عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

باسم الفسق؟ ولا يسمّى باسم النفاق إلّا من أظهر الإسلام وأبطن الكفر؟ ولا دليل على ذلك من الشرع أصلا.

وأما الاصطلاح : فهو غير الشرع والله أعلم.

«والعصيان : مخالفة الآمر والنّاهي ولو» كانت المخالفة «خطاء» فإنها تسمّى عصيانا «لما مرّ» في ذكر خطايا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيره من أن الخطأ والنّسيان معصية ولو كانت مكفّرة.

«والظلم : إنزال مضرة مجردة» أي خالية «عن جلب منفعة» يحترز من التأديب «أو دفع مضرة فوقها» أي أعظم منها يحترز من الفصد والحجامة ونحوهما.

ويزاد : واستحقاق ليخرج القصاص فإنه ليس بظلم ، وسواء كانت (١) تلك المضرة المجردة عن النفع والدفع والاستحقاق «بالنفس» كأن يؤلم المرء نفسه أو يقتلها «أو بالغير» كأن يلطم غيره أو يقتله.

(فصل)

قال «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور المعتزلة : ويصير المكلف كافرا» أي كفر جحود «بخصلة واحدة من خصال الكفر بما سيأتي إن شاء الله تعالى» من الأدلة في باب التكفير والتفسيق بخلاف الإيمان فلا يصير المكلف مؤمنا بخصلة واحدة من خصال الإيمان قال النجري : فإن قيل : فما الفرق : فإن المؤمن والكافر أسماء فاعل واسم الفاعل مشتق من فعله قلّ أو كثر كالضارب لمن فعل ضربا ما وقد جريتم على القياس في الكفار إذ سميتموه كافرا بخصلة واحدة من خصال الكفر وخالفتموه في المؤمن إذ حكمتم أن لا يكون مؤمنا ولو فعل خصالا كثرة من الإيمان؟

قال : والجواب : أن المؤمن والكافر وإن كانا في الأصل مشتقّين لكنهما قد صارا في الشرع غير مشتقّين بل اسمين لمن اتّصف بصفات مخصوصة فالمؤمن : اسم لمن يستحق الثواب ، والكافر : لمن يستحق أعظم

__________________

(١) (أ) كان.

٢٦١

العقاب (١) ، فمن فعل خصلة واحدة من خصال الكفر يسمّى كافرا وليس مشتقا من الكفر كما توهّم بل لأنه يستحق أعظم أنواع العقاب ومن فعل خصلة واحدة من خصال الإيمان لا يسمّى مؤمنا لأنه لا يستحق الثواب إلّا بمجموع خصال الإيمان ، فصحّ أن تسمية المؤمن والكافر إنما هي شرعية باعتبار العقاب والثواب. انتهى.

قلت : الحقّ أن ذلك إنما هو لعدم نقل تسمية الكافر دون المؤمن فتأمله. قال واعلم : أن الكفر والشرك سواء في استعمال الشرع وهو ما يستحق عليه أعظم أنواع العقاب ، وقد ثبت أن المنافق كافر للإجماع على ذلك فهو مشرك.

قال : وقالت الأباضية من الخوارج : الشرك غير الكفر فالشرك إثبات الشريك لله فهو نوع مخصوص من الكفر.

وقيل : إنهم يعدّون كل من خالفهم من أهل القبلة كافرا وليس بمشرك ويقولون : إن تحريم الذبيحة والدفن في مقابر المسلمين ونحو ذلك من الأحكام إنما تجرى على المشركين ، على ما رواه الحاكم عنهم.

قال : قلنا : قد ثبت أن الكافر اسم لمن يستحق أعظم العقاب (٢) فعمّهما التعريف فيجب أن يكونا متساويين.

قلت : قال الناصر عليه‌السلام إنّ من أطاع الشيطان وعصى الرحمن فقد أشرك في عبادة ربّه ، واحتجّ على ذلك بمثل قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (٣) وغير ذلك كثير من القرآن والسنّة قد ذكرت منه قسطا في الشرح.

وعلى هذا يكون الشرك مستعملا في معناه اللغوي كالكفر سواء والله أعلم.

__________________

(١) (ن) أنواع العقاب.

(٢) (ن) أنواع العقاب.

(٣) الأنعام (١٢١).

٢٦٢

وقال «بعض الخوارج : بل» يصير المكلف كافرا «بفعل أي كبيرة» أي أيّ (١) كبيرة يحكم العقل بقبحها إذا فعلها عمدا ولا صغيرة عندهم «لا بترك» الواجبات الشرعية «نحو الصلاة» والزكاة وغيرهما من الواجبات الشرعية فلا يصير بتركها كافرا ، وهذا قول النجدات منهم. وقال «بعض الخوارج : بل» يصير المكلف كافرا «بارتكاب أيّ كبيرة» أي بفعل أي معصية متعمدا لأنه لا صغيرة عندهم ، وهذا قول الفضليّة والبكرية من الخوارج.

وقالت الأزارقة والصفرية من الخوارج : بل ما ورد فيه وعيد فكفر وهو (٢) بناء على أن من المعاصي ما لا وعيد فيه. هكذا ذكره الإمام المهدي عليه‌السلام عنهم.

