عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

١

٢

٣

القسم الثالث

الکلام فی النبوءة والشريعة والإمامة ومما يتعلق بذلك من الأمربالمعروف والنهي عن المنكر والأسماء الشرعية التي تترتب عليها الموالاة والمعاداة وما يتعلق بذلك.

٤

قال عليه‌السلام :

«كتاب النبوءة»

النّبوءة وزنها فعولة ، فإن همزت فهي من الإنباء ، وإن لم تهمز فهي من النّبوّ من نبا المكان إذا ارتفع.

ومنه قول أوس يرثي فضالة بن كلدة الأسدي :

على السيّد الصّعب لو أنّه

يقوم على ذروة الصّاقب

لأصبح رثما دقاق الحصى

مكان النّبيّ من الكاثب

قال : الكاثب جبل فيه رمل وحوله رواب يقال لها : النّبيّ.

الواحد ناب مثل غاز وغزيّ.

يقول : لو قام فضالة على الصّاقب وهو جبل لذلّ له وتسهل له حتى يصير كالرمل الذي في الكاثب. ذكر هذا في الصحاح.

وإن كان النّبيّ مأخوذا من الإنباء وهو الحقّ فهو (فعيل) بمعنى فاعل أي منبئ (١) عن الله تعالى.

ومثله نذير ، وقراءة نافع بالهمزة في القرآن.

و «هي» أي النبوءة في حقيقة الشرع : «وحي الله تعالى إلى أزكى البشر» وهو يخرج الملائكة أي أفضل البشر وأكملهم «عقلا» وخلقا وخلقا أي الزّائد على البشر في العقل والكمال وجميع الخلال المحمودة كذكاء

__________________

(١) (أ) أي ينبي.

٥

الفطنة وحسن الخلق والخلق والسّخاء والشّجاعة.

فلا بدّ أن يكون النبيء أفضلهم في هذه الخلال «و» أزكاهم «طهارة من» دنس «ارتكاب القبائح» ونحوها فلا يتعمد معصية لله عزوجل ، ولا يدخل في حرفة دنيّة مسترذلة.

«وأعلاهم» أي أعلى البشر «منصبا» أي أرفعهم بيتا وأطيبهم سنخا «بشريعة» متعلّق بقوله : وحي الله أي وحي الله بشريعة.

والشّريعة ما فرضه الشارع وهو الله سبحانه وبيّنه من الأحكام وأدلّتها على ما يأتي إن شاء الله تعالى.

والوحي في اللغة : الإشارة والكتابة والرّسالة والإلهام والكلام الخفي.

وكل ما ألقيته إلى غيرك يقال : وحيت إليه الكلام ، وأوحيت وهو أن تكلّمه بكلام تخفيه ، وأوحى الله إلى أنبيائه أي أشار إليهم. ذكر هذا في الصحاح.

واعلم : أن النبوءة فضيلة وأمانة يعطيها الله سبحانه من اختاره من عباده ممّن علم تعالى منه الوفاء بها والثّبوت عليها من غير جبر لقوله تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (١).

وقوله عزوجل : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) (٢).

واختصاصه تعالى بها بعض عباده كاختصاص بعضهم بكونه ذكرا وبعضهم بكونه ملكا ونحو ذلك.

وقد زعم بعض أهل (٣) الزيغ أنها مكتسبة بالطاعة فمن أراد أن يكون نبيّا اجتهد في الطاعة حتى يصير نبيّا. وهذا قول باطل لا التفات إليه.

قال العنسي : ويشترط في النبيء : أن يكون من جنس من أرسل إليهم ما خلا الجن فإنه يجوز أن يرسل إليهم غير جنسهم لقوله تعالى :

__________________

(١) الأنعام (١٢٤).

(٢) الحج (٧٥).

(٣) هو قول المطرفيّة تمت.

٦

(قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً)(١).

«والرّسالة لغة» أي في لغة العرب : «هي القول المبلّغ» إلى من أريد تبليغه إليه.

«وشرعا» أي في عرف أهل الشرع «كالنبوءة» في حقيقتها المذكورة سواء «إلّا أنه يقال في حقيقة الرّسالة في موضع بشريعة لتبليغ شريعة لم يسبقه» أي المرسل «بتبليغ جميعها أحد» فيقال في حدّ الرّسالة : هي وحي الله إلى أزكى البشر عقلا وطهارة من ارتكاب القبيح وأعلاهم منصبا لتبليغ شريعة لم يسبقه بتبليغ جميعها أحد ولا يشترط في الرسول أن لا يسبقه أحد بتبليغ شيء من شريعته إلى أحد إذ قد تتفق الشرائع في أشياء دون أشياء.

