شفاء العليل

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]

شفاء العليل

المؤلف:

شمس الدّين محمّد بن أبي بكر بن أيّوب الزّرعي [ ابن القيّم ]


المحقق: عصام فارس الحرستاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٧٦

يكن محدثا مخترعا للفعل. والأشعري يقول : العبد ليس بفاعل ، وإن نسب إليه الفعل ، وإنما الفاعل في الحقيقة هو الله ، فلا فاعل سواه.

الثاني : أنهم يقولون : الرب هو المحدث ، والعبد هو الفاعل.

وقالت فرقة : بل أفعال العباد فعل لله على الحقيقة ، وفعل العبد على المجاز ، وهذا أحد قولي الأشعري.

وقالت فرقة أخرى ، منهم القلانسي وأبو إسحاق (١) في بعض كتبه : أنها فعل لله على الحقيقة. وفعل الإنسان على الحقيقة ، لا على معنى أنه أحدثها ، بل على معنى أنه كسب له.

وقالت طائفة أخرى وهم جهم (٢) وأتباعه : إنّ القادر ، على الحقيقة ، هو الله وحده ، وهو الفاعل حقا ، ومن سواه ليس بفاعل ، على الحقيقة ، ولا كاسب أصلا ، بل هو مضطر إلى جميع ما فيه من حركة وسكون ، وقول القائل : قام وقعد وأكل وشرب ، مجاز بمنزلة مات وكبر ووقع ، وطلعت الشمس وغربت ، وهذا قول الجبرية الغلاة.

وقابله طائفة أخرى ، فقالوا : العباد موجدون لأفعالهم مخترعون لها بقدرهم وإرادتهم ، والربّ لا يوصف بالقدرة على مقدور العبد ، ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته ، كما لا يوصف العباد بمقدور الرب ، ولا تدخل أفعاله تحت قدرهم ، وهذا قول جمهور القدرية ، وكلهم متفقون على أن الله سبحانه

__________________

(١) أبو إسحاق هو النّظّام إبراهيم بن سيّار البصري المعتزلي : مات سنة بضع وعشرين ومائتين.

(٢) جهم بن صفوان أبو محرز الراسبي السمرقندي ، رأس الجهمية منكري الصفات ، قتله سلم بن أحوز سنة ١٢٨.

١٤١

غير فاعل لأفعال العباد ، واختلفوا : هل يوصف بأنه مخترعها ومحدثها ، وأنه قادر عليها وخالق لها؟ فجمهورهم نفوا ذلك ، ومن يقرب منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله ، وأن الله سبحانه قادر على أعيانها ، وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها ، وليس معنى قدرة الله عليها عندهم أنه قادر على فعلها ، هذا عندهم عين المحال ، بل قدرته عليها إقدارهم على إحداثها ، فإنما أحدثوها بقدرته وإقداره وتمكينه ، وهؤلاء أقرب القدرية إلى السنة.

وأرباب هذه المذاهب ، مع كلّ طائفة منهم خطأ وصواب ، وبعضهم أقرب إلى الصواب ، وبعضهم أقرب إلى الخطأ ، وأدلة كل منهم وحججه إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى ، لا على إبطال ما أصابوا فيه ، فكل دليل صحيح للجبرية ، إنما يدلّ على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته ، وأنه لا خالق غيره ، وأنه على كل شيء قدير ، لا يستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات ، وهذا حق ، ولكن ليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون العبد قادرا مريدا فاعلا بمشيئته وقدرته ، وأنه هو الفاعل حقيقة ، وأفعاله قائمة به ، وأنها فعل له لا لله ، وأنها قائمة به لا بالله.

وكل دليل صحيح بقيمه القدرية ، فإنما يدل على أنّ أفعال العباد فعل لهم ، قائم بهم ، واقع بقدرتهم ومشيئتهم وإرادتهم ، وأنهم مختارون لها غير مضطرين ولا مجبورين ، وليس معهم دليل صحيح ينفي أن يكون الله سبحانه قادرا على أفعالهم ، وهو الذي جعلهم فاعلين. فأدلّة الجبرية متضافرة صحيحة على من نفى قدرة الرب سبحانه على كل شيء من الأعيان والأفعال ، ونفى عموم مشيئته وخلقه لكلّ موجود ، وأثبت في الوجود شيئا بدون مشيئته وخلقه ، وأدلة القدرية متضافرة صحيحة على من نفى فعل العبد وقدرته ومشيئته واختياره ، وقال : إنه ليس بفاعل شيئا ، والله يعاقبه على ما

١٤٢

لم يفعله ولا له قدرة عليه ، بل هو مضطر إليه مجبور عليه.