وقال الحسن «البصري : يصير» المكلف «بارتكاب أي كبيرة» من المعاصي «منافقا» وإيمانه غير خالص ، واحتجّ بوجهين :

أحدهما : أن الفاسق لو كان يقطع بصدق الوعد والوعيد والجنة والنار لما ارتكب الكبيرة الموجبة للهلاك ، وهذا مثل قول زيد بن علي والقاسم والناصر عليهم‌السلام ، وإن اختلف التعليل.

وثانيهما : قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) في سورة براءة (٣).

قال في الغايات : وكان عمرو بن عبيد يذهب إلى مثل مقالة الحسن في الفاسق حتى راجع واصل فرجع إلى مذهب واصل ، والقصة مشهورة. «لنا» حجة على أن مرتكب الكبيرة يسمّى فاسقا ولا يسمّى كافرا ولا منافقا : «فعل النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و» كذلك «الإجماع من الأمّة على إقامة الحدود على نحو السارق» والزاني «مع عدم معاملتهم معاملة الكفار» من القتل والسّبي وانفساخ النكاح وانقطاع التوارث.

__________________

(١) (ب) أي بأيّ كبيرة.

(٢) (ض) وهذا بناء.

(٣) التوبة (٦٧).

٢٦٣

فلو كان يسمّى كافرا أو منافقا كما زعمه المخالف لما عامله معاملة المسلمين وذلك يقتضي أنّ حكمه مخالف لحكم الكافرين والمنافقين ، وإذا كان كذلك : امتنع أن يطلق عليه اسم الكفر والنفاق.

فإن قيل : إن المنافقين عهده (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان حكمهم في المعاملة حكم المسلمين مع كفرهم ، ولهذا جلد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأس المنافقين عبد الله بن أبيّ في حديث الإفك وأخذ الزكاة منه ، وحينئذ لم يتم الاحتجاج بما ذكرتم أن معاملة أهل الكبائر معاملة المسلمين يدل على عدم كفرهم ونفاقهم؟

والجواب والله الموفق : أما عند زيد والناصر والقاسم عليهم‌السلام ومن وافقهم : فلا يرد هذا لأنّ مرتكبي الكبائر من المنافقين عندهم وهذا حجة لهم.

وأما على قول من عداهم : فيمكن أن يقال : إن معاملة النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم معاملة المسلمين لمصلحة علمها وأمره الله بها وهو تقوّي الإسلام وترغيب الناس إليه ، لأنه لو عامل من أظهر الإسلام وأبطن الكفر معاملة الكفار بالقتل والسّبي ونحو ذلك لنفر عن الإسلام كثير من الناس خشية أن لا يقبل منهم إظهار الإسلام وإن لم يبطنوا الكفر والله أعلم.

قلت : ويمكن أن يجاب عن جميع ما أوردوه في هذه المسألة :

بأن المنافق في اللغة : اسم لمن أظهر خلاف ما يبطن وذلك يصدق على مرتكب الكبيرة لأنه يتسمّى بالإيمان والتقوى ويتلبس بها ، وأفعاله تشعر بخلاف ذلك وهذا حقيقة النفاق.

ولا دليل من الشرع يدل على نقله فهو اسم عامّ لمن أبطن الكفر أو غيره من المعاصي وتزيّا بزيّ التقوى والإيمان.

__________________

(١) (ض) في عهده.

٢٦٤

والكافر : اسم عامّ لمن كفر نعمة المنعم بالعصيان له سواء كان ذلك العصيان هو الجحد أو غيره.

وأمّا معاملة النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل الكبائر معاملة المسلمين في أحكام مخصوصة فهي بمعزل عن إجراء الأسماء عليهم إذ لو كانت تلك المعاملة توجب لهم أسماء المسلمين لوجب أن يسمّوا مؤمنين وهو باطل.

وأما قول علي عليه‌السلام وقد سئل عن الخوارج أكفار هم (فقال من الكفر فرّوا) فمراده : أنهم فرّوا من عصيان الله بزعمهم مع أنهم عاصون لله قطعا فلا يلزم من ذلك أن لا يسمّوا كفارا بل هم كفار نعمة ومعاملتهم بخلاف معاملة كفار الجحود ، وبين الكفرين فرق أوضحته معاملة النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّ عليه‌السلام والإجماع.

ويدل عليه تمام الخبر أيضا وهو قوله عليه‌السلام من الكفر (فرّوا وفيه وقعوا).

وأما الاحتجاج بإجماع الصحابة على أن المنافق من أبطن الكفر وأظهر الإسلام فهو مسلّم ، فهل أجمعوا على أن غيره لا يسمّى منافقا والمعلوم أنه لم يحدث المنع من تسمية مرتكب الكبيرة منافقا إلّا واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ومن تبعهما من وقت المراجعة التي وقعت بينهما وبين الحسن البصري.

