عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

«ولم يفصل» تعالى بين الكافر والفاسق.

«وقوله تعالى» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ...) إلى قوله تعالى (فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ...) الآية (١).

«وقوله تعالى» : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٢).

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وسبب نزولها : أن جماعة من المسلمين واليهود تذاكروا في أمر العقاب فادّعى كل فريق منهم أن الله تعالى يهب مسيئهم لمحسنهم ويعفو عنه لسابقة إيمانه بالله والرسول المرسل إليهم ولفضل الصالحين منهم فنزلت هذه الآية الكريمة ردّا على دعوى كل فريق وأخبرهم أن رجاءهم العفو عن عاصيهم إنّما هو أمانيّ كاذبة باطلة.

قال : ولا وجه لما رواه البغوي في المصابيح عن عائشة في أن المراد يجزيه في الدنيا لأنّ سببها يكذبه.

«ونحوهما» أي نحو هاتين الآيتين «من الآيات الخاصة في عصاة أهل الصلاة» كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ...) إلى قوله تعالى: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ...) (٣) الآية والقرآن مملوء من نحوها.

«وقد قال الله تعالى» : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٤).

ومن ذهب إلى جواز خلف الوعيد من الله سبحانه في حق مرتكب الكبيرة أو خروجه من النار فقد نقض معنى هذه الآية وما تقدمها من الآيات الدالة على عقابه وخلوده في النار.

__________________

(١) الأنفال (١٥ ـ ١٦).

(٢) النساء (١٢٣).

(٣) النساء (٢٩ ـ ٣٠).

(٤) ق (٢٩).

٣٢١

وأما الفصل الثاني : وهو : أن الفاسق يستحق العقاب دائما فدلالة العقل عليه : أن المقتضي للعقاب هو المقتضي للذمّ وهو فعل المعصية وقد علمنا حسن ذمّ الفاسق دائما.

وأما دلالة الشرع : فهي كثيرة منها : ما قد ذكر من الآيات في الفصل الأول المصرّحة بدوام العقاب والتخليد في النار ، ولم يسمع خلاف ممّن يعتدّ به بل ذلك معلوم من دين النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرورة من غير فرق بين الكافر والفاسق وبعضها يخصّ الفاسق كما بيّنا. ومن السّنة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من تحسّى سمّا فهو يتحسّاه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها ، ومن تردّى من جبل فهو يتردّى من جبل في النار خالدا مخلدا ، ومن وجأ نفسه بحديدة فحديدته في يده يوجأ بها بطنه في النار خالدا مخلدا».

والمعلوم أن هذه الأفعال إنما تقتضي الفسق. ذكر هذا الإمام المهدي عليه‌السلام.

وروى الهادي عليه‌السلام بإسناده إلى (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من اقتطع حق مسلم بيمينه حرّم الله عليه الجنة وأوجب له النار.

قيل يا رسول الله : وإن كان شيئا يسيرا؟

قال ـ : وإن كان قضيبا من أراك قال ذلك ثلاث مرات».

وروى البخاري بإسناده إلى أبي هريرة من حديث طويل عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه أمر بلالا فنادى في الناس :

أنه لا يدخل الجنة إلّا نفس مسلمة ، وأنّ الله ليؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجر.

وروى البخاري أيضا بإسناده إلى عبد الله بن عمر أنه قال : كان على ثقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل يقال له : كركرة فمات فقال

__________________

(١) (ب) عن.

٣٢٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «هو في النار فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلّها».

وروى البخاري أيضا بإسناده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة ، وأنّ ريحها ليوجد من مسير أربعين عاما».

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وللمخالفين شبه عقلية وسمعية أما العقلية : فقال جهم : لا شك أن المعصية متناهية فكيف يستحق على المتناهي عقاب لا يتناهى وقد قال تعالى : (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) وغير المتناهي ليس مثلا للمتناهي؟

قلنا : المعصية مستلذة والعقاب منفور عنه مؤلم والمعصية قبيحة وجزاؤها حسن فليس المعصية والعقاب مثلين من هذه الجهة التي توهّمها جهم ، وإنما المراد بالمثلية تجانس اللفظين لنوع من الفصاحة.

والمراد : من عمل سيئة فلا يجزى إلّا العقاب ، والمعصية سبب في وقوع العذاب وعلّة فيه ، وإذا كان كذلك فما المانع من أن تكون علة في دوامه كما كانت علة في دوام الذمّ ، ويمكن أن يراد بالمماثلة المعادلة أي لا يجزى إلّا عدلها (بكسر العين) أي ما يعادلها وهو العذاب الدائم ، لأنّ عصيان المالك المنعم يعظم في القليل كما يعظم في الكثير فلا يعادله إلّا دوام العقاب.

