عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

وقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (١) ونحو ذلك.

والجواب والله الموفق : أن هذا احتجاج بمحل النزاع.

قال المرتضى عليه‌السلام في هذه الآية : والمعنى في ذلك عندنا فهو : إن تجتنبوا العمد من أفعالكم نكفر عنكم الخطأ من أعمالكم ، فإن قال قائل : هل الخطأ سيّئة؟ (٢).

قلنا له : نعم لو لا أنه سيئة ما ذكره الله سبحانه ولا أوجب فيه ما أوجب من حكمه ، وهل رأيتم مخطئا في فعله لم يوجب الله عليه في فعله شيئا ... إلى آخر كلامه عليه‌السلام.

فإن قالوا : لو كان المراد بالسيّئات في الآيتين الخطأ والنسيان

____________________________________

(٢) قال في حاشية في شرح الأساس للسيد العلامة أحمد بن محمد لقمان رحمه‌الله ما لفظه أقول لا دلالة في الآية على أنّ الاجتناب سبب بل تدل على أنه شرط في الغفران للمخاطبين وإدخالهم الجنة ولعلهم قد عصوا عمدا فيما مضى من أزمانهم بل الظاهر أنّ جميع المؤمنين بالرسول في زمن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا كفّارا إلّا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في الجنة والأحداث ثم أسلموا فإن قلت من بعدهم في حكمهم قلت معنى الآية نكفر عنكم سيئاتكم من الذنوب إن كان عليكم سيئات بدليل أنها تصلح خطابا لكل مكلّف والمعلوم أن من المكلفين من هو معصوم لا سيئة عليه ولا يجوز أن تكون المكفّرة عين المجتنبة لأنه لا يمكن تكفيرها ولم تقع ولا اجتناب ما قد وقع فثبت أنّ المكفّر غير المجتنب ولا يجوز أن يكون المكفر الخطاء ونحوه لأنه يغفر من دون اجتناب الكبائر ولا العمد الذي لم يتب عنه لأنه لا يغفر مع عدم التوبة وهو كبيرة وهذا محل النزاع فثبت أن يكون المكفّر ما تبت منه لا يقال التوبة مكفّرة بنفسها ولا تأثير للاجتناب معها لأنّا نقول بل هو شرط في تكفيرها للذنوب فمن تاب ثم لم يجتنب الكبائر رجعت عليه الذنوب التي تاب منها وإن تاب واجتنب كفرت عنه فثبت أنّ الاجتناب شرط لا سبب ويؤيّد هذا أنّ الخطاب للمؤمنين وكل من ليس بتائب ليس بمؤمن فليس مخاطبا بالآية فليس له حكمها فتأمل تمت.

__________________

(١) النساء (٣١).

٢٤١

ونحوهما لما كان للشرط فائدة لأن الخطأ والنسيان معفوّان على كل حال وكذلك لم يكن في ذكر الوعك في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من وعك ليلة ... الخبر : فائدة (١).

قلت : قال الإمام عليه‌السلام : والمراد في قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) : تكفير السيئات بالتوبة حيث اجتنب ما عداها ممّا يجازى عليه المكلف ، وأمّا إذا تاب من السيئات الكبيرة مع عدم تجنّبه لشيء من الكبائر فإن الله تعالى لا يقبل توبته بدليل قوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢).

والمراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من وعك ليلة كفر الله عنه ذنوب سنة» ونحوه من الأخبار : كونه سببا للألطاف الدّاعية إلى التوبة إذا وقع الصّبر والرّضا بقضاء الله تعالى لأنهما من الأعمال ، وقد قال تعالى : (وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً) (٣).

ودواعي التوبة لا شك أنها من ألطاف الله تعالى. انتهى.

وقد تقدم من قوله في الآلام : أنه لا يبعد أن يجعل الله عقاب بعض المعاصي المتعمدة في الدنيا ، وكذلك سيأتي حكاية ذلك في باب التوبة إن شاء الله تعالى.

وقالت «البصرية» ليست كل عمد كبيرة «بل ما وجب فيه حدّ» كالزنى وشرب الخمر ونحوهما «أو نصّ على كبره «من الشارع بأن يصفه بالكبر أو بالعظم أو الفحش أو الإحباط أو الغضب على فاعله أو نحو ذلك فكبير «وغير ذلك محتمل» للصغر والكبر.

وحكى صاحب الفصول عن أئمتنا عليهم‌السلام وبعض البغدادية

__________________

(١) قوله لم يكن في ذكر الوعك فائدة ففائدة اسم يكن مؤخّر وخيرها الجار والمجرور مقدم فلا يتوهم أنه ابتداء كلام تمت.

(٢) المائدة (٢٧).

(٣) الشورى (٢٣).

٢٤٢

والطوسي : أن ما توعد الله عليه بعينه كمخالفة الإجماع فهو كبير وما عداها محتمل.

«قلنا : استحق فاعلها» أي المعصية المتعمدة «النار قطعا بالنص» الذي تقدم ذكره من الآيات العامة لكل معصية «فلا احتمال» للصغر فيما ارتكبه المكلف عمدا من غير تأويل ولا اضطرار.

ويؤيّده : ما رواه الهادي عليه‌السلام بإسناده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال «من اقتطع حق مسلم بيمينه حرّم الله عليه الجنة وأوجب له النار.