وأهل السنة وحزب الرسول وعسكر الإيمان لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء ، بل هم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه ، وهم مع هؤلاء فيما أصابوا فيه ، فكلّ حقّ مع طائفة من الطوائف ، فهم يوافقونهم فيه ، وهم براء من باطلهم ، فمذهبهم جمع حقّ الطوائف بعضه إلى بعض ، والقول به ونصره وموالاة أهله من ذلك الوجه ، ونفي باطل كل طائفة من الطوائف وكسره ، ومعاداة أهله من هذا الوجه ، فهم حكام بين الطوائف ، لا يتحيزون إلى فئة منهم على الإطلاق ، ولا يردّون حقّ طائفة من الطوائف ، ولا يقابلون بدعة ببدعة ، ولا يردون باطلا بباطل ، ولا يحملهم شنآن قوم يعادونهم ويكفرونهم على أن لا يعدلوا فيهم ، بل يقولون فيهم الحقّ ، ويحكمون في مقالاتهم بالعدل.

والله سبحانه وتعالى أمر رسوله أن يعدل بين الطوائف فقال : (فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) (١٥) [الشورى] فأمره سبحانه أن يدعو إلى دينه وكتابه ، وأن يستقيم في نفسه كما أمره ، وأن لا يتّبع هوى أحد من الفرق ، وأن يؤمن بالحق جميعه ، لا يؤمن ببعضه دون بعض ، وأن يعدل بين أرباب المقالات والديانات.

وأنت إذا تأملت هذه الآية ، وجدت أهل الكلام الباطل وأهل الأهواء والبدع ، من جميع الطوائف ، أبخس الناس منها حظا ، وأقلهم نصيبا ، ووجدت حزب الله ورسوله وأنصار سنته هم أحق بها وأهلها ، وهم في هذه المسألة وغيرها من المسائل أسعد بالحق من جميع الطوائف ، فإنهم يثبتون قدرة الله على جميع الموجودات من الأعيان والأفعال ، ومشيئته العامة ، وينزّهونه أن يكون في ملكه ما لا يقدر عليه ، ولا هو واقع تحت مشيئته ، ويثبتون القدر السابق ، وأنّ العباد يعملون على ما قدّره الله وقضاه وفرغ منه ،

١٤٣

وأنه لا يشاءون إلا أن يشاء الله ، ولا يفعلون إلا من بعد مشيئته ، وأنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، ولا تخصيص عندهم في هاتين القضيتين بوجه من الوجوه. والقدر عندهم قدرة الله تعالى وعلمه ومشيئته وخلقه ، فلا يتحرك ذرة فما فوقها إلا بمشيئته وعلمه وقدرته ، فهم المؤمنون بلا حول ولا قوة إلا بالله ، على الحقيقة ، إذ قالها غيرهم على المجاز ، إذ العالم علويّه وسفليّته وكل حي يفعل فعلا ، فإن فعله بقوة فيه على الفعل ، وهو في حول من ترك إلى فعل ومن فعل إلى ترك ومن فعل إلى فعل ، وذلك كله بالله تعالى ، لا بالعبد ، ويؤمنون بأنّ من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأنه هو الذي يجعل المسلم مسلما ، والكافر كافرا ، والمصلي مصليا ، والمتحرك متحركا ، وهو الذي يسير عبده في البر والبحر ، وهو المسيّر والعبد السائر ، وهو المحرّك والعبد المتحرك ، وهو المقيم والعبد القائم ، وهو الهادي والعبد المهتدي ، وأنه المطعم والعبد الطاعم ، وهو المحيي المميت والعبد الذي يحيى ويموت ، ويثبتون مع ذلك قدرة العبد وإرادته واختياره وفعله حقيقة لا مجازا.

وهم متفقون على أن الفعل غير المفعول كما حكاه عنهم البغويّ وغيره ، فحركاتهم واعتقاداتهم أفعال لهم حقيقة ، وهي مفعولة لله سبحانه ، مخلوقة له حقيقة ، والذي قام بالرب عزوجل علمه وقدرته ومشيئته وتكوينه ، والذي قام بهم هو فعلهم وكسبهم وحركاتهم وسكناتهم ، فهم المسلمون المصلون القائمون القاعدون حقيقة ، وهو سبحانه هو المقدر لهم على ذلك ، القادر عليه الذي شاءه منهم ، وخلقه لهم ، ومشيئته وفعله بعد مشيئته ، فما يشاءون إلا أن يشاء الله ، وما يفعلون إلا أن يشاء الله.

