عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي

عدّة الأكياس في شرح معاني الأساس - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمّد بن صلاح الشرفي القاسمي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الحكمة اليمانية للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٨٧
الجزء ١ الجزء ٢

آمَنُوا ... إلى آخرها) عليّ صلوات الله عليه لوقوع التواتر بذلك من المفسرين وأهل التواريخ وإطباق العترة» عليهم‌السلام «وشيعتهم على ذلك».

قال الإمام الناطق بالحق أبو طالب عليه‌السلام في كتابه زيادات شرح الأصول ما لفظه : ومنها النقل المتواتر القاطع للعذر أنّ الآية نزلت في أمير المؤمنين علي عليه‌السلام :

وفي محاسن الأزهار للفقيه حميد رحمه‌الله بإسناده قال قال عمر بن الخطاب : أخرجت مالي صدقة يتصدق بها عنّي وأنا راكع أربعا وعشرين مرة على أن ينزل فيّ مثل ما نزل في عليّ فما نزل.

واعلم : أن نزول هذه الآية في علي عليه‌السلام معلوم تواتره مشهور بين العترة عليهم‌السلام.

وقد حكى إجماع العترة على ذلك أبو القاسم البستي رحمه‌الله وغيره وذكر الحاكم أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد الحسكاني النيسابوري في كتابه (شواهد التنزيل لقواعد التفضيل) طرق الرواية في ذلك عن ابن عباس بروايات وعن أنس كذلك وعن محمد بن الحنفية كذلك وعن عطاء بن السائب وعن عبد الملك بن جريج المكي وعن أبي جعفر الباقر وعن عمّار بن ياسر وعن جابر بن عبد الله الأنصاري وعن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وعن المقداد بن الأسود.

قال : أي المقداد : كنّا جلوسا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ جاء أعرابي بدوي متنكّبا على قوسه (١) وقيل : على فرسه حتى ساق الحديث بطوله حتى قال : وعلي بن أبي طالب عليه‌السلام يصلي في وسط المسجد ركعات بين الظهر والعصر فناوله خاتمه ، فقال النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«وجبت الغرفات» فأنشأ الأعرابي يقول :

__________________

(١) (ض) على فرسه.

١٤١

يا أول المؤمنين كلهم

وسيد الأوصياء من آدم

قد فزت بالنّيل يا أبا حسن

إذ جادت الكفّ منك بالخاتم

فالجود فرع وأنت مغرسه

وأنتم سادة لذا العالم

فعندها هبط جبريل بالآية (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ...) الآية.

وعن أبي ذر الغفاري وفي روايته قال : بينما عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أقبل رجل متعمم (١) بعمامة فجعل ابن عباس لا يقول قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا قال الرجل : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال ابن عباس : سألتك بالله من أنت؟ فكشف العمامة عن وجهه فقال : يا أيّها الناس : من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذرّ الغفاريّ سمعت النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتين وإلّا فصمّتا ورأيته بهاتين وإلّا فعميتا وهو يقول : «عليّ قائد البررة وقاتل الكفرة منصور من نصره مخذول من خذله».

أمّا إني صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهمّ اشهد أني سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعطني أحد شيئا وعليّ كان راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا فرغ النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلاته رفع رأسه إلى السماء وقال : «اللهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال : ربّ اشرح لي صدري ويسّر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري ، فأنزلت عليه قرآنا ناطقا (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) (٢).

اللهم وأنا محمد نبيئك وصفيك اللهم فاشرح لي صدري ويسّر لي

__________________

(١) (ب) ملتثم.

(٢) القصص (٣٥).

١٤٢

أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليّا أخي أشدد به أزري».

قال أبو ذر : فو الله ما استتمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلام حتى هبط جبريل عليه‌السلام من عند الله وقال : يا محمد هنيئا ما وهب الله لك من (١) أخيك ، قال «وما ذاك يا جبريل؟ قال : أمر الله أمّتك بموالاته إلى يوم القيامة وأنزل عليك قرآنا (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (٢).

ثم ذكر الحاكم روايات أخر في هذا المعنى إلى أن قال :

قال أبو مؤمن : لا خلاف بين المفسرين أن هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين عليعليه‌السلام.