وممّا احتجّ به الناصر عليه‌السلام في ذلك من السّنة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أكثر منافقي أمّتي قرّاؤها».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صلّى وصام وحجّ واعتمر وزعم أنه مسلم : من إذا حدّث كذب وإذا ائتمن خان ، وإذا وعد أخلف ، ذئب بالليل وذئب بالنهار» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أربع من كنّ فيه فهو منافق ومن كان فيه خصلة منها ففيه خصلة من النفاق حتى يتوب أو يدعها : من إذا حدّث كذب ، وإذا ائتمن

٢٦٥

خان ، وإذا خاصم فجر ، وإذا عاهد خان» وغير ذلك كثير قد أودعت الشرح قسطا منه وقال «ابن الحاجب : صاحب الشاذة من القراءة كافر» أي كفر جحود لأنه قد أثبت من القرآن ما ليس فيه ونقص ما هو منه.

«قلنا» لا يجوز تكفيره لجواز أن يكون «سمعها خبرا فتوهمها قرآنا» وحينئذ لم يتعمد زيادة في القرآن ولا نقصانا ، والله تعالى يقول : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) (١) «وقول النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان» وما استكرهوا عليه.

ولا يجوز التكفير والتفسيق إلّا بدليل قاطع كما سيأتي إن شاء الله.

«و» لنا أيضا «الإجماع» من الأمّة «على عدم تكفير» عبد الله «بن مسعود وهو من أهل القراءة الشاذة» كما روي أنه قرأ «فصيام ثلاثة أيّام متتابعات».

وكذلك روي عن حفصة أنها قرأت «والصلاة الوسطى صلاة العصر» قالعليه‌السلام : «ومرتكب الكبيرة الغير المخرجة من الملّة» أي ملّة الإسلام «يسمّى فاسقا اتفاقا» بين أهل علم الكلام ، وإنما اختلفوا في تسميته منافقا أو كافرا :

قال «أئمتنا عليهم» «السلام وجمهور المعتزلة و» الحسن «البصري وبعض الخوارج» وهم من يقول : إن كل عمد من المعاصي كفر مطلقا ، ومن يقول : إن فعل المحرم العقلي كفر فيمن فعل محرّما عقليّا فهؤلاء قالوا : «ولا يسمّى» أي مرتكب الكبيرة عمدا والمحرم العقلي «مؤمنا» لما سبق ذكره في فصل الإيمان.

«خلافا لمن مرّ» ذكره في فصل الإيمان من أهل الإرجاء الذين تقدم ذكر أقوالهم بناء على أن الإيمان هو المعرفة والتصديق أو أحدهما والأعمال خارجة عنه ، فالفاسق عندهم مؤمن بإيمانه فاسق بفسقه.

«و» خلافا أيضا «لبعض الخوارج في تارك الواجب» أي الواجبات

__________________

(١) الأحزاب (٥).

٢٦٦

الشرعية وهم الذين يقولون : إن فعل المحرم العقلي كفر لا الشرعي فمن ترك الواجب الشرعي عندهم فهو مؤمن إذ ليس من الإيمان فعلا أو تركا ، ومن فعل المحرم العقلي فليس بمؤمن إذ تركه عندهم من الإيمان ، وهذا قول النجدات منهم.

ولعل هذا مراده عليه‌السلام بقوله «لا فاعل أي كبيرة» أي فاعل أي محرم عقلي فإنه لا يسمّى مؤمنا كما مرّ ذكره ، وهذا هو الذي رواه عنهم الإمام المهدي عليه‌السلام والنجري وغيرهما وظاهر كلام الإمام عليه‌السلام في قوله : تارك الواجب أي واجب عقليا كان أو شرعيا ، وقوله : لا فاعل أي كبيرة على الإطلاق أيضا ولم أقف على ذلك لهم ، ولعله عليه‌السلام قد وقف عليه لأن لهم أقوالا كثيرة ضعيفة باطلة نتجت بالخرص والتوهم ووسواس الشيطان.

«لنا ما مرّ» في فصل الإيمان من الحجج الواضحة في معنى الإيمان وعدم الفرق بين الواجب العقلي والشرعي ، وبين الترك المحرم والفعل المحرم.

قال عبد الله «بن العباس و» جعفر «الصادق والقاسم والهادي والناصر» الأطروش «و» الإمام «أحمد بن سليمان عليهم‌السلام وقد روي أنه إجماع قدماء العترة عليهم» «السلام والشيعة ويسمّى» مرتكب الكبيرة عمدا الغير المخرجة من الملّة «كافر نعمة» لأنّ الطاعات شكر لله تعالى فمن تركها أو بعضها فقد كفر نعمة الله «خلافا للجمهور» من المعتزلة وغيرهم فإنهم قالوا : لا يسمّى كافر نعمة لأن الطاعات عندهم ليست شكرا والفسق لا ينافي الشكر عندهم.

«قلنا» في الردّ عليهم «هو» أي الكفر «معناه» أي معنى مرتكب الكبيرة أي ارتكاب الكبيرة كفر «عرفا» أي في عرف أهل اللغة لأن الكفر في اللغة الإخلال بالشكر كما سبق ذكره ، ومرتكب الكبيرة مخل بالشكر.

«لأن الطاعات شكر لله» في مقابلة الملك والنعمة «كما مرّ» في كتاب النبوءات.

