ، فقال : أتكذب بالقرآن؟ فقال : لا ولكن لا يحسن هذا ، فرجع القارئ إلى خطئه فقال : عزيز حكيم ، فقال : صدقت.

وإذا تأملت ختم الآيات بالأسماء والصفات ، وجدت كلامه مختتما بذكر الصفة التي يقتضيها ذلك المقام ، حتى كأنها ذكرت دليلا عليه وموجبة له ، وهذا كقوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)) [المائدة] أي : فإن مغفرتك لهم مصدر عن عزة ، هي كمال القدرة ، لا عن عجز وجهل.

وقوله : (ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨)) [يس] في عدة مواضع من القرآن يذكر ذلك عقيب ذكره الأجرام العلوية وما تضمنه من فلق الإصباح وجعل الليل مسكنا ، وإجراء الشمس والقمر بحساب لا يعدوانه ، وتزيين السماء بالنجوم وحراستها ، وأخبر أنّ هذا التقدير المحكم المتقن صادر عن عزّته وعلمه ، ليس أمرا اتفاقيا ، لا يمدح به فاعله ، ولا يثنى عليه به كسائر الأمور الاتفاقية.

ومن هذا ختمه سبحانه قصص الأنبياء وأممهم في سورة الشعراء عقيب كل قصة : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩)) [الشعراء] فإن ما حكم به لرسله وأتباعهم ولأعدائهم صادر عن عزة ورحمة ، فوضع الرحمة في محلها ،

٥٠٨

وأنتقم من أعدائه بعزته ، ونجّى رسله وأتباعهم برحمته ، والحكمة الحاصلة من ذلك أمر مطلوب مقصود ، وهي غاية الفعل ، لا أنها أمر اتفاقي.

فصل

النوع الخامس عشر : إخباره بأن حكمه أحسن الأحكام ، وتقديره أحسن التقادير ، ولو لا مطابقته للحكمة والمصلحة المقصودة المرادة لما كان كذلك ، إذ لو كان حسنه لكونه مقدورا معلوما كما يقوله النفاة ، لكان هو وضده سواء ، فإنه بكلّ شيء عليم ، وعلى كلّ شيء قدير ، فكان كل معلوم مقدور أحسن الأحكام وأحسن التقادير ، وهذا ممتنع قال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)) [المائدة] وقال : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ (١٢٥)) [النساء] فجعل هذا أن يختار لهم دينا سواه ، ويرتضي دينا غيره ، كما يمتنع عليه العيب والظلم ، وقال تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣)) [فصلت] وقال : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣)) [المرسلات] وقال : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)) [المؤمنون] فلا أحسن من تقديره وخلقه لوقوعه على الوجه الذي اقتضته حكمته.

وقال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ (٣)) [الملك] ولو لا مجيئه على أكمل الوجوه وأحسنها ومطابقتها للغايات المحمودة والحكم المطلوبة ، لكان كله متفاوتا ، أو كان عدم تفاوته أمرا اتفاقيا ، لا يحمد فاعله ، لأنه لم يرده ولم يقصده ، وإنما اتفق أن صار كذلك.

٥٠٩

فصل

النوع السادس عشر : إخباره سبحانه أنه على صراط مستقيم ، في موضعين من كتابه.

أحدهما : قوله حاكيا عن نبيه هود : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)) [هود].

والثاني : قوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)) [النحل].

قال أبو إسحاق : أخبر أنه وإن كانت قدرته تنالهم بما شاء ، فهو لا يشاء إلا العدل.

قال ابن الأنباري : لما قال : (إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها (٥٦)) [هود] ، كان في معنى : لا تخرج عن قبضته ، قاهر بعظيم سلطانه كلّ دابة ، فأتبع ذلك قوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)) [هود] أي : إنه على الحق ، قال : وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا رجلا حسن السيرة والعدل والإنصاف ، قالوا : فلان طريقه حسنة. وليس ثمّ طريق. وذكر في معنى الآية أقوال أخر هي من لوازم هذا المعنى وآثاره ، كقول بعضهم : إنّ ربي يدلّ على صراط مستقيم ، فدلالته على الصراط من موجبات كونه في نفسه على صراط مستقيم ، فإن تلك الدلالة والتعريف من تمام رحمته وإحسانه وعدله وحكمته.