«وورد» الخطاب في قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) «بلفظ الجمع من باب إطلاق العام على الخاص» لأنّ المراد به عليّ عليه‌السلام وذلك جائز كما سبق تقريره.

«ونظيره» قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله)(٣) .. الآية فإنه قد أطلق لفظ العام فيها على الخاص «و» ذلك «لأنّ المعنيّ بها عبد الله بن أبي وحده» لأنه الذي قال ذلك دون غيره «لنقل المفسرين ذلك» أي كونه المقصود بها وحده [دون غيره] ، ذكر ذلك في الكشاف وغيره.

ومثله قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (٤).

فالمراد بالناس في الأول نعيم بن مسعود الأشجعي فقط لأنه هو الذي قال ذلك ذكره في الكشاف.

__________________

(١) (ض) في أخيك.

(٢) المائدة (٥٥).

(٣) المنافقون (٧).

(٤) آل عمران (١٧٣).

١٤٣

وقيل : المراد بالناس عبد القيس.

«وكلمة ولي» في الآية الكريمة «مشتركة بين معان» :

منها : الوليّ نقيض العدو.

ومنها : الوليّ بمعنى الناصر والحفيظ قال تعالى : (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ) (١) أي ناصري وحافظي.

ومنها : الوليّ بمعنى مالك التصرّف وهو كل من إليه الولاية في كل شيء أي الرئيس الذي يلي التصرّف ، وعلى هذا ورد قوله تعالى : (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) (٢).

ومنها : الوليّ بمعنى الأولى.

ومنها : الوليّ بمعنى المطر الذي يعقب الوسميّ لأنه يليه.

«فيجب حملها» أي كلمة وليّ «على جميع معانيها الغير الممتنعة» فيكون المراد بها هنا (٣) هذه المعاني كلها ما خلا المطر وذلك «على قاعدة أئمتنا عليهم» «السلام والجمهور من غيرهم» في أن المشترك يحمل على جميع معانيه إن لم تصرف عن بعضها قرينة قال القرشي في المنهاج : الظاهر من كلام أهل البيت عليهم‌السلام وهو قول أبي علي والقاضي والشافعي والباقلاني : أنه يصحّ من حيث القصد ومن حيث اللغة أن يريد الحكيم باللفظ المشترك كلا معنييه إذا تجرّد عن القرينة.

وعند أبي الحسين والرازي يجوز من حيث القصد لا من حيث اللغة.

وعند أبي هاشم وأبي عبد الله والكرخي : لا يجوز لا من حيث القصد ولا من حيث اللغة.

قال : لنا أمّا من حيث القصد : فهو أن قصد المعنيين أو المعاني مقدور كما أن اللفظ مقدور وكما يجوز (٤) إرادتهما قبل ورود اللفظ يجوز

__________________

(١) الأعراف (١٩٦).

(٢) الأنفال (٣٤).

(٣) (أ) هاهنا.

(٤) (ض) تجوز.

١٤٤

حال وروده ولا يمنع من ذلك إلّا العلم بالتضاد أو ما يجري مجراه.

وأما من حيث اللغة : فهو أن تجرد اللفظ عن القرينة يوجب حمله على كل معانيه.

وبعد : فأما أن لا يحمل على واحد منها فذلك يخرجه عن الإفادة ، وأما أن يحمل على بعضها ولا مخصّص.

وأما أن يحمل على كلها وهو المطلوب. انتهى [كلام القرشي].

«وبدليل قوله تعالى» : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) (١) «وهي» أي الصلاة «من الله سبحانه معظم الرحمة ومن الملائكة عليهم‌السلام الدعاء والاستغفار» فأطلق سبحانه لفظ الصلاة وأراد بها المعنيين وهما : معظم الرحمة ، والدعاء والاستغفار من الملائكة.

قلت : الأولى أن يحمل هذا على الحذف ويكون الضمير في (يصلّون) عائد إلى الملائكة صلوات الله عليهم فقط لما تقدم من أنه لا يجوز أن يقصد جلّ وعلا مع غيره بالضمير تعظيما له تعالى كما في قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (٢) ولم يجز أن يقال يرضوهما لما مرّ في كتاب التوحيد.

لكن استعمال الاسم المشترك في جميع معانيه شائع لمثل ما ذكره القرشي. ولأن القائم إذا قال لزوجته : أنت طالق إذا رأيت لونا ، طلقت إذا رأت أيّ لون.

