عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

أما قياسهم فقالوا : لو لم تصحّ التوبة من ذنب دون ذنب آخر لزم في يهودي أسلم إسلاما محقّقا وهو مصرّ على غصب عشرة دراهم أن لا يصحّ إسلامه فيبقى على حكم اليهودية وذلك مخالف لإجماع الأمّة قال الإمام المهدي عليه‌السلام قد أجاب قاضي القضاة : بأنهم إنما أجمعوا على صحة خروجه من اليهودية فقط ، ولا نسلم أنهم حكموا بصحة إسلامه وأنه قد صار حكمه حكم المؤمنين.

وأمّا خروجه من اليهودية فلعدم التزامه أحكامها من السبت وغيره كما لو خرج إلى النصرانية.

فأما أنه كتب له ثواب الإسلام أو (١) أجريت عليه أحكام المسلمين فهذا غير مسلّم ، بل عقابه باق لم ينقص منه شيء.

وأما أبو رشيد فزعم أنه قد استحقّ ثواب الإسلام وأنه يخفف عليه من عقاب الكفر.

وأما معارضتهم بالقياس فنقول : لو كانت التوبة من ذنب دون ذنب مقبولة لزم فيمن قتل ولدا لغيره وأخذ ماله أن يصحّ اعتذاره عن القتل دون أخذ المال فيبقى مصرّا ، والمعلوم أن مثل هذا الاعتذار عند العقلاء لا يقبل «فوجب طرحهما» أي القياسين المتعارضين «والرجوع إلى الآيات» الدالة على وجوب عموم التوبة «كما تقدم» «وكقوله تعالى» : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) فشرط في تكفير السيّئات اجتناب جميع الكبائر.

ومن تاب من بعض الذنوب دون بعض فلا شكّ أنه مصرّ على الذنب الذي لم يتب منه «والإصرار على بعض المعاصي من الكبائر» المحبطة للطاعات.

«و» حينئذ «هو» أي التائب من بعض الذنوب دون بعض «غير مجتنب» لجميع الكبائر لأنه مصرّ على بعضها.

__________________

(١) (أ) وأجريت.

٣٠١

«والآية» المذكورة «تدل على عدم المغفرة مع عدم اجتناب الكبائر» فثبت أن التوبة لا تصحّ من بعض الذنوب دون بعض وسواء قلنا إنّ المراد بقوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي بالتوبة كما فسّره الإمام فيما سبق والمرتضى عليهما‌السلام ، أو المراد : أن الصغائر مكفّرة في جنب اجتناب الكبائر كما هو مذهب الجمهور في أنه لا بدّ من عموم التوبة على الأول ، واجتناب الكبائر على الثاني والإصرار على بعض الذنوب من الكبائر كما تقدم. ولقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (١) فلا تكون التوبة مقبولة إلّا من المتقي وهو الذي يعمّ بها جميع الذنوب.

«والمصرّ» على بعض الذنوب «غير متّق» لله تعالى قطعا فلا تقبل توبته.

(فصل)

في ذكر الإحباط وكيفيته :

«ومن لم يتب من» المعصية «الكبيرة الغير المخرجة من الملّة» أي ملّة الإسلام «وفعل طاعة» بعد فعل المعصية ولم يتب «سقط القضاء» (٢) أي قضاء تلك الطاعة التي فعلها وهو عاص لله تعالى «إجماعا» بين العلماء.

قلت : وليس ذلك من جهة أنّ الطاعة التي فعلها مقبولة منه بل لأن فعله الثاني مع عدم توبته كفعله الأول فلا فائدة إذا فيه ، وإن تاب فيمكن أن سقوط القضاء بالقياس على الكافر والمرتد كما قال الناصر عليه‌السلام : من ترك الصلاة عامدا فسق وعليه التوبة دون إعادة الصلاة ، يعني قضاءها.

وكما قال القاسم عليه‌السلام في جواب من سأله : عن رجل ترك الصلاة في حداثته عشر سنين وكان شارب مسكر ثم تاب : أيعيد الصلوات أم كيف يصنع؟

__________________

(١) المائدة (٢٧).

(٢) (ض) أن يسقط القضاء.

٣٠٢

فقال عليه‌السلام : من ترك صلاته سنين عشرا مقلّا كان أو مكثرا ثم تاب إلى الله فيما يستقبل من ترك صلاته كما يتوب إليه من غير ذلك من سيّئاته : فإن كانت توبته في نهار صلّى مثل ما ترك من صلاة النهار وإن كانت في الليل صلّى مثل ما ترك من صلاة ليلته. انتهى.