وقال بعضهم : معناه : لا يخفى عليه شيء ، ولا يعدل عنه هارب.

٥١٠

وقال بعضهم : المعنى : لا مسلك لأحد ولا طريق له إلا عليه كقوله : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)) [الفجر] وهذا المعنى حق ، ولكن كونه هو المراد بالآية ليس بالبيّن ، فإنّ الناس كلهم لا يسلكون الصراط المستقيم حتى يقال : إنهم يصلون سلوكه إليه ، ولما أراد سبحانه هذا المعنى ، قال : (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ (٧٠)) [يونس]. (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥)) [الغاشية]. (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)) [الفجر]. «وإن إلى ربك المنتهى».

وأما وصفه سبحانه بأنه على صراط مستقيم ، فهو كونه يقول الحق ، ويفعل الصواب ، فكلماته صدق وعدل كله صواب وخير.

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)) [الأحزاب] فلا يقول إلا ما يحمد عليه لكونه حقا وعدلا وصدقا وحكمة في نفسه ، وهذا معروف في كلام العرب.

قال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز :

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوجّ الموارد مستقيم

وإذا عرف هذا فمن ضرورة كونه على صراط مستقيم أنه لا يفعل شيئا إلّا بحكمة يحمد عليها ، وغاية هي أولى بالإرادة من غيرها ، فلا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والإحسان والرحمة والعدل والصواب ، كما لا تخرج أقواله عن العدل والصدق.

فصل

النوع السابع عشر : حمده سبحانه لنفسه على جميع ما يفعله ، وأمره عباده

٥١١

بحمده ، وهذا لما في أفعاله من الغايات والعواقب الحميدة التي يستحق فاعلها الحمد ، فهو يحمد على نفس الفعل ، وعلى قصد الغاية الحميدة به وعلى حصولها ، فههنا ثلاثة أمور ، ومنكر والحكم والتعليل ليس عندهم محمود على قصد الغاية ولا على حصولها ، إذ قصدها عندهم مستحيل عليه ، وحصولها عندهم أمر اتفاقي غير مقصود ، كما صرحوا به فلا يحمد على ما لا يجوز قصده ولا على حصوله ، فلم يبق إلا نفس الفعل.

ومعلوم أن الفاعل لا يحمد على فعله إن لم يكن له فيه غاية مطلوبة ، هي أولى به من عدمها ، وإلا فمجرد الفعل الصادر عن الفاعل إذا لم يكن له غاية يقصده بها ، لا يحمد عليه ، بل وقوع هذا الفعل من القادر المختار الحكيم محال ، ولا يقع الفعل على هذا الوجه إلّا من عائب ، والله منزه من العيب ، فحمده سبحانه من أعظم الأدلة على كمال حكمته ، وقصده بما فعل يقع خلفه ، والإحسان إليهم ورحمتهم وإتمام نعمته عليهم ، وغير ذلك من الحكم والغايات التي تعطيلها تعطيل بحقيقة حمده.

فصل

النوع الثامن عشر : إخباره بإنعامه على خلقه وإحسانه إليهم ، وأنه خلق لهم ما في السموات وما في الأرض ، وأعطاهم الأسماع والأبصار والأفئدة ، ليتم نعمته عليهم.