«و» ذلك كما في الاسم العام فإنّه قد ثبت «تناول لفظ شيء» في قوله تعالى: (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ ...) الآية (٣) «كل ما يسمّى شيئا على اختلاف الماهيّات» فكما جاز في الاسم العام أن يراد به جميع الأشياء المختلفة جاز ذلك في المشترك إذ لا فرق ، ويدل على ذلك أيضا : «صحة الاستخدام» في لغة العرب ، وهو ممّا يزيد الكلام حسنا وملاحة.

__________________

(١) الأحزاب (٥٦).

(٢) التوبة (٦٢).

(٣) النساء (٥٩).

١٤٥

وحقيقته : أن يراد بلفظ له معنيان أحدهما ثم يراد بضميره ، المعنى الآخر أو يكون ضميران لشيء واحد ويراد بأحدهما معنى وبالآخر معنى آخر وسواء كان المعنيان حقيقيين أو مجازيين أو مختلفين :

فالأول : «نحو قول الشاعر :

إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا»

فإنه «أراد بالسماء وهو لفظ واحد المطر والنّبات» الحاصل من المطر «معا وهما معنيان مختلفان» وكلاهما مجاز وذلك «بدليل قوله نزل» والنزول من صفات المطر «و» بدليل «قوله : رعيناه» والمرعيّ إنما هو النبات (١) فقد أراد بلفظ السماء معنيين مختلفين مجازيين.

والثاني : وهو أن يراد بأحد ضميريه أحد المعنيين وبالضمير الآخر معناه الآخر كقوله:

فسقى الغضى والسّاكنية وإن هم

شبّوه بين جوانحي وضلوعي

أراد بأحد ضميري الغضى وهو المجرور في الساكنية المكان الذي فيه شجر الغضى ، وبالآخر أعني المنصوب في شبّوه النّار الحاصلة من شجرة الغضى وكلاهما مجاز. كذا ذكره صاحب المطول.

فعلى هذا قد أطلق لفظ الغضى وأراد به ثلاثة معان مختلفة :

الأول منها : الحقيقية وهو الشجر المعروف الذي هو القرض بدليل سقى.

والثاني : موضعه بدليل والساكنية.

والثالث : النار بدليل شبّوه ، وهما مجازان (٢).

«ومن جملة معاني ولي مالك التصرف» فيفيد معنى الآية : إثبات

__________________

(١) (ض) والمرعى إنما يكون للنبات. (أ) والمرعىّ إنما يكون هو النبات.

(٢) (ش) وهما مجاز وفي (ب) وهما مجازيان انتهى والكل مستقيم.

١٤٦

ولاية أمير المؤمنين علي عليه‌السلام على الأمّة وملك التصرّف عليهم كما ثبت لله ولرسوله ، وهو معنى الإمامة.

وكذلك وجوب مودّته ومناصرته وأنه الأولى بها من غيره.

فإن قيل : لا يصلح (١) أن يراد بالآية المودّ والنّاصر لأنّ لفظ (إنّما) يفيد الحصر فكأنه قال : ما مودكم وناصركم إلّا الله ورسوله وعليّ وذلك يتضمن الكذب لأنّ من المعلوم أن غير عليّ عليه‌السلام مودّ للمؤمنين وناصر لهم فتعين حمل الآية على مالك التصرف أي وليّ أمركم فقط. والجواب والله الموفق : أنه لا يمتنع ذلك ويكون من القصر غير الحقيقي كما يقال : إنما العالم زيد والله أعلم.

«وممّا يدل على إمامته عليه‌السلام من السّنة : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لمّا رجع من حجة الوداع ونزل بالوادي الذي يسمّى خمّا وفيه غدير ماء ينسب إليه : أنزل الله تبارك وتعالى عليه : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (٢).

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مناديه أن ينادي بالتعريس وكان ذلك الوقت غير وقت تعريس لأنه كان في وسط اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، فكسح له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت دوحات هنالك وأمر المنادي أن ينادي بحضور النّاس ، ثم قام على أقتاب جمال قد نصبت له ، فأخذ بيد علي عليه‌السلام حتى رئي بياض إبطيهما ثم خطب فكان ممّا قال : «أيها الناس» «ألست أولى بكم من أنفسكم لا أمر لكم معي؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله».

