شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

ومن عجيب أمره أنه أتى إلى جزيرة ، فيها طير ، فأعمل الحيلة كيف يأخذ منها شيئا فلم يطق ، فذهب وجاء بضغث من حشيش ، وألقاه في مجرى الماء الذي نحو الطير ، ففزع منه ، فلما عرفت أنه حشيش رجعت إلى أماكنها ، فعاد لذلك مرة ثانية وثالثة ورابعة حتى تواظب الطير على ذلك ، وألفته ، فعمد إلى جرزة أكبر من ذلك ، فدخل فيها ، وعبر إلى الطير ، فلم يشكّ الطير أنه من جنس ما قبله ، فلم تنفر منه ، فوثب على طائر منها ، وعدا به.

ومن عجيب أمر الذئب أنه عرض لإنسان ، يريد قتله ، فرأى معه قوسا وسهما ، فذهب وجاء بعظم رأس جمل في فيه ، وأقبل نحو الرجل ، فجعل الرجل كلما رماه بسهم اتقاه بذلك العظم حتى أعجزه ، وعاين نفاد سهمه ، فصادف من استعان به على طرد الذئب.

ومن عجيب أمر القرد ما ذكره البخاريّ في صحيحه (١) ، عن عمرو بن ميمون الأودي ، قال : رأيت في الجاهلية قردا وقردة ، زنيا ، فاجتمع عليهم القرود ، فرجموهما حتى ماتا. فهؤلاء القرود أقاموا حدّ الله حين عطّله بنو آدم ، وهذه البقر يضرب ببلادتها المثل.

وقد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنّ رجلا بينا هو يسوق بقرة إذ ركبها ، فقالت : لم أخلق لهذا ، فقال الناس : سبحان الله ، بقرة تتكلم! فقال : فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر. وما هما ثمّ ، ثمّ قال : وبينا رجل يرعى غنما له إذ عدا الذئب على شاة منها ، فاستنقذها منه ، فقال الذئب : هذه استنقذتها مني ، فمن لها يوم السبع ، يوم لا راعي لها غيري؟ فقال الناس : سبحان الله ، ذئب يتكلم! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر» (٢).

__________________

(١) رواه البخاري (٣٨٤٩) عن عمرو بن ميمون.

(٢) رواه البخاري (٣٤٧١) عن أبي هريرة.

٢٠١

وما هما ثمّ.

ومن هداية الحمار الذي هو من أبلد الحيوان ، أنّ الرجل يسير به ، ويأتي به إلى منزله من البعد ، في ليلة مظلمة ، فيعرف المنزل ، فإذا خلّي جاء إليه ، ويفرق بين الصوت الذي يستوقف به ، والصوت الذي يحثّ به على السير.

ومن عجيب أمر الفأر أنها إذا شربت من الزيت الذي في أعلا الجرة ، فنقص ، وعزّ عليها الوصول إليه ، ذهبت وحملت في أفواهها ماء ، وصبّته في الجرة حتى يرتفع الزيت ، فتشربه.

والأطباء تزعم أنّ الحقنة أخذت من طائر طويل المنقار ، إذا تعسّر عليه الذرق ، جاء إلى البحر المالح ، وأخذ بمنقاره منه ، واحتقن به ، فيخرج الذرق بسرعة.

وهذا الثعلب إذا اشتد به الجوع ، انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء ، كأنه جيفة ، فتتداوله الطير ، فلا يظهر حركة ولا نفسا ، فلا تشك أنه ميت ، حتى إذا نقر بمنقاره ، وثب عليها ، فضمّها ضمّة الموت.

وهذا ابن عرس والقنفذ ، إذا أكلا الأفاعي والحيات ، عمدا إلى الصعتر (١) النهري ، فأكلاه كالترياق لذلك.

ومن عجيب أمر الثعلب أنه إذا أصاب القنفذ ، قلبه لظهره لأجل شوكه ، فيجتمع القنفذ حتى يصير كبّة شوك ، فيبول الثعلب على بطنه ما بين مغرز عجبه إلى فكّيه فإذا أصابه البول ، اعتراه الأسر ، فانبسط ، فيسلخه الثعلب من بطنه ، ويأكل مسلوخه.

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «الصتر».

٢٠٢

وكثير من العقلاء يتعلّم من الحيوانات البهم أمورا ، تنفعه في معاشه وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره. وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال تعالى : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤)) [الفرقان].

قال أبو جعفر الباقر : والله! ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام حتى جعلهم أضل سبيلا منها.