وإذا وازنت بين هذا المذهب وبين ما عداه من المذاهب ، وجدته هو المذهب الوسط والصراط المستقيم ، ووجدت سائر المذاهب خطوطا عن

١٤٤

يمينه وعن شماله ، فقريب منه وبعيد ، وبين ذلك ، وإذا أعطيت الفاتحة حقّها ، وجدتها من أولها إلى آخرها منادية على ذلك دالة عليه صريحة فيه ، وإن كان حمده لا يقتضي غير ذلك ، وكذلك كمال ربوبيته للعالمين لا يقتضي غير ذلك ، فكيف يكون الحمد كله لمن لا يقدر على مقدور أهل سماواته وأرضه من الملائكة والجن والإنس والطير والوحش ، بل يفعلون ما لا يقدر ، ولا يشاؤه ، ويشاء ما لا يفعله كثير منهم ، فيشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء ، وهل يقتضي ذلك كمال حمده ، وهل يقتضيه كمال ربوبيته.

ثم قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)) [الفاتحة] مبطل لقول الطائفتين المنحرفتين عن قصد السبيل ، فإنه يتضمن إثبات فعل العبد ، وقيام العبادة به حقيقة ، فهو العابد على الحقيقة ، وإن ذلك لا يحصل له إلا بإعانة رب العالمين عزوجل له ، فإن لم يعنه ولم يقدره ولم يشأ له العبادة ، لم يتمكن منها ، ولم يوجد منه البتة ، فالفعل منه ، والإقدار والإعانة من الرب عزوجل.

ثم قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦)) [الفاتحة] يتضمن طلب الهداية ممن هو قادر عليها ، وهي بيده إن شاء أعطاها عبده ، وإن شاء منعه إياها. والهداية معرفة الحق والعمل له ، فمن لم يجعله الله تعالى عالما بالحق عاملا به ، لم يكن له سبيل إلى الاهتداء ، فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء التي لا يتخلف عنها ، وهي جعل العبد مريدا للهدى محبّا له مؤثرا له عاملا به ، فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل ، وهي التي قال سبحانه فيها : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ (٥٦)) [القصص] مع قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢)) [الشورى] فهذه هداية الدعوة والتعليم والإرشاد ، وهي التي هدى بها ثمود ، فاستحبّوا

١٤٥

العمى عليها ، وهي التي قال تعالى فيها : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ (١١٥)) [التوبة] فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجّته عليهم ، ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضل من هداه بها ، فذاك عدله فيهم ، وهذا حكمته ، فأعطاهم ما تقوم به الحجة عليهم ، ومنعهم ما ليسوا له بأهل ، ولا يليق بهم.

وسنذكر في الباب الذي بعد هذا ، إن شاء الله تعالى ، ذكر الهدى والضلال ومراتبهما وأقسامهما ، فإنه عليه مدار مسائل القدر. والمقصود ذكر بعض ما يدل على إثبات هذه المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر ، وهي خلق الله تعالى لأفعال المكلفين ، ودخولها تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه وكتابه. قال تعالى (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢)) [الزمر] وهذا عام محفوظ ، لا يخرج عنه شيء من العالم أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته ، وليس مخصوصا بذاته وصفاته ، فإنه الخالق ـ بذاته وصفاته ، وما سواه مخلوق له ، واللفظ قد فرّق بين الخالق والمخلوق ، وصفاته سبحانه داخلة في مسمّى اسمه ، فإن الله سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال ، المنزه عن كل صفة نقص ومثال.

والعالم قسمان : أعيان وأفعال ، وهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال ، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك ، فلا يخرج شيء منه عن علمه ، ولا عن قدرته ، ولا عن خلقه ومشيئته.

قالت القدرية : نحن نقول : إن الله خالق أفعال العباد ، لا على أنه محدثها ومخترعها ، لكن على معنى أنه مقدّرها ، فإنّ الخلق التقدير ، كما قال تعالى (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤)) [المؤمنون].

١٤٦

وقال الشاعر :

ولأنت تفري ما خلقت و

بعض القوم يخلق ثم لا يفري

أي : لأنت تمضي ما قدّرته وتنفذه بعزمك وقدرتك ، وبعض القوم يقدّر ثم لا قوة له ولا عزيمة على إنفاذ ما قدره وإمضائه ، فالله تعالى مقدّر أفعال العباد وهم الذين أوجدوها وأحدثوها.

قال أهل السنة : قدماؤكم ينكرون تقدير الله سبحانه لأعمال العباد البتة ، فلا يمكنهم أن يجيبوا بذلك ، ومن اعترف منكم بالتقدير ، فهو تقدير لا يرجع إلي تأثير ، وإنما هو مجرد العلم بها والخبر عنها ، وليس التقدير عندكم جعلها على قدر كذا وكذا ، فإن هذا عندكم غير مقدور للرب ، ولا مصنوع له ، وإنما هو صنع العبد وإحداثه ، فرجع التقدير إلي مجرد العلم والخبر ، وهذا لا يسمى خلقا في لغة أمة من الأمم ، ولو كان هذا خلقا ، لكان من علم شيئا وعلم أسماءه (١) وصفاته ، وأخبر عنه بذلك خالقا له ، فالتقدير الذي أثبتموه إن كان متضمنا للتأثير في إيجاد الفعل فهو خلاف مذهبكم ، وإن لم يتضمن تأثيرا في إيجاده ، فهو راجع إلى محض العلم والخبر.