«وهذا الخبر متواتر مجمع على صحّته» عند المؤالف والمخالف ومن

__________________

(١) (ض) لا يصحّ.

(٢) المائدة (٦٧).

١٤٧

وقف على طرف من علم الحديث علم صحة تواتره.

وقد أورد الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه‌السلام في الشافي في سند هذا الحديث ما يزيد على مائة طريق من صحيح البخاري ومسلم والنسائي وأبي داود وابن حنبل ومناقب ابن المغازلي وتفسير الثعلبي وغير ذلك ممّا يطول ذكره.

ثم رفعه إلى اثني عشر رجلا ممّن سمعه من لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الموقف.

ثم قال عليه‌السلام : وهذا قد تجاوز حد التواتر.

قلت : وفي بعض روايات هذا الخبر ما يدل على أن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاله في غير موطن وهو ما رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده إلى عمّار بن ياسر قال : كنت عند أبي ذرّ في مجلس لابن عباس وعليه فسطاط وهو يحدث الناس إذ قام أبو ذر حتى ضرب بيده إلى عمود الفسطاط ثم قال : أيها الناس : من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته باسمي أنا جندب بن جنادة أبو ذرّ الغفاري : سألتكم بحقّ الله وحقّ رسوله أسمعتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء ذا لهجة أصدق من أبي ذرّ؟ قالوا : اللهمّ نعم».

قال : أفتعلمون : أيها الناس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمعنا يوم غدير خمّ ألفا وثلاثمائة رجل ، وجمعنا يوم سمرات خمس مائة رجل كل ذلك يقول : «اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه فقام عمر فقال : بخّ بخّ [لك] يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة ، فلمّا سمع ذلك معاوية بن أبي سفيان اتكأ على المغيرة بن شعبة وقام وهو يقول : لا نقرّ لعلىّ بولاية ولا نصدّق محمّدا في مقالة فأنزل الله تعالى على نبيئه (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلى لَكَ فَأَوْلى) (١) تهدّدا من الله تعالى وانتهارا؟

__________________

(١) القيامة (٣١ ـ ٣٤).

١٤٨

فقالوا : اللهم نعم. انتهى.

وما رواه بريدة الأسلمي قال : غزوت مع علي رضي الله عنه إلى اليمن فرأيت منه جفوة ، فقدمت فذكرت عليّا فتنقّصته فجعل النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتغير وجهه وقال : «يا بريدة : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت : بلى يا رسول الله.

قال : من كنت مولاه فعليّ مولاه» أخرجه أبو الحسين عبد الوهاب بن الحسن بن الوليد الكلابي رحمه‌الله في مجموعه. وقد أشار إلى هذا الإمام شرف الدين عليه‌السلام بقوله في القصص الحق أول البيت ما لفظه :

من مثل ما كان في حجّ الوداع وفي

يوم الغدير الّذي أضحى يثنّيه

وروى الفقيه حميد الشهيد في محاسن الأزهار بإسناده إلى جعفر بن محمد الصادقعليهما‌السلام أنه سئل عن معنى هذا الخبر فقال جعفر : سئل عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: «الله مولاي أولى بي من نفسي لا أمر لي معه ، وأنا مولى المؤمنين أولى بهم من أنفسهم لا أمر لهم معي ، ومن كنت مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معي فعليّ مولاه أولى به من نفسه لا أمر له معه».

«وبيان الاستدلال به» أي بالخبر «أن كلمة مولى مشتركة بين معان من جملتها : ما لك التصرّف» بل هو الغالب عليها بدليل سبق الفهم إلى ذلك عند قولنا : فلان مولى القوم ومولى الدار ومولى القرية أي سيّدهم ورئيسهم.

ومن جملتها المعتق اسم فاعل والمعتق اسم مفعول وبمعنى المود يقال : هذا مولى فلان أي مودّه ، وبمعنى الناصر ، ومنه قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) (١) أي ناصرهم وبمعنى ابن العمّ ، وبمعنى المحالف قال النابغة الجعدي :

موالي حلف لا موالي قرابة

ولكن قطينا يدفعون الأتاويا

__________________

(١) محمد (١١).