فمن هدى الأنثى من السباع إذا وضعت ولدها ، أن ترفعه في الهواء أياما ، تهرب به من الذّرّ والنمل ، لأنها تضعه كقطعة من لحم ، فهي تخاف عليه الذرّ والنمل ، فلا تزال ترفعه وتضعه ، وتحوّله من مكان إلى مكان حتى يشتد.

وقال ابن الأعرابي : قيل لشيخ من قريش : من علّمك هذا كله ، وإنما يعرف مثله أصحاب التجارب والتكسب؟ قال : علّمني الله ما علّم الحمامة ، تقلّب بيضها حتى تعطي الوجهين جميعا نصيبهما من حضانتها ، ولخوف طباع الأرض على البيض ، إذا استمر على جانب واحد.

وقيل لآخر : من علّمك اللجاج في الحاجة والصبر عليها ، وإن استعصت ، حتى تظفر بها؟ قال : من علّم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط ، ثم تصعد ، ثم تسقط مرارا عديدة ، حتى تستمر صاعدة.

وقيل لآخر : من علمك البكور في حوائجك أول النهار ، لا تخلّ به؟ قال : من علم الطير تغدو خماصا كلّ بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها ، لا تسأم ذلك ، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض.

وقيل لآخر : من علمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك ، فإذ ظفرت به ، وثبت وثوب الأسد على فريسته؟ فقال : الذي علم

٢٠٣

الهرّ (١) أن ترصد جحر الفأرة ، فلا تتحرك ولا تتلوى ولا تختلج ، كأنها ميتة ، حتى إذا برزت لها الفأرة ، وثبت عليها كالأسد.

وقيل لآخر : من علمك الصبر والجلد والاحتمال وعدم السكون؟ قال : من علّم أبا أيوب (٢) صبره على الأثقال والأحمال الثقيلة ، والمشي والتعب وغلظة الحمّال وضربه ، فالثقل والكل على ظهره ، ومرارة الجوع والعطش في كبده ، وجهد التعب والمشقة ملأ جوارحه ، ولا يعدل به ذلك عن الصبر.

وقيل لآخر : من علمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل؟ قال : من علم الديك ، يصادف الحبّة في الأرض ، وهو يحتاج إليها ، فلا يأكلها ، بل يستدعي الدجاج ، ويطلبهن طلبا حثيثا حتى تجيء الواحدة منهن ، فتلقطها ، وهو مسرور بذلك طيّب النفس به ، وإذا وضع له الحبّ الكثير ، فرّقه هاهنا وهاهنا ، وإن لم يكن هناك دجاج ، لأنّ طبعه قد ألف البذل والجود ، فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام.

وقيل لآخر : من علمك هذا التّحيّل في طلب الرزق ووجوه تحصيله؟ قال : من علم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها ، وهي أكثر من أن تذكر.

ومن علم الأسد إذا مشى ، وخاف أن يقتفى أثره ، ويطلب ، عفى أثر مشيته بذنبه ، ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه ، فينفخ في منخريه ، لأن اللبوة تضعه جروا كالميت فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه ، فيفعل به ذلك.

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «السهر».

(٢) أبو أيوب كنية الحمار.

٢٠٤

ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها ، وإذا مر بفريسة غيره ، لم يدن منها ، ولو جهده الجوع. ومن علم الأسد أن يخضع للببر (١) ويذلّ له إذا اجتمعا حتى ينال منه له ، ومن عجيب أمره أنه إذا استعصى عليه شيء من السباع ، دعا الأسد ، فأجابه إجابة المملوك لمالكه ، ثم أمره ، فربض بين يديه ، فيبول في أذنيه ، فإذا رأت السباع ذلك ، أذعنت له بالطاعة والخضوع.

ومن علم الثعلب إذا اشتد به الجوع ، أن يستلقي على ظهره ، ويختلس نفسه إلى داخل بدنه ، حتى ينتفخ ، فيظن الظان أنه ميتة ، فيقع عليه ، فيثب على من انقضى عمره منها ، ومن علمه إذا أصابه صدع أو جرح أن يأتي إلى صبغ معروف ، فيأخذ منه ، ويضعه على جرحه كالمرهم.

ومن علم الدب إذا أصابه كلم ، أن يأتي إلى نبت قد عرفه ، وجهله صاحب الحشائش ، فيتداوى به ، فيبرأ.

ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها ، أن تأتي إلى الماء ، فتلد فيه ، لأنها ، دون الحيوانات ، لا تلد إلا قائمة ، لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان ، وهي عالية ، فتخاف أن تسقطه على الأرض ، فينصدع أو ينشق ، فتأتي ماء وسطا تضعه فيه ، يكون كالفراش اللّيّن والوطاء الناعم.

ومن علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر.

ومن علّم الكلب إذا عاين الظّباء أن يعرف المعتلّ من غيره ، والذكر من الأنثى ، فيقصد الذكر مع علمه بأن عدوه أشدّ ، وأبعد وثبة ، ويدع الأنثى على

__________________

(١) الببر : الفرانق الذي يعادي الأسد. أو ضرب من السباع. أعجمي معرّب.

٢٠٥

نقصان عدوها ، لأنه قد علم أنّ الذّكر إذا عدا شوطا أو شوطين حقن ببوله ، وكل حيوان إذا اشتد فزعه ، فإنه يدركه الحقن ، وإذا حقن الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو ، فيقل عدوه ، فيدركه الكلب ، وأما الأنثى فتحذف بولها لسعة القبل وسهولة المخرج ، فيدوم عدوها.

ومن علّمه أنه إذا كسا الثلج الأرض ، أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد انخسف ، فيعلم أن تحته جحر الأرنب ، فينبشه ويصطادها علما منه بأن حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج ، فيرق.

ومن علم الذئب إذا نام ، أن يجعل النوم نوبا بين عينيه ، فينام بإحداهما حتى إذا نعست الأخرى نام بها ، وفتح النائمة حتى قال بعض العرب :

ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي

بأخرى المنايا فهو يقظان نائم

ومن علم العصفورة ، إذا سقط فرخها ، أن تستغيث ، فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء ، فيطيرون حول الفرخ ، ويحركونه بأفعالهم ، ويحدثون له قوة وهمّة وحركة حتى يطير معهم.

قال بعض الصيادين : ربما رأيت العصفور على الحائط ، فأومئ بيدي ، كأني أرميه ، فلا يطير ، وربما أهويت إلى الأرض ، كأني أتناول شيئا فلا يتحرك ، فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة ، طار قبل أن تتمكّن منها يدي.

ومن علم الحمامة إذا حملت ، أن تأخذ هي والأب في بناء العش ، وأن يقيما له حروفا تشبه الحائط ، ثم يسخناه ويحدثا فيه طبيعة أخرى ، ثم يقلبان البيض في الأيام ، ومن قسم بينهما الحضانة والكدّ ، فأكثر ساعات الحضانة على الأنثى ، وأكثر ساعات جلب القوت على الأب ، وإذا خرج الفرخ ، علما ضيق حوصلته عن الطعام ، فنفخا فيه نفخا متداركا حتى تتسع حوصلته ، ثم

٢٠٦

يزقانه اللعاب أو شيئا قبل الطعام ، وهو كاللّبإ للطفل ، ثم يعلمان احتياج الحوصلة إلى دباغ ، فيزقانه من أصل الحيطان ، من شيء بين الملح والتراب ، تندبغ به الحوصلة ، فإذا اندبغت ، زقّاه الحبّ ، فإذا علما أنه أطاق اللقط ، منعاه الزّقّ على التدريج ، فإذا تكاملت قوته وسألهما الكفالة ، ضرباه ، ومن علمهما إذا أرادا السفاد أن يبتدئ الذكر بالدعاء ، فتتطارد له الأنثى قليلا ، لتذيقه حلاوة المواصلة ، ثم تطيعه في نفسها ، ثم تمتنع بعض التمنّع ليشتدّ طلبه وحبه ، ثم تتهادى وتتكسل ، وتريه معاطفها ، وتعرض محاسنها ، ثم يحدث بينهما من التغزل والعشق والتقبيل والرشف ما هو مشاهد بالعيان.

ومن علم المرسلة منها ، إذا سافرت ليلا ، أن تستدلّ ببطون الأودية ومجاري المياه والجبال ومهابّ الريح ومطلع الشمس ومغربها ، فتستدل بذلك وبغيره إذا ضلت ، فإذا عرفت الطريق مرت كالريح.

ومن علم اللبلب ، وهو صنف من العناكب أن يلطأ بالأرض ، ويجمع نفسه ، فيري الذبابة أنه لاه عنها ، ثم يثب عليها وثوب الفهد.

ومن علم العنكبوت أن تنسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة ، وتجعل في أعلاها خيطا ، ثم تتعلق به فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة ، تدلّت إليها فاصطادتها.

