شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

وقالت الكرامية : بل نختار من هذا الترديد كون التكوين حادثا ، وقولكم : يلزم من ذلك قيام الحوادث بذات الرب سبحانه ، فالتكوين هو فعله ، وهو قائم به ، وكأنكم قلتم : يلزم من قيام فعله به قيامه به ، وسميتم أفعاله حوادث ، وتوسلتم بهذه التسمية إلى تعطيلها ، كما سمى إخوانكم صفاته أعراضا ، وتوسلوا بهذه التسمية إلى نفيها عنه ، وكما سموا علوّه على مخلوقاته واستواءه على عرشه تحيّزا ، وتوسّلوا بهذه إلى نفيه ، وكما سموا وجهه الأعلى ويديه جوارح ، وتوسّلوا بذلك إلى نفيها.

قالوا : ونحن لا ننكر أفعال خالق السموات والأرض وما بينهما ، وكلامه وتكليمه ، ونزوله إلى السماء ، واستواءه على عرشه ، ومجيئه يوم القيامة ، لفصل القضاء بين عباده ، ونداءه لأنبيائه ورسله وملائكته ، وفعله ما شاء بتسميتكم لهذا كله حوادث ، ومن أنكر ذلك فقد أنكر كونه رب العالمين ، فإنه لا يتقرر في العقول والفطر كونه ربا للعالمين إلا بأن يثبت له الأفعال الاختيارية ، وذات لا تفعل ليست مستحقة للربوبية ولا للإلهية ، فالإجلال من هذا الإجلال واجب ، والتنزيه عن هذا التنزيه متعيّن ، فتنزيه الرب سبحانه عن قيام الأفعال به تنزيه له عن الربوبية وملكه.

قالوا : ولنا على صحة هذه المسألة أكثر من ألف دليل ، من القرآن والسنة والعقول ، وقد اعترف أفضل متأخريكم بفساد شبهكم كلها على إنكار هذه ، وذكرها شبهة شبهة ، وأفسدها ، والتزم بها جميع الطوائف حتى الفلاسفة الذي هم أبعد الطوائف من إثبات الصفات والأفعال ، قالوا : ولا يمكن إثبات حدوث العالم وكون الربّ خالقا ومتكلما وسامعا ومبصرا ومجيبا للدعوات ومدبرا للمخلوقات وقادرا ومريدا إلا القول بأنه فعّال ، وأن أفعاله قائمة به ، فإذا بطل أن يكون له فعل ، وأن تقوم بذاته الأمور المتجددة ، بطل هذا كله.

٤٠١

فصل

وقد أجاب عن هذا عبد العزيز بن يحيى الكناني في «حيدته» (١) ، فقال في سؤاله للمريسي : بأيّ شيء حدثت الأشياء؟ فقال له : أحدثها الله بقدرته التي لم تزل ، فقلت له : أحدثها بقدرته كما ذكرت ، أو ليس تقول : إنه لم يزل قادرا؟ قال : بلى ، قلت : فتقول : إنه لم يزل يفعل ، قال : لا أقول هذا ، قلت : فلا بد أن نلزمك أن تقول : إنه خلق بالفعل الذي كان بالقدرة ، لأن القدرة صفة. ثم قال عبد العزيز : لم أقل : لم يزل الخالق يخلق ، ولم يزل الفاعل يفعل ، وإنما الفعل صفة ، والله يقدر عليه ، ولا يمنعه منه مانع. فأثبت عبد العزيز فعلا مقدورا لله ، هو صفة ليس من المخلوقات ، وأنه به خلق المخلوقات ، وهذا صريح في أنّ مذهبه كمذهب السلف وأهل الحديث ، لأن الخلق غير المخلوق ، والفعل غير المفعول ، كما حكاه البغوي إجماعا لأهل السنة.

وقد صرح عبد العزيز أن فعله سبحانه القائم به ، وأنه خلق به المخلوقات ، كما صرح به البخاريّ في آخر صحيحه ، وفي كتاب خلق الأفعال ، قال في صحيحه : «باب ما جاء في تخليق السموات والأرض وغيرها من الخلائق ، وفعل الرب وأمره» ، فالربّ سبحانه بصفاته وفعله وأمره وكلامه هو الخالق المكوّن غير مخلوق ، وما كان بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه ، فهو مفعول مخلوق مكون ، فصرح إمام السّنة أنّ صفة التخليق هي

__________________

(١) كتاب «الحيدة» طبع دار عمار للنشر والتوزيع في عمان ـ الأردن.

٤٠٢

فعل الرب وأمره ، وأنه خالق بفعله وكلامه ، وجميع جند الرسول وحزبه مع محمد بن إسماعيل في هذا ، والقرآن مملوء من الدلالة عليه ، كما دلّ عليه العقل والفطرة ، قال تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ (٨١)) [يس] ثم أجاب نفسه بقوله : (بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (٨١)) [يس].