أما لو كان الوقت باقيا وجبت عليه الإعادة لتجدّد الخطاب كما ذكره القاسم عليه‌السلام.

وكذلك يجب عليه إعادة الحج والله أعلم.

وقد أجاب القاسم عليه‌السلام عمّن سأله عن حجّ الفاسق فقال :

حجته غير مجزئة له ولا يقبلها الله منه لقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(١).

وقال مصنف الباهر : وهل يلزم الفاسق إعادة العبادات إذا تاب أو لا؟

قال قوم : هو كالكافر لا يعيد ، وإلى هذا أشار الناصر عليه‌السلام. انتهى.

«ولم تسقط هي» أي تلك الطاعة التي سقط قضاؤها شيئا «من عقاب عصيانه وفاقا لأبي علي» الجبّائي «والإخشيدية» من المعتزلة ، إلّا أن الفرق بين قول الإخشيدية وقول أبي علي : أن الإخشيدية تقول : تقع الموازنة بين الفعل وبين المستحقّ الذي هو الثواب والعقاب فيكون الساقط مطلقا هو الفعل والمسقط هو المستحقّ فينحبط فعل الطاعة بالعقاب المستحقّ على المعصية ، ويتكفر فعل المعصية بالثواب المستحق على الطاعة.

وأما أبو علي فيقول : تقع الموازنة بين الفعلين فعل الطاعة وفعل المعصية ولا مدخل للمستحقين في إحباط ولا تكفير.

قال النجري : لا خلاف أن الإحباط والتكفير واقعان في حق المكلفين واختلف في حقيقته :

__________________

(١) المائدة (٢٧).

٣٠٣

فعند أبي هاشم من المعتزلة : أن ذلك يقع بالموازنة فمن له أحد عشر جزءا من الثواب وفعل ما يوجب عشرة أجزاء من العقاب تساقط العشرتان وصارت العشرة التي هي العقاب مكفّرة بعشرة من الثواب وبقي جزء من الثواب يدخل به الجنة.

ومن له عشرة من الثواب وأحد عشر من العقاب فإنه ينحبط الثواب بعشرة ويبقى عليه جزء من العقاب يدخل به النار.

قال : وقال أبو علي : بل يسقط الأقل وهو العشرة في مثالنا بالأكثر وهو الأحد عشر ، ولا يسقط من الأكثر شيء فيستحق الأحد عشر التي هي الثواب في الصورة الأولى ، والعقاب في الصورة الثانية كاملة من غير أن يسقط منها شيء في مقابلة العشرة. انتهى.

وأما الذي يجيء على أصل قدماء أهل البيت عليهم‌السلام : وعلى ما ذكره عليه‌السلام أنّ أجزاء الثواب والعقاب لا يجتمعان لتضادّهما ولأنه إنّما يتقبل الله من المتقين.

فالكبيرة محبطة للإيمان ومبطلة للثواب لا بالموازنة ولا على ما ذهب إليه أبو علي ، والصغيرة مكفّرة أي لا عقاب عليها لا من جهة نقصان عقابها عن أجزاء الثواب ، سواء قلنا : إن الصغائر متعينة وهي الخطأ والنّسيان أو غير متعينة كما ذهب إليه الأكثر ، والله أعلم.

قال أبو هاشم : ويجوز استواء الثواب والعقاب عقلا إذ لا مانع إلّا السمع وهو الإجماع على أنه لا بدّ للمكلف من أن يستحق الجنة أو النار فلو استوى الثواب والعقاب لم يستحق المكلف جنّة ولا نارا.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وفي دعوى الإجماع نظر إذ خلاف زين العابدين وغيره كالقاسم عليهما‌السلام ظاهر.

فإن المنقول عنهم : أنه يجوز استواء الثواب والعقاب ثم يدخل الله ذلك المكلف الجنة تفضّلا بشفاعة أو غيرها.

قلت : وفي الحكاية عن زين العابدين والقاسم عليهما‌السلام نظر لأن

٣٠٤

المشهور من مذهب أهل البيت عليهم‌السلام أن الثواب لا يجامع العقاب لتضادهما.

وقد صرّح بذلك القاسم عليه‌السلام.

وأما من جوّز دارا ثالثة وسمّاها (الأعراف) فبطلان قوله واضح.

واعلم : أن الأعمال على خواتمها فمن وافق موته عملا صالحا فقد فاز وظفر ، ومن وافق موته عملا سيّئا كان من المعاقبين النادمين الخاسرين.