قيل يا رسول الله : وإن كان شيئا يسيرا؟

قال : وإن كان قضيبا من أراك قال ذلك ثلاث مرّات».

وروى المؤيّد بالله عليه‌السلام في سياسة المريدين قال : بلغنا أن الله تعالى أوحى إلى نبيئه داود عليه‌السلام : أن أنذر الصديقين وبشّر المذنبين ، قال يا رب : كيف أنذر الصديقين وأبشر المذنبين؟

قال : بشّر المذنبين بأني أقبل التوبة منهم.

وأنذر الصديقين لئلّا يغتروا بأعمالهم».

قال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى عليه‌السلام «وجمهور البصرية : والصغائر كلها غير متعينة لأنها بعض العمد» وليس الخطأ والنسيان والمضطر إليه عندهم من الصغائر لأنّ ذلك غير معصية.

كما سبق ذكره عنهم قالوا «إذ تعيينها» أي الصغائر «كالإغراء» بفعلها والإغراء بفعل القبيح قبيح.

«قلنا : بل كلها متعين لأنها الخطأ» والنسيان والمضطر إليه وما وقع بتأويل.

وحكى مصنف الباهر عن الناصر عليه‌السلام أنه قال بعد أن سأل نفسه عن علامة الصغائر الممحضة المغفورة فقال : إن الصغائر مثل ما

٢٤٣

ذكرته اللكزة والكذب في غير الإصرار (١) وترك الأدب غير أنّي أوثر ترك وصف الصغيرة من الكبيرة ليكون التوقّي للصغيرة والكبيرة معا إذ كانتا جميعا معصية وكانتا موجبتين للعقاب إمّا في العاجل وهو عذاب الصغائر ، وأمّا في الآجل وهو عذاب الكبائر ليحذر من ظن أنه مواقع صغيرة أن تكون كبيرة فيستوجب العقوبة ويتجنب الجميع. انتهى.

وحكى البستي عن الناصر عليه‌السلام أنه قال : إن كل من ارتكب ما حرم الله عمدا مع علمه أنّ الله حرّمه وكذلك ما حرّم رسول الله وكذلك ما حرّم الأمّة إذا ارتكب مع العلم متعمدا فهو مرتكب الكبيرة وما عدا ذلك صغائر كإتباع النظرة النظرة والكذب في غير إصرار (٢) ، وكاللكزة الخفيفة ، وقول القائل لأخيه : أخزاه الله ، أو يقول : يا كذاب وهو في ذلك غير متعمد وما أشبه ذلك فإحصاء جميعه يكثر. انتهى.

(فصل)

قال «الهادي والناصر عليهما‌السلام وبعض البغدادية» وهو قول جمهور أئمة أهل البيتعليهم‌السلام : «وخطايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا عمد فيها».

إذ لا يجوز عليهم صلوات الله عليهم تعمد عصيان الله تعالى لمكان العصمة والطهارة والتزكية.

وقال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليه‌السلام» وبعض المتأخرين «والبصرية» من المعتزلة : «بل هي عمد» منهم وإنّما وجب القطع بصغرها لكثرة ثوابهم.

«لنا قوله تعالى» في خطيئة آدم عليه الصلاة والسلام (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٣) أي عزما على فعل المعصية بل

__________________

(١) (ض) الإضرار بالضاد المعجمة.

(٢) (ض) إضرار.

(٣) طه (١١٥).

٢٤٤

ارتكبها ناسيا. هكذا ذكره الهادي عليه‌السلام وقد ذكرته في الشرح.

وقال الإمام القاسم بن علي العياني عليه‌السلام : ولم نجد له عزما على افتقاده لنفسه من الغفلة والسّهو ، وهو قريب من كلام الهادي عليه‌السلام.

وقال صاحب الكشاف : العزم : التصميم ، والمضيّ على ترك الأكل.

قال : «وأولو العزم من الرسل» هم أهل الجهاد والصبر.

وقال بعضهم : أولو العزم هم كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

ولم يتخذ الله نبيئا إلّا كان ذا عزم وإنّما دخلت (من) للجنس لا للتبعيض وهذا قول جماعة من أهل التفسير ، وقواه الإمام محمد بن المطهر عليه‌السلام في عقود العقيان ، وهو الأولى ، والله أعلم.

«و» لنا أيضا في خطيئة يونس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «قوله تعالى» : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) (١) أي لن نضيّق عليه أي لا نؤاخذه» في ذهابه مغاضبا لقومه ومثل هذا ذكره الديلمي عليه‌السلام في البرهان وصاحب الكشاف.

وقال الهادي عليه‌السلام : إنما كان ذهابه غضبا على قومه واستعجالا منه دون أمر ربّه إلى قوله عليه‌السلام «فظنّ أن لن نقدر عليه» أي : أفظن على معنى الاستفهام ولم يكن ظن ذلكعليه‌السلام.

قال : وهذا ممّا احتججنا به في طرح الألف التي تطرحها العرب وهو يحتاج (٢) إلى إثباتها ، وتثبتها في موضع وإن لم يحتج إليها ... إلى آخر كلامه عليه‌السلام.

