عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

لشهادة المعجزات الكثيرة على صدقه ، ولبشارة الرسل المتقدمة صلوات الله عليهم به».

وأعظم معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن وهو متواتر عند جميع الأمّة محفوظ من الله سبحانه عن الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل كما قال عزوجل : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) وهو الحجة على عباده إلى انقطاع التكليف.

وأما بشارة الرسل المتقدمة صلوات الله عليهم فكما قال تعالى : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (٢).

وقد أخبر بصفته من آمن من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره من أحبار اليهود ، وأبي حارثة وحارثة بن أثال من أحبار النصارى وغيرهم.

وفي صحيفة آدم عليه‌السلام في المسباح الثاني من فواصلها ما لفظه : (لأني باعث فيهم رسلي ومنزل عليهم كتبي أبرم ذلك من لدن أول مذكور من البشر أحمد نبيء وخاتم رسلي ذلك الذي أجعل عليه صلواتي وأسلك في قلبه بركاتي وبه أكمل أنبيائي ونذري).

وكذلك في صحيفة شيث وتابوت إبراهيم والتوراة والإنجيل ، وقد ذكرت بعضه في الشرح.

وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيين والمرسلين ، وشريعته خاتمة الشرائع ، فلا يجوز أن يأتي بعده نبيء ولا أن تنسخ شريعته لما ثبت من الدليل السمعي الذي لا اختلاف فيه وهو قوله تعالى: (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٣).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدين بذلك ويخبر به.

وهو مرسل إلى الإنس والجن جميعا لقوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ

__________________

(١) الحجر (٩).

(٢) الأعراف (١٥٧).

(٣) الأحزاب (٤٠).

٤١

نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (١) ولأنّ الله تحدّى بالقرآن الإنس والجن وأمّا يأجوج ومأجوج : فقيل ليسوا بمكلفين وإنما حكمهم حكم البهائم.

قلت : ولا بعد في هذا القول.

وقيل : هم مكلفون وهم من أولاد يافث بن نوح ، وهم والترك إخوة ، واختلف من قال بتكليفهم :

فقال بعضهم : مكلفون بالعقليات فقط دون الشرعيات لأنها لم تبلغهم.

وقيل : بل مكلفون بالعقليات والشرعيات معا.

وإن نبيئنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أطلعه جبريل عليه‌السلام عليهم ليلة الإسراء وبيّن لهم الشرائع فلم يقبلوا والله أعلم. وجحد أهل الإلحاد والبراهمة واليهود والنصارى نبوّة نبيئنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والحجة عليهم معروفة مشهورة ، وقد اكتفينا بما ذكرناه في الشرح.

«وأتى» نبيئنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «بشريعة مبتدأة» أي لم يبلّغها غيره «وتقرير بعض الشرائع السالفة وهي» أي ـ الشرائع الماضية التي قررها هي «التي نصّ عليها وعمل بها» وأمر بها كالحج وآية القصاص والصلاة والصيام وقصّ الشارب والختان والمضمضة والاستنشاق وغير ذلك ، وإن اختلفت الشروط في بعضها.

«وقيل : بل» أتى النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «بشريعة إبراهيم» عليه‌السلام لقوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا ، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) (٢).

وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) (٣).

__________________

(١) الأحقاف (٢٩).

(٢) البقرة (١٣٥).

(٣) الحج (٧٨).

٤٢

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (١).

وفي كتاب الصفوة لزيد بن علي عليهما‌السلام :

(فأما بنو إسماعيل فهم أميّون لم يكن لهم كتاب ولم يبعث فيهم غير محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبعثه الله على ملّة إبراهيم عليه‌السلام ، ونسبه إلى إبراهيم وجعله أولى النّاس به حين بعثه ، وبينه وبين إبراهيم ما شاء الله من القرون فقال : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُ) (٢) انتهى «وقيل : بل» أتى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «بكل شرع لم ينسخ» لقوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٣).

وقوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (٤).

«وقيل» أتى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «بشريعة موسى» صلوات الله عليه لقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٥) الآية ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجع إلى التوراة في رجم اليهودي.

«قلنا» الدليل على قولنا : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لم يرجع إلى الكتب السالفة» (٦) أي المتقدمة أي ما أنزل على آدم وشيث ونوح وإبراهيم وساير النبيين من الكتب لم يرجع في شرائعه وأحكامه إليها «إجماعا» بين الأمّة ، بل أنكر على عمر بن الخطاب اختلافه إلى مدارس اليهود ونظره في التوراة ، وقال «أما إنّه لو كان أخي موسى في الحياة لما وسعه أن ينظر في غير الكتاب الذي أنزل عليّ».

فعلمنا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى بشرع جديد وإن اتفقت

__________________

(١) البقرة (١٣٠).

(٢) آل عمران (٦٨).

(٣) الأنعام (٩٠).