١٤٩

وقال الفرزدق رحمه‌الله :

فلو كان عبد الله مولى هجوته

ولكنّ عبد الله مولى مواليا

أي حليف حلفاء لأنّ عبد الله بن إسحاق مولى الحضرميين وهم حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف. كذا ذكره في الصحاح.

وبمعنى الجار قال الشاعر :

جزى الله خيرا والجزاء بكفّه

كليب بن يربوع وزادهم مجدا

همو خلطونا بالنّفوس وألجموا

إلى نصر مولاهم مسوّمة جردا

أي جارهم.

وبمعنى الأحقّ والأولى قال الله تعالى : (مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) (١) أي أحق بكم وأولى قال لبيد (٢) :

فغدت (٣) كلا الفرجين تحسب أنّه

مولى المخافة خلفها وأمامها

يريد أنه أولى موضع أن يكون فيه الخوف.

وقوله : فعدت تمّ الكلام كأنه قال : فغدت هذه البقرة وقطع الكلام ثم ابتدأ فكأنه قال : تحسب أنّ كلا الفرجين مولى المخافة. كذا ذكره في الصحاح.

فإذا عرفت ذلك : «فهو» أي الخبر المتقدم «مفيد لمعنى الإمامة على قواعد كل مذهب ، أمّا على قاعدة أئمتنا عليهم» «السلام والجمهور» من وجوب حمل المشترك على جميع معانيه «فكما مرّ» ذكره في كلمة (وليّ).

فنقول : المراد بالمولى هنا : مالك التصرّف والمودّ والنّاصر والأولى بالشيء ، ويمتنع أن يراد هنا ابن العمّ أو الجار أو المعتق أو المعتق لاستحالة ذلك عقلا وشرعا.

__________________

(١) الحديد (١٥).

(٢) هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن عامر بن صعصعة العامري الصحابي تمت.

(٣) (ب) فعدت.

١٥٠

«وأمّا على قاعدة غيرهم» أي غير أئمتنا عليهم‌السلام والجمهور «فقد أجمعوا على أن المشترك يحمل على أحد معانيه إن دلّت عليه» أي على ذلك المعنى «قرينة».

«ومعنى الإمامة» هنا «قد دلّت عليه قرينة لفظيّة» وهي «قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» في أوّله «ألست أولى بكم من أنفسكم» فإنه صريح في ملك أمرهم والتصرّف عليهم ، وإذا كان كذلك كان المناسب له أن يكون المراد بلفظ مولى المالك للتصرّف والأولى به إذ لو أريد [به] خلاف ذلك لما تناسب الكلام.

«و» كذلك «قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» «لا أمر لكم معي».

«وقوله في آخره : «وانصر من نصره واخذل من خذله» فإنه قرينة أخرى مؤكّدة لمعنى الإمامة لأنّ النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حثّ على نصرته وحذّر من خذلانه ، وذلك أوضح دليل على أنّ النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد إمامته واستخلافه على أمّته بعده.

وممّا يؤكد ذلك أيضا : القرينة الحالية وهي تعظيم النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للموقف الذي جمع الناس له وأمره للمنادي أن ينادي الصلاة جامعة في غير وقت التعريس في شدّة الحر في موضع شديد الحر ولم يزدهم في ذلك الجمع العظيم والموقف الكبير على الخطبة وإثبات ولاية عليّ عليه‌السلام.

ويؤكده أيضا : ما ظهر وشاع من فهم الجمع الذي حضر في ذلك الموقف لمراد النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معنى الإمامة كما مرّ ذكره عن عمر بن الخطاب.

وقال حسان بن ثابت في ذلك :

يناديهم يوم الغدير نبيئهم

بخمّ وأسمع بالرّسول مناديا

يقول : فمن مولاكم ونبيئكم

فقالوا : ولم يبدوا هناك التّعاميا (١)

__________________

(١) (ب) : تعاميا.