قالت القدرية : قوله : الله خالق كل شيء ، من العام المراد به الخاص ، ولا سيما فإنكم قلتم : إنّ القرآن لم يدخل في هذا العموم ، وهو من أعظم الأشياء وأجلّها ، فخصصنا منه أفعال العباد بالأدلة الدالة على كونها فعلهم ومنعهم.

قال أهل السنة : القرآن كلام الله سبحانه ، وكلامه صفة من صفاته ، وصفات الخالق وذاته لم تدخل في المخلوق ، فإن الخالق غير المخلوق ،

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «أسمائه».

١٤٧

فليس هاهنا تخصيص البتة ، بل الله سبحانه بذاته وصفاته الخالق ، وكل ما عداه مخلوق ، وذلك عموم لا تخصيص فيه بوجه ، إذ ليس إلا الخالق والمخلوق ، والله وحده الخالق ، وما سواه كله مخلوق.

وأما الأدلة الدالة على أنّ أفعال العباد صنع لهم ، وإنما أفعالهم القائمة بهم ، وأنهم هم الذين فعلوها ، فكلها حق ، نقول بموجبها ، ولكن لا ينبغي أن تكون أفعالا لهم. ومخلوقة مفعولة لله ، فإن الفعل غير المفعول ، ولا نقول : إنها فعل لله ، والعبد مضطر مجبور عليها ، ولا نقول : إنها فعل للعبد ، والله غير قادر عليها ولا جاعل للعبد فاعلا لها ، ولا نقول : إنها مخلوقة بين مخلوقين مستقلين بالإيجاد والتأثير ، وهذه الأقوال كلها باطلة.

قالت القدرية : يعني قوله : (الله خالق كل شيء) مما لا يقدر عليه غيره ، وأما أفعال العباد التي يقدر عليها العباد ، فإضافتها إليهم تنفي إضافتها إليه. وإلا لزم وقوع مفعولين بين فاعلين وهو محال.

قال أهل السنة : إضافتها إليهم فعلا وكسبا لا ينفي إضافتها إليه سبحانه خلقا ومشيئة ، فهو سبحانه الذي شاءها وخلقها ، وهم الذين فعلوها وكسبوها حقيقة ، فلو لم تكن مضافة إلى مشيئته وقدرته وخلقه لاستحال وقوعها منهم ، إذ العباد أعجز وأضعف من أن يفعلوا ما لم يشأه الله ، ولم يقدر عليه ، ولا خلقه.

فصل

ومما يدل على قدرته سبحانه على أفعالهم قوله : (والله على كل شيء

١٤٨

قدير) واعتراض القدرية على الاستدلال بذلك ، والجواب عنه نظير الاعتراض على قوله : (الله خالق كل شيء) وجوابه ، ونزيده تقريرا أنّ أفعالهم أشياء ممكنة ، والله قادر على كلّ ممكن ، فهو الذي جعلهم فاعلين بقدرته ومشيئته ؛ ولو شاء لحال بينهم وبين الفعل ، مع سلامة آلة الفعل منهم كما قال تعالى (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)) [البقرة] وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ (١١٢)) [الأنعام] وقال : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً (٩٩)) [يونس].

فهو سبحانه يحول بين المرء وقلبه وبين الإنسان ونطقه ، وبين اليد وبطشها ، وبين الرّجل ومشيها ، فكيف يظنّ به ظنّ السوء ، ويجعل له مثل السوء ، أنه لا يقدر على ما يقدر عليه عباده ، ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته ، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون لقدرته علوا كبيرا.

نعم ولا نظنّ به ظنّ السوء ، ونجعل له مثل السوء أنه يعاقب عباده على ما لم يفعلوه ، ولا قدرة لهم على فعله ، بل على ما فعله هو دونهم واضطرهم إليه وجبرهم عليه ، وذلك بمنزلة عقوبة الزّمن إذا لم يطر إلى السماء ، وعقوبة أشلّ اليد على ترك الكتابة ، وعقوبة الأخرس على ترك الكلام ، فتعالى الله عن هذين المذهبين الباطلين المنحرفين عن سواء السبيل.

فصل

ومن الدليل على خلق أعمال العباد قوله تعالى : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ

١٤٩

وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ (٨١)) [النحل].

فأخبر أنه هو الذي جعل السرابيل ، وهي الدروع والثياب المصنوعة ، ومادتها لا تسمى سرابيل إلا بعد أن (١) تحلّيها صنعة الآدميين وعملهم ، فإذا كانت مجعولة لله ، فهي مخلوقة له بجملتها صورتها ومادتها وهيآتها.