«قالوا» أي مخالفونا : «ما تعمده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» من المعاصي «فصغير لكثرة ثوابهم» كما سبق ذكره عنهم.

«قلنا» كثرة الثواب لا تأثير لها في جعل المعصية صغيرة.

__________________

(١) الأنبياء (٨٧).

(٢) (ض) محتاج.

٢٤٥

«قال الله تعالى» في حق نبيئنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو سيّد الأنبياء وأفضلهم وثوابه أكثر (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (١).

فدلّت هذه الآية : أن الركون القليل من النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المشركين يحبط ثوابه ويبطله ولو كان كثيرا.

قال في الكشاف في معناها : أي لأذقناك عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين وأصله : لأذقناك عذاب الحياة وعذاب الممات ، لأن العذاب عذابان : عذاب في الممات وهو عذاب القبر ، وعذاب في حياة الآخرة وهو عذاب النار ، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى : (فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) (٢) بمعنى مضاعفا فكان أصل الكلام : لأذقناك عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه وهو الضعف ، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف فقيل : ضعف الحياة وضعف الممات كما لو قيل : لأذقناك أليم الحياة وأليم الممات.

قال : وفي ذكر الكيدودة وتقليلها مع إتباعها الوعيد الشّديد بالعذاب المضاعف في الدارين دليل بيّن على أنّ القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته.

قلت : وهذا حق وهو عكس ما ذكره المخالف.

«فليس ما قالوا» من أن معاصي الأنبياء المتعمدة صغائر لكثرة ثوابهم «بصحيح ، وأيضا لا خلاف في وقوع خطايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» لأنّ الله سبحانه قد أخبر بها وهو أصدق القائلين «فإن تعمّدوها لأجل تعريفهم أنها صغائر» أي لأجل إعلام الله سبحانه إيّاهم أنها صغائر «فذلك إغراء» منه تعالى بفعلها «وهو» أي الإغراء بفعلها «لا يجوز على الله تعالى» لأنّ الإغراء بفعل القبيح كفعل القبيح.

__________________

(١) الإسراء (٧٤).

(٢) الأعراف (٣٨).

٢٤٦

«وإن تعمّدوها جرأة على الله تعالى من غير مبالاة» منهم «بصغرها وكبرها وحاشاهم عن ذلك ثم بيّنت لهم» أي أنها صغائر مغفورة (١) «من بعد» الإقدام عليها جرأة «فذلك مؤدّ إلى التنفير عن قبول ما أتوا به» من الشرائع «وذلك» أي ما أدّى إلى التنفير «باطل» لا يجوز وقوعه في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

فإن قيل : إن تعريفهم بها لا يكون إغراء في حقهم لشدة رغبتهم في طاعة الله سبحانه فيكون علمهم بأنها تنقص من ثوابهم كافيا لهم في الزجر عنها؟

قلنا : هذا متناقض لأنها إن كانت معصية يكرهها الله تعالى فإن فعلوها مع هذا فهو حقيقة الإغراء ، وإن لم يفعلوها فلا معصية حينئذ منهم وأما معصية الأسباط مع يوسف عليه‌السلام فهي من صريح العمد ولكن الله سبحانه قد أخبر بتوبتهم وندمهم وغفران خطيئتهم ولا مانع مع ذلك أن يكونوا أنبياء من بعد ذلك إذا علم الله طهارتهم كما ذكره الإمام أحمد بن سليمان والقاسم بن علي العياني عليهم‌السلام والله أعلم. مع أنه لا دليل على نبوءتهم.

وأمّا قوله تعالى : (وَالْأَسْباطِ) فالمراد بهم ذراري أبناء يعقوب عليهم‌السلام لأنّ السبط الحافد وولد الولد. والله أعلم.

(فرع)

«ووقوعها» أي المعصية «منهم» أي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام «من باب التأويل وهو لتفريطهم في التحرّز» عن المعصية «لظنّهم أنهم لا يقعون فيها» لما معهم من الخشية لله سبحانه والمراقبة له جلّ وعلا في السّرّ والعلن فكان ذلك سببا في وقوع المعصية منهم سهوا.

«ومن ذلك» أي من المعاصي التي سببها التفريط في التحرّز «خطيئة

__________________

(١) (ب) معفوّة.

٢٤٧

آدم عليه‌السلام» في أكله من الشجرة «أو لظنهم أنها غير معصية» لله تعالى.

«ومن ذلك خطيئة يونس عليه‌السلام» كما سبق ذكره أنه ظنّ أن لا يعاقبه الله على مغاضبته لقومه لمّا كان ذلك غضبا لله تعالى «و» خطيئة «داود عليه‌السلام» أيضا في شأن امرأة أوريا وذلك أنه حين رآها تمنّاها في نفسه أن تكون من أزواجه ولم يكن منه غير ذلك على ما حكاه الهادي عليه‌السلام وغيره واعتقد أن ذلك لا يؤاخذ به.

(فصل)

«والإيمان لغة التّصديق» كما قال الله تعالى حاكيا [عن أولاد يعقوب] «وما أنت بمؤمن لنا» أي بمصدّق لنا.

وقال الناصر عليه‌السلام : هو مشتق من الأمان لأنّ المؤمن يؤمّن نفسه من سخط الله ووعيده ويوجب له رضوانه.