قيل : وأكثر أنبياء بني إسرائيل لم يبعث بشريعة جديدة بل بعث بتقرير الشريعة الأولى.

ومنهم من بعث بشريعة جديدة والله أعلم.

(فصل)

قال «الهادي عليه‌السلام» والناصر عليه‌السلام والإمام أحمد بن سليمان وكثير من قدماء أهل البيت عليهم‌السلام«وأهل اللطف» وهم البغدادية الذين أوجبوا على الله تعالى الأصلح في غير باب الدين : «ويجب على كل مكلف عقلا» أي يحكم العقل بأنه يجب على المكلف «أن يعلم أنه لا بدّ من رسول» لله سبحانه إلى خلقه ، واختلفوا في علّة الوجوب على المكلّف بعد اختلافهم أيضا في وجوبه على الله عزوجل : فقال «الهادي عليه‌السلام» وسائر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام : لا يجب على الله تعالى شيء ، وإنما علم المكلف أنه لا بدّ من رسول «لينبئ» ذلك الرسول أي يخبر العباد(٢) «عن الله سبحانه ببيان أداء شكره»

__________________

(١) الإسراء (٩٥).

(٢) (ض) ليخبر.

٧

تعالى الذي قد علموا وجوبه جملة بفطرة عقولهم «بما شاء» أي ليعلمهم أن يشكروا الله تعالى بما شاء «من الشرائع» التي تأتي (١) بها الرسل صلوات الله عليهم شكرا «على ما منّ» تعالى «به» عليهم «من النعم» السوابغ التي لا تحصى.

فالنعم من الله سبحانه تفضل محض والشكر عليها : واجب بقضيّة (٢) العقل وتفصيل الشكر كيف هو وما هو لا يعلم إلّا بالشرع لأن الله سبحانه لا يدرك مشافهة فيخبرهم ببيان شكره من غير واسطة رسول.

فمن هاهنا علم كلّ مكلّف أنه لا بدّ من رسول لله سبحانه إلى خلقه تكميلا للتّفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى كما كمّل التكليف بالتمكين.

«و» لأجل «يميز» سبحانه «بذلك» أي بإرسال الرسل «من يشكره» بامتثال أوامره والانتهاء عن مناهيه «ممّن لا يشكره» بعصيانه وارتكاب مناهيه «إذ قد ثبت أنه تعالى ليس بجسم فامتنع» «أن يلقي جلّ وعلى مشافهة» فيبيّن لخلقه كيفيّة شكره بالنطق إليهم من غير واسطة تعالى عن ذلك «والحكيم لا يترك ما شأنه كذلك هملا» أي ما كان شأنه يحتاج (٣) إلى تبيين الشكر وإلى تمييز الشاكر من الجاحد والخبيث من الطيب لأنه يخالف الحكمة والعدل.

وقد ثبت أن الله تعالى عدل حكيم.

وهذا معنى كلام الهادي عليه‌السلام في البالغ المدرك.

قلت : وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٤) يدل على أن بعثة الرسل أمر متقرر في العقول ، «قلت وبالله التوفيق : وكذا» أي مثل قول الهادي عليه‌السلام «يأتي» القول «على أصل قدماء العترة عليهم‌السلام»

__________________

(١) (ض) يأتي.

(٢) (ض) يقتضيه.

(٣) (ض) محتاجا.

(٤) طه (١٣٤).

٨

لأنهم يقولون : إنّ الطاعات شكر لله تعالى على نعمه ، ولأنهم قد صرّحوا أيضا بذلك في كتبهم.

قال الناصر عليه‌السلام فيما حكاه عنه مصنّف الباهر : نعرف الله بآياته ونصفه بما وصف به نفسه ، ونشكره بما علمناه وكلفنا أن نشكره (١).

وحكى أبو مضر عن أهل البيت عليهم‌السلام أنهم يقولون : إن الشرعيات من العبادات ونحوها وجبت عقلا كالعقليات سواء والسمع إنما كان شرطا للأداء لا للوجوب. ذكره في شمس الشريعة قلت : وهو معنى كونها وجبت شكرا.

