شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

واستمكنت ، لم يمكنه صرف قلبه عن الهوى والمحبة ، فيطبع على قلبه ويختم عليه ، فلا يبقى فيه محلّ لغير ما يهواه ويحبه ، وكان الانصراف مقدورا له في أول الأمر ، فلما تمكنت أسبابه لم يبق مقدورا له ، كما قال الشاعر :

تولّع بالعشق حتى عشق

فلما استقلّ به لم يطق

رأى لجّة ظنها موجة

فلما تمكّن منها غرق

فلو أنهم بادروا ، في مبدأ الأمر ، إلى مخالفة الأسباب الصادة عن الهدى ، لسهل عليهم ، ولما استعصى عليهم ، ولقدروا عليه.

ونظير ذلك المبادرة إلى إزالة العلة قبل استحكام أسبابها ولزومها للبدن لزوما لا ينفك منها ، فإذا استحكمت العلة ، وصارت كالجزء من البدن ، عزّ على الطبيب استنقاذ العليل منها.

ونظير ذلك المتوحّل في حمأة ، فإنه ما لم يدخل تحتها ، فهو قادر على التخلص ، فإذا توسط معظمها ، عزّ عليه وعلى غيره إنقاذه.

فمبادئ الأمور مقدورة للعبد ، فإذا استحكمت أسبابها ، وتمكنت ، لم يبق الأمر مقدورا له.

فتأمل هذا الموضع حق التأمل ، فإنه من أنفع الأشياء في باب القدر. والله الموفق للصواب ، والله سبحانه جاعل ذلك كله وخالقه فيهم بأسباب منهم ، وتلك الأسباب قد تكون أمورا عدمية ، يكفي فيها عدم مشيئة أضدادها ، فلا يشاء سبحانه أن يخلق للعبد أسباب الهدى ، فيبقى على العدم الأصلي ، وإن أراد من عبده الهداية ، فهي لا تحصل حتى يريد من نفسه إعانته وتوفيقه ، فإذا لم يرد سبحانه من نفسه ذلك ، لم تحصل الهداية.

٢٤١

فصل

ومما ينبغي أن يعلم : أنه لا يمتنع ، مع الطبع والختم والقفل ، حصول الإيمان بأن يفكّ الذي ختم على القلب وطبع عليه وضرب عليه القفل ذلك الختم والطابع والقفل ، ويهديه بعد ضلاله ، ويعلّمه بعد جهله ، ويرشده بعد غيّة ، ويفتح قفل قلبه بمفاتيح توفيقه التي هي بيده ، حتى لو كتب على جبينه الشقاوة والكفر ، لم يمتنع أن يمحوها ، ويكتب عليه السعادة والإيمان.

وقرأ قارئ عند عمر بن الخطاب : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)) [محمد] ، وعنده شاب ، فقال : اللهمّ عليها أقفالها ، ومفاتيحها بيدك ، لا يفتحها سواك ، فعرفها له عمر ، وزادته عنده خيرا. وكان عمر يقول في دعائه : اللهم إن كنت كتبتني شقيا ، فامحني ، واكتبني سعيدا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت. فالرب تعالى فعال لما يريد ، لا حجر عليه.

وقد ضلّ هاهنا فريقان : القدرية حيث زعمت أن ذلك ليس مقدورا للرب ، ولا يدخل تحت فعله ، إذ لو كان مقدورا له ، ومنعه العبد لناقض جوده ولطفه.

والجبرية حيث زعمت أنه سبحانه إذا قدّر قدرا ، أو علم شيئا ، فإنه لا يغيّره بعد هذا ، ولا يتصرف فيه بخلاف ما قدّره وعلمه.