واعلم : أن هذه المسألة تنبني عليها مسألة الإرجاء ومسألة المنزلة بين المنزلتين وقد اختلف في الإيمان في الشرع على عشرة أقوال الأول والثاني والثالث قول «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور المعتزلة والشافعي وبعض الخوارج» وهم الفضلية والبكرية والأزارقة والصفرية [لأن الفضلية يقولون : من أخلّ بشيء من الواجبات أو فعل شيئا من المحرمات كفر فجعلوا فعل الواجبات وترك المحرمات من شروط الإيمان وإن خالفوا في اسم من ترك بعض الواجبات وفعل المحرمات ، وكذلك الأزارقة والصفرية قد شرطوا في الإيمان ترك ما ورد الوعيد عليه ، ومن ارتكب ما ورد الوعيد عليه كفر وخرج من الإيمان وأمّا ما لم يرد الوعيد عليه فلا يكفر فإن صحّ عنهم أنهم يقولون : إن بعض المعاصي لا وعيد عليه كانوا خارجين عن هذا القول وإلّا فالظاهر أنهم يقولون : إن بعض المعاصي وهي التي لم يرد فيها دليل وعيد لا توجب الكفر لأنها لا تخرج صاحبها من الإيمان والعمدة تحقيق النقل عنهم بتحقيق مذاهبهم].

٢٤٨

«ودينا» أي في دين الإسلام بنقل الشارع له إليه : «الإتيان بالواجبات واجتناب المقبّحات» فهو اسم مدح يستحقّ به الثواب فيشمل الملائكة والأنبياء ومن له ثواب من الجن والإنس ، وليس مشتقا من التصديق بمعنى أنه لا يلزم إذا حصل تصديقا ما أن يسمّى صاحبه مؤمنا ، بل من فعل الواجبات واجتنب المقبّحات فهو مؤمن عند هؤلاء المذكورين كلهم ثم اختلفوا فيمن أخلّ بشيء من الواجبات أو فعل شيئا من المحرمات : فعند أئمتنا عليهم‌السلام وجمهور المعتزلة والشافعي : لا يكفر بذلك إلّا أن تكون المعصية ممّا دلّ الدليل القطعي على كفر صاحبها كما سيأتي إن شاء الله تعالى فالمؤمن عندهم : هو من اعتقد بقلبه وأقرّ بلسانه وعمل بجارحته ، فإن أخلّ بالأول فقط كان منافقا ، وإن أخلّ بالثاني كان كافرا ، وإن أخلّ بالثالث كان فاسقا.

والإيمان عندهم يزيد وينقص.

وقالت الفضلية والبكرية من فرق الخوارج : بل من أخلّ بشيء من الواجبات أو فعل شيئا من المحرمات كفر.

وقالت الأزارقة والصفرية : بل ما ورد فيه الوعيد من المعاصي فكفر دون ما عداه ، وهو بناء على أن بعض المعاصي لا وعيد فيها ، وسيأتي الردّ عليهم إن شاء الله تعالى.

الرابع : قول «الأشعرية : بل» الإيمان «التصديق بالله تعالى فقط» أي من دون سائر الأعمال فهو باق على معناه اللغوي لم ينقل.

الخامس : قول «الكرامية» من المجبرة «بل» هو «الإقرار باللسان فقط» وإن لم يعمل عملا ، وظاهر قولهم أنه لا يشترط مطابقة اللسان للجنان فيلزمهم أن يكون المنافق مؤمنا ولا قائل به ، وأن يكون الأخرس غير مؤمن وهو معلوم البطلان.

السادس : قول «الجهمية» من الجبريّة «و» بشر «المريسي» من المعتزلة : «بل» هو «المعرفة فقط» من دون اعتبار تصديق ولا عمل. هكذا ذكره النجري.

٢٤٩

قلنا : فيلزم فيمن عرف بقلبه ولم يقرّ بلسانه أن يكون مؤمنا ولا قائل به.

السابع : قول «محمد بن شبيب» من مرجئة المعتزلة «بل» هو «الإقرار بالله تعالى ورسوله» صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «والمعرفة بذلك» بالجنان «وما نصّ عليه» أي نصّ الله ورسوله عليه «أو أجمع عليه» أي أجمعت الأمّة عليه من الأحكام الشرعية «لا ما استخرج» بالنظر واستنبط بالاجتهاد.

فالأعمال على هذا خارجة عن الإيمان وكذلك بعض المعارف فيلزمهم أنّ من عرف بقلبه وأقرّ بلسانه واستخفّ بالأنبياء وكتب الله وملائكته وهدم المساجد أن يكون مؤمنا ولا قائل به.

الثامن : قول «الحنفية : بل» هو «الإقرار بالله ورسوله» وجميع الشرائع باللسان «والمعرفة بذلك» بالجنان «مطلقا» أي سواء كان ممّا نصّ عليه أو أجمع عليه أو لا ، والأعمال كلها خارجة عن الإيمان.

التاسع : قول «الغيلانية» من مرجئة المعتزلة : «بل» هو «الإقرار» باللسان «والمعرفة بالله» بالجنان «وبما جاء عن الله تعالى» من الشرائع إذا كان ذلك «مجمعا عليه».