فأخبر أنه قادر على نفس فعله ، وهو أن يخلق ، فنفس أن يخلق فعل له ، وهو قادر عليه ، ومن يقول : لا فعل له ، وأن الفعل هو عين المفعول ، يقول : لا يقدر على فعل يقوم به البتة ، بل لا يقدر إلا على المفعول المباين له الحادث بغير فعل منه سبحانه ، وهذا أبلغ في الإحالة من حدوثه بغير قدرة ، بل هو في الإحالة كحدوثه بغير فاعل ، فإنّ المفعول يدلّ على قدرة الفاعل باللزوم العقلي ، ويدل على فعله الذي وجد به بالتضمّن ، فإذا سلبت دلالته التضمنية ، كان سلب دلالته اللزومية أسهل ، ودلالة المفعول على فاعله وفعله دلالة واحدة ، وهي أظهر بكثير من دلالته على قدرته وإرادته ، وذكر قدرة الرب سبحانه على أفعاله ، وتكوينه في القرآن كثير ، كقوله : (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ (٦٥)) [الأنعام] ، وأن يبعث ، هو نفس فعله ، والعذاب هو مفعوله المباين له ، وكذلك قوله : (أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (٤٠)) [القيامة].

فإحياء الموتى نفس فعله ، وحياتهم مفعوله المباين له ، وكلاهما مقدور له ، وقال تعالى : (بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (٤)) [القيامة] فتسوية البنان فعله ، واستواؤها مفعوله ، ومنكرو الأفعال يقولون : إن الرب سبحانه يقدر على المفعولات المباينة له ، ولا يقدر على فعل يقوم بنفسه ، لا لازم ، ولا متعدّ.

وأهل السنة يقولون : الرب سبحانه يقدر على هذا وعلى هذا ، وهو سبحانه له الخلق والأمر ، فالجهمية أنكرت خلقه وأمره ، وقالوا : خلقه نفس

٤٠٣

مخلوقه ، وأمره مخلوق من مخلوقاته ، فلا خلق ولا أمر ، ومن أثبت له الكلام القائم بذاته ، ونفى أن يكون له فعل ، فقد أثبت الأمر دون الخلق ، ولم يقل أحد بقيام أفعاله به ، ونفى صفة الكلام عنه ، فيثبت الأمر دون الخلق.

وأهل السنة يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه من الخلق والأمر ، فالخلق فعله ، والأمر قوله ، وهو سبحانه يقول ويفعل.

وأجابت طائفة أخرى ، من أهل السنة والحديث ، عن هذا ، بالتزام التسلسل ، وقالوا : ليس في العقل ولا في الشرع ما ينفي دوام فاعلية الرب سبحانه ، وتعاقب أفعاله شيئا قبل شيء إلى غير غاية ، كما تتعاقب شيئا بعد شيء إلى غير غاية ، فلم تزل أفعالا ، قالوا : والفعل صفة كمال ، ومن يفعل أكمل ممن لا يفعل. قالوا : ولا يقتضي صريح العقل إلا هذا ، ومن زعم أن الفعل كان ممتنعا عليه سبحانه في مدد غير مقدرة ، لا نهاية لها ، ولا يقدر أن يفعل ، ثم انقلب الفعل من الاستحالة الذاتية إلى الإمكان الذاتي ، من غير حدوث سبب ، ولا تغير في الفاعل ، فقد نادى على عقله بين الأنام. قالوا : وإذا كان هذا في العقول ، جاز أن ينقلب العالم من العدم إلى الوجود من غير فاعل ، وإن امتنع هذا في بدائه (١) العقول ، فكذلك نجد إمكان الفعل وانقلابه من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي بلا سبب ، وأما أن يكون هذا ممكنا وذاك ممتنعا ، فليس في العقول ما يقضي بذلك.

قالوا : والتسلسل لفظ مجمل ، لم يرد بنفيه ولا إثباته كتاب ناطق ولا سنة متبعة ، فيجب مراعاة لفظه ، وهو ينقسم إلى واجب ، وممتنع ، وممكن ،

__________________

(١) تصحفت في المطبوع إلى : «بداية».

٤٠٤

كالتسلسل في المؤثر محال ، ممتنع لذاته ، وهو أن يكون مؤثرين (١) ، كل واحد منهم استفاد تأثيره ممّن قبله لا إلى غاية ، والتسلسل الواجب ما دلّ عليه العقل والشرع من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد ، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم ، أحدث لهم نعيما آخر ، لا نفاد له ، وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرق الأزل ، وإن كل فعل مسبوق بفعل آخر ، فهذا واجب في كلامه ، فإنه لم يزل متكلما إذا شاء ، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت ، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته ، فإنّ كلّ حيّ فعّال ، والفرق بين الحي والميت بالفعل ، ولهذا قال غير واحد من السلف : الحي الفعال.

وقال عثمان بن سعيد : كلّ حيّ فعال ، ولم يكن ربنا سبحانه قطّ ، في وقت من الأوقات المحققة أو المقدرة ، معطّلا عن كماله من الكلام والإرادة والفعل. وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف ، كما يتسلسل في طرف الأبد ، فإنه إذا لم يزل حيا قادرا مريدا متكلما ، وذلك من لوازم ذاته ، فالفعل ممكن له بوجوب هذه الصفات له ، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل ، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه ، فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته ، تقدّم لا أول له ، فلكلّ مخلوق أول ، والخالق سبحانه لا أوّل له ، فهو وحده الخالق ، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن ، قالوا : وكل قول سوى هذا ، فصريح العقل يرده ، ويقضي ببطلانه ، وكلّ من اعترف بأن الرب سبحانه لم يزل قادرا على الفعل ، لزمه أحد الأمرين لا بد له منهما ، إمّا أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكنا ، وإما أن يقول : لم يزل واقعا ، وإلا تناقض تناقضا بيّنا ، حيث زعم أن الرب سبحانه ، لم يزل قادرا على الفعل ، والفعل محال ممتنع لذاته ، لو أراده لم يمكن وجوده ، بل فرض إرادته عنده محال ، وهو مقدور له ، وهذا قول ينقض

__________________

(١) هكذا وردت في المطبوع ، والوجه أن تكون (مؤثران).