والطائفتان حجرت على من لا يدخل تحت حجر أحد أصلا ، وجميع خلقه تحت حجره شرعا وقدرا ، وهذه المسألة من أكبر مسائل القدر. وسيمر بك إن شاء الله في باب المحو والإثبات ما يشفيك فيها. والمقصود أنه مع

٢٤٢

الطبع والختم والقفل لو تعرض العبد ، أمكنه فكّ ذلك الختم والطابع وفتح ذلك القفل ، يفتحه من بيده مفاتيح كل شيء. وأسباب الفتح مقدورة للعبد غير ممتنعة عليه ، وإن كان فك الختم وفتح القفل غير مقدور له ، كما أنّ شرب الدواء مقدور له ، وزوال العلة وحصول العافية غير مقدور ، فإذا استحكم به المرض ، وصار صفة لازمة له ، لم يكن له عذر في تعاطي ما إليه من أسباب الشفاء ، وإن كان غير مقدور له ، ولكن لما ألف العلة وساكنها ، ولم يحبّ زوالها ، ولا آثر ضدها عليها ، مع معرفته بما بينها وبين ضدها من التفاوت ، فقد سدّ على نفسه باب الشفاء بالكلية ، والله سبحانه يهدي عبده ، إذا كان ضالا ، وهو يحسب أنه على هدى ، فإذا تبين له الهدى لم يعدل عنه لمحبته وملاءمته لنفسه ، فإذا عرف الهدى ، فلم يحبه ولم يرض به ، وآثر عليه الضلال ، مع تكرر تعريفه منفعة هذا وخيره ، ومضرّة هذا وشره ، فقد سد على نفسه باب الهدى بالكلية ، فلو أنه في هذه الحال تعرض وافتقر إلى من بيده هداه ، وعلم أنه ليس إليه هدى نفسه ، وأنه إن لم يهده الله فهو ضال ، وسأل الله أن يقبل بقلبه ، وأن يقيه شرّ نفسه ، وفّقه وهداه ، بل لو علم الله منه كراهية بما هو عليه من الضلال وأنه مرض قاتل ، إن لم يشفه منه أهلكه ، لكانت كراهته وبغضه إياه مع كونه مبتلى به ، من أسباب الشفاء والهداية ، ولكن من أعظم أسباب الشقاء والضلال محبته له ورضاه به ، وكراهته الهدى والحق. فلو أن المطبوع على قلبه المختوم عليه كره ذلك ، ورغب إلى الله في فك ذلك عنه ، وفعل مقدوره ، لكان هداه أقرب شيء إليه ، ولكن إذا استحكم الطبع والختم ، حال بينه وبين كراهة ذلك وسؤال الرب فكه وفتح قلبه.

٢٤٣

فصل

فإن قيل : فإذا جوّزتم أن يكون الطبع والختم والقفل عقوبة وجزاء ، على الجرائم والإعراض والكفر السابق على فعل الجرائم. قيل : هذا موضع يغلط فيه أكثر الناس ، ويظنون بالله سبحانه خلاف موجب أسمائه وصفاته. والقرآن من أوله إلى آخره إنما يدلّ على أنّ الطبع والختم والغشاوة لم يفعلها الرب سبحانه بعبده من أول وهلة ، حين أمره بالإيمان أو بيّنه له ، وإنما فعله بعد تكرار الدعوة منه سبحانه ، والتأكيد في البيان والإرشاد ، وتكرار الإعراض منهم والمبالغة في الكفر والعناد ، فحينئذ يطبع على قلوبهم ، ويختم عليها ، فلا تقبل الهدى بعد ذلك ، والإعراض والكفر الأول لم يكن مع ختم وطبع ، بل كان اختيارا ، فلما تكرر منهم ، صار طبيعة وسجية ، فتأمل هذا المعنى في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)) [البقرة].

ومعلوم أنّ هذا ليس حكما يعم جميع الكفار ، بل الذين آمنوا وصدقوا الرسل كان أكثرهم كفارا قبل ذلك ، ولم يختم على قلوبهم وعلى أسماعهم ، فهذه الآيات في حق أقوام مخصوصين من الكفار ، فعل الله بهم ذلك عقوبة منه لهم في الدنيا بهذا النوع من العقوبة العاجلة ، كما عاقب بعضهم بالمسخ قردة وخنازير ، وبعضهم بالطمس على أعينهم. فهو سبحانه يعاقب بالطمس على القلوب ، كما يعاقب بالطمس على الأعين ، وهو سبحانه قد يعاقب بالضلال عن الحق عقوبة دائمة مستمرة ، وقد يعاقب به إلى وقت ، ثم يعافي عبده ، ويهديه ، كما يعاقب بالعذاب كذلك.