٢٦٧

ولقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (١) وَمَنْ كَفَرَ «أي من ترك الحج» (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) «فسمّى ترك الحج كفرا».

وكذلك قوله تعالى : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٢).

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) (٣).

وقوله تعالى : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ..) (٤) إلى قوله (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) وغير ذلك كثير.

وروى الناصر عليه‌السلام بإسناده عن مبارك عن الحسن قال قال رجل : يا رسول الله : أأحج كل عام؟

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما قمتم بها ، ولو تركتموها كفرتم».

وروى أيضا بإسناده عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أيّما رجل كفّر رجلا فأحدهما كافر».

وروى أيضا بإسناده عن عليّ عليه‌السلام قال (المكر غدر والغدر كفر).

وروى أيضا بإسناده عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه‌السلام قال : قال له رجل : يا أمير المؤمنين : أرأيت قومنا أمشركون هم؟ يعني أهل القبلة؟

قال : (لا ولو كانوا مشركين ما حلّت لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا مواريثهم ولا المقام بين أظهرهم ولا جرت الحدود عليهم ، ولكنهم كفروا

__________________

(١) آل عمران (٩٧).

(٢) التوبة (٤٩).

(٣) النساء (٣٧).

(٤) المجادلة (٢ ـ ٤).

٢٦٨

بالأحكام وكفروا بالنعم والأعمال وكفر النعم غير كفر الشرك).

قال (١) الحسن بن علي عليهما‌السلام : (يعني شرك العدل بالله لا شرك الطاعة للشيطان مع الله) انتهى.

وقد ذكر الناصر عليه‌السلام في كتاب البساط حججا كثيرة من القرآن والسّنة ، قال : ولن تجد المعتزلة آية من كتاب الله تعالى تدل على أن الفاسق لا يجري عليه اسم الكفر.

«وقد ثبت النص» «من الشارع «على إطلاقه» أي اسم الكفر «على الإخلال بالشكر» كما «قال تعالى» : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٢).

فعلّق الكفر بالنعم وصرّح بأن الإخلال بالشكر كفر.

«ولأنّ الفسق هو الخروج من الحد» في عصيان أهل الكفر «عرفا» أي في عرف اللغة كما مرّ «فإذا جاز إطلاقه» أي الفسق مع كونه أعظم في الذمّ لبعض الكفار من بعض «على فعل الكبيرة» مع عدم جحد صاحبها «فبالحريّ» أي فبالأولى أن يجوز إطلاق «ما هو دونه» على فعل الكبيرة أي دون الفسق «وهو الكفر عرفا» أي الكفر في عرف اللغة وهو الإخلال بالشكر فثبت بذلك أن مرتكب الكبيرة يسمّى فاسقا وكافر نعمة.

(تنبيه)

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : والإمام اسم لمن لا درجة فوقه في التعظيم من الآدميين غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمن اسم لمن هو دونه في الدرجة ، والكافر اسم لمن يستحق أعظم أنواع العقاب.

قال النجري : وفيه تسامح مخل لأنه لا يشمل من الكفار إلّا أشدهم

__________________

(١) (ض) قال الناصر الحسن بن علي الأطروش.

(٢) النحل (١١٢).

٢٦٩

عذابا كآل فرعون ، وأيضا : فإنه لا يعرف كون المكلف يستحق أعظم أنواع العقاب إلّا بعد المعرفة بأنه كافر ، فتعريف الكافر باستحقاق أعظم أنواع العقاب دور.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : والفاسق دونه أي دون الكافر في العقاب.

قال النجري : المشهور من كلام أصحابنا وأكثر المعتزلة : أن عقاب أدنى كفر أكثر من عقاب أعظم فسق ، فعقاب من استحلّ كبيرة ولم يفعلها قط أعظم من عقاب من استمرّ على ارتكابها طول عمره ولم يستحلّها قط ، واستدلّوا على ذلك : بأنه قد ثبت أن للكافر أحكاما غليظة إذ تستباح بسببه الأرواح والأموال وينفسخ به النكاح ونحو ذلك.

ولم يثبت للفسق (١) هذه الأحكام ، وهو دليل على أن عقابه دون عقاب الكفر قال واعترض هذا بعض المتأخرين بأن هذه الأحكام إنما شرعت كونها مصالح ولا تدل على كثرة عقاب ولا قلته يوضحه أنا نقطع باستحقاق الفاسق ما هو أعظم من أخذ الروح والمال وجميع تلك الأحكام وهو نار جهنم وحينئذ فيجوز فيمن قتل النفوس وقطع السبيل وظلم الأيتام وبالغ في ارتكاب الفواحش وإن لم يأت بخصلة كفرية أن يكون عقابه كعقاب من تكلم بكلمة الكفر أو سجد لغير الله مع علمه بأنه لا يستحق السجود إلّا الله تعالى. انتهى.

ومثله ذكر الإمام يحيى عليه‌السلام في الشامل.

قلت : قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) (٢).

وقوله تعالى في نبيئنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) (٣) كما مرّ يدل على أن عذاب المتلبس

__________________

(١) (ض) الفاسق تمت.

(٢) الأحزاب (٣٠).