ومعلوم أن المنعم المحسن لا يكون كذلك ولا يستحق هذا الاسم حتى يقصد الإنعام على غيره والإحسان إليه ، فلو لم يفعل سبحانه لغرض الإنعام والإحسان ؛ لم يكن منعما في الحقيقة ولا محسنا ، إذ يستحيل أن يكون

٥١٢

كذلك من لم يقصد الإنعام والإحسان ، وهذا غنيّ عن التقرير ، يوضحه أنه سبحانه حيث ذكر إنعامه وإحسانه ، فإنما يذكره مقرونا بالحكم والمصالح والمنافع التي خلق الخلق وشرع الشرائع لأجله كقوله في آخر سورة النحل : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١)) فهذا في الخلق.

وقال في الشرع ، في أمره باستقبال الكعبة : (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)) [البقرة].

وقال في أمره بالوضوء والتيمم : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)) [المائدة] فجعل تمام نعمته في أن خلق ما خلق للإحسان ، وأمر بما أمر لذلك.

فصل

النوع التاسع عشر : اتّصافه بالرحمة ، وأنه أرحم الراحمين ، وأن رحمته وسعت كل شيء ، وذلك لا يتحقق إلا بأن تقصد رحمة خلقه بما خلقه لهم وبما أمرهم به ، فلو لم تكن أوامره لأجل الرحمة والحكمة والمصلحة وإرادة الإحسان إليهم لما كان رحمة ، ولو حصلت بها الرحمة ، لكانت اتفاقية لا مقصودة ، وذلك لا يوجب أن يكون الآمر سبحانه أرحم الراحمين ، فتعطيل حكمته والغاية المقصودة التي لأجلها يفعل إنكار لرحمته في الحقيقة ،

٥١٣

وتعطيل لها ، وكان شيخ هذا المذهب جهم بن صفوان يقف على الجذامى (١) ، ويشاهد ما هم فيه من البلايا ، ويقول : أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟! يعني أنه ليس ثمّ رحمة في الحقيقة ، وإن الأمر راجع إلى محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة ، ولا حكمة عنده ولا رحمة ، فإن المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة ، ولا حكمة عنده ولا رحمة ، فإن الرحمة لا تعقل إلا من فعل من يفعل الشيء لرحمة غيره ونفعه والإحسان إليه ، فإذا لم يفعل لغرض ولا غاية ولا حكمة ، لم يفعل الرحمة والإحسان.

فصل

النوع العشرون : جوابه سبحانه لمن سأل عن التخصيص والتمييز الواقع في أفعاله بأنه لحكمة يعلمها هو سبحانه ، وإن كان السائل لا يعلمها ، كما أجاب الملائكة لما قال لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً (٣٠)) [البقرة] فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (٣٠)) [البقرة] فأجابهم بقوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)) [البقرة] ولو كان فعله مجردا عن الحكم والغايات والمصالح ، لكان الملائكة أعلم به إن سألوا هذا السؤال ، ولم يصح جوابهم بتفرده بعلم ما لا يعلمونه من الحكم والمصلحة التي في خلق هذا الخليفة ، ولهذا كان سؤالهم إنما وقع عن وجه الحكمة ، لم يكن اعتراضا على الرب تعالى.

ولو قدّر أنه على وجه الاعتراض ، فهو دليل على علمهم أنه لا يفعل شيئا إلا لحكمة ، فلما رأوا أن خلق هذا الخليفة مناف للحكمة في الظاهر ، سألوه

__________________

(١) المصابون بالجذام (مرض).

٥١٤

عن ذلك ، ومن هذا قوله تعالى : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (١٢٤)) [الأنعام] فأجابهم بأن حكمته وعلمه يأبى أن يضع رسالاته في غير محلها وعند غير أهلها ، ولو كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم يكن في هذا جوابا ، بل كان الجواب أن أفعاله لا تعلّل ، وهو يرجّح مثلا على مثل بغير مرجّح ، والأمر عائد إلى مجرد القدرة ، كما يقوله المنكرون ، وكذلك قوله : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)) [الأنعام].