٤٠٥

بعضه بعضا.

وأجابت طائفة أخرى بالجواب المركب على جميع التقادير ، فقالوا : سلسل الآثار إما أن يكون ممكنا أو ممتنعا ، فإن كان ممكنا ، فلا محذور في التزامه ، وإن كان ممتنعا لم يلزم من بطلانه بطلان الفعل الذي لا يكون المخلوق إلا به ، فإنا نعلم أنّ المفعول المنفصل لا يكون إلا بفعل ، والمخلوق لا يكون إلا بخلق قبل العلم بجواز التسلسل وبطلانه.

ولهذا كثير من الطوائف يقولون : الخلق غير المخلوق ، والفعل غير المفعول ، مع قولهم ببطلان التسلسل مثل كثير من أتباع الأئمة الأربعة ، وكثير من أهل الحديث والصوفية والمتكلمين ، ثم من هؤلاء من يقول : الخلق الذي هو التكوين صفة كالإرادة ، ومنهم من يقول : بل هي حادثة بعد أن لم تكن ، كالكلام والإرادة ، وهي قائمة به سبحانه ، وهم الكرّامية ومن وافقهم ، أثبتوا حدوثها وقيامها بذاته ، وأبطلوا دوامها ، فرارا من القول بحوادث لا أول لها ، وكلا الفريقين لا يقول : إن ذلك التكوين والخلق مخلوق ، بل يقول : إن المخلوق وجد به كما وجد بالقدرة. قالوا : فإذا كان القول بالتسلسل لازما لكل من قال : إنّ الربّ تعالى لم يزل قادرا على الخلق ، يمكنه أن يفعل بلا ممانع ، فهو لازم لك كما ألزمته لخصومك ، فلا ينفردون بجوابه دونك ، وأما ما ألزموك به من وجود مفعول بلا فعل ، ومخلوق بلا خالق ، فهو لازم لك وحدك.

قالوا : ونحن إنما قلنا : الفعل صفة قائمة به سبحانه ، وهو قادر عليه ، لا يمنعه منه مانع ، والفعل القائم به ليس هو المخلوق المنفصل عنه ، فلا يلزم أن يكون معه مخلوقا في الأزل إلا إذا ثبت أنّ الفعل اللازم يستلزم الفعل المتعدي ، وأن المتعدي يستلزم دوام نوع المفعولات ، ودوام نوعها يستلزم أن يكون معه سبحانه في الأزل شيء منها ، وهذه الأمور لا سبيل لك ولا لغيرك

٤٠٦

إلى الاستدلال على ثبوتها كلها ، وحينئذ فنقول : أيّ لازم لزم من إثبات فعله ، كان القول به خيرا من نفي الفعل وتعطيله ، فإن ثبت قيام فعله له من غير قيام الحوادث به ، كما يقوله كثير من الناس ، بطل قولكم ، وإن لزم من إثبات فعله قيام الأمور الاختيارية به ، والقول بأنها مفتتحة ، ولها أوّل ، فهو خير من قولكم كما تقوله الكرامية ، وإن لزم تسلسلها وعدم أوليتها في الأفعال اللازمة ، فهو خير من قولكم ، وإن لزم تسلسل الآثار وكونه سبحانه لم يزل خالقا ، كما دلّ عليه النصّ والعقل ، فهو خير من قولكم ، ولو قدّر أنه يلزم أن الخلق لم يزل مع الله قديما بقدمه ، كان خيرا من قولكم ، مع أن هذا لا يلزم ، ولم يقل به أحد من أهل الإسلام ، بل ولا أهل الملل ، فكلهم متفقون على أنّ الله وحده الخالق ، وكل ما سواه مخلوق موجود بعد عدمه ، وليس معه غيره من المخلوقات يكون وجوده مساويا لوجوده ، فما لزم بعد هذا من إثبات خلقه وأمره وصفات كماله ونعوت جلاله وكونه ربّ العالمين ، وأن كماله المقدس من لوازم ذاته ، فإنّا به قائلون ، وله ملتزمون ، كما أنّا ملتزمون لكل ما لزم من كونه حيا عليما قديرا سميعا بصيرا متكلما آمرا ناهيا فوق عرشه ، بائن من خلقه ، يراه المؤمنون بأبصارهم عيانا في الجنة وفي عرصات القيامة ، ويكلّمهم ويكلمونه ، فإن هذا حقّ ، ولازم الحقّ مثله ، وما لم يلزم من إثبات ذلك من الباطل الذي تتخيّله خفافيش القول ، فنحن له منكرون ، وعن القول به عادلون ، وبالله التوفيق.