وقال «أهل اللطف» الذين سبق ذكرهم «بل» علم المكلف عقلا أنه لا بدّ من رسول «لأنه» قد ثبت أنه «يجب على الله الأصلح» في أمور الدين والدنيا ولا شك أن إرسال الرسل أصلح للمكلفين في الدين والدنيا فمن هاهنا (٢) وجب على المكلف أن يعلم أنه لا بدّ من رسول لله تعالى.

«قلنا» ردّا عليهم : «لا واجب على الله تعالى» عن ذلك لعباده «كما مرّ» ذكره في الألطاف.

قال الإمام «المهدي عليه‌السلام» وغيره من المتأخرين «وبعض صفوة الشيعة وكثير من المعتزلة» كأبي علي وأبي هاشم وأكثر المعتزلة : «لا يجب» على المكلف أن يعلم ذلك عقلا بل لا يهتدي العقل إلى وجوبها «لأنّ الشرائع ألطاف في» الواجبات «العقليات» ولا يهتدي العقل إلى كونها ألطافا إلّا بعد إيجابها لجواز أن يكون اللطف في غيرها وغير البعثة فيجوز (٣) أن يكون في البعثة مصلحة للمكلفين لو لا هي لما عرفت تلك المصلحة فتكون حسنة واجبة عليه تعالى ويجوز أن لا يكون فيها مصلحة زائدة على ما عرف بالعقل فتكون قبيحة لا تجوز منه تعالى.

وأما بعد وقوع البعثة فإن المكلف يعلم قطعا أنها حسنة لكونها لطفا للمبعوث والمبعوث إليهم.

__________________

(١) (ض) أن نشكره به.

(٢) (أ) هنا.

(٣) (ش) لأنّه يجوّز.

٩

قال أبو هاشم : ولا تحسن البعثة من الله سبحانه وتعالى إلّا حيث حصل للمبعوث إليه من العلم بألطاف ومصالح في الدين وهي التكاليف الشرعية ما لولاها لما علم.

وقد تحسن أيضا إذا كان الذي يحصل بها يمكن حصوله بغيرها على سواء فإنهما يكونان واجبين على الله تعالى على التخيير ، ومتى حسنت منه تعالى وجبت عليه تعالى لاتّحاد وجه الحسن ووجه الوجوب فيها وهو كونها لطفا ، وقد ثبت أن الألطاف واجبة عليه تعالى.

قال : ومن لا يوجب اللطف على الله يقول : بأنها تحسن ولا تجب.

وقال أبو القاسم البلخي : إنها تجوز منه تعالى لمجرد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو كاف في حسنها وإن لم يعلم بها من المصالح أكثر ممّا علم بالعقل.

وقال أبو علي : إنها تجوز منه تعالى بالزيادة في التكليف من غير أن يعلم بها ما لولاها لما علم ، أو لغير زيادة في التكليف بل لما يحصل من زيادة تنبيه على أمور قد تعلّق بها التكليف السابق أو زيادة تحذير وتأكيد لما في العقول من التكاليف أو تأكيد (١) لشريعة متقدمة من غير أن يكون قد انطمس شيء من أحكام تلك الشريعة.

واحتجّ أبو علي بأن المقصود بالبعثة حصول اللطف للمكلفين وهو حاصل بأحد هذه الوجوه السابقة وذلك كاف في حسنها بل في وجوبها.

قالوا : ومعنى كون الشرائع ألطافا في العقليّات أن فعل الواجبات الشرعية من نحو الصلاة والصوم وسائر الواجبات الشرعية يكون مسهّلا لفعل الواجبات العقلية من نحو : ردّ الوديعة وقضاء الدين وترك الظلم ونحو ذلك.

وأما المندوبات فإنما ندبت لكونها لطفا في مندوبات عقلية ومسهّلة للواجبات الشرعية وليست لطفا فيها وإلّا لوجبت.

وأما المكروهات فإنما كرهت لكون فعلها مسهّلا للقبائح وليس فعلها

__________________

(١) (ش) أو لتأكيد شريعة.

١٠

مفسدة فيها وإلّا لقبحت.

قال القرشي : وقال أبو علي : وجبت الشرائع لمنعها من القبيح وقبحت لمنعها من الواجب.