٢٤٤

فصل

وهاهنا عدة أمور عاقب بها الكفار بمنعهم عن الإيمان ، وهي : الختم ، والطبع ، والأكنّة ، والغطاء ، والغلاف ، والحجاب ، والوقر ، والغشاوة ، والران ، والغل ، والسد ، والقفل ، والصمم ، والبكم ، والعمى ، والصد والصرف ، والشد على القلب ، والضلال ، والإغفال ، والمرض ، وتقليب الأفئدة ، والحول بين المرء وقلبه ، وإزاغة القلوب ، والخذلان ، والإركاس ، والتثبيط ، والتزيين ، وعدم إرادة هداهم وتطهيرهم ، وإماتة قلوبهم بعد خلق الحياة فيها ، فتبقى على الموت ، وإمساك النور عنها ، فتبقى في الظلمة الأصلية ، وجعل القلب قاسيا لا ينطبع فيه مثال الهدى وصورته ، وجعل الصدر ضيقا حرجا لا يقبل الإيمان.

وهذه الأمور منها ما يرجع إلى القلب ، كالختم والطبع والقفل والأكنة والإغفال والمرض ونحوها ، ومنها ما يرجع إلى رسوله الموصل إليه الهدى ، كالصمم والوقر ، ومنها ما يرجع إلى طليعته ورائده كالعمى والغشا ، ومنها ما يرجع إلى ترجمانه ورسوله المبلغ عنه كالبكم النطقي ، وهو نتيجة البكم القلبي ، فإذا بكم القلب بكم اللسان ، ولا تصغ إلى قول من يقول : إن هذه مجازات واستعارات ، فإنه قال بحسب مبلغه من العلم والفهم عن الله ورسوله ، وكأن هذا القائل ، حقيقة القفل عنده أن يكون من حديد ، والختم أن يكون بشمع أو طين ، والمرض أن يكون حمى بنافض أو قولنج أو غيرهما من أمراض البدن ، والموت هو مفارقة الروح للبدن ، ليس إلا ، والعمى ذهاب ضوء العين الذي تبصر به. وهذه الفرقة من أغلظ الناس

٢٤٥

حجابا ، فإن هذه الأمور إذا أضيفت إلى محالها ، كانت بحسب تلك المحال ، فنسبة قفل القلب إلى القلب كنسبة قفل الباب إليه ، وكذلك الختم والطابع الذي عليه ، هو بالنسبة إليه كالختم والطابع الذي على الباب والصندوق ونحوهما ، وكذلك نسبة الصمم والعمى إلى الأذن والعين ، وكذلك موته وحياته نظير موت البدن وحياته ، بل هذه الأمور ألزم للقلب منها للبدن ، فلو قيل : إنها حقيقة في ذلك ، مجاز في الأجسام المحسوسة ، لكان مثل قول هؤلاء وأقوى منه ، كلاهما باطل.

فالعمى في الحقيقة والبكم والموت والقفل للقلب ، ثم قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)) [الحج]. والمعنى أنه معظم العمى وأصله ، وهذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما الربا في النسيئة» (١) ، وقوله : «إنما الماء من الماء» (٢) ، وقوله : «ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس» (٣) ، قوله : «ليس المسكين الذي تردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، إنما المسكين الذي لا يجد ما يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه» (٤) ، وقوله : «ليس الشديد بالصّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (٥).

ولم يرد نفي الاسم عن هذه المسميات ، إنما أراد أن هؤلاء أولى بهذه الأسماء وأحق ممن يسمونه بها ، فهكذا قوله : (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى

__________________

(١) رواه البخاري (٢١٧٨) ، (٢١٧٩) ، ومسلم (١٥٩٦) عن أبي سعيد وأسامة بن زيد.

(٢) رواه مسلم (٣٤٣) عن أبي سعيد الخدري.

(٣) رواه البخاري (٦٤٤٦) ، ومسلم (١٠٥١) عن أبي هريرة.

(٤) رواه البخاري (١٤٧٦) و (١٤٧٩) و (٤٥٣٩) ، ومسلم (١٠٣٩) عن أبي هريرة.

(٥) رواه البخاري (٦١١٤) ، ومسلم (٢٦٠٩) عن أبي هريرة.

٢٤٦

الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ، وقريب من هذا قوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ (١٧٧)) [البقرة] الآية.