وأمّا ما اختلف فيه فليس من الإيمان ، وهذا القول قريب من قول محمد بن شبيب إلّا أنه زاد معرفة ما نصّ عليه ، والفرق بين قول الحنفية وقول بن شبيب : أن الحنفية يعمّمون المعرفة بجميع الشرائع سواء كان مستنبطا أو منصوصا ، والأعمال كلها على هذه الأقوال خارجة عن الإيمان فيلزمهم أن يكون من أقرّ بلسانه وعرف بقلبه وعاند بالتكبّر والحسد وقتل(١) الأنبياء مؤمنا.

العاشر : قول «النجدات» من الخوارج : «بل» هو «الإقرار بالله تعالى [وملائكته] وكتبه ورسله وترك الفعل المحرم عقلا» ومن أخلّ بشيء من

__________________

(١) (أ) فقتل وفي (ش ، ب) بالواو.

٢٥٠

ذلك كفر ، فأمّا ما ليس في العقل تحريمه من الأمور الشرعية فليس من الإيمان ، وهذا القول باطل من وجهين :

أحدهما : إخراج الشرعيات عن الإيمان.

وثانيهما : قولهم : ومن خالف شيئا من ذلك كفر إذ من المعاصي ما لا كفر فيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

«لنا» حجة على قولنا : «قوله تعالى» : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) (١).

فأخبر الله سبحانه أنه لا بدّ في حقيقة الإيمان من العمل وأنه لا يسمّى مؤمنا من لم يضم العمل [الصالح] إلى التصديق والمعرفة بالجنان والإقرار باللسان بقوله (إنما) وهي موضوعة للحصر ، أي لا يسمّى مؤمنا من لم يصلّ ولم ينفق ممّا رزقه الله تعالى.

«ونحوها» كقوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٢).

وقوله عزوجل : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) (٣).

والمراد الشرائع لأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصدّق بالله تعالى عارف به من قبل بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

«و» لنا أيضا من السنّة : «قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الإيمان بضع وسبعون شعبة ، والحياء شعبة من الإيمان ، وأفضلها قول : لا إله إلّا الله وأدناها إماطة الأذى عن (٤) الطريق».

وهذا نص صريح في أن الأعمال داخلة في مفهوم الإيمان وأنّ له شعبا أي أعمالا كثيرة بعضها أفضل من بعض.

__________________

(١) الأنفال (٢ ـ ٤).

(٢) البقرة (١٤٣).

(٣) الشورى (٥٢).

(٤) (ض) من الطريق.

٢٥١

«ونحو هذا الخبر كثير» نحو : ما رواه علي بن موسى الرضى عليهما‌السلام في صحيفته عن آبائه عليهم‌السلام عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «الإيمان إقرار باللسان ومعرفة بالقلب وعمل بالأركان».

وما رواه في السفينة عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «الإيمان ثلاثة : فقه (١) بالقلب ، ونطق باللسان ، وعمل بالجوارح» وما رواه الناصر للحق عليه‌السلام في كتاب البساط بإسناده إلى جندب بن عبد الله البجلي قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن فتيان حزاورة (٢) فيعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا إيمانا.

قال الناصر عليه‌السلام : أراد : يعلمنا شرائع الإيمان من الصلاة والصيام وغيرهما.

وقال عليه‌السلام : حدثني أخي الحسين بن علي ومحمد بن منصور المرادي قالا : حدثنا علي بن الحسن يعنيان أبي عليه‌السلام عن علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من أسبع وضوءه وأحسن صلاته وأدّى زكاة ماله وخزن لسانه وكفّ غضبه وأدّى النصيحة لأهل بيت نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد استكمل حقائق الإيمان وأبواب الجنة مفتّحة له».

وما رواه البخاري بإسناده إلى أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن ، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن».

وغير ذلك كثير.

«والإسلام لغة» أي في لغة العرب : «الانقياد» والامتثال والاستسلام ،

__________________

(١) (ن) معرفة.

(٢) (حزاورة) هو جمع حزور وحزوّر وهو الذي قارب البلوغ والتّاء لتأنيث الجمع تمت نهاية وفي الصحاح الحزوّر الغلام إذا اشتدّ وقوي.

٢٥٢

قال الله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١) أي استسلمنا ولم نمتنع بالمعارضة.

قال «أئمتنا عليهم» «السلام والجمهور» والإسلام دينا أي في الشرع بنقل الشارع إلى أصول الدين هو «مشترك» بين معنيين أولهما : «الإيمان وكلّا على أصله» في حقيقة الإيمان فعند أئمة أهل البيت (٢) عليهم‌السلام ومن وافقهم أنه يطلق اسم الإسلام على الإيمان وهو : الإتيان بالواجبات واجتناب المقبّحات.

وأما عند مخالفيهم : فلم أقف على ما حكاه الإمام عليه‌السلام عنهم وذكر الإمام المهدي عليه‌السلام في مقدّمة البحر وفي الغايات والنجري في شرحه ما لفظه : قال أكثر المعتزلة : والإسلام والإيمان والدين سواء في الشرع وهو فعل الطاعات واجتناب المقبحات والمكروهات وإن كانت في أصل اللغة مختلفة.