ونظير هذا قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ (٨٠)) [النحل] فأخبر سبحانه أن البيوت المصنوعة المستقرة المنتقلة مجعولة له ، وهي إنما صارت بيوتا بالصنعة الآدمية.

ونظيره قوله تعالى : (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢)) [يس] فأخبر سبحانه أنه خالق الفلك المصنوع للعباد ، وأبعد من قال : إن المراد بمثله هو الإبل ، فإنه إخراج المماثل حقيقة ، واعتبار لما هو بعيد عن المماثلة.

ونظير ذلك قوله تعالى حكاية عن خليله ، أنه قال لقومه : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) [الصافات] فإن كانت ما مصدرية ، كما قدّره بعضهم ، فالاستدلال ظاهر ، وليس بقوي ، إذ لا تناسب بين إنكاره عليهم عبادة ما ينحتونه بأيديهم ، وبين إخبارهم بأنّ الله خالق أعمالهم ، من عبادة تلك الآلهة ونحتها وغير ذلك ، فالأولى أن تكون «ما» موصولة أي : والله خلقكم وخلق آلهتكم التي عملتموها بأيديكم ، فهي مخلوقة له ، لا آلهة شركاء معه ، فأخبر أنه خلق معمولهم ، وقد حله عملهم وصنعهم ، ولا يقال : المراد مادته ، فإنّ مادته غير معمولة لهم ، وإنما يصير معمولا بعد عملهم.

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «أن بعد».

١٥٠

فصل

وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي جعل أئمة الخير ، يدعون إلى الهدى ، وأئمة الشر يدعون إلى النار ، فتلك الإمامة والدعوة بجعله ، فهي مجعولة له ، وفعل لهم ، قال تعالى عن آل فرعون (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ (٤١)) [القصص] وقال عن أئمة الهدى (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا (٧٣)) [الأنبياء] فأخبر أن هذا وهذا بجعله ، مع كونه كسبا وفعلا للأئمة ، ونظير ذلك قول الخليل (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ (١٢٨)) [البقرة] فأخبر الخليل أنه سبحانه هو الذي يجعل المسلم مسلما. وعند القدرية هو الذي جعل نفسه مسلما ، لا أن الله جعله مسلما ، ولا جعله إماما يهدي بأمره ، ولا جعل الآخر إماما يدعو إلى النار على الحقيقة ، بل هم الجاعلون لأنفسهم كذلك حقيقة ، ونسبة هذا الجعل إلى الله مجاز بمعنى التسمية ، أي : سمّنا مسلمين لك ، وكذلك جعلناهم أئمة ، أي : سميناهم كذلك ، وهم جعلوا أنفسهم أئمة رشد وضلال ، فمنهم الحقيقة ومنه المجاز والتعبير.

فصل

ومن ذلك إخباره سبحانه بأنه هو الذي يلهم العبد فجوره وتقواه. والإلهام : الإلقاء في القلب ، لا مجرد البيان والتعليم ، كما قاله طائفة من المفسرين ، إذ لا يقال لمن بيّن لغيره شيئا ، وعلّمه إياه ، أنه قد ألهمه ذلك ،

١٥١

هذا لا يعرف في اللغة البتة ، بل الصواب ما قاله ابن زيد ، قال : جعل فيها فجورها وتقواها. وعليه حديث عمران بن حصين ، أنّ رجلا من مزينة أو جهينة أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله! أرأيت ما يعمل الناس فيه ويكدحون ، أشيء قضي عليهم ، ومضى عليهم من قدر سابق ، أو فيما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم؟ قال : بل شيء قضي عليهم ومضى ، قال : ففيم العمل؟ قال : من خلقه الله لإحدى المنزلتين ، استعمله بعمل أهلها. وتصديق ذلك في كتاب الله (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨)) [الشمس] (١).

فقراءته هذه الآية عقيب إخباره بتقديم القضاء والقدر السابق ، يدل على أنّ المراد بالإلهام استعمالها فيما سبق لها ، لا مجرد تعريفها ، فإن التعريف والبيان لا يستلزم وقوع ما سبق به القضاء والقدر.

ومن فسّر الآية من السلف بالتعليم والتعريف ، فمراده تعريف مستلزم لحصول ذلك ، لا تعريف مجرد عن الحصول ، فإنه لا يسمى إلهاما. وبالله التوفيق.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)) [الملك] وذات الصدور كلمة لما يشتمل عليه الصدر من الاعتقادات والإرادات والحب والبغض ، أي : صاحبة الصدور ،

__________________

(١) أخرجه أحمد ٤ / ٤٣٨ ، ومسلم ٨ / ٤٨ ، وانظر المسند الجامع ١٤ / ٢٧٨ (١٠٩٢٠).

