عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

الله عليه وآله وسلّم؟

فلا بدّ وأن يقول : نعم.

وإذا قال نعم : قلنا له فما وجه كفره وقد أقرّ بالنبوّة وصلّى إلى القبلة ولا جواب له عن ذلك إلّا بأن يقول : إنه باستحلاله الخمر صار مكذبا له وبسبّه له صار مستخفّا به ونحن نعلم ذلك ضرورة فعلمنا أنه كفر وإن أقرّ بنبوّته وصلّى إلى قبلته.

وإذا أجاب بذلك قلنا له : قد أمكنت راميك من صفاء الثّغرة وذلك لأنّا كذلك نقول. هكذا ذكره عليه‌السلام في الغايات.

قال عليه‌السلام : «وكذلك القول فيمن يقول : إن الله يحلّ في الكواعب الحسان ومن أشبههن من المردان».

أي فهم كفار كالمجبرة والمشبهة لا أنهم كالمجبرة والمشبهة في التأويل فإن كفر هؤلاء تصريح اتفاقا لأنهم باطنية وإن تستّروا بالإسلام.

وإن فرضنا : أنهم ليسوا باطنية فهم حلوليّة حيث قالوا إنه تعالى يحلّ في الصّور الحسان «عشقا منه لها تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا» ومن وصف الله سبحانه بالحلول في المخلوق ونسب إليه العشق فقد كفر إجماعا وذلك كفر تصريح لا تأويل.

وكذلك القول في الإباحية الذين يقولون «إن أموال الناس» المحرّمة حلال «والفروج المحرّمة حلال وليس المراد بالجنة» التي وعدها الله المتقين «إلّا وصل الحبيب» أي محبوبهم وليس المراد «بالنار» التي أعدّها الله للكافرين والفاسقين «إلّا هجره» أي هجر الحبيب وينفون الجنة والنار ولا يثبتونهما فهم كفار تصريح اتفاقا وهم من الباطنية «للآية» المتقدم ذكرها «ولردّهم أيضا ما علم أنه من الدين ضرورة» أي بضرورة العقل وذلك تحريم أموال الناس ودمائهم والزنى ونحو ذلك.

«وهو» أيضا «تكذيب لله ولرسوله» وذلك واضح.

«وكذلك القول فيمن والى كافرا» أي أحبّه أو فعل ما ظاهره المحبة

٢٨١

«لقوله تعالى» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) (١).

(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي كافر مثلهم في الكفر وهذا نص صريح في كفر من والى كافرا.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وحقيقة الموالاة للغير هي :

أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لها كما نبّه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يرى لأخيه المؤمن ما يرى لنفسه ويكره له ما يكره لها» أو كما قال.

وحقيقة المعاداة للغير : «أن تريد (٢) إنزال المضرّة به وصرف المنافع عنه ويعزم على ذلك إن قدّر عليه ولم يعرض صارف.

قال : وإنّما يكونان دينيّين حيث يواليه لكونه وليّا لله تعالى ويعاديه لكونه عدوّا لله تعالى.

فإن لم يكونا كذلك فدنيويّان نحو أن يحب له الخير لقرابته منه أو لنفعه له ، أو يحب له الشرّ لمضرته له أو لمن يحب.

وقال القاسم بن إبراهيم عليهما‌السلام في كتاب الهجرة : ومن صار إلى عدوّ من أعداء الله إلى محبّة أو موالاة أو مسالمة أو مراضاة أو مؤانسة أو موادّة أو مداناة أو مقاعدة أو مجاورة أو اقتراب فضلا عن توادّ أو تحابّ فقد باء راغما صاغرا من الله جلّ ثناؤه بسخطه وهلك في ذلك بهلكة عدوّ الله وتورط من الهلكة في متورطه وكان في الإساءة والجرم مثله وأحلّه الله في العداوة له محله ... إلى آخر كلامه عليه‌السلام.

وفيه تصريح بعدم اشتراط مواطأة القلب ، وأنّ الأفعال التي يكون ظاهرها المحبّة والإيناس موالاة ولو كان يعتقد ويضمر الكراهة والبغض فكل

__________________

(١) المائدة (٥١).

(٢) (ب) أن يريد.

٢٨٢

فعل ظاهره الموالاة والمعاداة يحكم على صاحبه به ، ولا عبرة بفعل القلب وإلّا لما وجبت الهجرة.

ويؤكّد ذلك قوله تعالى : (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً ...)الآية (١).

وما أخرجه رزين عن سمرة بن جندب قال أمّا بعد : فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من جامع المشرك أو سكن معه فإنه مثله».

وأخرج الترمذي بمعناه أو قريبا منه ، ذكر هذا ابن بهران في المعتمد والله أعلم «أو» لم يوال كافرا ولكنه «صوّب عاصيا» لله تعالى «في عصيانه» والمراد «المتجاري عليه» أي المتعمد للمعصية لله تعالى جرأة (٢) عليه فإن من صوّبه في ذلك العصيان كفر «لردّه ما علم» أنه «من الدين ضرورة» وهو عصيان الله تعالى : إذ هو تكذيب لما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تحريم معصية الله تعالى ، وهو ما نهى الله عنه.