(٣) الإسراء (٧٥).

٢٧٠

بالإسلام العارف للشرائع والمقرّ بها وهو مع ذلك يتجارى على الله سبحانه بالفواحش أعظم من عقاب الكافر الجاحد بالله لأنه حينئذ كالمستهزئ بالله والمقابل لما فضله الله به وأنعم عليه من فضيلة العلم ومعرفة الشرائع بالكفر لها والعصيان وقد قال الله تعالى في المنافقين : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (١) والله أعلم.

ويؤيّد ذلك : ما رواه أبو طالب عليه‌السلام في أماليه بإسناده عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «والذي نفس محمد بيده للزّبانيّة من الملائكة أسرع إلى فسقة حملة القرآن منهم إلى عبدة النيران والأوثان ، فيقولون : يا رب : بدئ بنا سورع إلينا يا رب ، فيقول الرب تبارك وتعالى : ليس من يعلم كمن لا يعلم».

(فصل)

«ولا إكفار ولا تفسيق إلّا بدليل سمعيّ».

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : واعلم : أن معرفة مسائل الإكفار والتفسيق واجبة على كل مسلم لأن الشرع ورد بأحكام تعبّدنا بها في حق المؤمن والكافر والفاسق تتعلّق بالموالاة والمعاداة والتناكح والكفاءة والتوارث ونحوه ، فتجب على كل مكلف ملتزم بالشريعة معرفة تلك الأمور ليمكنه تأدية ما كلّف من الأحكام المتفرعة عليها ، قال : ولا يقال : إنما لزم المكلف إجراء أحكامهم بشرط معرفتهم ومهما لم يعرفهم لا تلزمه أحكامهم.

وتحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب لأنا نقول : إنه سبحانه قد عرّفنا أنّ في أفعالنا ما هو طاعة وما هو معصية ، وفي المعصية ما هو كفر وما هو فسق ، وأنّ لكل واحد منهما أحكاما يجب علينا العمل بها ، وقد عرّفنا وقوع الطاعات والمعاصي من العباد ومكّننا من تمييز بعضها من بعض ، وأمرنا في المطيع بأحكام وفي العاصي بأحكام أمرا مطلقا من غير

__________________

(١) النساء (١٤٥).

٢٧١

شرط ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ)(١).

وقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (٢).

وقوله في قصة إبراهيم عليه‌السلام : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) (٣).

وقد أمرنا بالتأسي بإبراهيم صلّى الله عليه والذين معه فوجب علينا معرفة ما (٤) هو المؤمن لنتبع سبيله ، وما يصير به المكلف عدوّا لنتبرأ منه ونحو ذلك ، وإلّا لم نأمن من موالاة عدوّ الله والتبري من وليّ الله ، وكذلك حيث علمنا وقوع معصية من عبد فيجب علينا النظر في شأنها هل توجب الفسق أو الكفر أو لا ، ليمكننا إجراء حكمها على صاحبها فوجب معرفة ذلك لأجل الأمر المطلق. انتهى.

قلت : ومراده عليه‌السلام : حيث احتاج المكلف إلى معاملة الكافر أو الفاسق لما سيجيء إن شاء الله تعالى ، وأما إذا لم يحتج إلى ذلك فوجوب معرفة ذلك تختص العلماء والأئمة والله أعلم.

واعلم : أنه لا يجوز الإكفار ولا التفسيق أي الحكم بارتكاب الكبيرة الموجبة للخلود في النار إلّا بدليل سمعيّ «لأنّ تعريف معصيتهما» أي كونها موجبة للكفر أو الفسق «لم تثبت إلّا بالسمع إجماعا» من (٥) الأمّة إذ لا يهتدي العقل إلى التمييز بين عصيان وعصيان ومعرفة مقدار العقاب على كل معصية بعينها «قطعيّ» أي دليل مفيد للعلم قطعا «لاستلزامهما» أي التكفير والتفسيق «الذمّ والمعاداة» لصاحبهما لكونه عدوّا لله «والقطع بتخليد صاحبهما في النار ، إذا لم يتب «وجميع ذلك» أي الذمّ والمعاداة والقطع بتخليد صاحبهما في النار «لا يجوز إلّا بقاطع إجماعا» بين المسلمين.

__________________

(١) الممتحنة (١).

(٢) المائدة (٥١).

(٣) التوبة (١١٤).

(٤) (ض) من هو.

(٥) (ض) بين الأمّة.

٢٧٢

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلّا الله فإذا قالوها حقنوا دماءهم وأموالهم إلّا بحقّها وحسابهم على الله».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها».

وهذه أدلة معلومة ، ولا يجوز الانتقال عن المعلوم من الأصول إلّا بقاطع وإلّا كان تركا للمعلوم إلى مظنون وهو لا يجوز ، ولهذا لا يجوز نسخ المعلوم بالمظنون.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وجملة الأمر أنّ الطريق السّمعي ليس إلّا أحد ثلاثة أشياء:

إمّا نصّا جليّا متواترا كقوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (١).

أو في حكم النص وهو الذي علم من دينه ضرورة كما علم من دينه أن تكذيبه كفر ونحو ذلك.