وقد أشار الإمام عليه‌السلام إلى قول البهشمية بقوله :

وقال الإمام «المهدي» أحمد بن يحيى «عليه‌السلام والبهشمية وادّعى القاضي جعفر» بن أحمد بن عبد السلام بن أبي يحيى «الإجماع» على ذلك فقالوا : «بل فعل طاعته» التي فعلها مع الكبيرة من غير توبة «مسقطة بقدرها» أي بقدر ثوابها «من عقاب عصيانه لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّايَرَهُ)(١).

قالوا وهذا عام في كل خير يفعله المكلف لا بدّ أن يراه ، ولكن لمّا كان الجمع بين الثواب والعقاب متعذرا قلنا : يصل إليه بدله وهو إسقاط ما يوازنه من العقاب.

«قلنا» ذلك العام «مخصّص» بقوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) «فلو كانت» تلك الطاعة «مسقطة» لشيء من عقابه «كانت متقبّلة» والآية مصرّحة بعدم قبولها ، «و» مخصّص «بقوله تعالى» : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) (٢) «والخطاب» في قوله «منكم» «للمؤمنين فقط» إذ الآيات المتقدمة فيهم.

«و» مخصّص أيضا «بقوله تعالى» : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٣) «أي باطلا» والآية في سياق المجرمين عموما.

__________________

(١) الزلزلة (٧ ـ ٨).

(٢) آل عمران (١٩٥).

(٣) الفرقان (٢٣).

٣٠٥

وقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) (١).

وقوله جلّ وعلا : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٢).

«فلو كان» ما عمله المجرمون من الطاعات «مسقطا» لشيء من عقابهم «لم يكن باطلا» إذ قد عاد عليهم نفعه.

والآيات مصرّحة ببطلانه ، والهباء هو : ما يخرج من الكوّة مع ضوء الشّمس شبه الغبار شبّه به أعمالهم في البطلان ووصفه بأنه منثور زيادة تأكيد لذلك.

وحكى البستي رحمه‌الله عن الناصر عليه‌السلام أنه قال : إن الله تعالى لا يدع جزاء على صالح أعمال مرتكب الكبيرة لا في الآخرة بل في الدنيا يمدّه بالزيادة في عمره وإمهاله والسّلامة والصّحة في بدنه وجوارحه وأن يضاعف المنن والإحسان لديه بالتثمير في ماله والنّمو في ولده حتى يوفيه من الجزاء على صالح عمله في الدنيا.

قلت : ولعل هذا معنى قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ...)الآية (٣).

«قالوا :» أي مخالفونا الذين ذهبوا إلى الموازنة : «يفرق في العقل بين من أحسن بعد الإساءة ، وبين من أساء ولم يحسن» أي يحكم العقل بأن الذي أحسن وأساء له مزيّة وفضل على من أساء ولم يحسن ، كرجل قطع عمره في عبادة الله ثم فعل كبيرة ومات ، وآخر لمّا بلغ أوان التكليف فعل مثل تلك الكبيرة ثم مات فيلزم أن يكون عقابهما سواء ونحن نعلم أنه لا بدّ من فرق بينهما ، ولا فرق إلّا بما ذكرنا.

«قلنا : يحسن في العقل : ردّ إحسان المسيء الغير المقلع عن الإساءة» كمن أساء إليك بقتل ولدك ثم أحسن إليك وهو غير مرتدع عن

__________________

(١) محمد (٣٣).

(٢) الحجرات (٢).

(٣) هود (١٥ ـ ١٦).

٣٠٦

قتل الولد الآخر لأنّ إحسانه مع الإساءة وعدم الإقلاع كالاستهزاء.

«ومع الردّ» لإحسانه «لا فرق بينه وبين من لم يحسن لعدم حصول ما يستحق به المكافأة وهو قبول الإحسان» وذلك واضح.

لا يقال : إذا ثبت الإجماع على عدم وجوب القضاء فيمن فعل طاعة من أهل الكبائر الغير المخرجة من الملّة فلا يعاقب حينئذ على الإخلال بتلك الطاعة لأنه قد فعلها وسقط عنه قضاؤها وحينئذ قد وصل إليه خير من فعلها وهو عدم العقاب عليها.

لأنّا نقول : يمكن أن يعاقب على الإخلال بها لأنه مخاطب بالإتيان بها على الوجه الصحيح المقبول وهو الإيمان كما أن الكافر مخاطب بالإتيان بها كذلك والله أعلم.