١٥٢

فإنها لما كانت فيها قائمة بها ، نسبت إليها نسبة الصّحبة والملازمة. وقد اختلف في إعراب «من خلق» هو النصب أو الرفع ، فإن كان مرفوعا ، فهو استدلال على علمه بذلك ، لخلقه له ، والتقدير : إنه يعلم ما تضمّنته الصدور ، وكيف لا يعلم الخالق ما خلقه. وهذا الاستدلال في غاية الظهور والصحة ، فإنّ الخلق يستلزم حياة الخالق وقدرته وعلمه ومشيئته.

وإن كان منصوبا ، فالمعنى : ألا يعلم مخلوقه؟ وذكر لفظة «من» تغليبا ، ليتناول العلم العاقل وصفاته على التقديرين ، فالآية دالّة على خلق ما في الصدور ، كما هي دالة على علمه سبحانه به ، وأيضا فإنه سبحانه خلقه لما في الصدور دليلا على علمه بها ، فقال : ألا يعلم من خلق؟! أي : كيف يخفى عليه ما في الصدور ، وهو الذي خلقه؟! فلو كان ذلك غير مخلوق له ، لبطل الاستدلال به على العلم ، فخلقه سبحانه للشيء من أعظم الأدلة على علمه به ، فإذا انتفى الخلق انتفى دليل العلم ، فلم يبق ما يدل على علمه بما ينطوي عليه الصدر إذا كان غير خالق لذلك ، وهذا من أعظم الكفر برب العالمين ، وجحد لما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم ، وعلم بالضرورة أنهم ألقوه إلى الأمم كما ألقوا إليهم أنه إله واحد ، لا شريك له.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى ، حكاية عن خليله إبراهيم أنه قال : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي (٤٠)) [إبراهيم] وقوله : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ (٣٧)) [إبراهيم] وقوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً (٢٧)) [الحديد] وقوله حكاية عن زكريا أنه قال عن ولده (وَاجْعَلْهُ

١٥٣

رَبِّ رَضِيًّا (٦)) [مريم] وقال في الطرف الآخر (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً (١٣)) [المائدة] وقال (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً (٢٥)) [الأنعام] وهذه الأكنّة والوقر هي شدة البغض والنفرة والإعراض التي لا يستطيعون معها سمعا ولا عقلا.

والتحقيق أنّ هذا ناشئ عن الأكنة والوقر ، فهو موجب ذلك ومقتضاه ، فمن فسّر الأكنة والوقر به ، فقد فسرهما بموجبهما ومقتضاهما ، وبكل حال فتلك النفرة والإعراض والبغض من أفعالهم ، وهي مجعولة لله سبحانه ، كما أنّ الرأفة والرحمة وميل الأفئدة إلى بيته هو من أفعالهم ، والله جاعله ، فهو الجاعل للذوات وصفاتها وأفعالها وإراداتها واعتقاداتها ، فذلك كله مجعول مخلوق له ، وإن كان العبد فاعلا له باختياره وإرادته.

فإن قيل : هذا كله معارض بقوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ (١٠٣)) [المائدة] والبحيرة والسائبة إنما صارت كذلك بجعل العباد لها ، فأخبر سبحانه أن ذلك لم يكن بجعله.

قيل : لا تعارض ـ بحمد الله ـ بين نصوص الكتاب ، بوجه ما ، والجعل هاهنا جعل شرعيّ أمريّ ، لا كونيّ قدريّ ، فإنّ الجعل في كتاب الله ينقسم إلى هذين (١) النوعين ، كما ينقسم إليهما الأمر والإذن والقضاء والكتابة والتحريم ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.

فنفى سبحانه عن البحيرة والسائبة جعله الدينيّ الشرعي ، أي : لم يشرع ذلك ، ولا أمر به ، ولكن الذين كفروا افتروا عليه الكذب ، وجعلوا ذلك دينا له بلا علم ، ومن ذلك قوله تعالى : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «هذه».

١٥٤

قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ (٥٣)) [الحج] فأخبر سبحانه أن هذه الفتنة الحاصلة بما ألقى الشيطان هي بجعله سبحانه ، وهذا جعل كوني قدري.

ومن هذا قوله صلى الله تعالى عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه : «اللهم اجعلني لك شكّارا ، لك ذكّارا ، لك رهّابا ، لك مطواعا ، لك مخبتا ، إليك أوّاها منيبا» (١) فسأل ربه أن يجعله كذلك ، وهذه كلها أفعال اختيارية واقعة بإرادة العبد واختياره. وفي هذا الحديث : «وسدّد لساني» وتسديد اللسان جعله ناطقا بالسداد من القول ، ومثله قوله في الحديث الآخر : «اللهم اجعلني لك مخلصا» ومثله قوله : «اللهم اجعلني أعظم شكرك وأكثر ذكرك وأتّبع نصيحتك وأحفظ وصيتك».