فالإيمان : التصديق ، والإسلام : الاستسلام والانقياد ، والدين : يستعمل في اللغة بمعنى الجزاء وبمعنى العادة وبمعنى الملّة وهو ما يتخذه الإنسان له دينا ، وبمعنى الطاعة لكنها قد صارت في الشرع بعد النقل بمعنى واحد وهو ما تقدم.

وأما من منع النقل من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي فلا خلاف بينهم أن هذه الألفاظ مختلفة المعنى لغة وشرعا وأنها غير مستوية وأما الذين قالوا بصحة النقل ووقوعه في الإيمان والفسق ونحوهما فقد اختلفوا :

فقالت الوعيدية من المعتزلة : إن الإيمان والإسلام والدين سواء في الشرع.

وقال بعض الإمامية وهم فريق منهم أثبتوا النقل الشرعي الإسلام غير الإيمان لقوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) (٣) فأثبت الإسلام ونفى الإيمان فيجب أن يكون أحدهما غير الآخر.

فالإيمان هو المعرفة والإقرار بالله ورسوله والإمام وجميع ما جاء عنهم والإسلام : هو الإقرار بالله من دون معرفة ، فالإيمان أخصّ من

__________________

(١) الحجرات (١٤).

(٢) (ض) فعند أئمتنا.

(٣) الحجرات (١٤).

٢٥٣

الإسلام ، قال النجري : واعلم : أن في هذه المسألة خلافا أشهر من هذا وهو خلاف الأشاعرة وأكثر المجبرة فإنهم يقولون : الإسلام والدين اسم للطاعات كما هو مذهب المعتزلة.

والإيمان هو التّصديق فقط ، فالإيمان غير الدين والإسلام. انتهى.

«و» المعنى الثاني من معنيي الإسلام في الشرع هو «الاعتراف بالله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما عرف من الدين ضرورة» كالصلاة والزكاة والحج وأصول الشرائع أي الاعتراف بالجنان بوجوبها «والإقرار» باللسان «بذلك» أي بالله ورسوله وما عرف من ضرورة الدين «مع عدم ارتكاب معصية الكفر» كسبّ الأنبياء أو قتلهم ونحو ذلك ممّا يوجب الكفر على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

«ففاعل» المعصية «الكبيرة غير معصية الكفر مسلم فاسق» يستحق الخلود في النار وهو مع ذلك غير كافر كفر الجحود والمخرج من الملّة وسيأتي بيان معصية الكفر ومعصية الفسق إن شاء الله تعالى.

وهذا المعنى الثاني من معنيي الإسلام لا شك فيه وأنه يصحّ إطلاقه عند أهل الشرع على القاتل عمدا أو الزاني ونحوهما ، ولكن : يقال : هل نقله الشارع من أصل وضعه وهو الانقياد إلى هذا المعنى كما نقله إلى معنى الإيمان لقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١).

ولقوله تعالى : (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٢).

وحينئذ يصح أن يقال : هو حقيقة دينية في مرتكب الكبيرة لأنه يمكن أن يقال : إنما أطلق اسم المسلم على مرتكب الكبيرة على مقتضى أصل الوضع اللغوي وهو الانقياد والله أعلم.

وقال «بعض الإمامية : بل» الإسلام «الانقياد» أي الإذعان والقبول والإقرار وإن لم يصحبه عمل كما تقدم ذكره عنهم من رواية النجري أن

__________________

(١) آل عمران (٨٥).

(٢) الذاريات (٣٦).

٢٥٤

الإسلام عندهم هو الإقرار من دون معرفة وأنه أعمّ من الإيمان ولكن يقال : هذا المعنى لغوي لا شرعي والله أعلم.

«لنا» حجة على أن الإسلام يطلق على الإيمان دينا : «قوله تعالى» : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها) أي في قرية لوط وهي سدوم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يريد لوطا عليه‌السلام وأهله رحمة الله عليهم إلّا امرأته (فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (١) وهو يريد لوطا وأهله المتقدم ذكرهم فدل على أن الإسلام هو الإيمان.

وما اعترض به النجري في هذا الاستدلال ضعيف قد بيّنا وجهه في الشرح «و» لنا أيضا حجة على ذلك «قوله تعالى» : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ).

فالآية صريحة في أن ما كان غير الإسلام فهو غير مقبول والإيمان والدين مقبولان فيكون الدين والإيمان والإسلام بمعنى واحد.

«و» لنا حجة على أن مرتكب الكبيرة الغير المخرجة من الملّة يسمّى مسلما «معاملة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو السارق» والقاتل والزّاني «من تبقية نكاحه» وإبقاء حكم التوارث بينه وبين المؤمنين والدفن في مقابرهم «ونحو ذلك» من سائر المعاملات «كمعاملة المسلمين» في ذلك.

فدلّ ذلك على أن حكم مرتكب الكبيرة حكم المسلمين فيطلق عليه من الأسماء ما يطلق عليهم ، ولعل فيه تسامحا وهو أن يقال : معاملته كمعاملة المسلمين في ذلك لا تقتضي وجوب تسميته بأسمائهم إذ لا مانع من أن تكون معاملته كمعاملة المسلمين واسمه مخالفا لأسمائهم والله أعلم وفيه ما مرّ وهو : أن يقال : ما المانع من أن يكون إطلاق اسم الإسلام عليه بالنظر إلى أصل وضع اللغة لا بنقل الشرع.