(٤) الشورى (١٣).

(٥) المائدة (٤٥).

(٦) (ض) السابقة.

٤٣

الشرائع في حكم أو أحكام فذلك لا يقتضي أنه إنما عمل بالشرع المتقدم.

وأما رجوعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى التوراة في رجم اليهودي فأراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكذيبهم وأن الرجم ثابت في شريعتهم لأنهم أنكروه وكتموه.

وأمّا الاحتجاج بالآيات المتقدمة فلا يدل على ما ذكروه لأن المراد الاقتداء بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام في إيثار طاعة الله سبحانه والصبر على ما يلقاه من أذى المشركين ، وفيما ألحق فيه واحد كأصول الدين وما لم ينسخ من الشرائع والله أعلم.

(تنبيه)

هل كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكلّفا قبل البعثة بشرع أو لا؟

الأقرب : أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكلّفا بشرع وإن لم نعلم كيفيته لقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (١) ونحوها.

وحكى الإمام المهدي عليه‌السلام عن أبي علي وأبي هاشم وأبي عبد الله البصري : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن متعبدا بشرع.

وحكي عن بعضهم التوقّف.

والحق : ما ذكرناه يؤيّده قول الهادي عليه‌السلام في كتاب البالغ المدرك (وليست فترة من الهدى ولكنها فترة من الرسل ، وفيها كتبه وحججه وبقايا من أهل العلم يحيون العلم ويحيون به ... إلى آخره).

وقوله عليه‌السلام في كتاب الديانة : (وندين بأن حجة الله قائمة على أهل الفترات البالغين الأصحّاء السالمين بفطر عقولهم وما يجدونه في أنفسهم ، وما يرونه في سماوات الله وأرضه ، وما يأتي به الليل والنهار من عجائب تدبيره ، وما قد ورد عليهم من أخبار الأنبياء المتقدمين وأخبار كتبهم وشرائعهم وأحكامهم ... إلى آخره).

__________________

(١) فاطر (٢٤).

٤٤

(باب الشريعة)

الشريعة في أصل اللغة : مورد الماء.

وفي الاصطلاح «هي الأحكام الخمسة» وهي ؛ الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والحظر ، والكراهة ، وما يتصف بها وهو : الواجب والمندوب والمباح والمحظور والمكروه «وأدلتها وهي الكتاب والسّنّة إجماعا» بين الأمّة.

قال «أئمتنا عليهم‌السلام والجمهور» من غيرهم : «والقياس» فإنه من الأدلّة.

والحقيقة أن الأدلّة كلها راجعة إلى الكتاب لأنه الذي دلّنا على العمل بالقياس وعلى العمل بقول النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقريره وفعله.

«خلافا للإمامية وغيرهم» كبشر بن المعتمر والظاهرية والخوارج والنظام والجاحظ والجعفرين (١) والإسكافي فقالوا : لا يعمل بالقياس واختلفوا في التعليل :

فقيل : إنه لا يفيد العلم والمطلوب من الأدلة العلم.

وقيل : لبناء الشرع على مخالفته. وقيل غير ذلك.

وقالت الإمامية : بل لأنه يجب الرجوع إلى الإمام المعصوم في كل شيء.

«لنا» حجة على الجميع : «قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ

__________________

(١) هما جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب.

٤٥

إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) (١).

«وقوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (٢).

«أي مردود إلى الله».

«وقد قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه في الجنة» في تفسير ذلك :

«الرّدّ إلى الله هو الرّدّ إلى كتابه تعالى ، والرّدّ إلى رسوله هو» الرّدّ «إلى سنّته الجامعة» أي الصحيحة المعلومة بالتواتر أو نحوه.

«غير المفرّقة» وهي غير المعلومة (٣).

قلت : ويجوز الرّدّ إلى السّنّة المظنونة عند من جوز العمل بخبر الآحاد مع الظن وإن كان النزاع لا يزول حينئذ والله أعلم.

«والرّدّ إلى الله وإلى رسوله بغير ذلك» أي بغير هذا التفسير الذي ذكره أمير المؤمنين صلوات الله عليه «غير ممكن ضرورة» أي يعلم عدم إمكانه بضرورة العقل.

«ولا يمكن الرّدّ إلى الكتاب والسّنّة عند فقد النص» على الحكم المتنازع فيه «منهما» أي من الكتاب والسّنّة «إلّا بالقياس» الصحيح «وذلك معلوم لمن (٤) عقل والله أعلم».

بيانه : أن الرّدّ لشيء إلى شيء ليتّحد حكمهما إنما يكون مع حصول الشّبه بينهما بالعلّة الجامعة وذلك حقيقة القياس.

«و» لنا أيضا «إجماع الصحابة عليّ صلوات الله عليه وغيره» على العمل بالقياس ، وكانوا بين قائس وساكت سكوت رضى ، والمسألة قطعية لأنها أصل من أصول الشريعة.