فلما سألوا عن التخصيص بمشيئة الله ، وأنكروا ذلك ، أجيبوا بأن الله أعلم بمن يصلح لمشيئته ، وهو أهل لها ، وهم الشاكرون الذين يعرفون قدر النعمة ، ويشكرون عليها المنعم ، فهؤلاء يصلحون لمشيئته ، ولو كان الأمر عائدا إلى محض المشيئة ، لم يحسن هذا الجواب ، ولهذا يذكر سبحانه صفة العلم ، حيث يذكر التخصيص والتفصيل بينهما على أنه بما حصل بعلمه سبحانه بما في التخصيص المفصل ، مما يقتضي تخصيصه وتفصيله ، وهو الذي جعله أهلا لذلك ، كما قال تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١)) [الأنبياء] فذكر علمه عقيب ذكر تخصيصه سليمان بتسخير الريح له ، وتخصيصه الأرض المذكورة بالبركة.

ومنه قوله : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)) [المائدة] فذكر صفة العلم التي اقتضت تخصيص هذا المكان وهذا الزمان بأمر ، اختصّا به دون سائر الأمكنة والأزمنة.

ومن ذلك قوله سبحانه : (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)) [الفتح] فأخبر أنه وضع هذه الكلمة عند أهلها ومن هم أحق بها ، وأنه أعلم

٥١٥

بمن يستحقها من غيرهم ، فهل هذا وصف من يخص بمحض المشيئة لا بسبب وغاية؟.

فصل

النوع الحادي والعشرون : إخباره سبحانه عن تركه بعض مقدوره لما يستلزمه من المفسدة ، وأنّ المصلحة في تركه ، ولو كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة ، لم يكن ذلك علة للحكم ، كقوله تعالى : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)) [الأنفال] فعلل سبحانه عدم إسماعهم السماع الذي ينتفعون به ، وهو سماع الفهم ، بأنهم لا خير فيهم يحسن معه أن يسمعهم ، وبأن فيهم مانعا آخر يمنع من الانتفاع بالمسموع لو سمعوه ، وهو الكبر والإعراض ، فالأول من باب تعليل عدم الحكم بعدم ما يقتضيه ، والثاني من باب تعليله بوجود مانعه ، وهذا إنما يصح ممن يأمر وينهى ويفعل للحكم والمصالح ، وأما من يجرد فعله عن ذلك ، فإنه لا يضاف عدم الحكم إلا إلى مجرد مسبّبه فقط ، ومن هذا تنزيهه نفسه عن كثير مما يقدر عليه ، فلا يفعله ، لمنافاته لحكمته وحمده كقوله تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ (١٧٩)) [آل عمران] وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)) [الأنفال] وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ (١١٥)) [التوبة] وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧)) [هود] وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ

٥١٦

فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا (٥٩)) [القصص].

فنزّه نفسه عن هذه الأفعال ، لأنه لا يليق بكماله ، لأنه لا يليق بكماله ، وينافي حكمته وحمده. وعند النّفاة أنها ليست مما ينزّه الربّ عنه ، لأنها مقدورة له وهو إنما ينزه عما لا يقدر عليه ، ولكن علمنا أنها لا تقع لعدم مسببه لها ، لا لقبحها في نفسها.

فصل

النوع الثاني والعشرون : أن تعطيل الحكمة والغاية المطلوبة بالفعل إما أن يكون لعدم علم الفاعل بها ، أو تفاصيلها ، وهذا محال في حقّ من هو بكلّ شيء عليم ، وإما لعجزه عن تحصيلها ، وهذا ممتنع في حق من هو على كل شيء قدير ، وإما لعدم إرادته ومشيئته الإحسان إلى غيره وإيصال النفع إليه ، وهذا مستحيل في حقّ أرحم الراحمين ومن إحسانه من لوازم ذاته ، فلا يكون إلا محسنا منعما منّانا ، وإما لمانع يمنع من إرادتها وقصدها ، وهذا مستحيل في حق من لا يمنعه مانع عن فعل ما يريد ، وإما لاستلزامها نقصا ومنافاتها كمالا ، وهذا باطل ، بل هو قلب للحقائق وعكس للفطر ومناقضة لقضايا العقول ، فإن من يفعل ، لحكمة وغاية مطلوبة يحمد عليها ، أكمل ممن يفعل لا لشيء البتة ، كما أن من يخلق أكمل ممن لا يخلق ، ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم ، ومن يتكلم أكمل مما لا يتكلم ، ومن يقدر ويريد أكمل ممن لا يتصف بذلك ، وهذا مركوز في الفطر مستقر في العقول ، فنفي حكمته بمنزلة نفي هذه الأوصاف عنه ، وذلك يستلزم وصفه بأضدادها ، وهي أنقص النقائص.