يدل على ذلك في الشاهد قطع يد السارق التي ديتها خمس مائة مثقال في عشرة دراهم قفلة.

وقال المرتضى عليه‌السلام في جواب من سأله : عن التخليد بالنار على ذنب واحد من كلام طويل ما لفظه : وقد أنصف الله عزوجل خلقه وعدل بينهم في حكمه ، أولا ترى لو أن رجلا عصى الله طول عمره ثم تاب وأخلص ورجع في صحة من بدنه من قبل نزول الموت به أن تلك الذنوب جميعا تحطّ عنه وتغفر له وإن مات على ذلك دخل الجنة فكذلك

٣٢٣

من ختم عمله بالمعصية لله سبحانه وتعالى ومات عليها حكم له بالعذاب كما حكم له عند التوبة بالثواب ، فهذا عين العدل والإنصاف.

ولو جاز أن يدخل الجنة من مات على معصية واحدة لجاز أن يدخلها من مات على معصية ومعصيتين ولو جاز ذلك لجاز أن يدخلها من عصى عشرا وعشرين مرّة ، وإذا جاز ذلك فقد بطل الوعد والوعيد ووقع الاختلاف والفساد انتهى.

وأما شبههم السمعية : فمنها : ما ذكره الإمام عليه‌السلام بقوله : «قالوا : قال تعالى» : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١).

«وقال تعالى» : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) (٢).

«وقال تعالى» : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ)(٣).

«ونحوها» من الآيات الدّالة على غفران الذنوب.

قالوا : ففي هذه الآي إشعار بغفران الذنوب على الإطلاق.

وأيضا : قال أبو بكر الأصم من العدلية أستاذ ابن عليّة لما خرج من عموم آيات الوعيد التّائب ونحوه.

وهو الذي ثواب طاعته أكثر علمنا أنها ليست على عمومها فهي حينئذ مجملة مع حصول التخصيص لعمومها ، والمجمل لا يستدل به على شيء ، وهو مبني على أن العموم إذا خصّص صار مجملا لا يستدل به على شيء.

«قلنا : آيات الوعيد لا إجمال فيها» وإن خرج من عمومها التائب ونحوه.

وقول من قال : إن العموم إذا خصّص صار مجملا باطل للأدلة المذكورة في موضعها.

__________________

(١) الزمر (٥٣).

(٢) الرعد (٦).

(٣) النساء (١١٦).

٣٢٤

«وهذه الآيات» التي ذكروها في غفران الذنوب «ونحوها مجملة» أي مطلقة «فيجب حملها» على المقيد كما هو الواجب في مثل ذلك عند علماء الأصول فتحمل على «نحو قوله تعالى» : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (١).

«وقوله تعالى» : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (٢) بعد التوبة والعمل الصالح.

«وقوله تعالى» : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (٣).

«ونحوها من صرائح الآيات» التي لا إجمال فيها الدالة على أن الله تعالى يغفر الذنوب بالتوبة والاستقامة على الهدى وتكفينا في ذلك كله الآيات الخاصة بأهل الكبائر من أهل الصلاة فإنها نصّ صريح في إبطال قولهم : لا تحتمل التأويل إلّا بالنسخ.

والنسخ لا يجوز في مثل ذلك بالاتفاق.

قالوا : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) والمراد بغير توبة لأنّ التوبة تمحو الشرك فيكون المراد بقوله : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤) مثله أي بغير توبة.

قلنا : قوله تعالى : (لِمَنْ يَشاءُ) دليل على بطلان هذا المفهوم لأنه قد أخبرنا بأن القاتل عمدا ونحوه مخلد في النار إلّا أن يتوب فعلمنا أنه لا يشاء الغفران له مع عدم التوبة.

ثم ولو سلمنا أن المراد بقوله (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) بغير توبة فالمراد به صغائر ذنوب المؤمنين وكل على أصله فيها «قالوا : القرآن مملوء من نحو قوله تعالى» : (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) «قلنا» هي «مجملات

__________________

(١) طه (٨٢).

(٢) التحريم (٨).

(٣) النساء (١١٠).

(٤) النساء (١١٦).

٣٢٥

أيضا» كما سبق ذكره في نظائرها «فيجب حملها على قوله تعالى» : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ) (الآية) (١).