فلما كانت قطعية علمنا أن سكوت الساكت منهم سكوت رضى وإلّا

__________________

(١) النساء (٥٩).

(٢) الشورى (١٠).

(٣) أي المظنونة تمّت.

(٤) (أ) عند من عقل.

٤٦

لزم أن يكون سكوتهم منكرا ، بخلاف المسائل الاجتهادية.

قال ابن الحاجب : دليل السمع على العمل بالقياس قطعي ، خلافا لأبي الحسين ، ويؤكد ذلك دلالة العقل وهو أن يقال : إذا كلف الله بفعل فلا بدّ أن ينصب لنا طريقا إلى صفة ذلك التكليف من كونه واجبا أو مندوبا أو قبيحا أو مكروها.

فإن وجد (١) في الكتاب والسّنّة تلك الطريق فذلك ، وإن لم نجدها فيهما فإن جاز أن يعرف بالقياس صفة الفعل كما يجوز أن يعرف بالنص جاز أن يكون القياس طريقا إلى صفة ذلك الفعل.

كما أنا نعلم أنه لا فرق بين أن ينص الله تعالى على تحريم الخمر والنبيذ المسكر ، وبين أن ينص على تحريم الخمر ، وينص على أن علة تحريمه الإسكار فيلزم القياس عليه.

وقال علي صلوات الله عليه : (أوّل القضاء ما (٢) في كتاب الله) ، ثم ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم ما أجمع عليه الصالحون فإن لم يوجد ذلك في كتاب الله تعالى ولا في السّنّة ولا فيما أجمع عليه الصالحون اجتهد الإمام في ذلك لا يأل احتياطا واعتبر وقاس الأمور بعضها ببعض فإذا تبيّن له الحق أمضاه ، وللقاضي ما لإمامهم.

قال «أئمتنا عليهم» «السلام ومن وافقهم : فإن فقد الدليل من الثلاثة» أي الكتاب والسّنّة والقياس «رجع في الحادثة» التي فقد الدليل عليها «إلى قضية العقل» أي إلى ما قضى به العقل «من تقبيح الفعل» أي الحكم بقبحه «أو تحسينه» أي الحكم بحسنه ، وإنما كان كذلك «لعلمنا أن الله تعالى لم ينقل حكم العقل في تلك الحادثة» إذ لو جوزنا نقل حكم العقل في تلك الحادثة ولم ينصب لنا دليلا على ذلك لكان تكليفا لما لا يطاق وذلك لا يجوز عليه تعالى.

ولهذا قال عليه‌السلام : «وإلّا لورد» أي ولو لم يكن حكم العقل باقيا

__________________

(١) (أ) وجدنا.

(٢) (ض) بما.

٤٧

لورد ذلك الدليل الناقل «كغيره» من الأدلة الناقلة لحكم العقل وقالت «المجبرة وبعض الحنفية : لا يصحّ ذلك» أي الرجوع إلى قضية العقل لأنه لا حكم للعقل عندهم كما مرّ.

«قلنا : لا مانع» من خلو بعض الحوادث عن النص اعتمادا على دليل العقل.

«قالوا» : قال تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) فدلّ على أنه لا بدّ في كل حادثة من دليل خاص من أي الثلاثة.

«قلنا» لأن مرجعها كلها إلى الكتاب كما مرّ «وعدم نقل حكم العقل» في تلك الحادثة «ليس بتفريط بل جاء القرآن بتقريره» أي تقرير حكم العقل حيث قال تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٢) أي ألهم كل نفس ما يزكيها وما يدسيها وما ذلك إلّا بخلق العقل الذي فطره على استقباح القبيح واستحسان الحسن فقد دلّ الكتاب على العمل بقضية العقل فصدقت الآية.

(فصل)

«فالكتاب» الذي سبق ذكره ، وهو الأول من الأدلة «هو القرآن» سمّي قرآنا من الجمع والضّم لأنه آي مجموعة.

«وهو المتواترة تلاوته» بين المسلمين.

«وخالف كثير في كون البسملة في أوائل السّور قرآنا» وهم بعض السلف من الصحابة وقراء المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها وأبو حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي قالوا : وإنما أتى بها للفضل والتبرّك عملا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «كل أمر ذي بال لم يبدأ في أوله باسم الله فهو أجذم».

وقيل «أبتر ، وقيل : خداج».

__________________

(١) الأنعام (٣٨).

(٢) الشمس (٧ ـ ٨).

٤٨

قال جار الله ، ولذلك لا يجهر بها عندهم في الصلاة.

وقال في التيسير في معرفة القراءات السبع ما لفظه : اختلفوا في البسملة بين السور :

فكان ابن كثير وقالون وعاصم والكسائي : يبسملون بين كل سورتين في جميع القرآن ما خلا الأنفال وبراءة فإنه لا خلاف في ترك البسملة بينهما.