وعلى التقديرين فقد أثبت للقلب عمى حقيقة ، وهكذا جميع ما نسب إليه ، ولما كان القلب ملك الأعضاء ، وهي جنوده ، وهو الذي يحركها ويستعملها ، والإرادة والقوى والحركة الاختيارية تنبعث ، كانت هذه الأمثال أصلا وللأعضاء تبعا ، فلنذكر هذه الأمور مفصلة ومواقعها في القرآن ، فقد تقدم الختم. قال الأزهري : وأصله التغطية ، وختم البذر في الأرض : إذا غطاه.

قال أبو إسحاق : معنى ختم وطبع في اللغة واحد ، وهو التغطية على الشيء ، والاستيثاق منه ، فلا يدخله شيء ، كما قال تعالى : (أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)) [محمد] ، وكذلك قوله : (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ (١٦)) [محمد]. قلت : الختم والطبع يشتركان فيما ذكر ، ويفترقان في معنى آخر ، وهو أن الطبع ختم يصير سجيّة وطبيعة ، فهو تأثير لازم لا يفارق ، وأما الأكنّة ففي قوله تعالى : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ (٢٥)) [الأنعام] وهي جمع كنان كعنان وأعنة ، وأصله من الستر والتغطية ، ويقال : كنه وأكنه. وكنان بمعنى واحد ، بل بينهما فرق ، فأكنّه إذا ستره وأخفاه كقوله تعالى : (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ (٢٣٥)) [البقرة]. وكنه إذا صانه وحفظه كقوله : بيض مكنون ، ويشتركان في الستر. والكنان ما أكن الشيء وستره ، وهو كالغلاف ، وقد أقروا على أنفسهم بذلك ، فقالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ (٥)) [فصلت] فذكروا غطاء القلب ، وهي الأكنة ، وغطاء الأذن وهو الوقر ، وغطاء العين وهو الحجاب. والمعنى : لا نفقه كلامك ، ولا نسمعه ، ولا نراك. والمعنى : إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول ، ولا يراك. قال ابن عباس : قلوبنا في أكنة مثل الكنانة التي

٢٤٧

فيها السهام. وقال مجاهد : كجعبة النبل. وقال مقاتل : عليها غطاء ، فلا نفقه ما تقول.

فصل

وأما الغطاء فقال تعالى : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١)) [الكهف] وهذا يتضمن معنيين :

أحدهما : أن أعينهم في غطاء عما تضمّنه الذّكر من آيات الله وأدلة توحيده وعجائب قدرته.

والثاني : أن أعين قلوبهم في غطاء عن فهم القرآن وتدبره والاهتداء به ، وهذا الغطاء للقلب أولا ، ثم يسري منه إلى العين.

فصل

وأما الغلاف فقال تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ (٨٨)) [البقرة] وقد اختلف في معنى قولهم : قلوبنا غلف. فقالت طائفة : المعنى : قلوبنا أوعية للحكمة والعلم ، فما بالها لا تفهم عنك ما أتيت به ، أو لا تحتاج إليك؟ وعلى هذا فيكون غلف جمع غلاف. والصحيح قول أكثر المفسرين : إن المعنى : قلوبنا لا تفقه ولا تفهم ما تقول ، وعلى هذا فهو

٢٤٨

جمع أغلف كأحمر وحمر.

قال أبو عبيدة : كل شيء في غلاف ، فهو أغلف ، كما يقال : سيف أغلف ، وقوس أغلف ، ورجل أغلف «غير مختون».

قال ابن عباس وقتادة ومجاهد : على قلوبنا غشاوة ، فهي في أوعية ، فلا تعي ولا تفقه ما تقول ، وهذا هو الصواب في معنى الآية لتكرر نظائره في القرآن كقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ (٥)) [فصلت] وقوله تعالى : (كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي (١٠١)) [الكهف] ونظائر ذلك.

وأما قول من قال : هي أوعية للحكمة ، فليس في اللفظ ما يدل عليه البتة ، وليس له في القرآن نظير يحمل عليه ، ولا يقال مثل هذا اللفظ في مدح الإنسان نفسه بالعلم والحكمة ، فأين وجدتم في الاستعمال قول القائل : قلبي غلاف ، وقلوب المؤمنين العالمين غلف ، أي : أوعية للعلم.