١٥١

إلهك مولانا وأنت نبيئنا

ولن تجدن منّا لامرك عاصيا

فحينئذ نادى عليّا وشاله

بيمناه حتّى صار للقوم باديا

فقال له : قم يا عليّ فإنّني

رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا : اللهمّ والي وليّه

وكن للّذي عادى عليّا معاديا

وقال عمرو بن العاص في شعره المعروف الذي منه :

وفي يوم خمّ رقى منبرا

يقول بأمر العزيز العلي

فمن كنت مولى له سيّدا

عليّ له الآن نعم الولي

وقال : ألا ويلكم فاحفظوه

كحفظي فمدخله مدخلي

ومما قيل في ذلك من بعد الصحابة : قول الكميت بن زيد رحمه‌الله :

ويوم الدوح دوح غدير خمّ

أبان له الولاية لو أطيعا

ولكن الرجال تبايعوها

ولم أر مثلها خطرا مبيعا

وقال السيد الحميري :

أتنهينني عن حبّ آل محمّد

وحبّهم ممّا به أتقرّب

إلى الله عزّ الله جلّ ثناؤه

يزحزحني عن حرّ نار تلهّب

وحبّهم مثل الصّلاة وإنّه

على النّاس من بعد الصّلاة لأوجب

ألم تسمعوا يوم الغدير مقالة

لأحمد عند الدّوح والحقّ ينصب

وممّا يدل على إمامته عليه‌السلام من السّنة أيضا :

«قوله : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ كرّم الله وجهه في الجنّة «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيء بعدي».

«وهذا الخبر متواتر مجمع على صحته» عند المؤالف والمخالف فيه من الكتب المشهورة بالصّحّة عند المخالفين أربعون إسنادا من غير رواية الشيعة وأهل البيت عليهم‌السلام ، ذكره المنصور بالله عليه‌السلام ثم قال : والخبر ممّا علم ضرورة.

وقال الحاكم أبو القاسم الحسكاني رحمه‌الله في هذا الحديث : وهذا

١٥٢

حديث المنزلة الذي كان شيخنا أبو حازم الحافظ يقول : خرّجته بخمسة آلاف إسناد. «وبيان الاستدلال به : أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أثبت له» أي لعليّ عليه‌السلام «جميع ما لهارون» من المنازل الشريفة التي رتّبت (١) له «من موسى» أي بالإضافة إلى منازل موسى الشريفة ولفظ (من) هنا لابتداء الغاية (إلّا النبوّة» فإنه استثناها بقوله «إلّا أنه لا نبيء بعدي».

وفي بعض روايات هذا الخبر «ولو كان لكنته».

ولفظ (منزلة) هنا يقتضي الاستغراق بدليل الاستثناء.

قال السيد أبو طالب عليه‌السلام : والعادة جارية باستعمال مثل هذا الخطاب وإن كان المراد المنازل الكثيرة ، ألا ترى أنهم يقولون : منزلة فلان من الأمير كمنزلة فلان ، وإن أشاروا إلى أحوال مختلفة ومنازل كثيرة ولا يكادون يقولون : منازل فلان من الأمير كمنازل فلان.

«فلو علم» النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «شيئا» ممّا هو لهارون من المنازل «لم يكن له» أي لعلي سلام الله عليه «لأخرجه» كما أخرج النبوءة.

«و» المعلوم أن «من جملة ما لهارون من موسى الخلافة» أي خلافة هارون لموسى في غيبته في القيام بأمر أمّته «بدليل قوله تعالى» (وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي) (٢) أي كن خليفتي فيهم ، ومن جملة ما لهارون من موسى : الأخوّة وقد ثبتت لعلي عليه‌السلام بما علم من الأخبار في ذلك ، وكذلك الوزارة وشدّة الأزر وشدّة المحبة وغير ذلك.

«فإن قيل : لم يعش هارون بعد موسى» عليهما‌السلام «فلم تثبت له الخلافة بعده» أي من بعد موسى عليه‌السلام.

«والجواب والله الموفق : أنه لا خلاف» بين الأمّة «أنه لو عاش هارون عليه‌السلام» بعد موسى عليه‌السلام «لكانت الخلافة له» لما ذكرناه.

__________________

(١) (ب) ثبتت وبعض تثبت.

(٢) الأعراف (١٤٢).

١٥٣

«ولأنه شريك موسى صلوات الله عليهما في أمره» في النبوّة وملك التصرّف على الأمّة «لقوله تعالى حاكيا عن موسى» صلوات الله عليه «وأشركه في أمري».

وقوله تعالى : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) (١).

«وقيام الشريك بحقه» أي بحق نفسه «أولى من قيام غيره» ، أي غير الشريك (به) أي بحق الشريك.