ومثل قول المؤمنين : ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا. فالصبر وثبات الأقدام فعلان اختياريان ، ولكن التصبير والتثبيت فعل الربّ تعالى ، وهو المسئول. والصبر والثبات فعلهم القائم بهم حقيقة ، ومثله قوله (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ (١٩)) [النمل] وقال ابن عباس والمفسرون بعده : ألهمني. قال أبو إسحاق : وتأويله في اللغة : كفّني عن الأشياء إلا نفس شكر نعمتك ، ولهذا يقال في تفسير «الموزع» المولع ، ومنه الحديث : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم موزعا بالسؤال أي : مولعا به ، كأنه كفّ ومنع إلا منه.

__________________

(١) صحيح. رواه أحمد (١ / ٢٢٧) ، والترمذي (٣٥٥١) ، وابن ماجة (٣٨٣٠) ، وغيرهم عن ابن عباس.

١٥٥

وقال في الصحاح : وزعته أزعه وزعا ، كففته ، فاتّزع عنه ، أي : كفّ ، وأوزعته بالشيء : أغريته به ، فأوزع به ، فهو موزع به ، واستوزعت الله شكره ، فأوزعني ، أي : استلهمته ، فألهمني. فقد دار معنى اللفظة على معنى ألهمني ذلك ، واجعلني مغرى به ، وكفّني عما سواه. وعند القدرية أن هذا غير مقدور للرب ، بل هو غير مقدور العبد.

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧)) [الحجرات] فتحبيبه سبحانه الإيمان إلى عباده المؤمنين هو إلقاء محبته في قلوبهم ، وهذا لا يقدر عليه سواه ، وأما تحبيب العبد الشيء إلى غيره فإنما هو بتزيينه وذكر أوصافه وما يدعو إلى محبته ، فأخبر سبحانه أنه جعل في قلوب عباده المؤمنين الأمرين : حبّه وحسنه الداعي إلى حبه ، وألقى في قلوبهم كراهة ضده من الكفر والفسوق والعصيان ، وإن ذلك محض فضله ومنّته عليهم ، حيث لم يكلهم إلى أنفسهم ، بل تولى هو سبحانه هذا التحبيب والتزيين وتكريه ضده ، فجاد عليهم به فضلا منه ونعمة ، والله عليم بمواقع فضله ومن يصلح له ومن لا يصلح له ، حكيم بجعله في مواضعه ، ومن ذلك قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)) [الأنفال] (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً (١٠٣)) [آل عمران].

١٥٦

وتأليف القلوب جعل بعضها يألف بعضا ، ويميل إليه ويحبه ، وهو من أفعالها الاختيارية ، وقد أخبر سبحانه أنه هو الذي فعل ذلك لا غيره ، ومن ذلك قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ (١١)) [المائدة] فأخبر سبحانه بفعلهم وهو الهمّ ، وبفعله وهو كفّهم عما همّوا به ، ولا يصح أن يقال : إنه سبحانه أشلّ أيديهم ، وأماتهم ، وأنزل عليهم عذابا ، حال بينهم وبين ما همّوا به ، بل كفّ قدرهم وإرادتهم مع سلامة حواسهم وبنيتهم وصحة آلات الفعل منهم.

وعند القدرية هذا محال ، بل هم الذين يكفون أنفسهم. والقرآن صريح في إبطال قولهم ، ومثله قوله : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ (٢٤)) [الفتح] فهذا كفّ أيدي الفريقين مع سلامتهما وصحتهما ، وهو بأن حال بينهم وبين الفعل ، فكفّ بعضهم عن بعض.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ (٥٣)) [النحل] والإيمان والطاعة من أجلّ النعم ، بل هما أجلّ النعم على الإطلاق ، فهما منه سبحانه تعليما ، وإرشادا وإلهاما وتوفيقا ومشيئة وخلقا. ولا يصح أن يقال : إنها أمرا وبيانا (١) فقط ، فإن ذلك حاصل بالنسبة إلى الكفار والعصاة ، فتكون نعمته على أكفر الخلق كنعمته على أهل الإيمان والطاعة والبر منهم ، إذ نعمة البيان والإرشاد مشتركة ، وهذا قول القدرية ، وقد صرح به كثير منهم ، ولم يجعلوا لله على العبد نعمة ، في مشيئتة وخلقه فعله وتوفيقه إياه حين فعله ، وهذا من قولهم الذي باينوا به جميع الرسل والكتب ، وطردوا ذلك حين لم يجعلوا لله على العبد منّة في إعطائه الجزاء ، بل قالوا : ذلك محض حقه الذي لا منة لله

__________________

(١) الأصل أن تكون (أمر وبيان) كونها خبرا لإن ، لكنه ألحقها بما سبق من قوله : تعليما وإرشادا ... ، أو أن كلمة ما سقطت ، مثل جاءت ، كانت.