قالوا : «و» أمّا «الشكر» فإنما هو «الاعتراف» بنعمة المنعم على ضرب من الإجلال والتّعظيم «فقط» أي من غير عمل فإذا فعل ذلك فقد شكره ، وليست الصلاة ونحوها من هذا الاعتراف في شيء فلا يبقى لها وجه وجوب سوى أنها لطف في واجبات عقلية لأنه قد بان بالعقل أن ما دعا إلى واجب وحث عليه من فعل المكلف وجب عليه لأنه يجري مجرى الوصلة إليه.

قالوا : وإذا كانت الشرعيات ألطافا والعقل لا يهتدي إلى تعيين اللطف الذي يجب فعله إلّا بإيجاب الشارع ما خلا المعرفة بالله تعالى كما سبق ذكره ، وكان الشكر هو الاعتراف فقط فقد صحّ ما قلناه.

«لنا» حجة عليهم قوله تعالى : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) (١) فنص الله سبحانه على أن العمل الذي هو الطاعة شكر له جلّ وعلا على نعمه «ونحوها» أي نحو هذه الآية كقوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) (٢).

«و» لنا أيضا «إجماع أهل اللغة على أنه» أي الشكر «قول باللّسان واعتقاد بالجنان» أي بالقلب «وعمل بالأركان» أي بالجوارح «في مقابلة النعمة» قال الشاعر :

أفادتكم النّعماء منّي ثلاثة

يدي ولساني والضّمير المحجّبا

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحمد رأس الشّكر».

والحمد قول اتّفاقا.

«قالوا» أي مخالفونا في ذلك : قال تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ

__________________

(١) سبإ (١٣).

(٢) البقرة (١٥٢).

١١

الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (١) فدلّ ذلك «على أنها» أي ـ الصلاة ونحوها «ألطاف في العقليات».

قالوا وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قيل له : إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل فقال: «إن صلاته لتردعه».

«قلنا» ليس مجرد فعلها هو النّاهي عن الفحشاء والمنكر «بل هي سبب» في حصول النّاهي وهو زيادة العقل و «التنوير الذي أراده الله تعالى بقوله : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (٢) أي تنويرا» في قلوبكم «تفرقون به بين الحق والباطل» أي زيادة في العقل من تأثير ما يبقى على ما يفنى ومراقبة العليّ الأعلى ومعرفة حقّه جلّ وعلا «فهي» أي الصلاة «كالناهي» عن الفحشاء والمنكر «لمّا كانت سببا لحصول التنوير الزّاجر عن ارتكاب القبائح ، وذلك لم يخرجها عن كونها شكرا لله تعالى».

فإن قيل : إذا كان التنوير إنما حصل بسبب الصلاة وقد ثبت أن التنوير لطف في النهي عن الفحشاء والمنكر فكذلك سببه وهو الصلاة تسمية للسّبب باسم مسبّبه.

قلنا : كلامنا في وجه وجوبها وهو لا يلزم من ذلك أنها إنّما شرعت لأجل ذلك ، فهات الدليل كما دللنا على أن وجه وجوبها كونها شكرا؟

«وقالوا :» أيضا «وردت الشرائع على كيفيات مخصوصة» كالقيام والقعود والطهارة (٣) في الصلاة والسعي والمشي والوقوف وغير ذلك في الحج والإمساك عن الطعام والشراب في الصوم وغير ذلك «ولا تقتضي ذلك» أي الكيفيات المخصوصة «نعمة السيّد على عبده» وإنما تقتضي الاعتراف بها والتعظيم لموليها.

«قلنا : بل تقتضي» نعمة السيد «الامتثال» من العبد «بفعلها» أي فعل

__________________

(١) العنكبوت (٤٥).

(٢) الأنفال (٢٩).

(٣) (ض) كالقيام والقعود والطهارة وغير ذلك.

١٢

الشرائع وتقتضي «مطابقة مراده» أي مراد السيد «بتأديتها» أي الشرائع على الكيفيّة المرادة للشارع «ولذلك وجبت» أي لأجل كون نعمة السيد تقتضي الامتثال لأمره وجبت الشرائع.

«فلو كانت» أي الشرائع «لطفا» في العقليّات كما زعموا لم تجب لأنها ليست مقصودة بالوجوب للشارع وإنما الواجب الحقيقي على قولهم هو العقليات والعبد متمكن من الإتيان بها من دون الشرائع فثبت أنه لا وجه لإيجابها حينئذ «لأنّ الحكيم لا يوجب ما لا يجب» إذ لا تعلّق بين الواجب العقلي والشرعي.