قال القرشي : قال المخالف : إن هذه الأدلة تقتضي أنه عليه‌السلام كان يستحق الولاية في هذه الأمور في حياة النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك باطل.

قال : والجواب : أن جمهور أئمتنا عليهم‌السلام قد خصّوا وقت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإجماع على أنه ليس لأحد تصرف في حياته على الأمّة.

وقال أبو طالب : بل يستحق التصرّف في حياة النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان غائبا على الحدّ الذي يستحقه الخليفة من المستخلف ولكن لا نسميه إماما حينئذ لأنّ فوق يده يدا أخرى ، قال : واتفق الكل من أئمتنا عليهم‌السلام على أن الاستحقاق ثابت من حال حصول الأدلة الدالة على ولايته وإنّما هذا الخلاف المذكور في نفاذ التصرّف.

وممّا يدل على إمامته عليه‌السلام : حديث الوصاية ، وقد صحّ إجماع العترة عليهم‌السلام على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوصى إلى عليّ عليه‌السلام ، وإجماعهم حجة قطعية ، مع أن أخبار الوصاية قد بلغت في الشهرة حدّا يقارب التواتر. ذكر المنصور بالله عليه‌السلام في الشافي ذلك من ست طرق واستدل على ذلك من جهة الشرع : بأن الله تعالى أوجب الوصية وحثّ عليها جميع المسلمين فكيف يجوز أن يخلّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر أوجبه الله على سائر المسلمين ، وإذا ثبتت وصايته عليه

__________________

(١) طه (٣٦).

١٥٤

السلام لم يصحّ أن يكون الإمام غيره مع وجوده.

وقد بسطت الكلام في ذلك في الشرح.

«و» من الأدلة على إمامته عليه‌السلام بعد النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل : «ما تواتر معنى» أي تواتر معناه وإن لم يتواتر لفظه «من الأخبار المصرّحة بالإمامة نحو خبر البساط وخبر العمامة وغيرهما ممّا لا يسعه كتابنا هذا من روايات المؤالف والمخالف».

أما خبر البساط : فهو ما رواه الفقيه حميد الشهيد رحمه‌الله تعالى يرفعه إلى أنس بن مالك قال : أهدي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بساط من خندف فقال : «يا أنس : ابسطه فبسطته ثم قال لي ادع العشرة».

وفي رواية : «ادع الثلاثة : أبا بكر وعمر وعثمان ، فلما دخلوا أمرهم بالجلوس على البساط ثم نادى عليّا فناجاه طويلا ثم رجع عليّ فجلس على البساط ثم قال : يا ريح احملينا فحملتنا الريح ، قال : فإذا البساط يدف بنا دفّا ثم قال : يا ريح ضعينا ثم قال : أتدرون في أي مكان أنتم؟

قلنا : لا ، قال : هذا موضع أصحاب الكهف والرقيم ، قوموا فسلموا على إخوانكم ، قال : فقمنا رجلا رجلا فسلمنا عليهم رجلا رجلا فلم يردّوا علينا ، فقام علي بن أبي طالب فقال : (السلام عليكم معاشر الصديقين والشهداء ، قال : فقالوا : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.

قال : فقلت : ما بالهم ردّوا عليك ولم يردّوا علينا؟

فقال لهم علي : ما بالكم لا تردّون على إخواني؟

فقالوا : إنّا معاشر الصديقين والشهداء لا نكلم بعد الموت إلّا نبيئا أو وصيّا.

ثم قال : يا ريح احملينا فحملتنا تدفّ بنا دفّا ، ثم قال : يا ريح ضعينا فوضعتنا فإذا نحن بالحرة.

قال : فقال علي عليه‌السلام ندرك النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٥٥

في آخر ركعة ، فطوينا (١) وأتينا فإذا النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ في آخر ركعة «أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا».