ومن علم الظبي أنه لا يدخل كناسه إلا مستدبرا ، ليستقبل بعينيه ما يخافه على نفسه وخشفه.

ومن علم السنور ، إذا رأى فأرة في السقف ، أن يرفع رأسه كالمشير إليها بالعود ، ثم يشير إليها بالرجوع ، وإنما يريد أن يدهشها ، فتزلق فتسقط.

ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى

٢٠٧

السيل ، ليسلم من مدقّ الحافر ومجرى الماء ، ويعمقه ، ثم يتخذ في زواياه أبوابا عديدة ، ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزا رقيقا ، فإذا أحسّ بالشر فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه ، ولما كان كثير النسيان ، لم يحفر بيته إلا عند أكمة أو صخرة علامة له على البيت ، إذا ضلّ عنه.

ومن علم الفهد ، إذا سمن ، أن يتوارى لثقل الحركة عليه ، حتى يذهب ذلك السمن ، ثم يظهر.

ومن علم الأيل إذا سقط قرنه أن يتوارى ، لأنّ سلاحه قد ذهب ، فيسمن لذلك ، فإذا كمل نبات قرنه ، تعرض للشمس والريح ، وأكثر من الحركة ، ليشتدّ لحمه ، ويزول السمن المانع له من العدو.

وهذا باب واسع جدا ويكفي فيه قوله سبحانه : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)) [الأنعام].

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أنّ الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» (١).

وهذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون إخبارا عن أمر غير ممكن فعله ، وهو أن الكلاب أمة ، لا يمكن إفناؤها لكثرتها في الأرض ، فلو أمكن إعدامها من الأرض لأمرت بقتلها.

والثاني : أن يكون مثل قوله : «أمن أجل أن قرصتك نملة أحرقت أمة من

__________________

(١) صحيح رواه أبو داود (٢٨٤٥) وغيره عن عبد الله بن مغفل.

٢٠٨

الأمم تسبح» (١) فهي أمة مخلوقة بحكمة ومصلحة ، فإعدامها وإفناؤها يناقض ما خلقت لأجله ، والله أعلم بما أراد رسوله.

قال ابن عباس في رواية عطاء : «إلا أمم أمثالكم» يريد : يعرفونني ويوحدونني ، ويسبحونني ويحمدونني مثل قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (٤٤)) [الإسراء] ومثل قوله (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ (٤١)) [النور] ويدل على هذا قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ (١٨)) [الحج] وقوله : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ (٤٩)) [النحل] ويدل عليه قوله تعالى : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ (١٠)) [سبأ] ويدل عليه قوله (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي (٦٨)) [النحل] وقوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ (١٨)) [النمل] وقول سليمان : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ (١٦)) [النمل].

وقال مجاهد : أمم أمثالكم : أصناف مصنفة ، تعرف بأسمائها.

وقال الزجاج : أمم أمثالكم في أنها تبعث.

وقال ابن قتيبة : أمم أمثالكم : في طلب الغذاء وابتغاء الرزق وتوقّي المهالك.

وقال سفيان بن عيينة : ما في الأرض آدميّ إلا وفيه شبه من البهائم ، فمنهم من يهتصر (٢) اهتصار الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلب ، منهم من يتطوّس كفعل الطاوس ، ومنهم من يشبه

__________________

(١) مر قريبا.

(٢) يأخذ الشيء بشدة وعنف.

٢٠٩

الخنازير التي لو ألقي إليها الطعام الطيب عافته ، فإذا قام الرجل عن رجيعه ، ولغت فيه ، فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها ، وإن أخطأ رجل تروّاه وحفظه.

قال الخطابي : ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة ، وذلك أنّ الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعا لظاهره ، وجب المصير إلى باطنه. وقد أخبر الله عن وجود المماثلة بين الإنسان وبين كل طائر ودابة ، وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة ، وعدم من جهة النطق والمعرفة ، فوجب أن يكون منصرفا إلى المماثلة في الطباع والأخلاق ، وإذا كان الأمر كذلك ، فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم والسباع ، فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم ، على حسب ذلك ، انتهى كلامه.