قال القدري : كون العبد موجدا لأفعاله ، وهو الفاعل لها ، من أجلى الضروريات والبديهيات ، فإن كلّ عاقل يعلم من نفسه أنه فاعل لما يصدر منه من الأفعال الواقعة على وفق قصده وداعيته ، بخلاف حركة المرتعش والمجرور على وجهه ، وهذا لا يتمارى فيه العاقل ، ولا يقبل التشكيك والقدح في ذلك ، والاستدلال على خلافه استدلال على بطلان ما علمت صحّته بالضرورة فلا يكون مقبولا.

٤٠٧

قال السني : قد أجابك خصومك من الجبرية عن هذا ، بأنّ العاقل يعلم من نفسه وقوع الفعل مقارنا لقدرته ، ولا يعلم من نفسه أنه واقع بقدرته ، والفرق بين الأمرين ظاهر ، ولو كان وقوعه بقدرته هو المعلوم بالضرورة ، لما خالف فيه جمع عظيم من العقلاء ؛ يستحيل عليهم الإطباق على جحد الضروريات ، وهذا الجواب مما لا يشفي عليلا ، ولا يروي غليلا ، وهو عبارات لا حاصل تحتها ، فإن كل عاقل يجد من نفسه وقوع الفعل بقدرته وإرادته وداعيته ، فإن ذلك هو المؤثر في الفعل ، ويجد تفرقة ضرورية بين مقارنة القدرة والداعية للفعل ، ومقارنة طوله ولونه وشمه وغير ذلك من صفاته للفعل ، ونسبة ذلك كلّه عند الجبري إلى الفعل نسبة واحدة ، والله سبحانه أجرى العادة بخلق الفعل عند القدرة والداعي ، لا بهما ، وإنما اقترن الداعي والقدرة بالفعل اقترانا مجردا ، ومعلوم أنّ هذا قدح في الضروريات.

ولا ريب أنّ من نظر إلى تصرفات العقلاء ومعاملاتهم مع بعضهم بعضا ، وجدهم يطلبون الفعل من غيرهم طلب عالم بالاضطرار أن المطلوب منه الفعل هو المحصل له الواقع بقدرته وإرادته ، ولذلك يتلطّفون لوقوع الفعل منه بكل لطيفة ، ويحتالون عليه بكل حيلة ، فيعطونه تارة ، ويزجرونه تارة ، ويخوّفونه تارة ، ويتوصلون إلى إخراج الفعل منه بأنواع الرغبة والرهبة ، ويقولون : قد فعل فلان كذا ، فما لك لا تفعل كما فعل؟ وهذا أمر مشاهد بالحسّ والضرورة ، فالعقلاء ساكنو الأنفس إلى أن الفعل من العبد يقع ، وبه يحصل ، ولو حرك أحدهم إصبعه ، فشتمت المحرك لها ، لغضب وشتمك وقال : كيف تشتمني؟ ولم يقل : لم تشتم ربي؟ وهذا أوضح من أن يضرب له الأمثال ، أو يبسط فيه المقال.

وما يعرض في ذلك من الشّبه جار مجرى السفسطة ، وقد فطر الله العقلاء على ذم فاعل الإساءة ومدح فاعل الإحسان ، وهذا يدل على أنهم مفطورون

٤٠٨

على العلم بأنه فاعل ، لأن الذم فرع عليه ، ويستحيل أن يكون الفرع معلوما باضطرار ، والأصل ليس كذلك ، والعقلاء قاطبة يعلمون أنّ الكاتب مثلا يكتب ، إذا أراد ، ويمسك إذا أراد وكذلك الباني والصانع ، وأنه إذا عجزت قدرته ، أو عدمت إرادته ، بطل فعله فإن عادت إليه القدرة والإرادة ، عاد الفعل. وقولك : لو كان ذلك أمرا ضروريا ، لاشترك العقلاء فيه ، جوابك : أنه لا يجب الاشتراك في الضروريات.

فكثير من العقلاء يخالفون كثيرا من الضروريات ، لدخول شبهة عليهم ، ولا سيما إذا تواطئوا عليها ، وتناقلوها ، كمخالفة الفلاسفة في الإلهيات بيسير من الضروريات ، وهم جمع كثير من العقلاء.

وهؤلاء النصارى يقولون ما يعلم فساده بضرورة العقل ، وهم يناظرون عليه ، وينصرونه.

وهؤلاء الرافضة يزعمون أن أبا بكر وعمر لم يؤمنا بالله ورسوله طرفة عين ، ولم يزالا عدوين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مترصدين لقتله ، وأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام عليّا على رءوس جميع الصحابة ، وهم ينظرون إليه جهرة ، وقال : هذا وصيّي وولي العهد من بعدي ، فكلّكم له تسمعون ، وأطبقوا على كتمان هذا النص وعصيانه.

وهؤلاء الجهمية ومن قال بقولهم ، يقولون ما يخالف صريح العقل ، من وجود مفعول بلا فعل ، ومخلوق بلا خلق.

وهؤلاء الفلاسفة وهم المدلّون بعقولهم ، يثبتون ذواتا قائمة بأنفسهم خارج الذهن ، ليست في العالم ، ولا خارجة عن العالم ، ولا متصلة به ، ولا منفصلة عنه ، ولا مباينة له ، ولا محايثة ، وهو ما يعلم بصريح العقل فساده.

وهؤلاء طائفة الاتحادية ، تزعم أن الله هو هذا الوجود ، وأن التعدد

٤٠٩

والتكثير فيه وهم محض.