«ولا تسقط حسنات الكافر شيئا من عقاب عصيانه اتفاقا» بين العلماء «لعدم حصول شرطها وهو الإسلام» إذ لا تصحّ الطاعة من الكافر اتفاقا «لقوله تعالى» : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١).

أي بطلت أعمالهم التي زعموا أنها طاعات فيعاقب الكافر على الإخلال بالطاعات وعدم الإتيان بها وشرطها وهو الإسلام وعلى الكفر.

وقال بعضهم : إنه غير مخاطب بالشرعيّات قبل الإسلام لأنها لا تصحّ منه حال كفره وهو باطل.

(فصل)

في ذكر التكفير للذنوب ، قال عليه‌السلام :

«واكتساب الحسنات من المؤمنين» أي فعل الطاعات من الواجبات والمندوبات من المؤمنين «وآلامهم» النازلة بهم في الدنيا والغمّ الذي سببه

__________________

(١) الكهف (١٠٥).

٣٠٧

من الله تعالى فهذه كلّها «تكفر الذنوب» أي ذنوب المؤمنين اتفاقا «لقوله تعالى» : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١).

قال عليه‌السلام : وذلك أن الحسنات تكون سببا في التوبة ، لأن الطاعات سبب في تنوير القلب والتوفيق فتكون سببا في التوبة.

«و» كذا «قوله تعالى» : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) الآية (٢).

قال عليه‌السلام : المراد : تكفير السيّئات باجتناب الكبائر بالتوبة كما سبق ذكره عنهعليه‌السلام.

ومثله ذكر عبّاد بن المعتمر ، وقد ذكرنا كلام المرتضى عليه‌السلام في تفسيرها فيما مضى.

وقيل : بل المراد في الأولى والثانية : إن الحسنات يذهبن السيئات أي الصغائر الغير المحبطة للحسنات فإنها تسقط باجتناب الكبائر وفي جنب الطاعات بغير توبة وهو قول البصرية ومن وافقهم.

وقال الناصر عليه‌السلام في كتاب البساط في معنى هذه الآية : فتكفيرها بسترها وتمحيصها في الدنيا بالمصائب فمصائب المؤمنين تمحيص لصغائر ذنوبهم ، ومصائب الكافرين محق لهم قال جلّ ذكره : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) انتهى (٣).

ومثله ذكر الإمام عليه‌السلام فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ويدل على ذلك : ما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبده الشّرّ أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة».

قال عليه‌السلام : «ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» «من موجبات

__________________

(١) هود (١١٤).

(٢) النساء (٣١).

(٣) آل عمران (١٤١).

٣٠٨

المغفرة : إدخالك السرور على أخيك المؤمن» «ونحوه» «وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» «من وعك ليلة كفّر الله عنه ذنوب سنة» «ونحو ذلك ممّا تواتر معنى» أي تواتر معناه من الأحاديث الدالة على أن الحسنات والآلام مكفّرة للسّيئات «كما مرّ» في فصل الآلام.

«وإذا» أسقطت الحسنات السّيئات فإنه «لا يسقط من ثواب الحسنات بقدر ما أسقطت من الذنوب» بل يبقى ثواب الحسنات كاملا ، خلافا لأبي هاشم ومن معه من أهل الموازنة كما مرّ.

«ولا» يسقط «من ثواب التوبة بقدر» ما أسقطت من عقاب «المعصية خلافا للمهدي عليه‌السلام وغيره» وهم البهشمية ومن وافقهم.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام في رياضة الأفهام : مسألة : أبو هاشم والتّائب ليس كمن لم يفعل ذنبا لقوله بالموازنة.

أبو علي : بل كمن لم يفعل لإبطال التوبة حكم المعصية فيكون كالمجتنب لكل معصية فيكتب له في كل معصية تاب عنها ثواب ككلّ معصية اجتنبها.

قلنا : إذا لا استوى من كفر مائة سنة ثم تاب ومن كفر لحظة ثم تاب ولكان أكثر ثوابا ، والمعلوم خلافه. انتهى.

وقد تقدم من حكاية النجري وغيره : أنّ أبا هاشم يوافق أباه أبا علي في التوبة أنها تسقط العقاب بنفسها لا بالموازنة فينظر في ذلك.

«لنا» حجة على ما ذهبنا إليه : أنه قد علم «ثبوت ثواب الحسنات بالأدلة» القاطعة المعلومة «وفقد الدليل على سقوط شيء منه» أي من الثواب ، ولو سقط بها أي بالحسنات ذنب فلا يلزم منه نقصان ثوابها لأنه لم يثبت على ما ذكروه دليل لا من عقل ولا شرع.