والغلاف قد يكون وعاء للجيد والرديء ، فلا يلزم من كون القلب غلافا أن يكون داخله العلم والحكمة ، وهذا ظاهر جدا ، فإن قيل : فالإضراب ببل على هذا القول الذي قوّيتموه ما معناه؟ وأما على القول الآخر فظاهر ، أي : ليست قلوبكم محلا للعلم والحكمة ، بل مطبوع عليها. قيل : وجه الإضراب في غاية الظهور ، وهو أنهم احتجوا بأن الله لم يفتح لهم الطريق إلى فهم ما جاء به الرسول ومعرفته ، بل جعل قلوبهم داخلة في غلف فلا تفقهه ، فكيف تقوم به عليهم الحجة ، وكأنهم ادعوا أن قلوبهم خلقت في غلف ، فهم معذورون في عدم الإيمان فأكذبهم الله وقال (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ (١٥٥)) [النساء] وفي الآية الأخرى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ (٨٨)) [البقرة].

فأخبر سبحانه أن الطبع والإبعاد عن توفيقه وفضله إنما كان بكفرهم الذي اختاروه لأنفسهم ، وآثروه على الإيمان ، فعاقبهم عليه بالطبع واللعنة.

٢٤٩

والمعنى : لم نخلق قلوبهم غلفا لا تعي ولا تفقه ، ثم نأمرهم بالإيمان ، وهم لا يفهمونه ولا يفقهونه ، بل اكتسبوا أعمالا عاقبناهم عليها بالطبع على القلوب والختم عليها.

فصل

وأما الحجاب ففي قوله تعالى حكاية عنهم : (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ (٥)) [فصلت] وقوله : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥)) [الإسراء] على أصح القولين ، والمعنى : جعلنا بين القرآن إذا قرأته وبينهم حجابا ، يحول بينهم وبين فهمه وتدبره والإيمان به ، ويبيّنه قوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً (٤٦)) [الإسراء] وهذه الثلاثة هي الثلاثة المذكورة في قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ (٥)) [فصلت] فأخبر سبحانه أن ذلك جعله ، فالحجاب يمنع رؤية الحقّ ، والأكنة تمنع من فهمه ، والوقر يمنع من سماعه.

وقال الكلبي : الحجاب هاهنا مانع يمنعهم من الوصول إلى رسول الله بالأذى ، من الرعب ونحوه مما يصدهم عن الإقدام عليه ، ووصفه بكونه مستورا ، فقيل : بمعنى ساتر ، وقيل : على النسب ، أي : ذو ستر ، والصحيح أنه على بابه ، أي : مستورا عن الأبصار فلا يرى. ومجيء مفعول بمعنى فاعل لا يثبت ، والنسب في مفعول لم يشتق من فعله كمكان مهول ، أي : ذي هول ، ورجل مرطوب أي : ذي رطوبة. فأما مفعول فهو جار على فعله ، فهو الذي وقع عليه الفعل كمضروب ومجروح ومستور.

٢٥٠

فصل

وأما الران فقد قال تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)) [المطففين].

قال أبو عبيدة : غلب عليها ، والخمر ترين على عقل السكران. والموت يرون على الميت فيذهب به ، ومن هذا حديث أسيفع جهينة وقول عمر ، فأصبح قد رين به ، أي : غلب عليه وأحاط به الرين.

وقال أبو معاذ النحوي : الرين أن يسودّ القلب من الذنوب. والطبع أن يطبع على القلب ، وهو أشد من الرين. والإقفال أشد من الطبع ، وهو أن يقفل على القلب.

وقال الفراء : كثرت الذنوب والمعاصي منهم ، فأحاطت بقلوبهم ، فذلك الرين عليها.

وقال أبو اسحاق : ران : غطى ، يقال : ران على قلبه الذّنب يرين رينا أي : غشيه ، قال : والرين كالغشاء يغشّي القلب ، ومثله الغين.

قلت : أخطأ أبو إسحاق ، فالغين ألطف شيء وأرقّه ، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : «وإنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» (١) وأما الرين والران فهو من أغلظ الحجب على القلب وأكثفها. وقال مجاهد : هو الذنب على الذنب حتى تحيط الذنوب بالقلب وتغشاه ، فيموت

__________________

(١) رواه الترمذي (٣٣٣٤) عن أبي هريرة.