وهؤلاء منكرو الأسباب يزعمون أنه لا حرارة في النار تحرق بها ، ولا رطوبة في الماء يروى بها ، وليس في الأجسام أصلا لا قوى ولا طبائع ، ولا في العالم شيء يكون سببا لشيء آخر البتة ، وإن لم تكن هذه الأمور جحدا للضروريات ، فليس في العالم من جحد الضروريات ، وإن كانت جحدا للضروريات ، بطل قولكم : إن جمعا من العقلاء لا يتفقون على ذلك ، والأقوال التي يجحد بها المتكلمون الضروريات أضعاف أضعاف ما ذكرناه ، فهم أجحد الناس لما يعلم بضرورة العقل ، وكيف يصحّ ، في عقل سليم ، سميع لا سمع له ، بصير لا بصر له ، حيّ لا حياة له؟! أم كيف يصح ، عند ذي عقل ، مرئيّ يرى بالأبصار عيانا ، لا فوق الرائي ولا تحته ، ولا عن يمينه ولا عن شماله ، ولا عن يساره ولا خلفه ، ولا أمامه؟! أم كيف يصح عند ذي عقل إثبات كلام قديم أزليّ ، لو كان البحر يمده من بعده سبعة أبحر ، وجميع أشجار الأرض على اختلافها وكبرها وصغرها أقلام ، يكتب به ، لنفدت البحار ، وفنيت الأقلام ، ولم يفن ذلك الكلام ، ومع هذا فهو معنى واحد ، لا جزء له ، ولا ينقسم ، وهو والنهي فيه عين الأمر ، والنفي فيه عين الإثبات ، والخبر فيه عين الاستخبار ، والتوراة فيه عين الإنجيل وعين القرآن ، وذلك كله أمر واحد ، إنما يختلف بمسمياته ونسبه ، وقد أطبق على هذا جمع عظيم من العقلاء ، وكفّروا من خالفهم فيه ، واستحلّوا منهم ما حرمه الله.

وهؤلاء الجهمية يقولون : إن للعالم صانعا قائما بذاته ، ليس في العالم ، ولا هو خارج العالم ، ولا فوق العالم ، ولا تحته ولا خلفه ولا أمامه ولا عن يمينه ولا عن يسرته ، ولا هو مباين له ولا محايث له ، فوصفوا واجب الوجود بصفة ممتنع الوجود ، وكفّروا من خالفهم في ذلك ، واستحلوا دمه ،

٤١٠

وقالوا ما يعلم فساده بصريح العقل.

ولو ذهبنا نذكر ما جحد فيه أكثر الطوائف الضروريات ، لطال الكتاب جدا.

وهؤلاء النصارى قد طبقت شرق الأرض وغربها ، وهم من أعظم الناس جحدا للضروريات.

وهؤلاء الفلاسفة هم أهل المعقولات ، وهم من أكثر الناس جحدا للضروريات.

فاتفاق طائفة من الطوائف على المقالة ، لا يدل على مخالفتها لصريح العقل ، وبالله التوفيق.

فصل

قال القدري : قال الله سبحانه : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (٧٩)) [النساء] وعند الجبري أن الكلّ فعل الله ، وليس من العبد شيء.

قال الجبري : في الكلام استفهام مقدّر ، تقديره : أفمن نفسك؟ فهو إنكار لا إثبات ، وقرأها بعضهم : فمن نفسك بفتح الميم ، ورفع نفسك ، أي : من أنت حتى تفعلها؟! قال : ولا بدّ من تأويل الآية ، وإلا ناقض قوله في الآية التي قبلها : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ (٧٨)) [النساء] فأخبر أن الحسنات والسيئات جميعا من عنده ، لا من عند العبد.

٤١١

قال السني : أخطأتما جميعا في فهم الآية أقبح الخطأ ، ومنشأ غلطكما أن الحسنات والسيئات في الآية ، المراد بها الطاعات والمعاصي التي هي فعل العبد الاختياري ، وهذا وهم محض في الآية ، وإنما المراد بها : النعم والمصائب. ولفظ الحسنات والسيئات في كتاب الله ، يراد به هذا تارة ، وهذا تارة ، فقوله تعالى : (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها (١٢٠)) [آل عمران] وقوله : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ (٥٠)) [التوبة] وقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ (١٦٨)) [الأعراف] وقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨)) [الشورى] وقوله : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ (١٣١)) [الأعراف] وقوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (٧٩)) [النساء].

المراد في هذا كله النعم والمصائب.

وأما قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها (١٦٠)) [الأنعام] وقوله : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ (١١٤)) [هود] وقوله : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ (٧٠)) [الفرقان] والمراد في هذا كله الأعمال المأمور بها والمنهي عنها ، وهو سبحانه إنما قال : ما أصابك ، ولم يقل : ما أصبت وما كسبت ، فما يفعله العبد يقال فيه : ما أصبت وكسبت وعملت كقوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ (١٢٤)) [النساء] وكقوله : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (١٢٣)) [النساء] (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً (١١٢)) [النساء] وقول المذنب التائب : يا رسول الله : أصبت ذنبا ، فأقم عليّ كتاب الله ، ولا يقال في هذا : أصابك ذنب ، وأصابتك سيئة.