احتجّ المخالف بنحو قوله تعالى : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (١)

__________________

(١) الزلزلة (٧).

٣٠٩

وقوله تعالى : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) (١).

والجواب : ما تقدم [من قوله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢).

واعلم : أن كلام الإمام عليه‌السلام في هذا الفصل إمّا على القول :

بأن في الذنوب من العمد صغائر حتى تكون تلك الصغائر مكفّرة بالحسنات والآلام: فواضح.

وإمّا على ما اختاره عليه‌السلام وحكاه عن الأئمة عليهم‌السلام.

فإن قلنا : إن الحسنات يذهبن السّيّئات بشرط التوبة كان المكفّر للسّيئات هو التوبة ، ولم يصحّ أن يقال إن الحسنات يذهبن السّيّئات إلّا أن يقال : إن التوبة من أعظم الحسنات وهي المراد في الآية من باب إطلاق العام على الخاص.

وقد أجاب الإمام عليه‌السلام على من سأله عن ذلك فقال :

إن الحسنات والآلام من أسباب التوبة لمن وفّقه الله سبحانه إليها.

قال الله سبحانه : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٣).

ومن الهدى : التوفيق إلى التوبة فإذهاب السيئات بالحسنات هو ما عرفناه بالأدلة من كون الحسنات من أسباب التوبة المذهبة للسيئة وكذلك القول في الأمراض.

وأما خبر عائشة عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ومن وعك ليلة ... الخبر» فلا يبعد أن يجعل الله سبحانه عقاب بعض المعاصي المتعمّدة في الدنيا كما قال سبحانه : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ) وفي قراءة بعضهم : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (٤) انتهى.

__________________

(١) الأنبياء (٤٧).

(٢) المائدة (٢٧).

(٣) محمد (١٧).

(٤) الشورى (٣٠).

٣١٠

قلت : وهذا مثل كلام الناصر عليه‌السلام الذي تقدم ذكره من رواية البستي رحمه‌الله تعالى ، وهو قريب من كلام الجمهور من وجه وهو أنّ بعض العمد لا يوجب دخول النار بل يكون عقابه في الدنيا ومخالف لكلام الجمهور من وجه آخر لأنّهم يقولون إن بعض العمد لا عقاب عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة لكنّه يسقط من الثواب بقدره.

وتحتمل الآية معنى آخر وهو : أن يكون معناها : إن الحسنات لطف في تجنّب السّيّئات على طريقة قوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (١).

وقد فسّرت الآية بذلك وهو معنى حسن قويم والله أعلم.

وإلى هنا انتهى بنا الكلام في القسم الثالث من أقسام هذا الكتاب المبارك.

__________________

(١) العنكبوت (٤٥).

٣١١
٣١٢

القسم الرّابع : الكلام في الوعد والوعيد وما يتعلق بذلك :

قال عليه‌السلام :

«كتاب الوعد والوعيد»

هذا الكتاب له جنبتان : عقليّة وسمعيّة :

فالعقلية : تشتمل على بيان ما يستحق على الأفعال وصفة ما يستحق وشرائط الاستحقاق وما يرفع ذلك الاستحقاق وما يحسن إسقاطه وما يجب وكيفيّة الإسقاط.

وأمّا السّمعيّة : فهي تشتمل على بيان ما يفعله الله بالعباد ممّا لا طريق للعقل إليه.

والوعد : يستعمل في الخير والشرّ. قال الفرّاء : يقال : وعدته خيرا ووعدته شرّا قال فإذا أسقطوا الخير والشر ، قالوا : في الخير الوعد والعدة ، وفي الشّر الإيعاد والوعيد.

وأما حقيقتهما في الشرع فقال عليه‌السلام : «الوعد : إخبار من الله» سبحانه للمطيع «بالثواب والوعيد إخبار منه» جلّ وعلا «للعاصي بالعقاب».

(فصل)

قالت «العترة عليهم‌السلام وصفوة الشيعة والمعتزلة وغيرهم : «وهما» أي الثواب والعقاب «مستحقّان عقلا وسمعا» أي يحكم العقل باستحقاق المطيع الثواب واستحقاق العاصي العقاب ، والسمع ورد بذلك :

٣١٣

أما السمع : فإن القرآن مملوء من ذكر الثواب والعقاب وأنهما جزاء على العمل.

وأما العقل : فلما نذكره إن شاء الله تعالى.