وهو ردّ أيضا لحكم العقل من وجوب امتثال أمر المالك المنعم وذلك يقتضي الاستخفاف بالله تعالى.

«أو جالسهم» أي جالس العاصين «في حال ارتكابهم فعل الكفر» أي الموجب لكفر فاعله «غير مكره» على مجالستهم.

أمّا إذا أكره أو اضطرته ضرورة أو مصلحة دينيّة ولم يعارضها (٣) مفسدة فلا إثم عليه كما سبق ذكره في الهجرة وذلك «لقوله تعالى» : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها

__________________

(١) الممتحنة (٤).

(٢) (ب) جراءة.

(٣) (ب) تعارضها.

٢٨٣

فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) (١) أي مثلهم في الكفر ، وهذا نص في كفرهم.

قال المنصور بالله عليه‌السلام في المهذب : فإن كانت الدار الغالب عليها الكفر من قول بباطل أو جبر أو تشبيه ولهم السيف والمنبر فحكم المقيم بينهم إذا كان متمكنا من الخروج والهجرة حكمهم في الكفر ، وإن كان الغالب عليها الفسق فحكمه في أيّام الإمام حكم الفاسقين وفي غير وقته : حكم الصالحين إلّا أن يغلب في الظنّ أنهم إذا انفصلوا عنها يكونون أقرب إلى فعل الطاعات وترك المقبّحات فالهجرة عنها واجبة عليهم في وقت الإمام وغير وقته ويفسق من لا يخرج.

وإن كان ظاهره الصّلاح بالدرس في العدل والتوحيد.

قلت : قوله عليه‌السلام : وفي غير وقت الإمام حكم الصالحين وذلك حيث لم يجد موضعا يهاجر إليه خليّا من الفسق لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يحل لعين ترى الله يعصى ... الخبر كما تقدم».

(فرع)

يتفرع على كفر المشبهة والمجبرة ، اختلف المكفرون لهم في حكمهم في الدنيا ومعاملتهم :

فقال «بعض أئمتنا عليهم» «السلام» وهو ظاهر إطلاق قدمائهم عليهم‌السلام : «وحكم نحو المجبرة» أي المجبرة والمشبهة ومن يشبههم في كفر التأويل كالمرجئة والمطرفية عند من كفرهم «حكم المشركين» في جميع الأحكام فيجوز سبيهم ويحرم مناكحتهم ويمتنع التوارث بينهم وبين المسلمين.

وقال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليه‌السلام وأبو علي» الجبائي «والقاضي» عبد الجبار «و» جعفر «بن مبشر» ورواه النجري عن القاسم وأبي طالب والجرجاني والمنصور بالله عليه‌السلام : «بل» لهم

__________________

(١) النساء (١٤٠).

٢٨٤

«حكم المرتدين لأن إظهارهم للشهادتين إسلام ، واعتقادهم ذلك» أي الجبر ونحوه «ردّة» ولم أقف على كلام الإمام المهدي عليه‌السلام في ذلك إلّا ما حكاه في الأزهار ولعل الرواية عن المنصور بالله عليه‌السلام غير صحيحة لأنه قد روي عنه : جواز سبي المشبهة والمجبرة ، والله أعلم.

«قلنا» ليس إظهارهم الشهادتين إسلاما لأنهم «إنما يشهدون بإلهية الفاعل للقبائح والمشابه للأجسام والعاشق للحسان لا» أنهم يشهدون «بإلهية الله سبحانه المتعالي عن ذلك» علوّا كبيرا.

وقد أدخل عليه‌السلام الصوفية مع أهل كفر التأويل فينظر فيه.

«وإن سلّم» أن إظهار الشهادتين إسلام «فكالمنافق الذي لم يشم قلبه رائحة الإسلام» لأنه «يظهر الشهادتين» وقلبه منطو على الكفر بالله تعالى «وليس له حكم المرتد إجماعا» بين المسلمين لأن المرتد هو الذي يكفر بعد الإسلام ، والمنافق لم يثبت له إسلام وكذلك المجبرة والمشبهة.

وفي «أحد قولي أبي هاشم و» هو قول «ثمامة» بن الأشرس من المعتزلة : «بل» لهم «حكم الذمّي» لأنهم نطقوا بالشهادتين وكذبوا على الله وكذّبوا بالصدق فهم كمن كذّب نبيئنا [محمدا] صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المجوس : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» وهم مثل المجوس.

قلنا لم تعقد لهم ذمّة كأهل الذمّة والمعلوم أن الذمّة إنّما عقدت لأهل الكتاب المنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وقال أبو القاسم «البلخي : بل» لهم في الدنيا «حكم الفاسق» (١) في الدفن في مقابر المسلمين والمناكحة والتوارث ، ولهم في الآخرة حكم الكفار في العقاب.