وما يفعل به بغير اختياره يقال فيه : أصابك كقوله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ (٣٠)) [الشورى] وقوله : (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ

٤١٢

يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ (٥٠)) [التوبة] وقوله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها (١٦٥)) [آل عمران] فجمع الله في الآية بين ما أصابوا بفعلهم وكسبهم وما أصابهم مما ليس فعلا لهم وقوله : (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ (٥٢)) [التوبة]. وقوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ (٣١)) [الرعد] وقوله : (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ (١٠٦)) [المائدة].

فقوله : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ (٧٩)) [النساء] هو من هذا القسم الذي يصيبه العبد ، لا باختياره ، وهذا إجماع من السلف في تفسير هذه الآية.

قال أبو العالية : وإن تصبكم حسنة ، هذا في السّرّاء ، وإن تصبهم سيئة ، هذا في الضراء.

قال السدي : الحسنة : الخصب ، تنتج مواشيهم وأنعامهم ، ويحسن حالهم ، فتلد نساؤهم الغلمان. قالوا : هذا من عند الله ، وإن تصبهم سيئة ، قال : الضر في أموالهم ، تشاءموا بمحمد ، وقالوا : هذه من عنده ، قالوا : بتركنا ديننا ، واتباعنا محمدا ، أصابنا ما أصابنا ، فأنزل الله سبحانه ردّا عليهم (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ (٧٨)) [النساء] الحسنة والسيئة.

وقال الوالبي ، عن ابن عباس : «ما أصابك من حسنة فمن الله» ، قال : ما فتح الله عليك يوم بدر ، وقال أيضا : هو الغنيمة والفتح ، والسيئة ما أصابه يوم أحد ، شجّ في وجهه ، وكسرت رباعيته. وقال : أما الحسنة فأنعم الله بها عليك ، وأما السيئة فابتلاك بها. وقال أيضا : ما أصابك من نكبة فبذنبك ، وأنا قدّرت ذلك عليك. ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم. وفي تفسير أبي صالح عن ابن عباس : إن تصبك حسنة : الخصب ، وإن تصبك سيئة : الجدب والبلاء.

وقال ابن قتيبة في هذه الآية : الحسنة : النعمة ، والسيئة : البلية.

٤١٣

فإن قيل : فقد حكى أبو الفرج بن الجوزي عن أبي العالية ، أنه فسر الحسنة والسيئة ، في هذه الآية ، بالطاعة والمعصية ، وهو من أعلم التابعين ، فالجواب : إنه لم يذكر بذلك إسنادا ، ولا نعلم صحته عن أبي العالية ، وقد ذكر ابن أبي حاتم بإسناده عن أبي العالية ما تقدم حكايته ، أن ذلك في السراء والضراء ، وهذا هو المعروف عن أبي العالية ، ولم يذكر ابن أبي حاتم عنه غيره ، وهو الذي حكاه ابن قتيبة عنه.

وقد يقال : إن المعنيين جميعا مرادان ، باعتبار أن ما يوفّقه الله من الطاعات فهو نعمة في حقه ، أصابته من الله ، كما قال (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ (٥٣)) [النحل] فهذا يدخل فيه نعم الدين والدنيا ، وما يقع منه من المعصية فهو مصيبة أصابته من الله ، وإن كان سببها منه ، والذي يوضح ذلك أن الله سبحانه إذا جعل السيئة هي الجزاء على المعصية من نفس العبد بقوله (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ (٧٩)) [النساء] فالعمل الذي أوجب الجزاء أولى أن يكون من نفسه ، فلا منافاة بين أن تكون سيئة العمل من نفسه ، وسيئة الجزاء من نفسه ، ولا ينافي ذلك أن يكون الجميع من الله قضاء وقدرا ، ولكن هو من الله عدل وحكمة ومصلحة وحسن ، ومن العبد سيئة وقبيح ، وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأها : وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وأنا قدرتها عليك.

وهذه القراءة زيادة بيان ، وإلا فقد دلّ قوله قبل ذلك : قل كلّ من عند الله ، على القضاء السابق والقدر النافذ ، والمعاصي قد تكون بعضها عقوبة بعض ، فيكون لله على المعصية عقوبتان ، عقوبة بمعصية تتولد منها ، وتكون الأولى سببا فيها ، وعقوبة بمؤلم يكون جزاءها ، كما في الحديث المتفق على صحته ، عن ابن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ ، والبرّ يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ، ويتحرّى الصدق

٤١٤

حتى يكتب عند الله صدّيقا ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، والفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا» (١).

وقد ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه ، أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الحسنة الأولى ، وأن المعصية قد تكون عقوبة للمعصية الأولى ، فالأول كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨)) [النساء] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (٦٩)) [العنكبوت] وقال : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)) [المائدة].

وأما قوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥)) [محمد] فيحتمل أن لا يكون من هذا وتكون الهداية في الآخرة إلى طريق الجنة ، فإنه رتب هذا الجزاء على قتلهم ، ويحتمل أن يكون منه ، ويكون قوله : «سيهديهم ويصلح بالهم» إخبارا منه سبحانه عما يفعله بهؤلاء الذين قتلوا في سبيله قبل أن قتلوا ، وأتى به بصيغة المستقبل إعلاما منه بأنه يجدد له كل وقت نوعا من أنواع الهداية. وإصلاح البال شيئا بعد شيء.

فإن قلت : فكيف يكون ذلك المستقبل خبرا عن الذين قتلوا؟.