ثم اختلف هؤلاء هل يمكن الاستدلال بالسمع وحده على استحقاق العقاب أو لا يمكن وإنّما هو مؤكّد لدليل العقل؟

فقال القاضي عبد الجبار : استحقاق العقاب لا يعلم إلّا عقلا والشرع (١) مؤكّد.

وقال الشيخ أبو رشيد : بل تجوز دلالة الشرع عليه دلالة مستقلة عن العقل.

وقالت «المجبرة : بل» لا يعلمان إلّا «سمعا فقط» ولا حكم للعقل في ذلك كما تقدم ذكره من أساس مذهبهم في أول الكتاب ، وإلى مثل قولهم أن العقل لا يدرك استحقاق الثواب والعقاب ذهب أبو القاسم المرتضى الموسوي من العدليّة وابن الراوندي.

«لنا : تصويب العقلاء من طلب المكافأة على الإحسان و» تصويب «من عاقب المسيء على الإساءة».

فلو لا أنّ العقل يحكم بهذا الاستحقاق لما صوّبوه.

ولعله عليه‌السلام أراد الردّ على من أنكر حكم العقل من المجبرة لا أنه أراد الاحتجاج على وجوب الثواب والعقاب على الله سبحانه وتعالى لأنه لا واجب على الله سبحانه وتعالى كما مرّ.

ولأن الطاعات شكر لله تعالى في مقابلة النعمة وحينئذ لا يحكم العقل باستحقاق طلب المكافأة من الله سبحانه بالثواب عليها.

ولا يجوز أن يقال : العقاب حقّ له تعالى استوفاه لأنه جلّ وعلا أغنى الأغنياء عن احتياجه إلى الحقوق وإنّما هو حقّ راجع إلى المكلفين لأنه مصلحة لهم وزجر عن ارتكاب القبيح وكفران المنعم ولو لم يكن العقاب

__________________

(١) (ض) والسمع.

٣١٤

مستحقّا عقلا لكان المكلف مغرى بالقبيح والإغراء بالقبيح قبيح.

لا يقال : إذا قلتم : إن العقاب ليس حقّا لله تعالى لكونه غنيّا عن احتياجه إلى الحقوق لزم أن يكون الشكر له تعالى غير واجب على المكلف لأنه لا وجه لوجوبه إلّا كونه حقّا للمالك المنعم والله سبحانه غنيّ عن الحقوق لأنا نقول : لا سوى فإن شكر المنعم حقّ للمنعم لا يصحّ إسقاطه بفطرة العقل من غير نظر إلى انتفاع المنعم بالشكر أو لا : ولو أسقط المالك المنعم وجوب شكره لم يسقط ، فوجوب شكر المنعم متقرر في العقول من غير نظر إلى انتفاع المنعم بالشكر.

حتى لو قال قائل : قد أسقط المالك المنعم عليّ وجوب شكره لعدّ جاحدا لنعمه كافرا لإحسانه وليس كذلك العقاب فإنه لا معنى لكونه حقّا لله تعالى إلّا أن يعود إليه منه أي منفعة وذلك محال.

فثبت أن معنى كونه حقّا هو كونه مصلحة راجعة إلى المكلفين كما قررنا والله أعلم.

وأما استحقاق الثواب بمجرد العقل : ففيه إشكال على مقتضى ما قرّره الإمام عليه‌السلام ورواه عن أئمة العترة عليهم‌السلام من أن الطاعات شكر وهو أيضا قول البغدادية كما سبق ذكره.

إلّا أن يقال : قد ثبت أن الله سبحانه غني لا يجوز عليه الانتفاع بشيء من أفعال عباده وقد كلفهم الأمور الشاقة فلا بدّ أن يرجع إليهم من فعلها مصلحة لكونه تعالى حكيما ، وانتفاعه جلّ وعلا بأفعال عباده محال فهي وإن كانت شكرا له تعالى على نعمه لا بدّ (١) أن يستحقوا عليها منفعة ومصلحة من جهة الجود والحكمة والعدل ، وإلّا كان شكره تعالى عبثا بخلاف شكر غيره من المخلوقين فإنه يرجع إلى المشكور منه انتفاع وتلذّذ بالشكر والله أعلم.

وهذا معنى ما ذكره أمير المؤمنين كرّم الله وجهه في الجنة ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجرى عليه لكان ذلك خالصا لله عزوجل دون

__________________

(١) (ض) فلا بدّ.

٣١٥

خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرى به صروف قضائه ولكنه جعل حقّه على العباد أن يطيعوه وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضّلا منه وتوسّعا بما هو من المزيد أهله.