٥١٧

ولهذا صرّح كثير من النفاة كالجويني والرازي بأنه لم يقم على نفي النقائص عن الله دليل عقلي إلا مستندا لنفي السمع والإجماع ، وحينئذ فيقال لهؤلاء : إن لم يكن في إثبات الحكمة نقص ، لم يجز نفيها ، وإن كانت نقصا ، فأين في السمع أو في الإجماع نفي هذا النقص.

وجمهور الأمة يثبت حكمته سبحانه والغايات المحمودة في أفعاله ، فليس مع النفاة سمع ولا عقل ولا إجماع ، بل السمع والعقل والإجماع والفطرة تشهد ببطلان قولهم ، والله الموفق للصواب.

وجماع ذلك أنّ كمال الرب تعالى ، وجلاله وحكمته وعدله ورحمته وقدرته وإحسانه وحمده ومجده وحقائق أسمائه الحسنى ، تمنع كون أفعاله صادرة منه لا لحكمة ولا لغاية مطلوبة ، وجميع أسمائه الحسنى تنفي ذلك ، وتشهد ببطلانه ، وإنما نبّهنا على بعض طرق القرآن ، وإلا فالأدلة التي تضمنها إثبات ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا ، وبالله التوفيق.

فصل

وكيف يتوهّم ذو فطرة صحيحة خلاف ذلك ، وهذا الوجود شاهد بحكمته وعنايته بخلقه أتم عناية ، وما في مخلوقاته من الحكم والمصالح والمنافع والغايات المطلوبة والعواقب الحميدة أعظم من أن يحيط به وصف ، أو يحصره عقل. ويكفي الإنسان فكره في نفسه وخلقه وأعضائه ومنافعها ، وقواه وصفاته وهيئاته ، فإنه لو استنفد عمره لم يحط علما بجميع ما تضمنه خلقه من الحكم والمنافع على التفصيل ، والعالم كله علويّة وسفليّة بهذه المثابة ، ولكن لشدة ظهور الحكمة ووضوحها وجد الجاحد السبيل إلى

٥١٨

إنكارها ، وهذا شأن النفوس الجاهلة الظالمة ، كما أنكرت وجود الصانع تعالى مع فرط ظهور آياته ودلائل ربوبيته ، بحيث استوعبت كل موجود ، ومع هذا فسمحت بالمكابرة في إنكاره ، وهكذا أدلّة علوّه سبحانه فوق مخلوقاته ، مع شدة ظهورها وكثرتها ، سمحت نفوس الجهمية بإنكارها ، وهكذا سواها كصدق أنبيائه ورسله ، ولا سيما خاتمهم صلوات الله وسلامه عليه ، فإنّ أدلّة صدقه في الوضوح للعقول كالشمس في دلالتها على النهار ، ومع هذا فلم يأنف الجاحدون والمكابرون من الإنكار ، وهكذا أدلة ثبوت صفات الكمال لمعطي الكمال هي من أظهر الأشياء وأوضحها ، وقد أنكرها من أنكرها ، ولا يستنكر هذا ، فإنك تجد الرجل منغمسا في النعم ، وقد أحاطت به من كل جانب ، وهو يشكي حاله ، ويسخط مما هو فيه ، وربما أنكر النعمة.