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فقيّد الرحمة بما ترى من هذه القيود التي هي شروط الإيمان ، وعلى قوله تعالى : (قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا) يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ الآية (٢).

فبين تعالى أنه كتب رحمته لمن عمل هذه الأعمال الصالحة.

«و» كذلك «نحوهما من صرائح القرآن» الدالة على أن الله تعالى يقبل التوبة من عباده ويدخلهم في رحمته مع الإنابة والعمل الصالح.

«قالوا : يحسن في العقل العفو عن المسيء» وإذا كان حسنا فلا مانع منه في حق الله تعالى.

«قلنا : لا» يحسن العفو «حيث علم عدم إقلاعه» أي إقلاع العاصي لا عقلا ولا سمعا.

«ألا ترى لو أنّ سلطانا عرف من عبده» فعل «الفاحشة مع حريمه» التي لا يرضى أن يحوم أحد حولها «وهو يعلم» أي السلطان المالك للعبد «أنه لا يرتدع» ذلك العبد «إن عفا عنه بل يعود إلى الفاحشة : أنّ العفو عنه لا يحسن في العقل قطعا» إذ يكون إغراء بفعل القبيح.

«وهم» أي مرتكبو الكبائر من أهل الصلاة وغيرهم «لم يقلعوا عن الإصرار» على فعل المعصية «لأنّ توبتهم» حين رؤية العذاب أو بعد وقوعهم فيه «لم تكن لوجه القبح بل لما وقعوا فيه من العقاب» الأليم وذلك «لقوله

__________________

(١) التوبة (٧١).

(٢) الأعراف (١٥٦ ـ ١٥٧).

٣٢٦

تعالى» في حق أهل النار جميعا (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (١) (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) وهذا قول أصدق القائلين المطّلع على أسرار القلوب وضمائر الأفئدة فثبت بما ذكرناه : ما ذهبت إليه أئمة العدلية من الزيدية وجماهير المعتزلة من خلود الفساق في النار.

وبطل ما ذهب (٢) إليه المرجئة ومن اغترّ بهم من أهل الأهواء والأمنية.

(فصل)

في ذكر شفاعة النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا خلاف بين الأمّة في ثبوتها ، وأجمعت الأمّة أن المقام المحمود الذي وعد الله به نبيئه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة هو الشفاعة المقبولة ولا اعتداد بخلاف المطرفية في إنكار شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

قالوا : لأنه إن شفع في واجب فإن الله يفعله من غير شفاعة ، وإن شفع في تفضّل فهو لا يجوز لأنه يجب عليه المساواة بين خلقه وإلّا كان محاباة.

لنا : ما تقدم في الردّ عليهم ولخروجهم من الأمة بكفرهم.

واختلفوا في المستحق لها :

فقال «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور المعتزلة : وشفاعة النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل الجنة من أمّته يرقّيهم الله بها من درجة» كانوا فيها (٤) «إلى» درجة «أعلا منها ومن نعيم» كانوا صاروا إليه «إلى» نعيم «أسنى منه» وأعظم.

«وأما من أدخله الله النّار فهو خالد فيها أبدا» أي دائما دواما لا انقطاع له

__________________

(١) الأنعام (٢٨).

(٢) (ض) ما ذهبت.

(٣) يوم القيامة تمّت.

(٤) (ض) كانوا يستحقونها.

٣٢٧

وذهب الشيخ أبو الهذيل : إلى أنها إنما تكون لأهل الصغائر من المؤمنين ليرد الله (١) ما انحبط من ثوابهم.

وذهب بعض المعتزلة أيضا إلى أنها تكون لمن استوت حسناته وسيّئاته فيدخل الجنة بالشفاعة.

وقد مرّ إبطال استوى الحسنات والسيّئات في فصل الإحباط.

وذهبت المجبرة إلى أنّ الشفاعة لا تكون إلّا لأهل الكبائر ليعفى عنهم ويدخلون الجنة تفضّلا.

قالوا : لأنّ موضوعها دفع المضرة فقط.

قالوا : وإلّا لزم أن يكون دعاؤنا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والملائكة شفاعة لهم ، والإجماع منعقد على أنّا غير شافعين لهم.

قلنا : الشفاعة في اللغة : ما أراد بها فاعلها الحثّ على المطلوب والداعي للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقصد الحثّ على إكرامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه يعلم أن الله تعالى مكرم له سواء طلب ذلك أم لم يطلبه ، وإنما قصد تحصيل إكرام نفسه بفعله ما أمر به من الدعاء للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطالب إكرام نفسه بامتثال الأمر ليس بشافع. كذا ذكره الإمام المهدي عليه‌السلام في الغايات.