وكان الباقون فيما قرأنا لهم لا يبسملون بين السور وأجمعوا على أنها بعض آية من القرآن في سورة النّمل.

«و» خالف «أبي» بن كعب «في إثبات سورة الحمد في المصحف» (فزعم(١) أنها لا تكتب) في المصحف ولم يخالف في كونها قرآنا. «و» خالف «ابن مسعود في إثبات المعوّذتين» بكسر الواو «فيه» أي في إثباتهما في المصحف لما رأى أن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعوّذ بهما الحسنين عليهما‌السلام فاعتقد أنهما عوذتان فقط.

«لا في كونها» أي الحمد والمعوذتين «قرآنا» فلم يخالف فيه أحد «والأصح ثبوت البسملة» في أوائل السور قرآنا ولهذا أثبتها السلف في المصحف ويجهرون بها في الصلاة.

قال ابن عباس : من تركها فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من كتاب الله تعالى.

وقال : سرق الشيطان من الناس آية.

قال الإمام الناصر لدين الله أبو الفتح الديلمي عليه‌السلام في تفسيره (٢) : وعندنا وعند علماء العترة عليهم‌السلام أنها آية من فاتحة الكتاب ومن كل سورة أثبتت فيها وأن تاركها تارك لآية من كتاب الله ، والدليل على ذلك ما ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قراءته لها مع ما كان يقرأ من السور ، فلولا أنها من القرآن لما جاز لرسول

__________________

(١) (ض) فإنه زعم أنها لا تثبت في المصحف.

(٢) المسمّى بالبرهان تمّت.

٤٩

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدخل في كلام الله عزوجل ما ليس منه كما أنه لا يجوز أن يخلط به كلاما سواه ، ولا بيتا من الشعر.

والثاني : إجماع الأمّة على اختلافها في إثباتها في كل سورة إلّا سورة براءة ، وإجماعهم حجة ، وليس يثبت في القرآن ما ليس منه.

قلت : وكذلك حكى الطوسي في تفسيره إجماع أهل البيت عليهم‌السلام على أنها آية من القرآن في كل سورة.

قال : وهي آية مستقلة وليست من السور التي كتبت في أولها إلّا فاتحة الكتاب فإنها منها عند كثير من العلماء.

«و» الأصحّ أيضا «ثبوت الثلاث» أي الحمد والمعوذتين «في المصحف لوقوع التواتر بذلك» أي بكون البسملة آية في كل سورة وبإثبات الحمد والمعوذتين في المصحف بل قد وقع الإجماع على خلاف قول أبيّ وابن مسعود.

«ومعتمد أئمتنا عليهم» «السلام قراءة أهل المدينة» وهي قراءة نافع ابن عبد الرحمن بن أبي نعيم مولى جعونة بن شعوب اللّيثي حليف حمزة ابن عبد المطلب أصله من أصفهان ويكنى أبا رويم وتوفي في المدينة سنة تسع وستين ومائة ذكره صاحب التيسير.

قال عليه‌السلام : «قال الهادي عليه‌السلام : ولم يتواتر غيرها» أي غير قراءة أهل المدينة وساير القراءات عنده غير متواترة.

وقال المرتضى لدين الله محمد بن يحيى عليه‌السلام في الإيضاح : وأمّا (١) أفضل القراءات فعلى ما أنزل الله سبحانه وإنما هذا الاختلاف في القراءات تعمّق من بعض الناس وطلب للرئاسة ، وأصحّ القراءات وأثبتها ما لا يقع فيه اختلاف فقراءة أهل المدينة لأنّ القرآن نزل عامته في بلدهم وأخذوه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلقينا وتفهيما فهي القراءة التي أنزلها الله على نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تخرم حرفا وهي قراءتنا وبها نأخذ وعليها نعتمد وهي التي تعلّمنا من أسلافنا صلوات الله عليهم.

__________________

(١) (ب) أمّا ناقص.

٥٠

وقال «الجمهور : بل القراءات السبع» كلها متواترة وهي : قراءة نافع ، وأبي عمرو ، والكسائي ، وحمزة ، وابن عامر ، وابن كثير ، وعاصم.

قال الزركشي على ما حكاه عنه صاحب الإتقان ، والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة.

أما تواترها عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ففيه نظر فإن إسنادهم لهذه القراءات إلى السبعة موجود في كتب القراءات وهي نقل الواحد من واحد (١) ، قال الأسيوطي : وفي ذلك نظر.

قال «أكثرهم» أي أكثر الجمهور : تواترت القراءات السبع «أصولا وهو جوهر اللفظ» أي حروفه وكلماته وإعرابه «وفرشا» أي وتواترت فرشا «وهو هيئته نحو المدّ والإمالة» والتّسهيل والتحقيق والتفخيم والترقيق والإخفاء والإظهار.