«قلنا : صحّ كفرهم» بما سبق ذكره من الأدلة «فلزم» لهم «أحكام

__________________

(١) (ض) حكم الفسّاق.

٢٨٥

الكفار» في معاملة الدنيا والآخرة «لعدم الفارق» بين كفر وكفر وبين أحكام الدنيا والآخرة «ولا دليل على صحة ما ذكروه» أي ما ذكره المخالف.

واعلم : أن الإسكافي وكثيرا من المعتزلة قالوا : إن الشك في كفر المجبرة والمشبهة كفر ، ويتوقفون في الشّاك الثاني.

وقال قوم : الشّاك الثاني أيضا كافر ، وكذلك الثالث والرابع وتوقف بعضهم في الشّاك الثالث.

وقالت البصرية : إن صوّبهم كفر وإن خطّأهم لم يكفر ولم يخطئ إذ لا يجب على المكلف إلّا اعتقاد الحقّ وإخطاء مخالفه ، وأما أحكامه هل هو كافر أو لا فلا يجب إذ دليل كون الذنب كفرا سمعيّ وليس كل أحد مكلّفا بمعرفته ، وإنّما يكلف بها العلماء والأئمة ومن جرى مجراهم لما عليهم من التكاليف المتعلقة بهم.

واعلم : أنه بقي من أصناف التأويل التي عدّها الإمام يحيى عليه‌السلام خمسة أصناف : المطرفية ، والروافض ، والخوارج ، والمرجئة ، والمقلّدة :

أما المطرفية : فقد كفرهم الإمام أحمد بن سليمان والإمام المنصور بالله عليهما‌السلام وغيرهما من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم لما قد ذكرنا بعضه في فصل الأجل وغيره ، من ذلك : إنكارهم أن الله سبحانه ما قصد إلى خلق الفروع وإنّما قصد الأصول التي هي : الهوى والماء والأرض والنار ، وأنّ الفروع إنّما حدثت بالإحالة وكذلك أنكروا أن يكون الله سبحانه أمات من لم يبلغ [عمره] مائة وعشرين سنة.

وأما الرافضة : فهم فرق كثيرة ، قال القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام : افترق من ادّعى التشيّع على ثلاثة عشر صنفا : منهم اثنا عشر في النار وهم الروافض.

ثم ذكر فرقا كثيرة من الروافض ، فمن علم أنّ خطأه يوجب الكفر من الاعتقاد والقول أجري عليه حكمه حسبما قد حققنا معصية الكفر فيما تقدم

٢٨٦

وأما من كفرهم لتكفيرهم المشايخ فإن ذلك لا يوجب الكفر فإن من كفّر مسلما لشبهة لا يكفر لعدم الدليل القطعي على كفره.

وأما الخوارج : فإن أدّاهم اجتهادهم إلى معصية الكفر قولا أو اعتقادا أو فعلا كانوا كفّارا.

وأما خروجهم على عليّ عليه‌السلام وغيره من سائر الأئمة فلا يكفرون بذلك.

وأيضا : لم يكفرهم عليّ عليه‌السلام.

وأما من جوّز منهم كفر الأنبياء فإنه يكفر قطعا لردّه ما علم من الدين ضرورة وهو أن الله سبحانه لم يبعث إلّا من اختاره واصطفاه وعلم طهارته من كبائر الذنوب.

وأما المرجئة : فمن قطع بخلف الوعيد في حق مرتكب الكبيرة أو انقطاعه : فلا شك في كفره لردّه آيات القرآن الصريحة في بطلان قوله كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وكذلك من ذهب إلى تجويز استثناء أو شرط غير معلوم لأن فيه تجويز الإلغاز والتعمية على الله سبحانه وهو قبيح ، وقد ثبت أن من نسب القبيح إلى الله سبحانه كفر.

وكذلك من قال : بتعارض العمومين فتوقف في ذلك لأنه قد ثبت وجوب العلم على كل مكلف بحكم صاحب الكبيرة وحينئذ فلا بدّ من طريق له إلى العلم بذلك وإلّا كان تكليفا لما لا يطاق والله يتعالى عنه ، فلا يجوز له التوقّف.

وأما المقلدة : فقالت البصرية : التقليد في معرفة الله تعالى كفر لأن الجهل بالله كفر إجماعا والمقلد في الله تعالى جاهل به لأن اعتقاده ليس علما.

وقيل : هو مؤمن عندنا نعامله معاملة المؤمنين وما ندري ما حكمه عند الله تعالى.

٢٨٧

وقال أبو القاسم البلخي : بل هو مؤمن قطعا عندنا وعند الله تعالى إذا وافق اعتقاده الحق.