قال : واعترض الرازي هذا الجواب بأن قال : لم تجمع الأمّة على أن الله تعالى لا يريد إكرام رسوله لأجل دعائنا ، وإذا لم يدل دليل على منع ذلك جاز فيلزم كوننا شافعين له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأمّة مجمعة على منع ذلك.

قلنا : إذا صحّ الإجماع على أنّا غير شافعين له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلمنا من اللغة أن الشفاعة تكون لجلب النفع كدفع الضرر كان ذلك دليلا قاطعا على أن الله سبحانه لا يريد إكرامه لأجل سؤالنا فبطل ما ادّعاه.

__________________

(١) (ض) ليرد الله بها.

٣٢٨

قلت : موضوع الشفاعة في اللغة هي (١) التفضّل والجود من الشافع بسؤال منفعة أو دفع مضرة للغير لا على جهة التحتّم والوجوب ، والدعاء منّا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمرنا به وحثّنا الشارع عليه فليس من الشفاعة في شيء وإنّما هو جار منّا مجرى الشكر والتعظيم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هدايتنا وتبليغه شريعة ربنا إلينا وسواء كان سببا في زيادة إكرام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو لا والله أعلم.

والدليل على أنها في اللغة لجلب المنافع كدفع المضار : ما نعلمه بتواتر النقل عن أهل اللغة أنهم يقولون : شفع فلان إلى فلان لفلان ليقضي دينه أو يغني فقره ونحو ذلك ، لا يخالف أحد في ذلك ، بل هي في جلب المنافع أشهر قال الشاعر :

فذاك فتى إن جئته لصنيعة

إلى ماله لم تأته بشفيع

وعلى الجملة : فهو معلوم ضرورة من اللغة هكذا ذكره الإمام المهدي عليه‌السلام.

قال : والظاهر أنه يجوز أن يشفع النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لغير أمّته من المؤمنين كما يشفع لأمّته.

والظاهر أيضا : أن غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم يشفّع إذا شفع ، وكذا بعض الأولياء والصالحين إذ قد ورد في الآثار : ما يقتضي ذلك.

قلت : ومن ذلك : ما رواه أبو الفرج في كتابه مقاتل الطالبيين بإسناده إلى أبي هريرة أنه قال : وددت أنّي مولى لبني هاشم ، فقيل له : ولم (٢) يا أبا هريرة؟

قال : لأنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما من رجل مسلم من بني هاشم إلّا وله شفاعة عند الله يوم القيامة» وقال

__________________

(١) (ض) هو التفضل.

(٢) (ض) ولم ذلك.

٣٢٩

«بعض المرجئة : بل شفاعة النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل الكبائر من أمّته فيخرجهم الله بها من النار إلى الجنة» وبعضهم ذهب إلى أنه يشفع لأهل الكبائر قبل دخولهم النار فلا يدخلونها. «لنا» حجة عليهم : «قوله تعالى» : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) أي مانع يدفع عنهم العذاب (كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١).

«ولم يفصل» تعالى في هذا بين أهل الجحود وغيرهم.

«وقوله تعالى» : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٢) أي ناصرا ودافعا لما استحق من العذاب.

وقوله تعالى» : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (٣) أي يجاب إلى ما شفع فيه «كقوله تعالى» : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً) (٤) «أي لا تجب» آثما أو كفورا.

فهذه الآيات مصرّحة بعدم الشفاعة لمستحق النار ونحوها كثير من نحو قوله تعالى : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (٥).

وقوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٦).

وقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (٧).

__________________

(١) يونس (٢٧).

(٢) النساء (١٢٣).

(٣) غافر (١٨).

(٤) الإنسان (٢٤).

(٥) البقرة (٢٧٠).

(٦) الأنبياء (٢٨).

(٧) طه (١٠٩).

٣٣٠

وقوله تعالى : (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (١).

«فلو كانت» أي الشفاعة «لهم» أي لأهل الكبائر «لكانوا غير مخلدين فيها ، وذلك خلاف لصرائح آيات الوعيد» القاضية (٢) «بالتخليد ، ولكان الشفيع لهم» أي لأهل الكبائر «عاصما ووليّا ونصيرا ، وذلك خلاف وردّ لصرائح هذه الآيات» الكريمة ومن ردّ آية كفر.