٢٥١

القلب. وقال مقاتل : غمرت القلوب أعمالهم الخبيثة.

وفي سنن النسائي (١) والترمذي (٢) من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن العبد إذا أخطأ خطيئة ، نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن هو نزع واستغفر وتاب ، صقل قلبه ، وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، وهو الران الذي ذكر الله (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤)) [المطففين]» قال الترمذي : هذا حديث صحيح (٣).

وقال عبد الله بن مسعود : كلما أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسودّ القلب كله. فأخبر سبحانه أن ذنوبهم التي اكتسبوها أوجبت لهم رينا على قلوبهم ، فكان سبب الران منهم ، وهو خلق الله فيهم ، فهو خالق السبب ومسببه ، لكن السبب باختيار العبد والمسبب خارج عن قدرته واختياره.

فصل

وأما الغل فقال تعالى : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)) [يس].

قال الفراء : حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله.

__________________

(١) النسائي في «عمل اليوم والليلة» : (٤١٨).

(٢) الترمذي (٣٣٣٤).

(٣) كذا قال ، والأصح أنه حسن.

٢٥٢

وقال أبو عبيدة : منعناهم عن الإيمان بموانع ، ولما كان الغل مانعا للمغلول من التصرف والتقلب ، كان الغل الذي على القلب مانعا من الإيمان ، فإن قيل : فالغل المانع من الإيمان هو الذي في القلب ، فكيف ذكر الغل الذي في العنق؟ قيل : لما كان عادة الغل أن يوضع في العنق ، ناسب ذكر محله ، والمراد به القلب ، كقوله تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ (١٣)) [الإسراء].

ومن هذا قولهم : إثمي في عنقك ، وهذا في عنقك ، ومن هذا قوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ (٢٩)) [الإسراء] شبّه الإمساك عن الإنفاق باليد إذا غلت إلى العنق ، ومن هذا قال الفراء : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا : حبسناهم عن الإنفاق.

قال أبو إسحاق : وإنما يقال للشيء اللازم : هذا في عنق فلان ، أي : لزومه كلزوم القلادة من بين ما يلبس في العنق.

قال أبو علي : هذا مثل قولهم : طوّقتك كذا ، وقلدتك كذا ؛ ومنه : قلده السلطان كذا ، أي : صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة ومكان الطوق.

قلت : ومن هذا قولهم : قلدت فلانا حكم كذا وكذا ، كأنك جعلته طوقا في عنقه ، وقد سمى الله التكاليف الشاقة أغلالا في قوله : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ (١٥٧)) [الأعراف].

فشبهها بالأغلال لشدتها وصعوبتها.

قال الحسن : هي الشدائد التي كانت في العبادة ، كقطع أثر البول ، وقتل النفس في التوبة ، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وتتبع العروق من اللحم.

٢٥٣

قال ابن قتيبة : هي تحريم الله سبحانه عليهم كثيرا مما أطلقه لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعلها أغلالا ، لأن التحريم يمنع كما يقبض الغل اليد.

وقوله : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ (٨)) [يس] ، قالت طائفة : الضمير يعود إلى الأيدي ، وإن لم تذكر لدلالة السياق عليها ، قالوا : لأن الغل يكون في العنق ، فتجمع إليه اليد ، ولذلك سمّي ، جامعة ، وعلى هذا فالمعنى : فأيديهم أو فأيمانهم مضمومة إلى أذقانهم ، هذا قول الفراء والزجاج. وقالت طائفة : الضمير يرجع إلى الأغلال ، وهذا هو الظاهر ، وقوله : (فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) أي : واصلة وملزوزة إليها ، فهو غلّ عريض ، قد أحاط بالعنق حتى وصل إلى الذقن.

وقوله : (فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨)) [يس] قال الفراء والزجاج : المقمح هو الغاضّ بصره بعد رفع رأسه ، ومعنى الإقماح في اللغة : رفع الرأس وغضّ البصر ، يقال : أقمح البعير رأسه ، وقمح. وقال الأصمعي : بعير قامح : إذا رفع رأسه عن الحوض ، ولم يشرب.