فضلال النفوس وغيّها لا حدّ له تنتهي إليه ، ولا سيما النفوس الجاهلة الظالمة.

ومن أعجب العجب أن تسمح نفس بإنكار الحكم والعلل الغائيّة والمصالح التي تضمنتها هذه الشريعة الكاملة التي هي من أدلّ الدلائل على صدق من جاء بها ، وأنه رسول الله حقا ، ولو لم يأت بمعجزة سواها ، لكانت كافية شافية ، فإن ما تضمنته من الحكم والمصالح والغايات الحميدة والعواقب السديدة شاهدة بأن الذي شرعها وأنزلها أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ، وشهود ذلك في تضاعيفها ومضمونها كشهود الحكم والمصالح والمنافع في المخلوقات العلوية والسّفلية ، وما بينهما من الحيوان والنبات والعناصر والآثار التي بها انتظام مصالح المعاش.

فكيف يرضى أحد لنفسه إنكار ذلك وجحده؟ وإن تحمّل واستحيى من العقلاء ، قال : ذلك أمر اتّفاقيّ غير مقصود بالأمر والخلق ، وسبحان الله! كيف يستجيز أحد أن يظن برب العالمين وأحكم الحاكمين أنه يعذب كثيرا

٥١٩

من خلقه أشد العذاب الأبدي لغير غاية ولا حكمة ولا سبب ، وإنما هو محض مشيئة مجردة عن الحكمة والسبب ، فلا سبب هناك ولا حكمة ولا غاية ، وهل هذا إلا من أسوأ الظن بالرب تعالى؟ وكيف يستجيز أن يظن بربه أنه أمر ونهى وأباح وحرّم وأحبّ وكره وشرع الشرائع وأمر بالحدود لا لحكمة ولا مصلحة يقصدها ، بل ما ثمّ إلا مشيئة محضة رجّحت مثلا على مثل بغير مرجّح ، وأي رحمة تكون في هذه الشريعة ، وكيف يكون المبعوث بها رحمة مهداة للعالمين لو كان الأمر كما يقول النفاة؟ وهل يكون الأمر والنهي إلا عقوبة وكلفة وعبثا ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ولو ذهبنا نذكر ما يطّلع عليه أمثالنا ، من حكمة الله في خلقه وأمره ، لزاد ذلك على عشرة آلاف موضع ، مع قصور أذهاننا ونقص عقولنا ومعارفنا وتلاشيها وتلاشي علوم الخلائق جميعهم في علم الله ، كتلاشي ضوء السراج في عين الشمس ، وهذا تقريب وإلا فالأمر فوق ذلك ، وهل إبطاله الحكم والمناسبات والأوصاف التي شرعت الأحكام لأجلها إلا إبطال للشرع جملة؟ وهل يمكن فقيها على وجه الأرض أن يتكلم في الفقه مع اعتقاده بطلان الحكمة والمناسبة والتعليل ، وقصد الشارع بالأحكام مصالح العباد؟.

وجناية هذا القول على الشرائع من أعظم الجنايات ، فإن العقلاء لا يمكنهم إنكار الأسباب والحكم والمصالح والعلل الغائية ، فإذا رأوا أن هذا لا يمكن القول به ، مع موافقة الشرائع ، ولا يمكنهم رفعه عن نفوسهم ، خلّوا الشرائع وراء ظهورهم ، وأساءوا بها الظن ، وقالوا : لا يمكننا الجمع بينها وبين عقولنا ، ولا سبيل لنا إلى الخروج عن عقولنا ، ورأوا أن القول بالفاعل المختار لا يمكن إلا مع نفي الأسباب والحكم والقوى والطبائع ، ولا سبيل إلى نفيها ، فنفوا الفاعل.

وأولئك لم يمكنهم القول بنفي الفاعل المختار ، ورأوا أنه لا يمكنهم

٥٢٠