«قالوا : ورد الاستثناء في قوله» تعالى.

(«فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (٣).

فقالوا : إلّا ما شاء ربك من إخراج أهل الكبائر بالشفاعة من النار.

وقالوا في قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي من تخليد البعض كالكفار وإخراج البعض كالفسّاق.

وقالوا في آيات السعادة : إن بعض السعداء لا يخلّدون في الجنة بل يفارقونها ابتداء أي أيّام عذابهم كالفساق من المؤمنين الذين سعدوا بالإيمان والتّأبيد من مبدإ معيّن كما ينتقض باعتبار الانتهاء فكذلك باعتبار الابتداء. هكذا ذكره التفتازاني.

[وهو باطل لأنه متضمن لكون أهل النار وأهل الجنة فريقا واحدا وإن الذين شقوا هم الذين سعدوا.

والآية مصرّحة بخلاف ذلك].

«قلنا» إن «المعنى» في تفسير الآية «هم» أي الأشقياء «خالدون في النار مدة القيامة» أي مدة الحياة الآخرة «إلّا مدة وقوفهم في المحشر» فإنهم غير داخلين في النار حينئذ «للقطع بالوقوف فيه» أي لعلمنا أن أهل النار لا

__________________

(١) الزمر (١٩).

(٢) (ن) القاضية المصرّحة.

(٣) هود (١٠٧).

٣٣١

بدّ لهم من الوقوف فيه «للحساب كما أن الاستثناء في حق أهل الجنة في قوله تعالى» : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (١) كذلك «إذ لا خلاف في ذلك أن المراد بالاستثناء» في حقهم «قبل دخول الجنة» وهو وقت وقوفهم في المحشر ومرورهم إليه.

«والفرق» بين الاستثناءين «تحكّم» أي مجرد دعوى للفارق بلا دليل ، كيف وقد دلّ الدليل القاطع على خلود أهل النار بما تقدم ذكره من الآيات الصريحة في ذلك.

«ولصريح قوله تعالى» : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (٢).

«وقوله تعالى» : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) (٣) أي ليمتنا ربك حتى نستريح من العذاب (قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) أي خالدون لا سبيل لكم إلى الموت.

وقوله عليه‌السلام : إذ لا خلاف في ذلك ... إلى آخره : مراده : أنه لا خلاف في حق أهل الجنة أنهم لا يخرجون من الجنة بعد دخولها فكذلك أهل النار لا يخرجون منها بعد دخولها فكما جعل المخالف الاستثناء في حق أهل الجنة للوقت المتقدم على دخولهم الجنة كذلك يكون الاستثناء في حق أهل النار للوقت المتقدم على دخولهم النار ، والفرق تحكّم].

وأما تأويل الآية : فقد فسرت بمثل ما ذكره الإمام عن الإمام المهدي عليه‌السلام ، وقد فسّرت بغير ذلك وقد ذكرته في الشرح.

«قالوا» أي قالت المرجئة : «وردت أحاديث» عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «بأنها لأهل الكبائر» من أمّته.

__________________

(١) هود (١٠٨).

(٢) البقرة (١٦٧).

(٣) الزخرف (٧٧).

٣٣٢

«قلنا : يجب طرحها لإجماع الصحابة على رفض معارض القرآن بما روي (١) من الأخبار» أو تأويلها إن أمكن على ما يوافق محكم القرآن «و» أيضا يجب طرحها «لقدح في متحمّليها» أي في رواتها كعبد الله بن عمرو بن العاص وغيره.

وروى الذهبي في الميزان ما لفظه : صديق بن سعيد الصّوناخي (٢) عن محمد بن نصر المروزي عن يحيى بن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعا : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي».

قال الذهبي : هذا لم يروه هؤلاء قط لكن رواه عن صديق من يجهل حاله أحمد بن عبد الله بن محمد الزّينبي فما أدري من أين وضعه؟ انتهى بلفظه.

«ولمعارضتها بصحيح من الأخبار نحو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» «صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي لعنهم الله على لسان سبعين نبيئا ... الخبر».

وفي الاعتصام : وأخرج الطبراني عن أبي أمامة عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «صنفان من أمتي لا تنالهما شفاعتي : إمام ظلوم غشوم وكل غال مارق».

وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أنس والطبراني في الأوسط عن واثلة وعن جابر عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «صنفان من أمّتي لا تنالهما شفاعتي يوم القيامة : المرجئة والقدرية».