والله سبحانه قد جعل بعض الدواب كسوبا محتالا ، وبعضها متوكلا غير محتال ، وبعض الحشرات يدّخر لنفسه قوت سنته ، وبعضها يتكل على الثقة ، بأنّ له في كل يوم قدر كفايته رزقا مضمونا وأمرا مقطوعا ، وبعضها يدّخر وبعضها لا تكسّب له ، وبعض الذكورة يعول ولده ، وبعضها لا يعرف ولده البتة ، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه ، وبعضها تضع ولدها ، وتكفل ولد غيرها ، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها ، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه.

وجعل بعض الحيوانات يتمها من قبل أمهاتها وبعضها يتمها من قبل آبائها ، وبعضها لا يلتمس الولد ، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه ، وبعضها يعرف الإحسان ويشكره ، وبعضها ليس ذلك عنده شيئا ، وبعضها يؤثر على نفسه ، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه ، لم يدع أحدا يدنو منه ، وبعضها يحب السفاد ويكثر منه ، وبعضها لا يفعله في السنة إلا مرة ، وبعضها يقتصر على أنثاه ، وبعضها لا يقف على أنثى ، ولو كانت أمه أو

٢١٠

اخته ، وبعضها لا تمكّن غير زوجها من نفسها ، وبعضها لا تردّ يد لامس ، وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم ، وبعضها يستوحش منهم وينفر غاية النفار ؛ وبعضها لا يأكل إلا الطيب ، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث ، وبعضها يجمع بين الأمرين ، وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها ، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها ، وبعضها حقود لا تنسى الإساءة ، وبعضها لا يذكرها البتة ، وبعضها لا يغضب ، وبعضها يشتد غضبه ، فلا يزال يسترضى حتى يرضى ، وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة ، لا يهتدي إليها أكثر الناس ، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك البتة ، وبعضها يستقبح القبيح ، وينفر منه ، وبعضها الحسن والقبيح سواء عنده ، وبعضها يقبل التعليم بسرعة ، وبعضها مع الطول ، وبعضها لا يقبل ذلك بحال.

وهذا كله من أدلّ الدلائل على الخالق لها سبحانه ، وعلى إتقان صنعه وعجيب تدبيره ولطيف حكمته ، فإنّ فيما أودعها من غرائب المعارف وغوامض الحيل وحسن التدبير والتأني لما تريده ما يستنطق الأفواه بالتسبيح ، ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته وما يعلم به كل عاقل ، أنه لم يخلق عبثا ولم يترك سدى ، وأن له سبحانه في كل مخلوق حكمة باهرة وآية ظاهرة وبرهانا قاطعا ، يدل على أنه رب كل شيء ومليكه ، وأنه المنفرد بكلّ كمال دون خلقه ، وأنه على كل شيء قدير ، وبكل شيء عليم.

فصل

فلنرجع إلى ما ساقنا إلى هذا الموضع ، وهو الكلام على الهداية العامة التي هي قرينة الخلق في الدلالة على الرب ، تبارك وتعالى ، وأسمائه وصفاته

٢١١

وتوحيده ، قال تعالى إخبارا عن فرعون أنه قال : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه].

قال مجاهد : أعطى كل شيء خلقه ، لم يعط الإنسان خلق البهائم ، ولا البهائم خلق الإنسان ، وأقوال أكثر المفسرين تدور على هذا المعنى.

قال عطية ومقاتل : أعطى كل شيء صورته.

وقال الحسن وقتادة : أعطى كل شيء صلاحه ، والمعنى : أعطاه من الخلق والتصوير ما يصلح به لما خلق له ، ثم هداه لما خلق له ، وهداه لما يصلحه في معيشته ومطعمه ومشربه ومنكحه وتقلبه وتصرفه ، هذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين ، فيكون نظير قوله : (قَدَّرَ فَهَدى (٣)) [الأعلى].

وقال الكلبي والسدّي : أعطى الرجل المرأة ، والبعير الناقة ، والذكر الأنثى من جنسه ، ولفظ السدي : أعطى الذكر الأنثى مثل خلقه ، ثم هدى إلى الجماع ، وهذا القول اختيار ابن قتيبة والفراء.

قال الفراء : أعطى الذكر من الناس امرأة مثله ، والشاة شاة ، والثور بقرة ، ثم ألهم الذّكر كيف يأتيها.