قال الأزهري : لما غلت أيديهم إلى أعناقهم ، رفعت الأغلال أذقانهم ورءوسهم صعدا كالإبل الرافعة رءوسها ، انتهى.

فإن قيل : فما وجه التشبيه بين هذا وبين حبس القلب عن الهدى والإيمان؟.

قيل : أحسن وجه وأبينه ، فإنّ الغلّ إذا كان في العنق واليد مجموعة إليها ، منع اليد عن التصرف والبطش ، فإذا كان عريضا قد ملأ العنق ووصل إلى الذقن ، منع الرأس من تصويبه ، وجعل صاحبه شاخص الرأس منتصبه ، لا يستطيع له حركة ، ثم أكد هذا المعنى والحبس بقوله : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا (٩)) [يس].

٢٥٤

قال ابن عباس : منعهم من الهدى لما سبق في علمه ، والسد الذي جعل من بين أيديهم ومن خلفهم هو الذي سد عليهم طريق الهدى ، فأخبر سبحانه عن الموانع التي منعهم بها من الإيمان عقوبة لهم ، ومثّلها بأحسن تمثيل وأبلغه ، وذلك حال قوم قد وضعت الأغلال العريضة الواصلة إلى الأذقان في أعناقهم ، وضمّت أيديهم إليها ، وجعلوا بين السدين ، لا يستطيعون النفوذ من بينهما ، وأغشيت أبصارهم ، فهم لا يرون شيئا. وإذا تأملت حال الكافر الذي عرف الحق وتبين له ، ثم جحده وكفر به وعاداه أعظم معاداة ، وجدت هذا المثل مطابقا له أتم مطابقة ، وأنه قد حيل بينه وبين الإيمان كما حيل بين هذا وبين التصرف. والله المستعان.

فصل

وأما القفل فقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)) [محمد].

قال ابن عباس : يريد على قلوب هؤلاء أقفال.

وقال مقاتل : يعني الطبع على القلب ، وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج الذي قد ضرب عليه قفل ، فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه ، وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب ، لم يدخل الإيمان والقرآن.

وتأمل تنكير القلب وتعريف الأقفال ، فإنّ تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة ، ولو قال : أم على القلوب أقفالها ،

٢٥٥

لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة ، وفي قوله : أقفالها ، بالتعريف ، نوع تأكيد ، فإنه لو قال : أقفال ، لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الاسم ، فلما أضافها إلى القلوب ، علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب ، فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها. والله أعلم.

فصل

وأما الصمم والوقر ففي قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ (١٨)) [البقرة] وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣)) [محمد] وقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)) [الأعراف] وقوله : (وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤)) [فصلت].

قال ابن عباس : في آذانهم صمم عن استماع القرآن ، وهو عليهم عمى ، أعمى الله قلوبهم ، فلا يفقهون ، أولئك ينادون من مكان بعيد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء. وقال مجاهد : بعيد من قلوبهم. وقال الفراء : تقول للرجل الذي لا يفهم ، كذلك أنت تنادى من مكان بعيد ، قال : وجاء في التفسير : كأنما ينادون من السماء ، فلا يسمعون. انتهى ، والمعنى أنهم لا يسمعون ، ولا يفهمون ، كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم.

٢٥٦

فصل

وأما البكم فقال تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ (١٨)) [البقرة] والبكم جمع أبكم ، وهو الذي لا ينطق ، والبكم نوعان : بكم القلب ، وبكم اللسان. كما أن النطق نطقان : نطق القلب ، ونطق اللسان. وأشدهما بكم القلب ، كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن ، فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق ، ولا تنطق به ألسنتهم. والعلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب من سمعه وبصره وقلبه ، وقد سدّت عليهم هذه الأبواب الثلاثة ، فسدّ السمع بالصمم ، والبصر بالعمى ، والقلب بالبكم ، ونظيره قوله تعالى : (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها (١٧٩)) [الأعراف] وقد جمع سبحانه بين الثلاثة في قوله : (وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ (٢٦)) [الأحقاف] فإذا أراد سبحانه هداية عبد ، فتح قلبه وسمعه وبصره ، وإذا أراد ضلاله ، أصمّه وأعماه وأبكمه. وبالله التوفيق.