__________________

(١) الذاريات (٣٦).

٢٥٥

(فصل)

قال «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور المعتزلة والشافعي وبعض الخوارج : والكبائر من المعاصي محبطات للإيمان» أي مبطلات له «فلا يبقى مؤمنا من ارتكب» معصية «كبيرة خلافا لمن مرّ» من الفرق المخالفة في حقيقة الإيمان في الشرع. «لنا» حجة على قولنا : «ما مرّ» من الأدلة على حقيقة الإيمان الشرعي.

(فصل)

في ذكر الكفر والنفاق والفسق وحقائقها.

«والكفر لغة» أي في لغة العرب «التغطية» ومنه سمّي الزراع كافرا لأنه يغطي البذر بالتراب ، وسمّي الليل المظلم كافرا لأنه يستر بظلمته كل شيء ، وكذلك تسمية البحر كافرا لأنه يستر ما فيه ومن ذلك سمّي الكافر بالله لأنه يستر نعم الله وهو مشتق من الكفر بالفتح وهو التغطية.

«و» الكفر «في عرفها» أي في عرف اللغة : «الإخلال بالشكر قال الشاعر :» وهو عنترة :

«نبّئت عمرا غير شاكر نعمتي

والكفر مخبثة لنفس المنعم»

أراد بالكفر هنا الإخلال بشكر النعمة.

«و» الكفر «دينا» أي بنقل الشرع له إلى أصول الدين : «عصيان» لله تعالى مخصوص «مخرج لمرتكبه من ملّة الإسلام» أي من دين الإسلام كمن يجحد بالله تعالى أو برسله أو ينسب إليه تعالى صفة نقص ونحو ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأما من حدّ الكفر في الشرع بأنه ما يستحق عليه أعظم أنواع العقاب فهو دور محض.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : ونحن نأتي له بحدّ يكشف عن تفاصيله ولا يلزم منه دور فنقول : الكفر هو الخلوّ عن معرفة الله تعالى ونبوّة نبيئه ، أو الاستخفاف بالله أو بنبيه أو بشيء ممّا جاء به أو تكذيبه في

٢٥٦

شيء ممّا علم ضرورة أنه جاء به بقول أو فعل أو تعظيم غير الله كتعظيمه أو الدخول في الشعار المختص بمن هو كذلك جرأة وتمرّدا ثم فسّر عليه‌السلام هذه الألفاظ ، ثم قال : ويلحق بهذه الجملة الموالاة لمن هذه صفته فإنه في حكم من التزم بشعاره بدليل قوله تعالى : (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ).

قال : هذا حدّ الكفر الجامع لأنواعه على سبيل التفصيل. انتهى.

وقال الشيخ أبو القاسم البستي : اعلم : أن جميع الكفر لا يخرج عن الجهل بالله تعالى أو التشبيه أو الخروج من التوحيد أو التجوير أو التظليم أو التكذيب فمن اعتقد قدم العالم ونفي الصانع وأضاف الصّنع إلى نجم أو طبع أو نحو ذلك إنّما يكفر بالجهل بالله تعالى.

قال : ومن قال بالتشبيه والتثليث كالثنوية والنصارى وعبدة الأوثان فكفرهم لخروجهم من التوحيد ، ومن وصف الله بالظلم والجور فكفره لكونه مظلّما لله تعالى ، ومن كذب بالرسل فإنه كفر لتكذيبه.

قال : فكل كفر من طريق القول والاعتقاد لا يخرج عن هذه الوجوه الخمسة فالكفر في الملل والأديان والمذاهب لا يقع إلّا في هذه الخصال.

قال : فأمّا ما يقع لا من طريق التديّن كالسجود للغير أو شدّ الزنار أو لبس الغيار أو الاستخفاف بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهو خارج عمّا نحن بصدده لأن غرضنا بيان ما هو كفر من المذاهب والملل. انتهى.

«والنفاق لغة : الرياء» والرياء ممدود مصدر (راء رياء ومرآة) مثل قاتل قتالا ومقاتلة أي فعل فعلا لأجل يراه غيره طلبا للثناء أو نحوه.

وحاصله : إظهار الخير وإبطان الشّر ، «و» حقيقة النفاق «دينا» أي في الدين بنقل الشرع له : «إظهار الإسلام وإبطان الكفر».

قال في الصحاح : النفاق : مأخوذ من النافقاء وهو إحدى جحرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها ، وهو موضع يرقّقه فإذا أتي من جهة القاصعاء ضرب النّافقاء برأسه فانتفق أي خرج :

وروي عن «القاسم» بن إبراهيم «عليه‌السلام» أنه قال : «بل» النفاق

٢٥٧

هو «الرّياء فقط» وهو إظهار الخير وإبطان الشر فهو باق على معناه اللغوي لم ينقله الشرع إلى إظهار خير مخصوص وهو الإسلام وإبطان شرّ مخصوص وهو الكفر ومثله ذكر زيد بن علي والناصر للحق عليهما‌السلام وغيرهما وهو الحق إذ لا دليل على النقل و «لقوله تعالى» في وصف المنافقين (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) (١).

«هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان» «ف لو كانوا كفّارا ما قال تعالى» «هم أقرب» إليه وهم حينئذ فيه فقد استعمله هنا فيمن أظهر خيرا وهو الإيمان والامتثال لأمر الملك الدّيّان ، وأبطن شرّا وهو العصيان من غير أن يكون ذلك العصيان كفرا لأنه لو كان كفرا ما قال تعالى : «هم أقرب إليه» وهم فيه لأنه لا يقال هذا أقرب إلى هذا إلّا وهو غير حاصل فيه.

فلما قال تعالى : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ) : علم أنهم غير داخلين في الكفر.

قال عليه‌السلام : «قلنا» في الجواب على القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام : «المراد أنهم مائلون إليه» أي إلى الكفر أي هم أكثر ميلا إلى الكفر ، وهذا القول يصلح أن يوجه إلى من هو كافر أي هو محب للكفر ومائل إليه أكثر من محبة الإسلام والميل إليه «لقوله تعالى» : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) (٢).

وهذا تصريح بكفرهم.

«ولتصريحهم بتكذيب الله تعالى فيما حكى عنهم في قوله تعالى» (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) (٣).

__________________

(١) آل عمران (١٦٧).

(٢) التوبة (٥٤).

(٣) الأحزاب (١٢).

٢٥٨

(ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الفتح والنصر «إلّا غرورا» أي كذبا ومن كذب الله ورسوله فهو كافر.

ويقال : إن القاسم عليه‌السلام : لم يمنع من تسمية من أظهر الإسلام وأبطن الكفر منافقا ، وإنّما منع اختصاص المنافق به لعدم الدليل على الاختصاص.

وقد أوسع الناصر عليه‌السلام في كتاب البساط الاحتجاج على ذلك وقد ذكرنا منه قسطا في الشرح.

«والفسق لغة : الخروج» يقال : فسقت الرّطبة إذا خرجت عن قشرها ، وفسق عن أمر ربه أي خرج. ذكره في الصحاح.

والفسّيق الدائم الفسق ، والفويسقة الفأرة.

«و» الفسق «في عرفها : الخروج من الحدّ في عصيان أهل الشرك» أي عصيان خارج عن عصيان أهل الشرك أي زائد على معاصيهم في الفحش.

ولهذا قال عليه‌السلام : «وهو الخباثة ، ومنه قيل» للزاني فاسق لاستهجان الزنا عندهم و «للخبيثة» من النساء المعتمدة على الفجور «يا فساق» أي يا فاسقة.

ومن ذلك : تسميتهم للفأرة : فويسقة لأنّ ضرها زائد على الحد المعروف من سائر الضوار في الخباثة.

«و» حقيقة الفسق «دينا» أي في الشرع ودين الإسلام «ارتكاب كبيرة» أي فعل معصية كبيرة «عمدا لم يرد دليل بخروج صاحبها» أي مرتكبها «من الملّة» أي ملّة الإسلام كالزنى وشرب الخمر والقتل من غير استحلال لذلك لقوله تعالى عقيب ذكر قذف المحصنة (وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ونحوها كثير.

ولا خلاف أن الكافر فاسق أيضا لأنّ الفاسق خارج عن طاعة الله تعالى ولا خلاف أن البرّ التّقيّ لا يسمّى كافرا ولا فاسقا.

٢٥٩

وتعين الخلاف في الفاسق هل يجوز أن يسمّى كافرا؟ وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وقوله : لم يرد دليل بخروج صاحبها من الملة : يحترز من معصية الكفر كالجهل بالله سبحانه ونحوه ، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

واعلم : أن لكل واحد من معاني الكفر والنفاق والفسق شبها بالمعنى اللّغوي :

أما الكفر : فلأنّ الكافر كالساتر للحق بالباطل وفي حكم الساتر لنعم الله تعالى عليه.

وأمّا النفاق : فلأنّ المنافق يبطن خلاف ما يظهر.

وأمّا الفاسق : فلأنه خارج من (١) ولاية الله تعالى إلى عداوته وخارج من (٢) حدود الله تعالى.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : ومن أجل هذا الشّبه : حكم الرازي وغيره بأن الكفر والفسق لم ينقلا عن معناهما اللّغوي كما أنكر نقل لفظ الإيمان ، قال : وهو باطل بمثل ما قدمنا في لفظ المؤمن من أن المعلوم أن الشرع قد قصره على ما ذكرناه من المعنى.

والمعلوم : أن الستر والخروج الحقيقيين غير حاصلين فيهما فبطل ما زعموه.

قلت : ولم يتضح لي دليل النقل في اسم الكفر والفسق والنفاق لأنّ الكفر في عرف اللغة : الإخلال بالشكر ومرتكب الكبيرة المخرجة من الملّة وغيرها مخلّ بالشكر لأنّ الشكر هو الطاعة والامتثال لأمر الله كما تقرر.

والفاسق : خارج عن ولاية الله تعالى حقيقة.

والمنافق : يبطن خلاف ما يظهر حقيقة.

فهات الدليل من الشرع أنه لا يسمى باسم الكفر إلّا من ارتكب المعصية المخرجة من الملّة؟ ولا يسمّى مرتكب الكبيرة الغير المخرجة إلّا

__________________

(١) (ض) عن في الموضعين.

(٢) (ض) عن في الموضعين.

٢٦٠