وقد روي ذلك عن القاسم عليه‌السلام لحصول الاعتقاد المطابق للحق (إذ ربّ عامّي نفسه أشدّ سكونا إلى ما يعتقده من كثير من العلماء ولإجماع الصحابة على إيمان من نطق بالشهادتين من أجلاف العرب الذين لا يهتدون لتحرير دليل ولا حلّ شبهة فإنهم كانوا يعرضون عليهم قواعد الإسلام وينهونهم عن ضلالات الشرك من غير أن يلقّنوهم حجة أو يحرروا لهم برهانا.

وأيضا : لو كان التقليد قبيحا لاستحقّ عليه العقاب فيستحقّ العقاب على اعتقاد التوحيد وهو باطل هكذا حكاه النجري في شرح القلائد.

(فصل)

في ذكر التفسيق :

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : اعلم : أن الفسق ينقسم إلى تصريح وتأويل :

فالتصريح هو ما علم من الدين ضرورة أنه فسق.

وفسق التأويل : ما لم يعلم ضرورة أنه فسق ، وإنّما علم بالدليل كونه فسقا كالبغي على الإمام مع إظهار الباغي أنه محقّ ، لشبهة تعينه على ذلك.

قلت : لعل مراده عليه‌السلام : أن من ارتكب كبيرة يعلم كونها معصية من ضرورة الدين ، وإن علم كونها كبيرة بالاستدلال فهو فاسق تصريح ، ولم يذكر الإمام عليه‌السلام فسق التصريح لوضوحه وأشار إلى فسق التأويل بقوله :

«ومن خالف المؤمنين المقطوع بإيمانهم جملة» أي كلهم «نحو كل الأمّة» أي علماء الأمّة «أو كل العترة عليهم» «السلام» كذلك.

والمراد : خالفهم في شيء من الشرائع الدينيّة لأن الحق لا يخرج

٢٨٨

عن أيديهم فلا يجوز إجماعهم على خطإ لعصمة جماعة العترة عليهم‌السلام للأدلة المتقدم ذكرها ، والمراد العلماء لا غيرهم وذلك «فيما مستنده غير الرأي» كذا ألحقه الإمام عليه‌السلام ولعله يحترز به عن الإجماع في الأمور الدنيوية كالآراء والحروب والله أعلم.

«عمدا» أي وهو عالم أنه مخالف لهم في قوله : «فهو فاسق لقوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١) فعلم بهذه الآية أنّ معصيته كبيرة.

وما روي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من فارق الجماعة قيد (٢) شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه».

والحق أن الحجة الواضحة في كون الإجماع حجة : هو ما ورد في جماعة العترة من الأدلة المعلومة على أن الحق لا يخرج عن أيديهم وأنه يجب على كل مكلف الاعتزاء إليهم والكون معهم من خبري السفينة وإني تارك فيكم وآية التطهير وغير ذلك كما سبق ذكره.

وعن النظام والرافضة وبعض الخوارج : أن الإجماع ليس بحجة واختلف الرواة عنهم : فمنهم من زعم أنهم إنّما خالفوا في ثبوته لا في كونه حجة لأن انتشار الأمّة يحيل اطلاع كل واحد منهم على الحكم ، ومنهم من حكى أنهم ينفون كونه حجة ولو ثبت.

وقال الرازي والآمدي : هو حجة ظنيّة ، فعلى قولهما لا يقطع بفسق مخالفه ، وقولهما باطل بما مرّ.

«وكذلك من بغى على أئمة الحق للآية» المتقدم ذكرها «والإجماع» أي وللإجماع من الأمّة على فسق من بغى على إمام الحق ، والإجماع دليل قطعيّ.

__________________

(١) النساء (١١٥).

(٢) بكسر القاف تمت.

٢٨٩

وذلك لأنّ مسألة الإمامة من مسائل أصول الدين الكبار التي لا يسع أحدا جهلها.

فالباغي على إمام الحق معاند أو في حكم المعاند حيث ترك الاستدلال والنظر في طلب الحق.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام في الغايات : اختلف في البغي على إمام الحق :

فقال جلّ المعتزلة وكلّ الزيدية والخوارج : إنه يوجب الفسق قطعا.

وقال أكثر المجبرة وأهل الحديث : إن مسألة الإمامة اجتهادية فالمخطئ فيها معذور كسائر الاجتهاديات ، وحكموا في حرب الصحابة بينهم بأن القاتل والمقتول في الجنّة.

وبطلان هذا القول ظاهر لأن العدل الحكيم لا يكلف عباده أن يقتل بعضهم بعضا ثم يدخل القاتل والمقتول الجنة.

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهليّة».

«وكذلك» أي يفسق «من تولّى الفساق» أي والاهم ، وقد عرفت حقيقة الموالاة ، «أو جالسهم في حال عصيانهم غير مكره لنحو ما مرّ» ذكره في تولّي الكفار ومجالستهم.

ولقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ ...) الآية (١).

فنفى الله سبحانه الإيمان عن الموادّ للمحادّ لله تعالى ولرسوله وهو يعمّ الفاسق والكافر.

__________________

(١) المجادلة (٢٢).