وقال الفقيه يحيى بن حسن «القرشي وابن الحاجب» وغيرهما : «لم يتواتر الفرش».

قال في الفصول : وهو الأصح.

وقال «بعضهم : بل العشر» القراءات متواترة وهي السبع المذكورات والثلاث التي زادها البغوي وهي : قراءة الشيخ أبي يعقوب الحضرمي قال في الكشاف : وكان من السبعة فأخّره الرشيد وجعل مكانه الكسائي قال : وإنما أخّره لأنه تأخّر عنهم وإن كان سابقا في العلم والفضل وقراءة أبي معشر الطبري ، وأبي بن خلف الجمحي.

وقد قيل : إن الثلاث هي : قراءة أبي يعقوب الحضرمي ، وأبي بن جعفر المخزومي القرشي مولى عبد الله بن عباس ، وخلف بن هشام البزار البغدادي.

«والحرف الثابت في إحدى القراءتين دون الأخرى عند الجمهور» أي عند القائلين بتواتر السبع وذلك «كمالك» فإن فيه زيادة ألف. «وملك» بغير

__________________

(١) في نسخة عن واحد.

٥١

ألف فإن الألف في إحدى القراءتين «حرف (١) متواتر» عندهم «أتى به توسعة للقارىء» إن شاء قرأ به وإن شاء تركه قالوا «ولا يسمّى ذلك» الحرف «على انفراده قرآنا» لأنه إنما أتي به توسعة لا حتما.

قالوا : «والمجتزي بالأخرى» أي القراءة بغير ألف «لم يترك قرآنا كالمجتزي بإحدى خصال الكفارة» أي كفارة اليمين فإنه إذا اجتزى بأحدها لم يترك واجبا عليه.

وقال جار الله «الزمخشري و» السيد الرضي «نجم الدين» صاحب شرح كافية ابن الحاجب «وغيرهما» كالإمام الحقيني والإمام يحيى عليهما‌السلام : «بل المختلف فيه» من القراءات «بين السبعة» القراء «وغيرهم ليس بمتواتر» كالألف في مالك بل هو آحادي ولا فرق عند أهل هذا القول بين المختلف فيه بين السبعة وما عدا السبع القراءات في أن ذلك آحادي وليس بمتواتر عندهم إلّا ما اتفقوا عليه.

قال الشيخ محمد بن محمد بن محمد «الجزري» الشافعي حاكيا «عن الجمهور» إن «القراءة» الصحيحة «ما صحّ سندها» إلى النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ووافقت إحدى المصاحف العثمانية» التي أرسل بها عثمان إلى البلدان وحرق ما سواها من المصاحف «لفظا» وذلك بأن يكون لفظها موافقا للفظها كلفظ تعملون بالياء والتاء أو بأحدهما.

«أو تقديرا وذلك بأن يحتملها الرسم» أي رسم الخط كما في قوله «ملك يوم الدين» فإنه يحتمل أن يكون مقصورا من مالك لأنه قد ينقص الألف في مثل ذلك كثيرا كسليمن والرحمن وشيطن.

«و» لا بدّ مع ذلك أن يكون قد «وافقت اللغة العربية» في اللفظ والإعراب «ولو بوجه» فصيح أو أفصح مجمعا عليه أو مختلفا فيه اختلافا لا يضر مثله إذا كانت القراءة ممّا شاع وذاع.

«وإن لم تتواتر» تلك القراءة المقيدة بهذه القيود المذكورة قالوا : وكم

__________________

(١) (ض) جزء.

٥٢

من قراءة أنكرها بعض أهل النحو أو كثير منهم ولم يعتبر إنكارهم كإسكان (بارئكم) وخفض «الأرحام» والفصل بين المضافين في «قتل أولادهم شركائهم» وغير ذلك.

قالوا : فإذا ثبتت الرواية لم يردّها قياس عربية ولا فشوّ لغة لأنّ القراءة سنّة متّبعة يلزم قبولها.

قال الجزري «والشاذة ما وراء ذلك» أي ما اختلّ فيه أحد القيود المذكورة.

قال الجزري : ونعني بموافقة أحد المصاحف العثمانية ما كان ثابتا في بعضها دون بعض كقراءة ابن عامر «قالوا اتّخذ الله ولدا» في البقرة بغير واو «وبالزبر وبالكتاب» فإن ذلك ثابت في المصحف الشامي ، وكقراءة ابن كثير «تجري من تحتها الأنهار» في آخر براءة بزيادة (من) فإن ذلك ثابت في المصحف المكي.

وقولنا : ولو احتمالا نعني به ما وافقه ولو كملك يوم الدين فإنه كتب في الجميع بلا ألف فقراءة الحذف توافقه تحقيقا ، وقراءة الألف توافقه تقديرا لحذفها في الخط اختصارا.