قلت : الخبر قوله : (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤)) [محمد] أي : أنه لا يبطلها عليهم ، ولا يترهم إياها ، هذا بعد أن قتلوا ، ثم أخبر سبحانه خبرا مستأنفا عنهم ، أنه سيهديهم ويصلح بالهم ، لما علم أنهم سيقتلون في سبيله ، وأنهم

__________________

(١) رواه البخاري (٦٠٩٤) ، ومسلم (٢٦٠٧) عن عبد الله بن مسعود.

٤١٥

بذلوا أنفسهم له ، فلهم جزاءان ، جزاء في الدنيا بالهداية على الجهاد ، وجزاء في الآخرة بدخول الجنة ، فيردّ السامع كلّ جملة إلى وقتها ، لظهور المعنى وعدم التباسه ، وهو في القرآن كثير ، والله أعلم.

وقال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ (٢٤)) [يوسف] وقال : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤)) [القصص] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ (٧١)) [الأحزاب] وقال : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا (٥٤)) [النور] وقال : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ (١٥٤)) [الأنعام] فضمّن التمام معنى الإنعام ، فعدّاه بعلى ، أي : إنعاما منا على الذي أحسن ، وهذا جزاء على الطاعات بالطاعات.

وأما الجزاء بالمعاصي على المعاصي فكقوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ (٥)) [الصف] وقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ (١٩)) [الحشر] وقوله : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)) [الأنعام] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا (١٥٥)) [آل عمران] وقوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨)) [البقرة] وقوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥)) [التوبة].

وهو كثير في القرآن ، وعلى هذا فيكون النوعان من السيئات ، أعني المصائب والمعايب ، من نفس الإنسان ، وكلاهما بقدر الله ، فشرّ النفس هو الذي أوجب هذا وهذا ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في خطبته المعروفة : «ونعوذ

٤١٦

بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا» (١).

فشرّ النفس نوعان : صفة وعمل ، والعمل ينشأ عن الصفة ، والصفة تتأكّد وتقوى بالعمل ، فكل منهما يمدّ الآخر. وسيئات الأعمال نوعان : قد فسرهما الحديث ، أحدهما : مساويها وقبائحها ، فتكون الإضافة فيه من النوع إلى جنسه ، وهي إضافة بمعنى «من» أي : السيئات من أعمالنا. والثاني : أنها ما يسوء العامل مما يعود عليه من عقوبة عمله ، فيكون من إضافة المسبب إلى سببه ، وتكون الإضافة على معنى «اللام» وقد يرجح الأول بأنه يكون قد استعاذ من الصفة والعمل الناشئ عنها ، وذلك يتضمن الاستعاذة من الجزاء السيئ المترتب على ذلك ، فتضمنت الاستعاذة ثلاثة أمور : الاستعاذة من العذاب ، ومن سببه الذي هو العمل ، ومن سبب العمل الذي هو الصفة ، وقد يرجح الثاني أنّ شرّ النفس يعمّ النوعين كما تقدم ، فسيئات الأعمال ما يسوء من جزائها ، ونبّه بقوله : سيئات أعمالنا ، على أن الذي يسوء من الجزاء ، إنما هو بسبب الأعمال الإرادية ، لا من الصفات التي ليست من أعمالنا ، ولما كانت تلك الصفة شرا ، استعاذ منها ، وأدخلها في شر النفس.

وقال الصدّيق ، رضي الله تعالى عنه ، للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : علّمني دعاء أدعو به في صلاتي ، قال : «قل : اللهمّ فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، ربّ كل شيء ومليكه ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شرّ نفسي وشر الشيطان وشركه ، وأن أقترف على نفسي سوء أو أجرّه إلى مسلم ، قله إذا أصبحت ، وإذا أمسيت ، وإذا أخذت مضجعك» (٢).

__________________

(١) صحيح. رواه أحمد (١ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣) ، وأبو داود (٢١١٨) ، والترمذي (١١٠٥) ، والنسائي (٦ / ٨٩) عن ابن مسعود.

(٢) صحيح. رواه أحمد (١ / ٩ ـ ١٠) و (٢ / ٢٩٧) ، وأبو داود (٥٠٦٧) ، والترمذي (٣٣٩٢) وغيرهم عن أبي هريرة.

٤١٧

ولما كان الشر له مصدر يبتدئ منه ، وغاية ينتهي إليها ، وكان مصدرها إما من نفس الإنسان ، وإما من الشيطان ، وغايته أن يعود على صاحبه أو على أخيه المسلم ، تضمّن الدعاء هذه المراتب الأربعة بأوجز لفظ وأوضحه وأبينه.

فصل

قال السني : فليس لك أيها القدريّ أن تحتجّ بالآية التي نحن فيها لمذهبك ، لوجوه ، أحدها : أنك تقول : فعل العبد حسنة كان أو سيئة هو منه ، لا من الله ، بل الله سبحانه قد أعطى كل واحد من الاستطاعة ما يفعل به الحسنات والسيئات ، ولكن هذا أحدث من عند نفسه إرادة ، فعل بها الحسنات ، وهذا أحدث إرادة ، فعل بها السيئات ، وليست واحدة من الإرادتين من إحداث الربّ سبحانه البتة ، ولا أوجبتها مشيئته. والآية قد فرّقت بين الحسنة والسيئة ، وأنتم لا تفرقون بينهما ، فإن الله عندكم لم يشأ هذا ولا هذا.