فصل

وأما الغشاوة : فهو غطاء العين ، كما قال تعالى : (وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً (٢٣)) [الجاثية] وهذا الغطاء سرى إليها من غطاء القلب ، فإنّ ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر ، فالعين مرآة القلب ، تظهر ما فيه ،

٢٥٧

وأنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا ، أو أبغضت كلامه ومجالسته ، تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته ، فتلك أثر البغض والإعراض عنه ، وغلّظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول ، وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة ، ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله ، صار ذلك العشا غشاوة على أعينهم ، فلا تبصر مواقع الهدى.

فصل

وأما الصد فقال تعالى : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ (٣٧)) [غافر].

قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول حملا على زيّن ، وقرأ الباقون : وصدّ بفتح الصاد ، ويحتمل وجهين : أحدهما إعراض ، فيكون لازما ، والثاني يكون صد غيره ، فيكون متعديا ، والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان. وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما (٨٩)) [يونس].

فهذا الشدّ على القلب هو الصدّ والمنع ، ولهذا قال ابن عباس : يريدا (١) منعها ، والمعنى : قسّها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان ، وهذا مطابق لما في التوراة ، إن الله سبحانه قال لموسى اذهب إلى فرعون ، فإني سأقسّي قلبه ، فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر ، وهذا الشد

__________________

(١) هكذا وردت ، والأصل أن تكون «يريدان».

٢٥٨

والتقسية من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه ، جعله عقوبة لهم على كفرهم وإعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب ؛ ولهذا كان محمودا عليه ، فهو حسن منه ، وأقبح شيء منهم ، فإنه عدل منه وحكمة ، وهو ظلم منهم وسفه. فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غني عليم ، يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما ، والمقضي المقدّر يكون ظلما وجورا وسفها. وهو فعل جاهل ظالم سفيه.

فصل

وأما الصرف فقال تعالى : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)) [التوبة] فأخبر سبحانه عن فعلهم ، وهو الانصراف ، وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره ، لأنهم ليسوا أهلا له ، فالمحل غير صالح ولا قابل ، فإنّ صلاحية المحل بشيئين : حسن فهم ، وحسن قصد ، وهؤلاء قلوبهم لا تفقه ، وقصودهم سيئة ، وقد صرح سبحانه بهذا في قوله : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)) [الأنفال] فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم ، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم ، فلم يسمعهم سماع إفهام ، ينتفعون به ، وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته ، فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم. ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر ، قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان ، لو أسمعهم هذا السماع الخاص ، وهو الكبر والتولّي والإعراض ، فالأول مانع من الفهم ، والثاني مانع من الانقياد والإذعان. فأفهام سيئة ، وقصود ردية ، وهذه

٢٥٩

نسخة الضلال وعلم الشقاء كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح ، وقصد صالح. والله المستعان.

وتأمل قوله سبحانه : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ (١٢٧)) [التوبة] كيف جعل هذه الجملة الثانية ، سواء كانت خبرا أو إعادة عقوبة ، لانصرافهم ، فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول ، فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم ، لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول ، فلم ينلهم الإقبال والإذعان ، فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم ، عن القرآن ، فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول ، كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول ، كما قال (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ (٥)) [الصف].

وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه ، جازاه بأن يعرض عنه ، فلا يمكّنه من الإقبال عليه. ولتكن قصة إبليس منك على ذكر ، تنتفع بها أتم انتفاع ، فإنه لما عصى ربه تعالى ، ولم ينقد لأمره ، وأصرّ على ذلك ، عاقبه بأن جعله داعيا إلى كل معصية ، فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها صغيرها وكبيرها ، وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق ، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها ، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.

فإن قيل : فكيف يلتئم إنكاره ـ سبحانه ـ عليهم الانصراف والإعراض عنه ، وقد قال تعالى : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)) [يونس] و : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)) [المائدة] وقال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩)) [المدثر] فإذا كان هو الذي صرفهم ، وجعلهم معرضين ومأفوكين ، فكيف ينفي ذلك عليهم؟.

٢٦٠