وإمّا إجماعا معلوما وإمّا قياسا قطعيّا معلوما أصله وفرعه وعلته بدليل قاطع أو ضرورة.

(فالأول) وهو النص الجلي : متفق على جواز التكفير به.

والآخران : مختلف فيهما.

أما الإجماع : فالخلاف فيه لمن جعل الدليل على كونه حجة ظنيّا لا قطعيّا وكذلك إجماع العترة عليهم‌السلام وخبر المعصوم.

وأما القياس والاعتبار فنوعان :

أحدهما : يصحّ الاستدلال به على الإكفار والتفسيق بلا خلاف وذلك حيث علمنا ذنبين أحدهما أعظم من الآخر وعلمنا أن الأصغر كفر فإنا نعلم أن الأعظم كذلك ، وهذه هي دلالة الفحوى ، وكذلك حيث علمنا بدلالة

__________________

(١) المائدة (٧٣).

٢٧٣

سمعية في ذنبين أنهما مستويان في العقاب وعلمنا أن أحدهما كفر فإنّا نعلم أن الآخر كفر ، فهذا النوع لا خلاف في صحة الإكفار به.

والنوع الثاني : مختلف فيه وذلك حيث نعلم في ذنب أنه كفر أو فسق بدليل سمعي ثم نستنبط العلة الموجبة كونه كفرا أو فسقا استنباطا لا بنصّ ولا إجماع ثم نعمد إلى ذنب آخر لا نعلم (١) قدر عقابه فنلحقه بذلك الذنب لحصول العلة.

مثاله : ما يقوله من كفّر (٢) المجبرة من أنا قد علمنا يقينا أنه (٣) من وصف الله سبحانه بأنه ظالم فقد كفر وأجمعت الأمّة على كفره ، ثم نظرنا في علة كفره بطريقة السّبر فلم نجد له علة إلّا كونه أضاف وجود الظلم إليه فقسنا عليه من وصفه بكونه موجدا للظلم لحصول تلك العلة ، ولذلك أمثلة كثيرة ، هذا أجلاها.

وقد اختلف العلماء في صحة الاستدلال به على الإكفار والتفسيق فالذي عليه أكثر الشيوخ كأبي علي وأبي هاشم والقاضي وغيرهم وأكثر فقهاء أهل البيت عليهم‌السلام : أنه يصحّ الاستدلال بهذه الطريقة على الإكفار والتفسيق.

والذين امتنعوا من الإكفار لأهل القبلة منعوا من ذلك. انتهى.

واعلم : أن الأسباب الموجبة للكفر أربعة :

الأول منها : أفعال القلوب وهي تشمل الاعتقاد والعزم كأن يعتقد نفي الصانع أو أنّ معه ثانيا أو أنه غير قادر أو غير عالم أو محدث أو يشبه المحدث أو نحو ذلك ، أو يعتقد كذب الرسل فيما جاءوا به ، أو يعتقد أن لا بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار أو نحو ذلك ، أو يعزم على ذلك.

الثاني : أفعال الجوارح كعبادة الأصنام وقتل الأنبياء والاستخفاف بهم ونحو ذلك.

__________________

(١) (ض) يعلم.

(٢) (ب) ما نقوله من كفر المجبرة.

(٣) (ب) أن من وصف الله.

٢٧٤

الثالث : الأقوال كإظهار كلمة الكفر بأن ينطق بأن الله ثالث ثلاثة أو يسبّ الله أو يسبّ الأنبياء أو نحو ذلك.

الرابع : ما هو من قبيل الترك كأن لا يعرف الله أو لا يقرّ بلسانه أو لا يهاجر من دار الكفر حيث لا عذر أو نحو ذلك.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : وقالت الكرامية : لا كفر بفعل القلب حتى ينضم إليه غيره من قول كتكذيب النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو فعل كالسجود لغير الله.

وحجتهم : قول النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأسامة «هلّا شققت على قلبه».

قلنا : الإجماع على أن الجهل بالله كفر ، والجهل بالله تعالى من أفعال القلوب.

قال : وقالت الأشعرية : إنما يقع الكفر بفعل القلب لا بأفعال الجوارح. وقالوا الكفر هو التكذيب النفسي كما أنّ الإيمان عندهم هو التصديق النفسي واحتجوا بقوله تعالى : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) قلنا عبادة الصنم كفر وليست من فعل القلب لا يقال إنّ العبادة لم تكن كفرا إلّا لكشفها عن اعتقاد إلاهيته لأنا نقول بل هي كفر وإن لم يعتقد إلاهيته إذ هو في حكم التكذيب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستخفاف بنهيه عنه وأيضا الاستخفاف بالنبي والقرآن كفر نحو السب والضرب وتحريق المصاحف تهاونا وذلك من أفعال الجوارح قال عليه‌السلام وقيل لا يقع كفر إلا بالقول دون أفعال القلوب وأفعال الجوارح.

قال : ولا يصحّ هذا القول إلّا للكرامية لأنهم يقولون إنّما الإيمان القول كما سبق.

قال : وقيل : القول لا يدخله كفر وإنّما هو يكشف عن الكفر.