قال أبو إسحاق : وهذا التفسير جائز ، لأنا نرى الذكر من الحيوان يأتي الأنثى ، ولم ير ذكرا قد أتى أنثى قبله ، فألهمه الله ذلك ، وهداه إليه. قال : والقول الأول ينتظم هذا المعنى ، لأنه إذا هداه لمصلحته ، فهذا داخل في المصلحة. قلت : أرباب هذا القول هضموا الآية معناها ، فإنّ معناها أجلّ وأعظم مما ذكروه ، وقوله : أعطى كل شيء ، يأبى هذا التفسير ، فإنّ حمل كل شيء على ذكور الحيوان وإناثه خاصة ممتنع ، لا وجه له ، وكيف يخرج من هذا اللفظ الملائكة والجن. ومن لم يتزوج من بني آدم ، ومن لم يسافد

٢١٢

من الحيوان؟! وكيف يسمى الحيوان الذي يأتيه الذكر خلقا له؟ وأين نظير هذا في القرآن؟ وهو سبحانه لما أراد التعبير عن هذا المعنى الذي ذكروه ، ذكره بأدلّ عبارة عليه وأوضحها فقال (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥)) [النجم].

فحمل قوله : أعطى كل شيء خلقه ، على هذا المعنى ، غير صحيح فتأمله.

وفي الآية قول آخر ، قاله الضحاك ، قال : أعطى كل شيء خلقه : أعطى اليد البطش والرجل المشي واللسان النطق والعين البصر والأذن السمع ، ومعنى هذا القول : أعطى كل عضو من الأعضاء ما خلق له ، والخلق على هذا بمعنى المفعول ، أي : أعطى كل عضو مخلوقه الذي خلقه له ، فإن هذه المعاني كلها مخلوقة لله ، أودعها الأعضاء ، وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه ، لكن معنى الآية أعم.

والقول هو الأول ، وأنه سبحانه أعطى كل شيء خلقه المختص به ، ثم هداه لما خلق له ، ولا خالق سواه سبحانه ، ولا هادي غيره. فهذا الخلق وهذه الهداية من آيات الربوبية ووحدانيته ، فهذا وجه الاستدلال على عدو الله فرعون ، ولهذا لما علم فرعون أن هذه حجة قاطعة ، لا مطعن فيها بوجه من الوجوه ، عدل إلى سؤال فاسد عن وارد فقال : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١)) [طه] أي : فما للقرون الأولى ، لم تقرّ بهذا الرب ، ولم تعبده بل عبدت الأوثان؟ والمعنى : لو كان ما تقوله حقا ، لم يخف على القرون الأولى ، ولم يهملوه ، فاحتج عليه بما يشاهده هو وغيره من آثار ربوبية رب العالمين ، فعارضه عدوّ الله بكفر الكافرين به وشرك المشركين ، وهذا شأن كلّ مبطل ، ولهذا صار هذا ميزانا في ورثته ، يعارضون نصوص الأنبياء بأقوال الزنادقة والملاحدة وأفراخ الفلاسفة والصابئة والسحرة ومبتدعة الأمة وأهل الضلال

٢١٣

منهم ، فأجابه موسى عن معارضته بأحسن جواب فقال (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي (٥٢)) [طه] أي : أعمال تلك القرون وكفرهم وشركهم معلوم لربي ، قد أحصاه وحفظه وأودعه في كتاب ، فيجازيهم عليه يوم القيامة ، ولم يودعه في كتاب خشية النسيان والضلال ، فإنه سبحانه لا يضلّ ولا ينسى ، وعلى هذا فالكتاب هاهنا كتاب الأعمال. وقال الكلبي : يعني به اللوح المحفوظ ، وعلى هذا فهو كتاب القدر السابق ، والمعنى على هذا أنه سبحانه قد علم أعمالهم ، وكتبها عنده قبل أن يعملوها ، فيكون هذا من تمام قوله (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)) [طه] فتأمله.

فصل

وهو سبحانه في القرآن كثيرا ما يجمع بين الخلق والهداية ، كقوله في أول سورة أنزلها على رسوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)) [العلق] وقوله : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤)) [الرحمن] وقوله : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١)) [البلد] وقوله : (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣)) [الإنسان] وقوله (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ (٦٠)) [النمل] الآيات ثم قال (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (٦٣)) [النمل].

فالخلق إعطاء الوجود العيني الخارجي ، والهدى إعطاء الوجود العلمي الذهني ، فهذا خلقه ، وهذا هداه وتعليمه.