٢٩٠

(باب التوبة)

«لا خلاف في وجوبها» بين المسلمين على من ارتكب معصية عقلا وسمعا :

أما عقلا : فلأنها دفع ضرر عن النفس ودفع الضرر عن النفس واجب عقلا.

وأمّا سمعا : فلورود الآيات الكثيرة بذلك.

وتجب «فورا» عقيب العصيان «لأنّ» التراخي إصرار و «الإصرار على المعاصي عصيان» بل هو معدود من الكبائر المحبطة للإيمان.

«و» أيضا «العاصي مخاطب بترك معصيته في كل وقت» فثبت وجوب التوبة فورا لذلك.

«وتصحّ» التوبة ويقبلها الله تعالى «مدة العمر» وإن عصى المذنب بتأخيرها «ما لم تحضره ملائكة الموت» فإذا حضرته الملائكة لقبض روحه فإنها لا تقبل توبته «لقوله تعالى» : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) (١) أي حراما محرّما عليكم قبول الإنابة «ونحوها» كقوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ...) الآية (٢).

قال أبو علي : وتجب التوبة من الصغائر لأنه لا يخلو منها إلّا إلى

__________________

(١) الفرقان (٢٢).

(٢) النساء (١٨).

٢٩١

قبيح وهو الإصرار إذ هو ضدّها والقبيح ليس للعاقل فعله وإن لم يستحق عليه عقابا فوجبت التوبة لكونها ترك قبيح. حكاه الإمام المهدي عليه‌السلام عنه.

قال : وقال أبو هاشم : لا تجب التوبة من الصغائر عقلا إذ لا وجه يقتضي وجوبها.

قال عليه‌السلام : وهذه المسألة إنّما هي واقعة على سبيل الفرض والتقدير إذ الصغائر عندنا لا يصحّ أن تعلم ، وإذا جوزنا في كل معصية أنها كبيرة ولم نقطع بأنها صغيرة وجبت التوبة عقلا لأن وجوب دفع الضرر الموهوم في الثبوت كوجوب دفع المعلوم فلا خلاف حينئذ في وجوبها.

وإنما الخلاف حيث قطعنا بأنها صغيرة وهذا إنّما يتفق في حقّنا على سبيل الفرض والتقدير.

وأما في حق الأنبياء فيتحقق الخلاف لأن معاصيهم صغائر.

قال : والصحيح أن التوبة لا تجب عليهم عقلا بل سمعا فقط لقوله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ونحوها.

واعلم : أن التوبة لا يجب قبولها عقلا وفاقا لأبي القاسم البلخي وخلافا للبصرية.

قلنا : الذنب يقتضي العقاب وهو حق للمعاقب أو في حكمه كعقاب الله للعصاة فلا يسقط إلّا برضاه أو ما في حكمه كعفو الله عن التائب وكوجوب ردّ المال والقصاص ، ولقوله تعالى : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ...) (١) الآية والله أعلم.

فلو وجب قبولها عقلا لما أمرهم بقتل أنفسهم لأنه بعض عقوبة بلى يحكم العقل بعدم دوام العقاب مع التوبة كما يحكم بعدم دوام الذمّ والله أعلم.

__________________

(١) البقرة (٥٤).

٢٩٢

«و» حقيقة التوبة «هي الندم» على ما أتى به من القبيح لقبحه وأخلّ به من الواجب لوجوبه.

«والعزم على ترك العود على المعاصي» مدة العمر فالندم والعزم ركنان لها وهي مقبولة من كل ذنب.

وخالف بعضهم في قتل المؤمن وهو باطل وهي تقبل.

ولو علم الله أن التائب يعود إلى ما تاب عنه خلاف بعض البغداديين واتفق أبو علي وأبو هاشم : أنها تسقط العقاب بنفسها لا بالموازنة بين ثوابها وعقاب العصيان.

قالوا : إذ هي بذل الجهد في التلافي لما وقع من العصيان فالتساقط يقع بين فعلها وفعل المعصية فتصير المعصية حينئذ كأن لم تكن فيسقط العقاب تبعا لسقوطها من غير أن يسقط شيء من ثواب التوبة.

وفي النهج عن أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في ثواب التوبة حين قال رجل بحضرته : أستغفر الله ، فقال عليه‌السلام (ثكلتك أمّك ، أتدري ما الاستغفار؟

إن الاستغفار درجة العلّيين.

وهي اسم واقع على ستة معان :

أوّلها : النّدم على ما مضى ، والثاني : العزم على ترك العود إليه أبدا ، والثالث : أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عزوجل أملس ليس عليك تبعة.

والرابع : أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدّي حقّها.

والخامس : أن تعمد إلى اللحم الذي قد نبت من السّحت فتذيبه بالأحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.

والسادس : أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول : أستغفر الله).

وقال السيد الإمام «مانكديم» وهو أحمد بن الحسين بن أبي هاشم

٢٩٣

عليه‌السلام : «هي الندم» المذكور «والعزم» إنّما هو «شرط فيها» وليس ركنا.