وفي الجامع الصغير للأسيوطي : وأخرج أحمد بن عثمان عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي» انتهى.

__________________

(١) (ب) ممّا ظنّ.

(٢) الصوناخي التركي تمت.

٣٣٣

«وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» «لا يدخل الجنة قتّات» وهو النّمّام والكذّاب.

«وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» «لا يدخل الجنة صاحب مكس ولا مدمن خمر ولا مؤمن بسحر ولا قاطع رحم ولا منّان».

المكس : ما يأخذه الماكس ، والماكس : العشار قال الشاعر :

أفي كلّ أسواق العراق إتاوة

وفي كلّ ما باع امرؤ مكس درهم

ومدمن الخمر هو : الذي متى وجد الخمر شربها ، كذا ورد تفسيره بمعنى : أنه لا يتحرج من شربها.

والمؤمن بالسحر : المصدق به المعتقد أن التأثير له.

وقاطع الرحم : المانع له ممّا يجب أن يصله به.

والمنّان : الذي يمنّ بما أعطى أو تصدّق به.

«وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» «لا يدخل الجنة بخيل» وذلك أن البخل يحمل صاحبه على ترك الإنفاق فيما يجب.

ولهذا ورد في الخبر عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال «البخل شجرة في النار من تعلّق بغصن منها دخل النار ، والكرم شجرة في الجنة من تعلّق بغصن منها دخل الجنة» أو كما قال(١).

«إلى غير ذلك» من الأخبار المصرّحة بنفي الشفاعة لأهل الكبائر نحو ما أخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال «لا يدخل الجنة سيّئ الملكة».

وأخرج أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجة عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» وغير ذلك.

فثبت ما ذهبنا إليه وبطل ما اغترّ به المخالف.

__________________

(١) رواه أبو طالب عليه‌السلام في أماليه تمت.

٣٣٤

(فصل)

في ذكر عذاب القبر.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام في الغايات :

اعلم : أن المتكلمين ذكروا مسائل ممّا وردت به الآثار في عذاب القبر وما بعده ، ولا وجه لتخصيص ذلك بالذكر إلّا كون العلماء اختلفوا في تصحيحه.

قال : قلت : وقد جاء في شرائط الساعة ما اختلف في تصحيحه وتصحيح حمله على ظاهره كالدجال في صفته وتعيينه ونزول عيسى وارتفاع الكعبة والقرآن وخروج الدابة والنار من عدن ونحو ذلك.

قال : ونحن نذكر ما ورد في ذلك.

قلت : قد ذكره في الغايات تركته اختصارا وذكرت بعضه في الشرح.

قال «أئمتنا عليهم» «السلام والجمهور» من المعتزلة وغيرهم : «وعذاب القبر ثابت» لأهل النار.

«خلافا لقديم قولي» الإمام «أحمد بن سليمان عليه‌السلام» فإنه نفاه في حقائق المعرفة وأثبته في كتاب الحكمة الدرية.

قال في الحقائق : والخلاف في إحيائه في القبر وإماتته ميتة ثانية فأمّا عذاب القبر للعاصين فنقول به ونصدق به ، وقد ورد في ذلك أخبار عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يأت في وقته أثر والله أعلم ، ونحسب أنه عند بعثه والله أعلم.

والمعول عليه عندنا : أنه يعذب عند بعثه ونشره.

قال عليه‌السلام : ويؤيّد ما قلنا : قول زيد بن علي عليهما‌السلام ـ : (أيها الناس إن الله خلقكم ليبلوكم أيكم أحسن عملا ، جعل موتا بين حياتين : موتا بعده حياة وحياة ليس بعدها موت) انتهى.

«و» كذلك خالف فيه «الموسوي» وهو أبو القاسم المرتضى (١).

__________________

(١) علي بن الحسين شقيق الرضي تمت.

٣٣٥

قيل : وهو قول الناصر وابني الهادي ، ورواه الإمام المطهر عليه‌السلام عن الهادي عليه‌السلام.

«و» هو أيضا قول «يحيى بن مالك» من المجبرة «وغيرهم» كبشر المريسي وغيره من البغدادية وأبي القاسم البستي وضرار بن عمرو.

«لنا» حجة على ثبوت عذاب القبر «أخبار صحيحة» وردت عن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار».

ومرّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقبرين فقال : «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير» أي عندهما ، كان أحدهما يمشي بالنميمة والآخر لا يستنزه من البول.