فإن قيل : ولم وردت الشرائع على تلك الكيفيات المخصوصة؟

قلنا : لا يلزمنا معرفة ذلك وإن كنّا نعلم أنه لا بدّ من مصلحة فيها على الجملة لأنه جلّ وعلا حكيم وأفعاله كلها حكمة وجهلنا بها لا يبطل كونها حكمة.

وقد ورد عن علي عليه‌السلام أنه قال : (فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك ، والصلاة تنزيها من الكبر ، والزّكاة سببا للرزق والصّيام ابتلاء للإخلاص ، والحج تقوية للدين ، والجهاد عزّا للإسلام ، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، والنهي عن المنكر ردعا للسفهاء ، وصلة الرّحم منماة للعدد ، والقصاص حقنا للدماء وإقامة الحدود إعظاما للمحارم ، وترك الخمر تحصينا للعقول ومجانبة ، السرقة إيجابا للعفّة ، وترك الزنى تحصينا للنسب ، وترك اللواط تكثيرا للنسل ، والشهادات استظهارا على المجاحدات ، وترك الكذب تشريفا للسان ، والسّلام أمانا من المخاوف ، والأمانة إعظاما للأمّة ، والطاعة تعظيما للإمامة).

«قالوا قد ثبت» بلا خلاف «أنه لا يجوز العقاب» من الله سبحانه للمكلفين «ابتداء» أي قبل أن يعلموا بشرعيتها «على الإخلال بها اللّازم» ذلك العقاب للمخل بها «من شرعيتها» أي من إيجاب الشارع لها ، لأنّ من أخلّ بالواجب استحقّ العقاب.

وقد ثبت أنه إذا أخلّ بها المكلفون ابتداء لم يعاقبوا ، فثبت كونها

١٣

لطفا ولو كانت شكرا كما زعمتم لزم عقاب المكلفين على الإخلال بها وإن لم يعلموا شرعيتها لأنّ الشكر معلوم وجوبه بالعقل.

«قلنا : إنما لم يجز» العقاب لمن ذكروه «حيث لم يكن» المخل بها «مأمورا بفعلها» فليست واجبة عليه في هذا الوقت «فلم يخل بالامتثال» فلا وجه لعقابه «كما أن العبد إذا أخلّ بما لم يأمره به سيده لم يكن مخلّا بالامتثال» ولا مذموما عند العقلاء «و» لنا أيضا أنها «وردت الرّسل صلوات الله عليهم» بشرعها «مع مقارنة التخويف» من الإعراض عن دعوتهم وعدم القبول لما جاءوا به لمن أخلّ بها كقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (١) ، (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) (٢) وما ذاك إلّا لأجل كون وجوبها متقرّرا في العقول جملة لكونها شكرا.

«فلو كانت ألطافا» كما زعموا «لقبح التخويف لأن الألطاف ليست بواجبة» لأنها ليست مقصودة في أنفسها «إذ التخويف لا يكون إلّا على واجب» والألطاف ليست بواجبة. هكذا ذكره عليه‌السلام ولعله يريد عليه‌السلام بقوله : إن الألطاف ليست بواجبة على المذهب الصحيح الذي اختاره عليه‌السلام وهو الحق.

وأما المخالف في هذه المسألة فهو يقول : إن الألطاف واجبة.

«قالوا : إنما اقترنت بالتخويف لتجويز الجهل» من المكلفين «ببعض المصالح» التي لهم في الدين.

قلت : هذه حجة أبي هاشم على أبي القاسم البلخي في أنه لا بدّ أن يعرف بالنبوّة ما لم يعرف بدونها.

قال : وذلك إنّا نعلم أنها لا تحسن بعثة لنبي إلّا بمعجز يدل على صدقه ولا معجز إلّا ويجب علينا النظر فيه ، ولا يجب على المكلف النظر إلّا مع تخويف من تركه ، ولا تخويف من ترك النظر إلّا مع تجويز الجهل ببعض المصالح إذ لو لم يجوّز الجهل بأمر يجب عليه فعله أو يحرم لم

__________________

(١) آل عمران (٩٧).

(٢) المائدة (٩٥).

١٤

يكن للخوف وجه ، فلزم ما ذكره أبو هاشم من أنه لا بدّ في البعثة من أن نعلم (١) بها تكليفا لا نعلمه إلّا من جهتها.