قال : والقائل بهذا : أبو هاشم حيث قال : إنّ إظهار كلمة الكفر ليست كفرا حتى ينضم إليها اعتقاد بدليل : أن المكره يجوز أن ينطق بكلمة الكفر.

٢٧٥

قال عليه‌السلام : قلنا : المعلوم أن إظهار كلمة الكفر كفر إذ من أظهرها أجرينا عليه أحكام الكفر وإن لم نطلع على حقيقته.

قال : والكفر ينقسم إلى ضربين :

مجمع عليه : وهو ما كان كفر تصريح على جهة التمرّد والمعاندة فهذا لا خلاف فيه بين المسلمين.

ومختلف فيه : وهو ضربان :

أحدهما : ما هو من (١) كفر التصريح ولكن صدر من صاحبه لا على جهة التمرّد والمعاندة بل مع اجتهاد (٢) في معرفة الحق ، فأكثر الأمّة على أنه كفر كالأول من غير فرق.

وعن الجاحظ والعنبري : أنه لا عقاب على أهل هذا الضرب وأنهم معذورون.

الضرب الثاني : كفر التأويل وفيه خلاف شديد.

قال : فإن قلت : ما الفرق بين كفر التصريح وكفر التأويل؟

قال عليه‌السلام : كفر التصريح : هو ارتكاب شيء ممّا يوجب الكفر بعينه.

وكفر التأويل هو ارتكاب ما يماثل شيئا من تلك الأمور مع مناكرة المرتكب له في المماثلة بينهما لشبهة يدّعي اقتضاؤها ذلك.

قال : ولنذكر له مثالين فهما كافيان :

الأول : قول المجسمة : إن الله تعالى جسم ذو أعضاء فإن المعلوم ضرورة من دين النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الله لا يشبه خلقه وأنه دان بذلك.

فلو قال المجسم : إنه سبحانه شبيه بخلقه كان بذلك كافر تصريح لأنه قد كذّب النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أثبت ما نفاه لكنه زعم أن قوله : إن الله جسم ذو أعضاء وجوارح ليس من التشبيه الذي جاء

__________________

(١) (ض) ما كان.

(٢) (ض) اجتهاد ونظر.

٢٧٦

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفيه ، وأن الرسول إنما حرم تشبيه الله تعالى بعباده في صفات النقص من الحدوث وتوابعه من الموت والتألّم ونحوها وذلك لشبهة وهي الظواهر التي في القرآن والسّنّة فهذا كافر التأويل لأنه لم يثبت لله تعالى من الوصف عين ما جاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفيه فيكون مكذّبا.

وإنّما أثبت مثل ما نفاه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزعم أنه غير مثل له.

المثال الثاني : قول المجبرة : إنه تعالى فاعل الظلم والكذب والعبث فإن المعلوم ضرورة من دين النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه ظالم أو كاذب أو عابث وأنّ من وصفه بذلك أو اعتقده فيه فقد كفر وهؤلاء القوم لم يصفوه بذلك ولا اعتقدوه فيه لكنهم وصفوه واعتقدوا فيه أنه فاعل الظلم والكذب والعبث وأنكروا كون الوصف بأنه فاعل ذلك مماثلا للوصف بأنه ظالم وكاذب وعابث لشبهة اقتضت عندهم اختلاف الوصفين وامتناع مماثلتهما فهذان المثالان كافيان في تمييز كفر التأويل من كفر التصريح انتهى.

قلت : وسيأتي ذكر الخلاف في كفر التأويل إن شاء الله تعالى.

واعلم : أن أهل كفر التصريح خمسة أصناف بعد بطلان قول الجاحظ والعنبري :

الأول : المعطّلة والدهرية والفلاسفة ومنكرو الحقائق من أهل السفسطة.

والثاني : الملاحدة من الثنوية والمجوس والصابئة ومنهم الباطنية.

الثالث : عبدة الأصنام والأوثان والنجوم والأفلاك والنيّرات والجمادات والحيوانات.

الرابع : المنكرون للنبوءات كالبراهمة والقائلون بالتناسخ.

الخامس : الكفار من أهل الكتب المنزلة كاليهود والنصارى وهم معظم الفرق الخارجة عن الإسلام.

٢٧٧

هكذا ذكره الإمام يحيى عليه‌السلام ، قال : ويندرج تحتهم من الفرق والطوائف خلق كثير.

قال : وأما الضرب الثاني وهم أهل التأويل وهم سبعة أصناف :

المطرفية ، والمشبهة ، والمجبرة ، والروافض ، والخوارج ، والمرجئة ، والمقلدة على اختلافهم في كفرهم. انتهى.

قلت : ولم يذكر الإمام عليه‌السلام الضرب الأول وهو المتفق عليه لوضوحه وأشار إلى الضرب الثاني بقوله :

قالت «العترة عليهم» «السلام وصفوة الشيعة وجمهور المعتزلة وغيرهم : ومن شبّه الله تعالى بخلقه» كهشام بن الحكم والجوالقي والحنابلة حيث جعلوه تعالى جسما.