قال عليه‌السلام : «وهو قريب» أي هو قريب من أن يكون هو الأولى أو قريب من القول الأول إذ لا ثمرة لهذا الخلاف.

«وشرطها» أي شرط صحتها أمران :

الأول منهما : «الإصلاح فيما يتعلق بالآدمي من تسليم النفس» إن كان التائب قاتل عمد ، «و» تسليم «الأطراف للقصاص» في النفس والأطراف «وكذا تسليم الأروش إن كان الواجب الأرش و» كذا «الديون «اللّازمة «و» تسليم «الودائع» التي عنده لأهلها «ونحو ذلك» من جميع حقوق الآدميين ، «أو العزم» على الإصلاح وتسليم الحقوق «إن لم يتمكن من ذلك حالها» أي حال التوبة.

فإنه إذا عزم على ذلك متى تمكّن منه فإنّ توبته صحيحة.

«و» الثاني : «أن يكون الندم لأجل وجه القبح من الإضرار» أي القبح الذي هو الإضرار بالغير ) «وعصيان الله تعالى» فيكون ندمه لأجل كون ذلك الفعل أو الترك عصيانا للمالك المنعم وظلما للغير «لأنه إن كان الندم لأجل مشقة الفعل» أي فعل المعصية ، «أو» لأجل «أمر دنيوي يتعلق» ذلك الأمر الدنيوي «به» أي بالفعل من نقصان رزق أو حظّ ونحو ذلك أو يتعلق ذلك الأمر الدنيوي «بالترك» أي ترك الطاعة فقط ، أي كان تركه للقبيح وفعله للطاعة لأمر دنيوي فقط.

«أو للذمّ والعقاب فقط» أي خشية الذمّ والعقاب فقط «أو للمجموع» أي لمجموع الأمور الثلاثة فقط «من دون وجه القبح» الذي تقدم بيانه «بقي التائب غير نادم من عصيان الله تعالى».

«و» من «الظلم وهما بذر القبح» أي وجه القبح وعلته وأصله «الذي

__________________

(١) (ض) (الذي هو الإضرار بالغير أو بالنفس) يعني أنه إذا أضرّ بنفسه فإنه يجب عليه التوبة مثل ما يجب عليه التوبة بالإضرار بالغير تمت.

٢٩٤

ثمرته الذمّ والعقاب» لفاعله شبّه القبح بالزرع ، فأثبت له البذر والثمر ترشيحا وهي استعارة بالكناية مثل تشبيه : نشبت مخالب المنيّة بفلان.

«و» قد «قيل» في حقيقة التوبة «غير ذلك» الذي ذكرناه «وهو صحيح إن تضمن الندم من وجه القبح» أي إن كان الندم من جهة المعصية لأجل قبحها فالتوبة صحيحة.

«لكن هذا القدر» الذي ذكرناه في حقيقة التوبة «كاف» في صحتها «لحصول الرجوع من التائب والإقلاع» عن فعل المعصية «بذلك» الذي ذكرناه.

(فصل)

«وهي» أي التوبة «مكفّرة» بنفسها «لكل معصية» صغيرة كانت أو كبيرة «إجماعا لقوله تعالى» : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (١) «ونحوها» من الآيات كثير ويبدّل الله بها مكان السيّئات حسنات لقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ...) الآية (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٢).

قال الناصر عليه‌السلام في كتاب البساط في تفسيرها : أعلمنا الله تعالى أنّ العبد إذا تاب ردّ عليه ما بطل من عمله وجعل بدل سيّئاته حسنات.

وقال في الكشاف : فإن قلت : ما معنى مضاعفة العذاب وإبدال السيّئات بالحسنات؟

قلت : إذا ارتكب المشرك معاصي مع الشرك عذّب على الشرك وعلى المعاصي جميعا فتضاعف العقوبة بمضاعفة المعاقب عليه وإبدال السيّئات بالحسنات أن يمحوها بالتوبة ويثبت مكانها الحسنات الإيمان والطّاعة والتّقوى. انتهى.

__________________

(١) طه (٨٢).

(٢) الفرقان (٧٠).

٢٩٥

قلت : ويحتمل أن يراد بمضاعفة العذاب شدّته لأن الآية في المشرك والفاسق وإن تبقى الآية على ظاهرها لأن ندمه قد حصل عن كل معصية ارتكبها (١).

فإن قيل : يلزم على ظاهر الآية التّساوي بين رجل بارز الله تعالى بأنواع المعاصي ثم تاب ومات عقيب التوبة ، ورجل فعل معصية واحدة ثم تاب ومات عقيبها أيضا بل الأكثر عصيانا أكثر ثوابا لأن الله سبحانه يبدّل مكان سيّئاته حسنات.

قلنا : قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بذلك ولا ملجأ للتأويل وقد روى الإمام محمد بن المطهر عليه‌السلام في عقود العقيان وغيره عن زين العابدين عليه‌السلام وسلمان الفارسي وسعيد بن المسيب مثل قولنا ، وأكده واحتجّ له بأخبار رواها.