٢١٤

فصل

المرتبة الثانية من مراتب الهداية : هداية الإرشاد والبيان للمكلفين ، وهذه الهداية لا تستلزم حصول التوفيق واتّباع الحق ، وإن كانت شرطا فيه ، أو جزء سبب ، وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب ، بل قد يتخلّف عنه المقتضى ، إما لعدم كمال السبب ، أو لوجود مانع ، ولهذا قال تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى (١٧)) [فصلت] قال (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ (١١٥)) [التوبة] فهداهم هدى البيان والدلالة ، فلم يهتدوا ، فأضلّهم عقوبة لهم على ترك الاهتداء أولا ، بعد أن عرفوا الهدى ، فأعرضوا عنه ، فأعماهم عنه ، بعد أن أراهموه ، وهذا شأنه سبحانه في كل من أنعم عليه بنعمة ، فكفرها ، فإنه يسلبه إياها ، بعد أن كانت نصيبه وحظه ، كما قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ (٥٣)) [الأنفال].

وقال تعالى عن قوم فرعون (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا (١٤)) [النمل] أي : جحدوا بآياتنا بعد أن تيقّنوا صحتها.

وقال : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)) [آل عمران] وهذه الهداية هي التي أثبتها لرسوله حيث قال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)) [الشورى] ونفى عنه ملك الهداية الموجبة ، وهي هداية التوفيق والإلهام بقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ (٥٦)) [القصص] ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بعثت داعيا ومبلّغا ، وليس إليّ

٢١٥

من الهداية شيء (١).

وبعث إبليس مزينا ومغويا ، وليس إليه من الضلالة شيء ، قال تعالى : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)) [يونس] فجمع سبحانه بين الهداء يتبين العامة والخاصة ، فعم بالدعوة حجة مشيئة وعدلا ، وخص بالهداية نعمة مشيئة وفضلا ، وهذه المرتبة أخصّ من التي قبلها ، فإنها هداية تخص المكلفين ، وهي حجة الله على خلقه التي لا يعذب أحدا إلا بعد إقامتها عليه. قال تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)) [الإسراء] وقال : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ (١٦٥)) [النساء] وقال : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧)) [الزمر] وقال : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)) [الملك].

فإن قيل : كيف تقوم حجته عليهم ، وقد منعهم من الهدى ، وحال بينهم وبينه.

قيل : حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى ، وبيان الرسل لهم ، وإراءتهم الصراط المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانا ، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرا وباطنا ، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب ، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله ، فإنه لا يعذّبه حتى يقيم عليه حجته ، فلم يمنعهم من هذا الهدى ، ولم يحل بينهم وبينه. نعم قطع عنهم توفيقه ، ولم يرد من نفسه إعانتهم والإقبال بقلوبهم إليه ، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم ، وإن

__________________

(١) حديث باطل. رواه ابن عدي في «الكامل» (٣ / ٩١٠) عن عمر. وفيه خالد بن عبد الرحمن أبو الهيثم العبدي : قال الدارقطني : لا أعلمه روى غير هذا الحديث الباطل. وقد ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» (١ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣).

٢١٦

حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه ، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه ، فهذا غير مقدور لهم ، وهو الذي منعوه وحيل بينهم وبينه ، فتأمل هذا الموضع ، واعرف قدره ، والله المستعان.

فصل

المرتبة الثالثة من مراتب الهداية : هداية التوفيق والإلهام ، وخلق المشيئة المستلزمة للفعل ، وهذه المرتبة أخصّ من التي قبلها ، وهي التي ضل جهّال القدرية بإنكارها ، وصاح عليهم سلف الأمة وأهل السنة منهم ، من نواحي الأرض عصرا بعد عصر ، إلى وقتنا هذا ، ولكن الجبرية ظلمتهم ولم تنصفهم ، كما ظلموا أنفسهم بإنكار الأسباب والقوى ، وإنكار فعل العبد وقدرته ، وأن يكون له تأثير في الفعل البتة ، فلم يهتدوا لقول هؤلاء ، بل زادهم ضلالا على ضلالهم وتمسكا بما هم عليه ، وهذا شأن المبطل إذا دعا مبطلا آخر إلى ترك مذهبه ، لقوله ومذهبه الباطل ، كالنصرانيّ إذا دعا اليهوديّ إلى التثليث وعبادة الصليب ، وأنّ المسيح إله تام غير مخلوق ، إلى أمثال ذلك من الباطل الذي هو عليه.

وهذه المرتبة تستلزم أمرين.

أحدهما : فعل الرب تعالى ، وهو الهدى.

والثاني : فعل العبد ، وهو الاهتداء ، وهو أثر فعله سبحانه ، فهو الهادي ، والعبد المهتدي ، قال تعالى : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ (١٧)) [الكهف].