وكذلك من جعله تعالى ذا مكان كالكراميّة والكلابية ونحوهم ، «أو» من «نسب عصيان العباد إليه تعالى» كالمجبرة الذين زعموا أن المعاصي بقضاء الله وقدره بمعنى خلقها وحتمها فمن اعتقد ذلك أو نطق به غير مكره : «كفر لعدم معرفته بالله تعالى ، ولسبّه جلّ وعلا و» قد انعقد «الإجماع» من الأمّة «على كفر من جهل بالله تعالى أو سبّه»(١).

فالمشبّهة جهلت بالله تعالى لأنها لا تعرف إلّا إلها جسما ، والمجبرة : سبّته تعالى بأن نسبت الظلم إليه جلّ وعلا.

«و» في «قديم قولي المؤيد بالله عليه‌السلام» والإمام يحيى عليه‌السلام «و» قول محمد «بن شبيب» من المعتزلة «والملاحميّة» أتباع محمود بن الملاحمي من المعتزلة فهؤلاء قالوا : «المجبرة عصاة وليسوا بكفار».

وقال الإمام يحيى عليه‌السلام : لا قطع بكفر المجبر (٢) والمشبّه إلّا

__________________

(١) أو شبّهه.

(٢) (ض) المجبرة والمشبهة.

٢٧٨

من حقق التجسيم بالأعضاء والجوارح فلا يبعد كفره ، حكاه عنه الإمام المهدي عليه‌السلام في الغايات.

قال النجري : واعلم : أنه لم ينقل عن أحد من أهل البيت عليهم‌السلام ولا من المعتزلة الخلاف في كفر المشبهة ، وأما المجبرة : فقال جمهور المعتزلة البصريين والبغداديين وأكثر أهل البيت عليهم‌السلام ، وبه صرّح الهادي والقاسم والناصر وأبو طالب والمنصور بالله : أنهم كفار.

وحكى الإمام أبو عبد الله الدّاعي عليه‌السلام : إجماع أهل البيت عليهم‌السلام على ذلك.

وروى صاحب شرح الأبيات الفخرية : أن الإمام محمد بن المطهر روى عن السيد الإمام الناصر للحق الحسين بن محمد عليه‌السلام : أنه صحّح عن المؤيّد بالله عليه‌السلام : القول بتكفير المجبرة ، ونفى هذه الرواية عنه وقال : إنه غلط عليه‌السلام.

«لنا» من الحجة عليهم «ما مرّ» من أنهم جهلوا بالله وسبّوه.

وأيضا : المجبرة جهلوا بالله تعالى المتعالي عن ظلم العباد لأنهم لا يعرفون إلّا ربّا أمر بالظلم وفعله وقدّره وخلقه.

«و» لنا أيضا قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (١) وهذا نص في تسميتهم كافرين.

«فقد افترت المجبرة على الله تعالى الكذب حيث نسبت عصيان العباد إليه» ونزّهت أنفسها والشيطان عن ذلك.

«وكذبت هي والمشبهة بالصدق لأنّ الله تعالى يقول» : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (٢) «والمجبرة تقول : بل رضيه» وإلّا لم يقع في ملكه إذ لو وقع

__________________

(١) الزّمر (٣٢).

(٢) الزمر (٧).

٢٧٩

في ملكه ما لا يرضاه لما كان إلّا للعجز منه جلّ وعلا وقد تقدم الردّ عليهم.

«وبقوله تعالى» : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١).

«والمجسمة تقول : بل هو كالأجسام فسمّاهم الله تعالى» أي المشبهة والمجبرة «في آخر الآية : كافرين» حيث قال «أليس في جهنم مثوى للكافرين».

والمعنى : أليس في جهنم مثوى لهم.

«و» لنا أيضا «الإجماع» المعلوم من المسلمين «على أن من ردّ آية» من كتاب الله «فهو كافر» لردّه ما علم ثبوته من الدين ضرورة.

ولا شك أن المجبرة والمشبهة ردّوا كثيرا من الآيات المحكمة.

وما قيل : من أنهم لم يرتكبوا الشيء الذي هو كفر بعينه ، وإنّما ارتكبوا مثله وأنكروا المماثلة بخلاف عبّاد النجوم والأصنام ونحوهم ، ممّا لا يصلح أن يكون فارقا :

أمّا أوّلا : فنقول : إن الذي دانت به المجسمة من أن الله تعالى جسم ذو أعضاء (تعالى الله عن ذلك) هو عين ما جاء النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفيه لا مثله لأنّ الله سبحانه قال (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فعمّ نفي المشابهة في أي شيء من الأشياء.

وأمّا ثانيا : فلأنه لا فرق بأن يكون ذلك عين ما جاء النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفيه أو مثله لأن العلّة في كفرهم هي جهلهم بالله تعالى ونسبة صفة النقص إليه جلّ وعلا وسبّهم له وردّهم آيات القرآن المحكمة مع وضوح الدلالة.

وإنكارهم للمماثلة إنكار للضرورة فلا يسمع والله أعلم.

وأيضا : فإنا نقول للخصم : ألست تسلّم أن من استحلّ الخمر أو سبّ النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كفر وإن كان مقرّا بالنبي صلّى

__________________

(١) الشورى (١١).

٢٨٠