قال النجري : ولقائل أن يقول : مجرّد التّجويز كاف في التخويف كما ذكرتم فمن أين يجب أنه لا بدّ من وقوع ذلك المجوّز ، فيجوز أن يبعث بعض الأنبياء لا لتعريف مصلحة بل لشيء مما ذكره المخالف.

ويجب النظر في معجزته لتجويز أن يكون مبعوثا لتعريف مصلحة.

واحتج أبو القاسم : بأن دعاء النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى طاعة الله له موقع في النفوس أبلغ من موقع دعاء غيره فيكون تأثيره أبلغ وهذا كاف في حسن بعثته.

وأجاب أبو هاشم عليه : بأنّه لا سبيل إلى معرفة صدقه إلّا بعد صدق اليقين بالله تعالى وعدله وحكمته.

وإذا عرفنا ذلك فكلام الله في كتبه السالفة أنفع وأوقع فيقع الاستغناء بذلك عن البعثة المتأخرة حينئذ.

قلت : وهذا الجواب ضعيف. وكلام أبي القاسم قويّ.

واحتجّ أبو علي : بأنه إذا كان في بعثته تأكيد لما في العقول وزيادة تنبيه كانت لطفا لنا ، وما كان (٢) فيه لطف لنا وجب أن يفعله.

وأجيب عليه : بأنه لا طريق إلى القطع بأنّ في بعثته تأكيدا وتنبيها ، وإن جوّزناه لم نقطع بأنه خال عن مفسدة معارضة للمصلحة.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : هكذا أجاب بعض أصحابنا ، وهذا الجواب فيه تسليم تجويز البعثة لما ذكره أبو علي إذا خلت عن المفسدة وثبتت المصلحة ، فلا يكمل هذا الجواب إلّا بالتدريج الذي ذكرناه في احتجاج أبي هاشم.

قلت : بل لم يكمل لما ذكره النجري والله أعلم.

__________________

(١) (ض) أن يعلم بها تكليف.

(٢) في الشرح الكبير إنّ ما علم الله لنا فيه لطفا وجب أن يفعله.

١٥

قال : واحتجّ أبو علي أيضا : بأنه يجوز تعزيز النبيء بنبي معه تأكيدا وإذا جاز ذلك جاز تعزيز العقل بنبي يؤكّد ما دلّ عليه العقل.

قال : قلنا إنا لا نقول : لا يجوز ذلك التعزيز المقيس عليه إلّا لمصلحة لم تعلم إلّا به وإلّا لم يصحّ التدريج السابق.

قال : واحتجّ أبو علي أيضا : بأن الله تعالى بعث الأنبياء ليدعوا المشركين إلى التّوحيد والعقل كاف في ذلك وإنما أكّد بالأنبياء.

قال : قلنا : بل الغرض من بعثتهم تعريف الشرائع ، لكن لمّا كانت الشرائع لا تصحّ من مشرك دعاهم إلى التوحيد أوّلا ليصحّ عملهم بالشرائع ودعاؤهم إليه من باب النهي عن المنكر لا من باب التعريف بأنه قبيح ويجوز أنه من باب التعريف لإخلالهم بالنظر لا لكونه لا طريق إليه إلّا من جهتهم. انتهى ما ذكره عليه‌السلام في الغايات.

قال عليه‌السلام : «قلنا : لم تخبر به الرسل» أي لم تخبر الرسل صلوات الله عليهم بذلك الذي جوّز جهله من المصالح.

قلت : وهم قد قالوا : قد أخبرت به الرسل لأنّ المصالح التي كانت مجهولة هي الشرائع التي جاءت بها الرسل ، ولكن قولهم بأنّ الشرائع ألطاف مجرد دعوى بلا دليل ، بل قد قام الدليل الواضح على أنها شكر كما مرّ.

قال عليه‌السلام : «وإن سلّم» أن مقارنة التخويف لتجويز الجهل ببعض المصالح وأن الرسل قد أخبرت بذلك المجهول «لزم» من ذلك «القول بوجوب العلم على كل مكلف» عقلا أي لزم «أن يعلم» كل مكلف «أنه لا بدّ من رسول كقولنا لينبئ عن الله تعالى بذلك المجهول» أي ليخبرنا الرسول عن الله عزوجل بذلك المجهول الذي فعله مصلحة لنا «إذا كان» فعله «واجبا إذ لم يعرف إلّا بإخبار الرسول ، والحكيم لا يترك ما شأنه كذلك» أي ما شأنه الوجوب وهو مجهول عند المكلف «هملا» أي مهملا منسيّا لمنافاته الحكمة «وإلّا» أي وإن لم يقولوا بوجوب العلم بالبعثة عقلا «قبح» ذلك التخويف «حيث لم يكن» فعل ذلك المجوّز «واجبا» إذ الوعيد على ما لم يجب قبيح.