وقول علي عليه‌السلام : (ثم أدرج في أكفانه مبلسا وجذب منقادا سلسا ، ثم ألقي على الأعواد رجيع وصب ونضو سقم يحمله حفدة الولدان وحشدة الإخوان إلى دار حضرته ومنقطع زورته حتى إذا انصرف المشيّع ورجع المتفجّع أقعد في حفرته نجيّا لبهتة السؤال وعثرة الامتحان).

ومنها : ما رواه البراء بن عازب عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «يكسى الكافر في قبره لوحين من نار».

ومنها : ما رواه ابن مسعود أن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتعوذ من عذاب القبر.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا أخشى أن لا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم عذاب القبر» وغير ذلك ، ذكر هذا في الغايات.

واحتجّ المنكرون لعذاب القبر بحجج من العقل والسمع :

أمّا العقل : فقالوا : لو جوّزنا فيما نشاهد من الموتى أنهم أحياء معذبون مع مشاهدتنا لهم على مثل حال الجمادات لجوزنا فيما نشاهده من الجمادات أنهم أحياء فضلاء علماء بل نجوز في السرير الذي عليه الميت

٣٣٦

مثل ما نجوزه في الميت.

ومن المعلوم أيضا : أنّا نشاهد المصلوب على حالة واحدة لا يتغير عن حاله لو رصدناه أيّما رصد.

قلت : ويمكن الجواب بأن يقال : إنما تعذب الأرواح ، وقد ثبت بما تقدم ذكره عن بعض أئمة أهل البيت عليهم‌السلام : أن الروح جسم ، وإن كنا لا نعلم حقيقته ، وثبت أنه يبقى بعد مفارقته الجسد إلى قرب يوم القيامة.

[ويؤكد هذا : ما ذكره الحسين بن القاسم عليهما‌السلام في كتاب الرؤيا فأما العقل فلا يقع عليه الثواب والعقاب ، وإنما هو شاهد على الخطإ والصواب ، وإنما يقع الثواب والعقاب على الجسم والروح إذا اجتمعا وعلى الروح وحده إن لم يكونا معا.

فأما الجسم الموات فلا يعقل إذا فارقته الحياة. انتهى].

أو يقال : إن الله سبحانه يحيي بعض العاصين في قبره ويرد الله روحه ويعذبه ولا يلزم أن يكون ذلك في كل عاص.

وقد بسطنا في هذا الموضع من الشرح وذكرنا ما احتجّ به المخالف من السمع ، وقد اتفق أكثر الأمّة على القطع بعذاب القبر وإن اختلفوا في تعيين وقته.

«ويجوز دخول الملكين القبر للسؤال» للميت.

«خلافا للبستي» من الزيدية «وضرار» بن عمرو من الجبرية وهو بناء على نفي عذاب القبر.

«لنا» على جوازه : «الأخبار» الواردة في ذلك.

«ولا مانع» من قبولها لا عقلي ولا سمعي.

وقد ورد الأثر : بأنهما يأتيان الميت فيقعدانه بعد أن أحياه الله تعالى وأكمل عقله ويشاهدهما على صورة حسنة يسر برؤيتهما فتجري مجرى البشارة بالجنة إن كان من أهل الخير.

وعلى صورة هائلة فاجعة إن كان من أهل النار.

٣٣٧

ثم يسألانه عن ربّه ودينه ونبيئه.

فإن كان من أهل الثواب ثبته الله تعالى فأجاب بالصواب فأحسنا له الكلام وبشّراه وأدخلا عليه سرورا عظيما.

وإن كان من أهل العقاب كان بالعكس.

نسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

(فصل)

في ذكر الصّور.

الصّور في اللغة : هو القرن قال الشاعر :

لقد نطحناهم عداة الجمعين

نطحا شديدا لا كنطح الصّورين

قال «الهادي عليه‌السلام» وهو المأخوذ من كلام القاسمية : «والصّور» الذي ذكره الله في القرآن الكريم : «المراد به كل الصّور» يريد أنه جمع وأن المراد بقوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) أي صور الأموات.

ومثل كلام الهادي عليه‌السلام حكاه الإمام المهدي عليه‌السلام عن قتادة وأبي عبيدة.

قال الهادي عليه‌السلام في كلام له طويل : (والصّور جمع الصّورة والعرب تقول : صورة وصورتان وصور ثم تجمع الصّور فيكون جمعها : صورا ، فهذا معنى الصّور.