فما جمع هذه القيود فهي القراءة الصحيحة ولا يحلّ إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل القرآن بها ووجب على الناس قبولها سواء كانت عن الأئمة السبعة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين.

ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أو عن من هو أكبر منهم ، وهو مذهب السلف الذي لا يعرف عن أحد منهم خلافه.

«قلنا» ردّا على الجزري ومن تبعه : «ما لم يتواتر» فلا نقطع بأنه من القرآن لأنه «يجوّز أن راويه سمعه خبرا فتوهّمه قرآنا» ويجوّز أيضا أنه وقع في نقله سهو أو غفلة أو تصحيف من الكاتب أو نحو ذلك فلا تقع الثقة بالقرآن مع ذلك كما روي عن أبي بن كعب في دعاء القنوت أنه قرءان وهو ما أخرجه البيهقي من طريق سفيان الثوري يرفعه أن عمر بن الخطاب

٥٣

قنت بعد الركوع فقال : (بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنّا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك ، بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إيّاك نعبد ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخشى عذابك الجدّ إن عذابك بالكفار ملحق) قال قال ابن جريج : حكمت البسملة أنهما سورتان. حكى ذلك الأسيوطي في الإتقان.

قال : وأخرج محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة عن أبي بن كعب أنه كان يقنت بالسورتين.

وأما صحة السند المصطلح عليها عند أهل الحديث فهي لا تثمر العلم.

«وذلك» أي تجويز كونه خبرا «تشكيك في كونه قرآنا والله تعالى يقول» (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (١) أي لا شكّ ولا ارتياب في شيء منه «فلا بدّ من التواتر» فيه وقد أعلمنا الله سبحانه بحفظه عن الالتباس بغيره بقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ... الخبر» ولا يترك الله جلّ وعلا كتابه حجة على عباده إلى انقطاع التكليف إلّا وقد ضمن بحفظه عن التغيير والتبديل والزيادة والنقصان.

وقال الهادي عليه‌السلام : (وفي ذلك ما حدثني أبي عن أبيه أنه قال : قرأت مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام. عند عجوز مسنّة (*) من ولد الحسين بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات

____________________________________

* هي السيدة نفيسة بنت الحسين بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام كانت من الصلاح والعلم والزهد والورع والعبادة على الحدّ الذي لا مزيد عليه يقال إنها حجّت ثلاثين حجة وكانت كثيرة البكاء تديم قيام الليل

__________________

(١) البقرة (١ ـ ٢).

(٢) الحجر (٩).

٥٤

الله عليهم (١) فوجدته مكتوبا أجزاء بخطوط مختلفة في أسفل جزء منها : وكتب علي بن أبي طالب ، وفي أسفل وكتب سلمان الفارسي ، وفي آخر وكتب أبو ذر ، وفي آخر وكتب عمّار بن ياسر ، وفي آخر وكتب المقداد.

كأنهم تعاونوا على كتابته.

وقال جدي القاسم بن إبراهيم : فقرأته فإذا هو هذا القرآن الذي في أيدي الناس حرفا حرفا لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ، غير أن مكان (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ) (٢) اقتلوا الذين يلونكم وقرأت فيه المعوذتين. انتهى.

«وأنزل القرآن على سبعة أحرف تخفيفا» أي لأجل التخفيف والتيسير ثم اختلفوا :

فقال «الجمهور : والمراد بالأحرف سبع لغات عربية» أي أنزل على لغة سبع قبائل من العرب.

____________________________________

وصيام النهار فقيل لها ألا ترفقين بنفسك فقالت كيف أرفق بنفسي وأمامي عقبة لا يقطعها إلّا الفائزون وكانت تحفظ القرآن وتفسيره وقد ذكر أن الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه كان يزورها وهي من وراء حجاب وكان إذا ألمّ به مرض أرسل إليها تدعو له بالشفاء لأنه عند ما دخل مصر في سنة ١٩٩ ه‍ سأل عن قبر الليث بن سعد فتوجه لزيارته وبعد أن فرغ من زيارة الليث توجه لزيارة السيدة نفيسة وكانت تقيم بمصر منذ أن سجن والدها وهي حفيدة الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام وزوجها إسحاق المؤتمن بن جعفر الصادق عليهم‌السلام توفيت رضي الله عنها في شهر رمضان سنة ٢٠٨ ه‍ ودفنت بمنزلها وهو الموضع الذي به قبرها الآن ويعرف بخط درب السباع ودرب بزرب وقد ذكرها وأثنى عليها صاحب كتاب الروضة الأنيسة بفضل مشهد السيدة نفيسة وتقي الدين أبو العباس أحمد بن علي المقريزي في كتابه المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار المعروف بالخطط المقريزية والشيخ عبد الرحمن الشرقاوي في كتابه أئمة الفقه التسعة عند معرض حديثه عن قدوم الإمام الشافعي رضي الله عنه مصر انتهى.