منها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتاه رجل فقال يا رسول الله : أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك منها شيئا ... إلى قوله : هل لذلك من توبة؟

قال : «هل أسلمت؟ قال : أنا أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله قال : نعم تفعل (٢) الخيرات وتترك السيّئات يجعلهن الله خيرات كلهن

__________________

(١) واعلم أن في الآية ثلاثة وجوه :

أحدها : ما ذكره السيد رحمه‌الله تعالى من حملها على ظاهرها.

الثاني : أن الله سبحانه وتعالى يمحو السيئات من صحائفهم ويكتب الحسنات مكانها بعد التوبة.

وثالثها : أن الله تعالى يبدّلهم في الدنيا طاعة الله بعد عصيانه وذكره بعد نسيانه والخير يعملونه مكان الشر كالعدل مكان الظلم والعفّة مكان الزنا ، وقتل المشركين مكان قتل المسلمين ومعنى هذا أنه ما نقلهم إلّا إلى خير ممّا كانوا عليه وأنه يلطف بهم حتى يعملوا هذه المحاسن انتهى هكذا ذكره في تجريد الكشاف والله سبحانه وتعالى أعلم.

(٢) (أ) يفعل وكذا يترك بالياء.

٢٩٦

فقال : الله أكبر فما زال يكبّر حتى توارى».

واعلم : أنه من فعل معصية ثم تاب عنها سقط عنه عقابها فإذا نقض التوبة وعاد إلى تلك المعصية فقالت البصرية وأبو القاسم البلخي : لا يعود.

وقال بشر بن المعتمر : بل يعود.

وجه قول البصرية : أن الفعل الأول قد بطل بالتوبة فصار كأن لم يكن فلو عاد عقابه لما كان سببه إلّا الفعل الثاني فيصير كأنه يستحق عقابين على فعل معصية واحدة.

ووجه قول بشر بن المعتمر : أن الموجب لارتفاعه هو التوبة وقد زالت التوبة فيعود.

وأما وجه قول أبي القاسم فهو : أن إسقاط العقاب عند التوبة تفضل عنده فلا يجوز الرجوع فيه بعد بطلان التوبة.

«وقيل : ويعود بالتوبة ما أحبطته المعصية» من ثواب الحسنات هذا القول لأبي القاسم البلخي وأبي بكر النجاري من أصحاب أبي هاشم وبشر بن المعتمر من البغدادية.

ويدل عليه كلام الناصر عليه‌السلام فيما سبق.

فقالوا : يعود الثواب الذي كان قد انحبط بفعل المعصية.

قالوا : لأن انحباطه عقاب وقد سقط العقاب بالتوبة.

قال عليه‌السلام : «ولا دليل على ذلك» أي على قولهم لأن انحباط الثواب ليس بعقاب ، وقد علمنا بالدليل القاطع بطلان الثواب بالمعصية فلا يعود بعد التوبة إلّا بدليل.

وبه قال الحسين بن القاسم العياني عليه‌السلام.

ويمكن أن يدل عليه قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ...) إلى قوله : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) (١).

__________________

(١) البقرة (٢٦٤).

٢٩٧

وقال الإمام المهدي عليه‌السلام : إن التائب بعد انحباط ثوابه على الطاعات السابقة قبل التوبة لم يعد ثوابه الذي كان (١) قد اجتمع قبل فعل الكبيرة المحبطة ، ولا الثواب الذي منعت الكبيرة عن استحقاقه من وقت فعلها إلى وقت التوبة ولكنه يتجدّد له استحقاق الثواب في المستقبل من الزمان على طاعته الماضية حتى يصير كأنّه فعلها وقت التوبة فهي كالمستقبل من الطاعات التي يفعلها عقيب التوبة في أنه يستحق عليها الثواب متجددا دائما فيصير في المسألة ثلاثة أقوال :

(١) لا يعود مطلقا وهو قول الجمهور وأبي هاشم.

(٢) ويعود مطلقا وهو قول أبي القاسم ومن معه.

(٣) ويعود تجدّد الاستحقاق وهو قول الإمام المهدي عليه‌السلام وابن الملاحمي.

قال النجري : وهو الموافق للقواعد والأصول.

قال : وهو أيضا اللّائق بالعدل وإلّا لزم التساوي بين من قطع عمره في عبادة الله سبحانه وتعالى وطاعته ثم فعل كبيرة وتاب عنها قبل موته ، وبين من قطع عمره في عصيان الله والكفر ثم تاب قبل موته.

والفرق بينهما ممّا لا يشكّ فيه.

وحمل عليه ابن الملاحمي كلام أبي القاسم البلخي.

وحمل عليه الإمام عليه‌السلام قول أبي هاشم ومن تبعه.