وقوله عليه‌السلام : (إنّ الله وضع الثواب على طاعته والعقاب على معصيته ذيادة لعباده عن نقمته وحياشة لهم إلى جنّته).

وقوله عليه‌السلام : (أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها حقّ الله عليكم والموجبة على الله حقكم) ونحو ذلك.

وقد بسطنا في هذا الموضوع في الشرح.

وقد صرّح الإمام عليه‌السلام بعدم وجوب الثواب على الله تعالى.

قالت «العدليّة» جميعا : «ولا يجوز خلف الوعد على الله تعالى» عقلا ولا سمعا لأنّ خلفه صفة نقص والله يتعالى عنها.

وقالت «المجبرة : بل يجوز خلفه عليه تعالى» بناء على أصلهم أنه لا يقبح منه قبيح.

«قلنا : خلف الوعد مع القدرة على الوفاء وعدم المانع» «منه توأم الكذب» أي أخوه «وكلاهما» أي الكذب وأخوه «صفة نقص يتعالى الله عنها».

«وأيضا» : تجويز ذلك ارتياب في قوله تعالى : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١).

«وقوله تعالى» : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٢).

«وهو» أي الارتياب في قوله تعالى «كفر» لتكذيب الله تعالى «في قوله تعالى» : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (٣) أي لا شك فيه.

ومن أجاز خلف الوعد من الله سبحانه فقد كذّبه وارتاب في قوله وكذّب محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما جاء به.

__________________

(١) ق (٢٩).

(٢) آل عمران (٩).

(٣) البقرة (١ ـ ٢).

٣١٦

«و» اعلم أنه «يحسن العفو عن العاصي (١) إن علم ارتداعه» عن المعصية أي إقلاعه عنها «كالتائب» من الذنب الراجع إلى الله تعالى النّادم على ما فرط منه «اتفاقا» بين أهل العدل وإن اختلفوا : هل يجب قبول التوبة أو لا؟

وليس ذلك من خلف الوعيد في شيء لأن التّائب خارج عن الوعيد اتفاقا ، وأما العاصي الغير مرتدع فإنه «لا يحسن العفو عنه» عقلا «إن علم عدم ارتداعه» عن العصيان «وفاقا للبلخي» أي أبي القاسم البلخي وبشر بن المعتمر وأصحابهما من البغداديين.

«وخلافا للبصرية» من المعتزلة.

اعلم : أنه اتفق جمهور البصرية والبغدادية على أن العقاب يستحقّ عقلا ثم اختلفوا : هل يعلم أنه يفعل ويقطع به عقلا أو لا؟

فقالت البصرية : لا يعلم بذلك إلّا سمعا فقط لا عقلا فإن العقل يجوّز العفو عنه.

وقالت البغدادية : نعلم (٢) من جهة العقل أنه يفعل لا محالة وأنه لا يجوز العفو أصلا.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وهو بناء على أن العقاب لطف للمكلفين فلا بدّ من وقوعه حينئذ.

قلت : وهذا يؤيّد ما تقدم من قولنا وما ذكره الإمام عليه‌السلام بقوله : «قلنا : يصير العفو» مع عدم الارتداع «كالإغراء» للعاصي بفعل المعصية «وهو» أي الإغراء بفعل المعصية «قبيح عقلا» أي يحكم العقل بقبحه.

قال في الكشاف : في سياق قوله تعالى : (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٣).

__________________

(١) ولا يجب على الأصحّ تمت.

(٢) (ض) يعلم في الأولى وفي هذه.

(٣) البقرة (٢٠٩).

٣١٧

وروي أنّ قارئا قرأ مكان «عزيز حكيم : غفور رحيم» فسمعه أعرابيّ فأنكره ولم يقرأ القرآن وقال : إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا ، الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه انتهى.

احتجّ البصرية فقالوا : العقاب حقّ لله سبحانه وتعالى ، ومن المعلوم أنّ من له حقّ على غيره أنّ له إسقاطه حيث لا إضرار بالغير ونحن نعلم أن إسقاط الله حقّه من العقاب لا إضرار فيه على أحد بل فيه نفع لمن أسقط عنه كإسقاط الدين.

قلنا : إن أردتم أن لله فيه نفعا كالدين لمن هو له فذلك محال في حق الله سبحانه لأنه الغنيّ عن كل شيء.

وإن أردتم خلاف ذلك فهو غير معقول إلّا أن يكون حقّا راجعا إلى العباد ومصالحهم وحينئذ لا يجوز إسقاطه.