ونفخ الله فيها النفخة الأولى هو : إفناؤها وهو نفخه فيها وهي الأبدان والصّور صور الخلق وأبدان العالمين لما أراد من هلاكها وفنائها (١) إلى قوله : ومعنى النفخة الأخرى : فهي نفخة الله سبحانه الثانية في الصّور والأبدان المتمزقة البالية لما أراد الله من حياتها ونشرها وتجديدها وبعثها من بعد موتها ... إلى آخر كلامه عليه‌السلام.

قال الإمام عليه‌السلام : «قلت : وله» أي للصور على هذا الوزن

__________________

(١) (ب) وإفنائها.

٣٣٨

وكونه جمعا لصورة «نظائر» من ألفاظ العرب مثل : «النقب» فإنه «جمع لنقبة» وهي الموضع المحتفر في جلد البعير ونحوه «من الجرب قال الشاعر» وهو دريد بن الصمة :

ما إن رأيت ولا سمعت به

كاليوم هاني أنيق جرب

متبذّلا تبدو محاسنه

«يضع الهناء (١) مواضع النّقب»

والهناء : القطران.

ولا يجوز أن يكون النّقب هنا مفردا لأنه قال مواضع فهو جمع نقبة. «و» كذلك «الصوف فإنه جمع صوفة ، والعطب جمع عطبة والقطن جمع قطنة ، والبسر جمع بسرة» ونحو ذلك ممّا ميّز واحده بالتّاء.

«وعلى الجملة : أن محققي علماء العربية أجمعوا على أن ذلك قياس» أي وارد على قياس مطرد في لغة العرب «فيما عدا صنعة البشر من نحو : برمة» المصنوعة للبشر فإنه ليس بقياس جمعه على فعل (بضم الفاء وسكون العين) الذي حكاه نجم الدين في شرحه عن الفرّاء : أن كل ما له واحد من تركيبه سواء كان اسم الجمع كباقر وركب أو اسم الجنس كتمر وبسر وروم فهو جمع وإلّا فلا.

فنحو : إبل عنده مفرد ، وأمّا اسم الجنس الذي ليس له واحد من لفظه فليس بجمع اتفاقا. انتهى.

«وقيل : بل الصور» الذي ذكره الله في القرآن «مجاز» عن صوت يحدثه الله تعالى لإفزاع الخلائق وإماتتهم وإحيائهم ذكره الإمام أحمد بن سليمان عليه‌السلام قال : لقوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ...) الآية (٢).

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ ...) الآية (٣).

__________________

(١) الهناء بالكسر والمد ككتاب تمت قاموس.

(٢) طه (١٠٨).

(٣) القمر (٦).

٣٣٩

وقوله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ ...) (١) الآية ونحوها.

وقالت «الحشوية وغيرهم : بل» الصور «قرن» كهيئة البوق «قد التقمه إسرافيل عليه‌السلام» لينفخ فيه متى أمر بذلك فهو باق على معناه اللغوي.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وعلى هذا أكثر المفسرين وينفخ فيه ثلاث نفخات : الأولى : نفخة الفزع. والثانية : نفخة الصعق. والثالثة : نفخة القيام لرب العالمين.

[وقيل : ينفخ فيه مرتين : الأولى : لإماتة الخلائق. والثانية : لإحيائهم. قلت : وهو الحق أعني : أن النفخ إنّما هو مرتان فقط لأن الصور هو القرن].

[وفي كلام عليّ عليه‌السلام في نهج البلاغة ما يدل على هذا حيث قال : (يوم تشخص فيه الأبصار وتظلم له الأقطار وتعطل فيه صروم العشار ، وينفخ فيه الصور فتزهق كل مهجة وتبكم كل لهجة)].

«قلنا : لا دليل عليه» أي على القرن الذي زعموه لا «من القرآن» الكريم ولا من السنّة الصحيحة المعلومة.

«ولا ثقة بأخبار الحشوية» التي روتها في ذلك عن أبي هريرة وغيره «حيث لم يروه غيرهم» أي غير الحشوية.

قلت : وما ذهب إليه الإمام أحمد بن سليمان عليه‌السلام محتمل ويحتمل أن الصور الذي ذكره الله في القرآن هو غير الصور المذكور والله أعلم.

«قيل : لو كان الصور» وضع «لجمع الصور لما صحّ إفراد الضمير في قوله تعالى: (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٢).

«قلنا : ذلك» أي إفراد الضمير «جائز في العربية إجماعا في نحو هذا الجمع خاصة».

__________________

(١) ق (٤١).

(٢) الزمر (٦٨).

٣٤٠