قال : فإن قيل : فيلزم فيمن تاب من معصية ثم عاد إليها أن يتجدّد له استحقاق عقاب الأولى كما ذكرتم في الطاعة المنحبط ثوابها أنه يتجدد له ثوابها في المستقبل؟

قلنا : لا سواء فإن الطاعات المنحبط ثوابها باقية في أنفسها إذ سقوط ثوابها في الماضي بالموازنة بينه وبين عقاب المعصية وذلك لا يصيّرها كالمعدومة ، بخلاف سقوط المعصية بالتوبة فليس بالموازنة بل بالتوبة

__________________

(١) (أ) قد كان.

٢٩٨

صارت المعصية كالمعدومة لما مرّ أنها تحتّها حتّا فبطلت تلك المعصية في الحال والمآل.

قلت : وهذا الجواب إنّما يستقيم على قول أهل الموازنة وسيأتي إبطالها إن شاء الله تعالى.

ويلزمهم أن يكون تكفير السيّئات بالتوبة بالموازنة إذ لا فرق.

ثم نقول : وما دليلكم على أن ثواب الطاعة إنما حصلت كثرته بتزايد الأوقات وأنه لم يعدّه الله كثيرا من غير مرور الأزمان لأنّ الله سبحانه لم يخبرنا بذلك بل أخبرنا أنه أعدّه كثيرا دائما غير منقطع عنه.

قال أبو القاسم البلخي : لا يجب قبول التوبة على الله تعالى ولا أن يسقط بها عقاب حتى لو عوقب تائب لم يكن ظلما.

قال : وإنّما لا يعاقبه إذا تاب لأنه أصلح وهو بناء على أن الثواب غير واجب على الله لأن الطاعات شكر في مقابلة النعم.

(تنبيه)

اعلم : أنه لمّا كانت التوبة تصيّر المعصية كالمعدومة كذلك النّدم على الطاعة يصيّرها كالمعدومة حيث كان نادما على الطاعة لكونها طاعة كما قيل في التوبة إذ كل منهما بذل الجهد في التّلافي ذكره النجري.

وقوله : لكونها طاعة : محل نظر لأنه إذا كان كذلك فلا يبعد أن يقتضي الكفر والله أعلم.

«ولا تتم النجاة بها» أي بالتوبة «إلّا بعموم التوبة» أي بكون التوبة من كل ذنب فينجو بها التائب «اتفاقا» بين العلماء.

«وفي إسقاطها» أي التوبة «لما خصّ بها» أي لعقاب ما خصّ بها «من الذنوب خلاف» بين أهل علم الكلام.

«الأصحّ : أنه لا يقع» إسقاط لعقاب تلك المعصية المخصوصة بالتوبة ، وهذا القول حكاه الحاكم عن عليّ عليه‌السلام وزيد بن علي

٢٩٩

وجعفر الصادق والقاسم بن إبراهيم عليهم‌السلام وبشر بن المعتمر وجعفر بن مبشر وأبي عبد الله البصري.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وهو قول واصل بن عطا وقاضي القضاة وموسى بن جعفر وغيرهم.

وقال أبو علي : إنها تصحّ التوبة من قبيح مع إصراره على قبيح آخر من غير جنسه نحو التوبة من الزنى مع إصراره على الكذب ونحوه بخلاف الجنس الواحد كالشرب من شراب دنّ دون آخر فلا تصحّ التوبة. وقال أبو القاسم البلخي : بل تصحّ من ذنب دون آخر مطلقا سواء اتّحد الجنس أو تغاير فتصحّ عنده التوبة من شرب قدح من الخمر دون قدح ، هكذا حكاه الإمام المهدي عليه‌السلام في الدامغ. لنا : أن التوبة وجبت لإسقاط العقاب وهو إنّما يستحق للقبح فيتوب عن الفعل من الوجه الذي يستحق عليه العقاب وهو القبح فإصراره على قبيح آخر ينقض ذلك ويكشف أنه لم يتب لأجل القبح. وأيضا : التوبة كالاعتذار من الإساءة في الشاهد فإنه لا يصحّ من إساءة دون إساءة لأنّ المعتذر إنّما يعتذر من الإساءة لأجل كونها إساءة ، وإذا كان كذلك كان مع الإساءة الأخرى في حكم من لم يعتذر عنها.

«ولأن الآيات» الواردة في التوبة «لا تدل إلّا على العموم فقط» ولم يرد شيء منها في التوبة من بعض الذنوب دون بعض نحو قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (١) فظاهرها عموم التوبة من كل ذنب. وقوله تعالى وآمن وعمل صالحا إشعار آخر بأنه لا يغفر لمن يخلط التوبة بمعصية.

وقوله تعالى : (ثُمَّ اهْتَدى) أي ثم استمرّ على توبته ولم ينكثها ونحوها من الآيات كثير.

«و» أيضا «لا دليل» لمخالفينا «على قبول توبة من خصّ بها بعض ذنوبه إلّا قياس معارض بمثله».

__________________

(١) طه (٨٢).

٣٠٠