قال «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور المعتزلة : ولا يجوز على الله تعالى خلف الوعيد» للعصاة بالعقاب «مطلقا» أي لا في حق أهل الصلاة ولا في غيرهم.

«و» روي «عن مقاتل بن سليمان وبعض أهل خراسان» أنهم قالوا : «بل وعيد الله مقطوع بتخلّفه مطلقا» أي في حق أهل الصلاة وغيرهم ، وهذه رواية السيد مانكديم عليه‌السلام عنهم.

وقال «بعض المرجئة : بل» وعيد الله «مقطوع بتخلّفه في حق أهل الكبائر من أهل الصلاة فقط» أي الذين يدينون بوجوب الصلاة والتزام أحكام الإسلام وهؤلاء ليسوا بمرجئة على الحقيقة.

وقالت الجهمية : بل ينقطع العقاب في حق الفاسق دون الكافر فيدوم عقابه.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وهو قول الرازي وغيره من الأشعرية. وقال «بعض المرجئة : يجوز خلف الوعيد في حق أهل الصلاة فقط» أي قال هؤلاء بجوازه ولم يقطعوا بتخلّفه وهؤلاء هم المرجئة على الحقيقة.

٣١٨

قالوا : لأنّ آيات الوعد والوعيد متعارضة فصار في المسألة أربعة أقوال :

الأول : قول العدلية إنه لا يجوز مطلقا.

الثاني : قول مقاتل وأصحابه : أنه مقطوع بتخلّفه مطلقا.

الثالث : لبعض المرجئة : أنه مقطوع بتخلّفه في حق أهل الصلاة من أهل الكبائر. هكذا ذكره الإمام عليه‌السلام.

وفي الغايات : اختلف المرجئة في الفسّاق :

فمنهم من قطع بأنه لا بدّ من عقاب بعضهم والعفو عن البعض.

قال الرازي : وهو قول أكثرهم.

ومنهم من توقّف في ذلك كله فجوّز العفو عن الجميع وعقاب الجميع والعفو عن البعض وعقاب البعض.

قال الرازي : وهو قول كثير من أصحابنا.

قلت : وهذا هو القول الرابع فهم المرجئة على الحقيقة.

وحكى الرازي اتفاق أهل السّنة على أمرين :

أحدهما : أن الكبائر التي يعفى عنها لا تعلم في الحال.

الثاني : أنه لا يخلد أحد من فساق هذه الأمّة.

والقول الخامس : ما ذكرناه في الشرح من قول الجهمية من انقطاع عذاب الفاسق.

ومثله قول : رزقان (١) وأكثر المرجئة حيث قالوا : يقطع بخروج أهل الكبائر من النار ، قالوا : يفعل به ما يستحقه من العقاب ثم ينقطع ويفعل له ما يستحقه من الثواب ويدوم ولا ينقطع.

قال النجري : وقريب من قولهم : قول الخالدي إلّا أنه لم يصرّح بدخول العاصي النار مثلهم بل قال : الطاعة توجب قطع العقاب فلعلّه يقول

__________________

(١) (ب) زرقان.

٣١٩

يجوز أن يوصل إليه عقابه المنقطع في الدنيا كما هو قول جماعة من المرجئة. انتهى.

«لنا» في الاحتجاج على مخالفينا : حجة العقل والسّمع ولنذكر الكلام في ذلك في فصلين :

الأول : في استحقاق الفاسق العقاب.

الثاني : في أنه يستحقه دائما على الحدّ الذي يستحقه المشرك.

أمّا الأول : فدلالة العقل فيه : أن الفاسق لو لم يستحق العقاب لكان خلق شهوته للقبيح إغراء له به ويتنزل خلقها بمنزلة قول القائل : افعل ولا بأس عليك.

وأما دلالة الشرع : فمنها : «قوله تعالى» : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) (١).

«الآية ونحوها» من الآيات العامة للعصاة والخاصة لأهل الكبائر الغير المخرجة من الملّة كقوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً) (٢) وقوله تعالى : (وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) (٣) والضمير للفجار وهو يعمّ كل عاص.

وقوله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ ...) إلى قوله (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (٤).

وقوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ...) إلى قوله (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٥).

__________________

(١) النساء (١٤).

(٢) النساء (٩٣).

(٣) الانفطار (١٦).

(٤) البقرة (١٦٥ ـ ١٦٧).

(٥) البقرة (٨٠ ـ ٨١).

٣٢٠