١٦

قلت : ولكنهم قالوا : إنا لا نقطع بالجهل ببعض المصالح وإنّما نجوّز ذلك تجويزا ونجوّز عدمه ، فمع تجويز عدمه لا يجوز بعثة الرسل للاستغناء بالعقل كما مرّ ذكره عنهم.

«و» اعلم أنه «لا خلاف في حسنها» أي بعد وقوعها «بين الأمّة» الإسلامية.

وقالت «البراهمة» وهم فرقة من الكفار بالهند : «بل» بعثة الرسل «قبيحة».

قالوا : «إذ العقل كاف» في معرفة الواجبات والمقبّحات ، فبعثتهم لتعريف ذلك عبث.

وإذا جاءوا بما يخالف العقل لم يحسن منّا قبوله.

وقال القاسم بن إبراهيم عليهما‌السلام في الردّ على الرافضة ما لفظه : زعمت الرافضة أنه لم يكن قرن من القرون خلا ولا أمّة من الأمم الأولى إلّا وفيها وصيّ نبيء أو وصيّ من وصيّ حجة لله قائمة عليهم ... إلى أن قال : وما قالت به الرافضة في الأوصياء من هذه المقالة فهو قول فرقة كافرة من أهل الهند يقال لهم : (البرهميّة تزعم أنها بإمامة آدم من كل رسول وهدى مكتفية).

وأن من ادّعى بعده رسالة أو نبوّة فقد ادّعى دعوى كاذبة ، وأنه أوصى بنبوّته إلى شيث ، وأنّ شيثا أوصى إلى وصي من ولده ثم يقودون وصيته ، ولا أدري لعلهم يزعمون أن وصيته اليوم فيهم. انتهى «قلنا» ردّا عليهم : «لا يهتدى (١) إلى امتثال أمر» المالك «المنعم إلّا بها» أي ببعثة الرسل كما سبق ذكره.

ثم نقول : يجوز أن يكون ما جاءوا به موافقا للعقل ولا يكون عبثا لأن القلوب مع دعائهم وظهور المعجز عليهم أقرب إلى الانصراف عن قبائح العقل والالتزام بمحسّناته كما أن (٢) للوعّاظ هذه المزية وإن كانوا يعظون بما قضى به العقل.

__________________

(١) (ب) لا نهتدي.

(٢) (ش) لوعظ الوعّاظ.

١٧

وأما قولهم : إنهم إذا جاءوا بما يخالف العقل لم يحسن قبوله :

فنقول : لم تجيء الرسل صلوات الله عليهم إلّا بما يوافق العقل ويؤكده لأنه الحجة الكبرى التي لا تنسخ ، والشرائع التي جاءت بها الرّسل موافقة لحكم العقل لأنها تذلل وشكر للمالك المنعم.

وما جاء من نحو ذبح البهائم وتحميلها المشاق ونحو ذلك موافق للعقل أيضا لعلمنا أن الله سبحانه عدل حكيم لا يظلم ولا تجوز عليه الحاجة فعلمنا حينئذ أن الله سبحانه قد ضمن لها من المصالح والأعواض ما يزيد على مقابلة ما نالها من الألم والمشقّة ، مع ما أراد جلّ وعلا من نفع المكلفين بها والتفضّل عليهم بلحومها وألبانها وأشعارها وجلودها وفي ذلك من الحكمة والنعمة والعدل ما لا يخفى على أهل العقول لأنّ الله سبحانه قد حكم بفناء الدنيا فجعل بعض آجال الحيوان بالذبح وجعل تحميلها المشاق كالآلام.

وأما قولهم : إنه يكتفى بالوصاية عن البعثة فليس وصيّ الرسول كالرسول فضلا عن وصيّ وصيّه أو وصيّ وصيّ وصيّ وصيّ وصيّ وصيّه.

وذلك معلوم من أحوال فترات الرّسل وما يقع فيها من الضّلال عن الحق واتباع الهوى وابتداع ما يتوهّم كونه دينا كالسائبة والبحيرة والحامي وغير ذلك.