قال القدري : إضافة السيئة إلى نفس العبد ، لكونه هو الذي أحدثها وأوجدها ، وأضاف الحسنة إليه سبحانه ، لكونه هو الذي أمر بها وشرعها.

قال السني : الله سبحانه أضاف إلى العبد ما أصابه من سيئة ، وأضاف إلى نفسه ما أصاب العبد من حسنة ، ومعلوم أن الذي أصاب العبد هو الذي قام به ، والأمر لم يقم بالعبد ، وإنما قام به المأمور ، وهو الذي أصابه ، فالذي أصابه لا تصح إضافته إلى الربّ عندكم ، والمضاف إلى الربّ لم يقم بالعبد ، فعلم أن الذي أصابه من هذا وهذا أمر قائم به ، فلو كان المراد به الأفعال

٤١٨

الاختيارية من الطاعات والمعاصي ، لاستوت الإضافة ، ولم يصح الفرق ، وإن افترقا في كون أحدهما مأمورا به والآخر منهيا عنه ، على أنّ النهي أيضا من الله ، كما أن الأمر منه ، فلو كانت الإضافة لأجل الأمر ، لاستوى المأمور والمنهيّ في الإضافة ، لأن هذا مطلوب إيجاده ، وهذا مطلوب إعدامه.

قال القدري : أنا أجوّز تعلّق الطاعة والمعصية بمشيئة الرب سبحانه وإحداثه ، على وجه الجزاء ، لا على سبيل الابتداء ، وذلك أن الله سبحانه يعاقب عبده بما شاء ، ويثيبه ، فكما يعاقبه بخلق الجزاء الذي يسوؤه ، وخلق الثواب الذي يسرّه ، ولذلك يحسن أن يعاقبه بخلق المعصية وخلق الطاعة ، فإن هذا يكون عدلا منه ، وأما أن يخلق فيه الكفر والمعصية ابتداء بلا سبب ، فمعاذ الله من ذلك.

قال السني : هذا توسّط حسن جدا ، لا يأباه العقل ولا الشرع ، ولكن من ابتدأ الأول ، وليس هو عندك مقدورا لله ، ولا واقعا بمشيئته ، فقد أثبت في ملكه ما لا يقدر عليه ، وأدخلت فيه ما لا يشاء ، ونقضت أصلك كله ، فإنك أصّلت أنّ فعل العبد الاختياري قدرة العبد عليه واختياره له ، ومشيئته تمنع قدرة الرب عليه ومشيئته له ، وهذا الأصل لا فرق فيه بين الابتدائي والجزائي.

قال القدري : فالقرآن قد فرّق بين النوعين ، وجعل الكفر والفسوق الثاني جزاء على الأول ، فعلم أن الأول من العبد قطعا ، وإلا لم يستقم جعل أحدهما عقوبة على الآخر ، وقد صرح بذلك في قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً (١٣)) [المائدة] فأضاف نقض الميثاق إليهم ، وتقسية القلوب إليه ، فالأول سبب منهم ، والثاني جزاء منه سبحانه ، قال تعالى : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠)) [الأنعام] فأضاف عدم الإيمان أولا إليهم ، إذ هو السبب ،

٤١٩

وتقليب القلوب وتركهم في طغيانهم هو الجزاء ، ومثله قوله : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ (٥)) [الصف] والآيات التي سمعتموها آنفا ، إنما تدل على هذا.

قال السني : نعم! هذا حق ، لكن ليس فيه إخراج السبب عن كونه مقدورا للرب سبحانه واقعا بمشيئته ، ولو شاء لحال بين العبد وبينه ، ووفقه لضده ، فهي البقية التي بقيت عليك من القدر ، كما أنّ إنكار إثبات الأسباب واقتضائها لمسبباتها وترتبها عليها هي البقية التي بقيت على الجبريّ في المسألة أيضا ، وكلاكما مصيب من وجه ، مخطئ من وجه ، ولو تخلص كلّ منكما من البقية التي بقيت عليه ، لوجدتما روح الوفاق ، واصطلحتما على الحق ، وبالله التوفيق.

قال القدري : فما تقول أنت أيها السني في العقل الأول ، إذا لم يكن جزاء ، فما وجهه؟ وأنت ممن يقول بالحكمة والتعليل ، وتنزّه الربّ سبحانه عن الظلم الذي هو ظلم ، لا ما يقوله الجبري أنه الجمع بين النقيضين.

قال السني : لا يلزمني في هذا المقام بيان ذلك ، فإني لم أنتصب له ، إنما انتصبت لإبطال احتجاجك بالآية ، لمذهبك الباطل ، وقد وفيت به ، ولله في ذلك حكم وغايات محمودة ، لا تبلغها عقول العقلاء ، ومباحث الأذكياء ، فالله سبحانه إنما يضع فضله وتوفيقه وإمداده في المحلّ الذي يصلح له ، وما لا يصلح له من المحالّ يدعه غفلا فارغا من الهدى والتوفيق ، فيجري مع طبعه الذي خلق عليه ، ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون.

قال القدري : فإذا كان الله سبحانه قد أحدث فيهم تلك الإرادة والمشيئة المستلزمة لوجود الفعل ، كان ذلك إيجادا منه سبحانه لذلك فيهم ، كما أوجد الهدى والإيمان في أهله.

٤٢٠