ولا سبيل إلى وجود الأثر إلا بمؤثّره التام ، فإن لم يحصل فعله ، لم

٢١٧

يحصل فعل العبد ، ولهذا قال تعالى : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ (٣٧)) [النحل].

وهذا صريح في أن هذا الهدى ليس له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولو حرص عليه ، ولا إلى أحد غير الله ، وأن الله سبحانه إذا أضل عبدا ، لم يكن لأحد سبيل إلى هدايته ، كما قال تعالى : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ (١٨٦)) [الأعراف] وقال تعالى : (مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩)) [الأنعام] وقال تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ (٨)) [فاطر] وقال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)) [الجاثية] وقال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (٢٧٢)) [البقرة] وقال : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها (١٣)) [السجدة] وقال : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً (٣١)) [الرعد] وقال : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ (١٢٥)) [الأنعام].

وقال أهل الجنة : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ (٤٣)) [الأعراف] ولم يريدوا أنّ بعض الهدى منه وبعضه منهم ، بل الهدى كله منه ، ولو لا هدايته لهم لما اهتدوا.

وقال تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧)) [الزمر] وقال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤)) [إبراهيم] وقال : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ (٣٦)) [النحل] وقال تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ

٢١٨

الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧)) [إبراهيم] وقال تعالى : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ (٣١)) [المدثر] وقال : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦)) [البقرة] وقال : (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)) [المائدة].

وأمر سبحانه عباده كلهم أن يسألوه هدايتهم الصراط المستقيم ، كلّ يوم وليلة ، في الصلوات الخمس ، وذلك يتضمن الهداية إلى الصراط والهداية فيه. كما أن الضلال نوعان ، ضلال عن الصراط ، فلا يهتدي إليه ، وضلال فيه. فالأول ضلال عن معرفته ، والثاني ضلال عن تفاصيله أو بعضها.

قال شيخنا : ولما كان العبد في كلّ حال مفتقرا إلى هذه الهداية ، في جميع ما يأتيه ويذره من أمور قد أتاها على غير الهداية ، فهو محتاج إلى التوبة منها ، وأمور هدي إلى أصلها دون تفصيلها ، أو هدي إليها من وجه دون وجه ، فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها ، ليزداد هدى ، وأمور هو محتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها ، في المستقبل ، مثل ما حصل له في الماضي ، وأمور هو خال عن اعتقاد فيها ، فهو محتاج إلى الهداية ، وأمور لم يفعلها ، فهو محتاج إلى فعلها على وجه الهداية ، إلى غير ذلك من أنواع الهدايات ، فرض الله عليه أن يسأله هذه الهداية في أفضل أحواله ، وهي الصلاة ، مرات متعددة في اليوم والليلة ، انتهى كلامه.

ولا يتم المقصود إلا بالهداية إلى الطريق والهداية فيها ، فإنّ العبد قد يهتدي إلى طريق قصده وتنزيله عن غيرها ، ولا يهتدي إلى تفاصيل سيره فيها وأوقات السير من غيره وزاد المسير وآفات الطريق.

٢١٩

ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً (٤٨)) [المائدة] قال : سبيلا وسنة ، وهذا التفسير يحتاج إلى تفسير ، فالسبيل : الطريق ، وهي : المنهاج. والسنة والشرعة ، وهي تفاصيل الطريق وحزوناته وكيفية المسير فيه وأوقات المسير ، وعلى هذا فقوله : سبيلا وسنة ، يكون السبيل المنهاج ، والسنة الشرعة. فالمقدم في الآية للمؤخر في التفسير. وفي لفظ آخر : سنة وسبيلا ، فيكون المقدم للمقدم والمؤخر للتالي.

فصل

ومن هذا إخباره سبحانه بأنه طبع على قلوب الكافرين ، وختم عليها ، وأنه أصمّها عن الحقّ ، وأعمى أبصارها عنه ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ (٧)) [البقرة] والوقف التام هنا ، ثم قال : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ (٧)) [البقرة] كقوله : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣)) [الجاثية] وقال تعالى : (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ (١٥٥)) [النساء] وقال تعالى : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١)) [الأعراف] (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤)) [يونس] (وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠)) [الأعراف].

وأخبر سبحانه أن على بعض القلوب أقفالا ، تمنعها من أن تنفتح لدخول الهدى إليها ، وقال : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى (٤٤)) [فصلت].

فهذا الوقر والعمى حال بينهم وبين أن يكون لهم هدى وشفاء.

٢٢٠