بخلاف أوقات الرّسل ، فلو كانت الوصاية كافية إلى آخر الدهر لما انطمست شريعة ولا خفي هدى ولكان الناس أمّة واحدة غير مختلفة.

(فصل)

قال «القاسم والهادي عليهما‌السلام وغيرهما» كالزمخشري وقاضي القضاة وغيرهما : «والنبيء أعمّ من الرسول ، لأن الرسول من أتى بشريعة جديدة» أي لم تشرع من قبل.

ولو قلّت فلا يشترط في الرسول أن تكون كل شريعته جديدة «من غير واسطة رسول» يريد من البشر ، لأن واسطة الملك نحو جبريل لا تخرج الرسول عن أن يكون رسولا.

١٨

وهو احتراز من أن يوحي الله إلى أحد أنبيائه بشريعة جديدة ويوحي إلى آخر أنه يتحمل تلك الشريعة من الأول ويبلّغها عنه.

فالثاني نبيء لا رسول لأنه بواسطة رسول.

وأما النّبي فهو (١) يطلق على الرسول وعلى من بعث لإحياء شريعة مندرسة أو لتأكيدها كهارون ويوشع وغيرهما.

«خلافا» للإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليه‌السلام» «و» أبي القاسم «البلخي» وهو الكعبي أيضا نسبة إلى الأب ، والبلخي نسبه إلى البلد.

وهو قول كثير من المتأخرين أيضا فقالوا : لا فرق بين الرسول والنبيء.

«لنا قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) (٢) «فعطف العام» وهو النبيء «على الخاص» وهو الرسول كما في قوله تعالى : (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) (٣).

«إذ ذلك» أي العطف «يقتضي المغايرة» أي كون المعطوف غير المعطوف عليه ، ويدل على ذلك أيضا : ما روي عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه سئل عن الأنبياء فقال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا.

قيل : فكم الرّسل منهم؟ قال : ثلاث مائة وثلاثة عشر» ذكره الإمام المهدي عليه‌السلام في الغايات.

قال : ومتأخروا أصحابنا أنكروا ذلك وقالوا : الخبر آحادي.

قال الإمام «المهدي عليه‌السلام والبصرية : وهو ظاهر كلام القاسم عليه‌السلام : ويصحّ أن يكون النبيء نبيئا في المهد» أي وقت الطفولة والمهد الفراش الذي يمهد أي يبسط للصبي.

__________________

(١) (ض) فإنه.

(٢) الحج (٥٢).

(٣) آل عمران (٨٤).

١٩

قالوا : لقوله تعالى : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) وظاهر الآية أنه نبيء في تلك الحال.

وقال أبو القاسم «البلخي : لا يصحّ» أن يكون النبيء نبيّا في المهد لأن الطفولية(١) منفرة عنه.

قال : وأما كلام عيسى عليه‌السلام فإنما كان إرهاصا لنبوّته بعد تكليفه كقتل عصى موسى للتّنّين وقت رعيه لغنم (٢) شعيب عليهما‌السلام.

قال عليه‌السلام «قلت : وهو الأقرب لأن النبوّة تكليف ، ولا تكليف على من في المهد لعدم التمييز والقدرة ، إلّا أن يجعلهما الله سبحانه له فلا بأس بذلك لأنّ الله على كل شيء قدير».

وأما كلام عيسى عليه‌السلام فإنما كان في تلك الحال لبراءة مريم من الريب ، ثم رجع إلى حال الأطفال حتى بلغ وقت تكليمهم فتكلم فلما كمل عقله بعث رسولا.

ومثل هذا ذكره الإمام القاسم بن علي العياني عليهما‌السلام والزمخشري وغيرهما.

(فصل)

«والملائكة صلوات الله عليهم أفضل من الأنبياء عليهم‌السلام» على معنى : أن ثواب أدنى ملك أكثر من ثواب أفضل الأنبياء ، وهذا هو قول أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم والمعتزلة.

وقالت «الأشعرية وغيرهم : بل الأنبياء أفضل» من الملائكة.

وقالت الإمامية : بل الأنبياء والأئمة أفضل من الملائكة.

وقيل : بل الأنبياء والمؤمنون أفضل من الملائكة.

«لنا» حجة على المخالف «قوله تعالى» : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٣).

__________________

(١) (ب) الطفولة.

(٢) (ض) غنم.

(٣) التحريم (٦).

٢٠