__________________

(١) في خطط المقريزي السيدة نفيسة بنت الحسن وفي غيرها بنت الحسين تمت.

(٢) التوبة (١٢٣).

٥٥

«وقيل : بل» المراد «معاني الأحكام» الشرعية :

حلال وحرام ، ومحكم ومتشابه ، ومثل ، وإنشاء وخبر.

وقيل : ناسخ ومنسوخ ، وعام وخاص ، ومجمل ومبيّن ، ومفسّر وقيل : غير ذلك.

«وقيل : ليس المراد» بالسبعة الأحرف العدد حقيقة «بل المراد بها السّعة والتيسير» على القارئ فكأنّه قيل : أنزل موسّعا ميسّرا على القارئ يقرؤه بلغات كثيرة لأنه قد لا يقصد بالعدد حقيقته كما في قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) (١).

وقول الشاعر :

لأصبحنّ العاص وابن العاصي

سبعين ضعفا عاقدي النّواصي

 «والظاهر» من هذه الأقوال هو «الأول لأنّ اللغة العربية تسمّى حرفا» في لغة العرب.

(فائدة)

قال في الفصول : ومعرفة قدر الآية ومحلها توقيف.

قال الأسيوطي في الإتقان : الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك.

قال : وأما معرفة قدر الآية فقال بعضهم : الصحيح أن الآية إنما تعلم بتوقيف من الشارع كمعرفة السورة.

وقال الزمخشري : الآيات علم توقيفي لا مجال للقياس فيه.

قال الأسيوطي : وأما ترتيب السور فجمهور العلماء على أنه اجتهاد.

قال ابن فارس : جمع القرآن على ضربين :

أحدهما : تأليف السور كتقديم السبع الطوال وتعقيبها بالمئين فهذا هو

__________________

(١) التوبة (٨٠).

٥٦

الذي تولته الصحابة.

وأما الجمع الآخر : فهو جمع الآيات في السور فهو توقيفي تولّاه النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أخبر به جبريل عن أمر ربه.

قلت : وقد ذكرنا شيئا من ذلك ومن أحكام التوقيف في الشرح.

(فصل)

«وهو» أي القرآن «خطاب للموجودين» وقت وحيه من الثقلين «اتفاقا» بين الأمّة.

«والمختار وفاقا للحنابلة» أي أتباع أحمد بن حنبل أنه خطاب للموجودين.

«وخطاب لمن أدرك» أي بلغ حد التكليف ممّن وجد بعدهم أي بعد الموجودين وقت وحيه فهو يعمهم بالخطاب حقيقة.

قال في الفصول : وهي عند بعض أئمتنا الحقيقة العرفية كالوصية للأولاد وكما كان النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلا إلى الموجودين والمعدومين «لأن السابق مأمور بإبلاغه» أي القرآن «اللّاحق كما أن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مأمور بإبلاغه» أي القرآن «الموجود» أي كل موجود من الثقلين في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو كان من أهل البلدان النّائية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لا فرق بين الموجودين في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النّائين عنه وبين من بعدهم «ولقوله تعالى ملقّنا لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (١) أي لأنذركم به وأنذر من بلغه القرآن من العرب والعجم والإنس والجن إلى يوم القيامة.

وقال «الجمهور : بل لزم من بعدهم بدليل آخر» لا بكونه (٢) خطابا لهم لأنّ خطاب المعدوم لا يصحّ وذلك الدليل «إمّا الإجماع» من الأمّة

__________________

(١) الأنعام (١٩).

(٢) (ض) لا لكونه.

٥٧

على أن حكم من أدرك من المعدومين وقت وحيه كحكم الموجودين «أو القياس» للّاحقين على الموجودين لعدم الفرق.

«لنا ما مرّ ولا مانع منه».

وأما قولهم : إن خطاب المعدوم محال : فالجواب : أنا لم نرد أنه خطاب له في حال عدمه ، وإنما أردنا أنه متى وجد وصار مكلّفا صار القرآن خطابا له لما ذكرناه كما أن النّائي عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون خطابا له بشرط بلوغه إليه سواء.

(فصل)

«والمحكم» من القرآن قسمان :

الأول منهما : «ما لا يحتمل أكثر من معنى واحد».

وقيل : ما وضح معناه.

وقيل : ما كان إلى معرفته سبيل.

وقيل : ما علم المراد بظاهره بدليل عقليّ أو نقليّ.

«أو يدل على معان امتنع قصر دلالته على بعضها دون بعض» منها فإنه يحمل عليها كلها «نحو» قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ) (١) فإنّ أنواع المعروف كثيرة وهو عام فيها كلها لامتناع حمله على بعضها دون بعض فهذا من المحكم ، ولا إجمال في هذه الآية.