١٥٧

عليه فيه ، واحتجوا بقوله : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)) [الانشقاق] قالوا أي : غير ممنون به عليهم ، إذ هو جزاء أعمالهم وأجورها. قالوا : والمنّة تكدّر النعمة والعطية ، ولم يدعوا هؤلاء للجهل بالله موضعا ، وقاسوا منّته على منة المخلوق ، فإنهم مشبّهة في الأفعال معطّلة في الصفات ، وليست المنة في الحقيقة ، إلا لله ، فهو المانّ بفضله ، وأهل سماواته وأهل أرضه في محض منته عليهم ، قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)) [الحجرات] وقال تعالى لكليمه موسى : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧)) [طه] وقال : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤)) [الصافات] وقال : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥)) [القصص].

ولما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للأنصار : «ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي وعالة فأغناكم الله بي؟ قالوا : الله ورسوله أمنّ» (١).

وقال الرسل لقومهم : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ (١١)) [إبراهيم] فمنّه سبحانه محض إحسانه وفضله ورحمته ، وما طاب عيش أهل الجنة فيها إلا بمنته عليهم ، ولهذا قال أهلها (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧)) [الطور] فأجزوا لمعرفتهم بربهم وحقه عليهم ، أن نجّاهم من عذاب السموم ، بمحض منته عليهم.

وقد قال أعلم الخلق بالله وأحبهم إليه وأقربهم منه وأطوعهم له : «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا

__________________

(١) رواه البخاري (٤٣٣٠) ، ومسلم (١٠٦١) عن عبد الله بن زيد بن عاصم.

١٥٨

أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل» (١).

وقال : «إن الله لو عذّب أهل سماواته وأرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم ، لكانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم» والأول في الصحيح والثاني في المسند والسنن ، وصححه الحاكم وغيره (٢).

فأخبر سيد العالمين والعاملين أنه لا يدخل الجنة بعمله. وقالت القدرية : إنهم يدخلونها بأعمالهم ، لئلا يتكدر نعيمهم عليهم بمشيئة الله ، بل يكون ذلك النعيم عوضا. وما رمى السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم القدرية عن قوس واحدة إلا لعظم بدعهم ومنافاتها لما بعث الله به أنبياءه ورسله ، فلو أتى العباد بكلّ طاعة ، وكانت أنفاسهم كلها طاعات لله ، لكانوا في محض منته وفضله ، وكانت له المنة عليهم ، وكلما عظمت طاعة العبد ، كانت منة الله عليه أعظم ، فهو المانّ بفضله ، فمن أنكر منته ، فقد أنكر إحسانه. وأما قوله تعالى (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)) [الانشقاق] فلم يختلف أهل العلم بالله ورسوله وكتابه أن معناه : غير مقطوع ، منه : ريب المنون ، وهو الموت ، لأنه يقطع العمر.

__________________

(١) رواه البخاري (٥٦٧٣) ، ومسلم (٢٨١٦) عن أبي هريرة.

(٢) أحمد (٥ / ١٨٢ ، ١٨٥ ، ١٨٩) وعبد بن حميد (٢٤٧) ، وأبو داود (٤٦٩٩) ، وابن ماجة (٧٧) ، عن زيد بن ثابت. وانظر المسند الجامع ٥ / ٥١٤ (٣٨٤١).

١٥٩

فصل

ومن ذلك قوله تعالى : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ (١٤)) [المائدة] وقوله : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ (٦٤)) [المائدة].

وهذا الإغراء والإلقاء محض فعله سبحانه ، والتعادي والتباغض أثره ، وهو محض فعلهم ، وأصل ضلال القدرية والجبرية من عدم اهتدائهم إلى الفرق بين فعله سبحانه وفعل العبد ، فالجبرية جعلوا التعادي والتباغض فعل الرب ، دون المتعادين (١) والمتباغضين ، والقدرية جعلوا ذلك محض فعلهم الذي لا صنع لله فيه ولا قدرة ولا مشيئة. وأهل الصراط السويّ جعلوا ذلك فعلهم ، وهو أثر فعل الله وقدرته ومشيئته ، كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ (٢٢)) [يونس] فالتسيير فعله ، والسير فعل العباد ، وهو أثر التسيير ، وكذلك الهدى والإضلال فعله ، والاهتداء والضلال أثر فعله ، وهما أفعالنا القائمة بنا ، فهو الهادي ، والعبد المهتدي ، وهو الذي يضل من يشاء ، والعبد الضال ، وهذا حقيقة ، وهذا حقيقة ، والطائفتان عن الصراط المستقيم ناكبتان.

__________________

(١) تحرفت في المطبوع إلى : «المتعاديين».

١٦٠