«ويسمّى هذا» القسم من المحكم «النّص» لأنه نص على ما دلّ عليه نصّا أي رفع معناه إلى الأذهان رفعا واضحا لا لبس فيه.

والقسم الثاني من المحكم : ما أشار إليه عليه‌السلام بقوله : «أو يكون أحد معانيه أظهر» في فهمه من الآخر «لسبقه إلى الفهم ولم يخالف نصّا» أي بشرط أن لا يخالف نصّا من الكتاب والسّنّة المعلومة «ولا إجماعا» من الأمّة على خلافه «ولا يثبت ما قضى العقل ببطلانه» أي وبشرط أن لا يثبت ما قضى العقل ببطلانه.

__________________

(١) لقمان (١٧).

٥٨

فإنه متى كان أحد معانيه أظهر ولم يخالف نصّا ولا إجماعا ولا أثبت ما قضى العقل ببطلانه فإنه يكون من المحكم «ويسمّى» هذا القسم «الظاهر» ولا يخفى وجه المناسبة.

«والمتشابه ما عداهما» أي ما عدا النص والظاهر.

والمعنى : أن المتشابه ما عدا المحكم فيدخل في المتشابه المجمل ومثله في الفصول.

وعلى هذا لا واسطة بين المحكم والمتشابه.

وفي المعيار : المحكم الذي لم يرد به خلاف ظاهره.

والمتشابه مقابله كالآيات التي ظاهرها الجبر والتشبيه.

وعلى هذا لا يوصف المجمل بأنه من المحكم ولا من المتشابه.

وكذلك قول من ذهب إلى أن المتشابه آيات مخصوصة.

إمّا الحروف المقطعة أو آيات السعادة والشقاوة أو الناسخ والمنسوخ أو الأوامر والنّواهي أو القصص والأمثال (١) أو نحو ذلك.

واعلم : أن أهل السّنّة يجعلون ما ظاهره يوافق قواعدهم وأصولهم التي أصّلوها محكما وما خالفها متشابها ، فيجعلون (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢) ونحوه من المحكم.

وقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٣) ونحوه من المتشابه ، ذكره الرازي في مفاتح الغيب.

والحكمة في إنزال المتشابه : هو الزيادة في التكليف للزيادة في الثواب بسبب مشقة الفحص والتأمّل وإتعاب النفس وإيثار الهدى على الهوى وفيه تمييز الراسخ في الإيمان من المتزلزل فيه.

قال «أئمتنا عليهم» «السلام والمعتزلة وبعض الأشعرية : ويعلم تأويله»

__________________

(١) (ض) أو القصص والأخبار.

(٢) الإنسان (٣٠).

(٣) الكهف (٢٩).

٥٩

أي المتشابه الذي علينا فيه تكليف «الراسخون في العلم» لوقوع الخطاب به وذلك «بأن يحملوه على معناه الموافق للمحكم».

فيردوا نحو قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (١) إلى قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (٢) ونحو ذلك لقوله تعالى في المحكم (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي أصله الذي يرجع إليه ويردّ ما خالفه في الدلالة عليه.

وقال «بعض الأشعرية وغيرهم : لا يعلمه» أي المتشابه «إلّا الله» كعدد الزبانية وحملة العرش ، ويرون الوقف على الجلالة.

قلنا : قال الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (٣) فدلّ بذلك على أن له معنى يتبعه الذين في قلوبهم زيغ [فيتبعون ما تشابه منه] ، فيجب أن يكون له معنى صحيح يتبعه من لم يكن في قلبه مرض ، وإلّا كان ذلك إغراء بالقبيح وهو لا يجوز على الله تعالى قالوا : إنّا لا ننكر أنه يفهم منه معنى يتبعه من في قلبه زيغ ولكن معناه الذي أراده الله عزوجل لا يعلمه إلّا هو.

«قلنا : خوطبنا به والحكيم لا يخاطب بما لا يفهم» لأنه يكون عبثا وإغراء بالقبيح وهما قبيحان ، وهذا بخلاف معرفة عدد الزبانية وحملة العرش فإنه تعالى لم يرد منّا معرفة عددهم.

وإنما أعلمنا تعالى أن على أهل النار زبانية موكّلين بعذابهم وأنه يتولى أمر الخلائق طوائف من الملائكة ، ولم يخاطبنا بمعرفة عددهم وهذا ونحوه هو مراد أمير المؤمنين صلوات الله عليه بقوله :

(واعلم : أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تأويل ما لم يحيطوا به علما ، وسمّى تركهم للتعمّق فيما لم يكلّفوا البحث عن كنهه رسوخا).

__________________

(١) القيامة (٢٢ ـ ٢٣).

(٢) الأنعام (١٠٣).

(٣) آل عمران (٧).

٦٠