وأما خبر العمامة : فروى الفقيه حميد الشهيد رحمه‌الله تعالى بإسناده عن عبد الله بن أبي أنيس قال : برز يوم الصوح أسد بن غويلم فاتك العرب يجيل فرسه ويدير رمحه ويقول :

وجرد سعال

وزعف مذال

وسمر عوال

بأيدي رجال

وأشبال خيس

غداة الخميس

تجيد الضراب

وحزّ الرقاب

غداة النزال

يكيد الكذوب

ويروي الكعوب

دما غير آل

ثم سأل البراز فأحجم الناس فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من قام إلى هذا المشرك [فقتله] فله على الله الجنة والإمامة بعدي» فأحجم الناس فقام علي عليه‌السلام تهزه العروى (٢) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «يا ذا القبقب ما لك؟ فقال : ظمآن إلى البراز سغب إلى القتال ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نحن بني هاشم جود مجد لا نجبن ولا نغدر أنا وعليّ من شجرة واحدة لا يختلف ورقها ، اخرج إليه ولك الإمامة من بعدي».

فخرج وضربه في مفرق رأسه والناس ينظرون فبلغ سيفه إلى السرج وخرّ بنصفين (٣) وانهزم المشركون ، وآب عليّ عليه‌السلام يهزّ سيفه ويقول :

ضربته بالسّيف وسط الهامة

بشفرة صارمة هذّامة

__________________

(١) (ض) فطوينا البساط.

(٢) العروى بفتح العين والواو وسكون الرّاء مثل الفلوى قرة الحمّى ومشبها في أوّله بالرعدة تمت صحاح.

(٣) (ض) وجزّه نصفين.

١٥٦

فبتّكت من جسمه عظامه

وبيّنت من أنفه إرغامه

أنا عليّ صاحب الصّمصامة

وصاحب الحوض لدى القيامة

أخو نبيء الله ذي العلامة

قد قال إذ عمّمني العمامة

أنت أخي ومعدن الكرامة

ومن له من بعدي الإمامة

قال : رواه الحاكم من كتاب الناصر للحق عليه‌السلام بإسناده عن عبد الله بن أبي أنيس.

قال : ورواه الحاكم أيضا عن أبي رافع.

ومن ذلك : حديث الطائر : روى الفقيه حميد الشهيد رحمه‌الله بإسناده إلى أنس بن مالك قال : أهدي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طير مشويّ فلما وضع بين يديه قال : «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر». قال : فقلت : في نفسي : اللهم اجعله رجلا من الأنصار.

قال : فجاء عليّ عليه‌السلام فقرع الباب قرعا خفيفا.

فقلت : من هذا؟ فقال : عليّ.

فقلت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حاجة فانصرف فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول الثانية «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر».

فقلت في نفسي : اللهم اجعله رجلا من الأنصار.

قال : فجاء علي عليه‌السلام فقرع الباب فقلت : ألم أخبرك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حاجة فانصرف ورجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول الثالثة «اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر».

قال : فجاء عليّ فضرب الباب ضربا شديدا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «افتح افتح افتح قال فلما نظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : اللهمّ وإليّ وإليّ».

١٥٧

قال : فجلس مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأكل معه الطير.

قلت : وهذا الخبر مشهور.

قال في المحيط : روي عن أنس ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي ذر وأبي رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسفينة وابن عمر ، وابن عباس ، قال : وهو متلقّى بالقبول من جلّ الصحابة.

وإذا كان علي عليه‌السلام أحب الخلق إلى الله كان أحقهم بالإمامة لما تقدم.

وقد تركنا كثيرا من الأخبار الدّالّة على إمامته عليه‌السلام لعدم احتمال هذا المختصر لها كحديث هوى النجم وخبر المؤاخاة والأخبار الدالة على عصمته والخبر المروي في قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (١) وقصة براءة وقصة فتح خيبر وخبر الموارثة والأخبار الدالة على أنه سيد العرب ، والأخبار الدالة على أنه خلق من نور النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والخبر الذي فيه : «عليّ منّي وأنا منه وهو وليّكم بعدي» أخرجه ابن حنبل وغيره من حديث عبد الرزاق وغيره وغير ذلك ممّا لا يسعه إلّا المجلدات الكبار ، وقد ذكرنا بعض ذلك في الشرح.

قال الديلمي رحمه‌الله : إن بعض الشيعة في بلاد البحرين صنّف كتابا في إمامة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام واستدلّ بستين دليلا لا يمكن دفعها إلّا على سبيل المكابرة.

«و» منها أيضا : «قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما» «أي في صلاحيته عليه‌السلام للإمامة ، ولذلك» أي : ولأجل علمهماعليهما‌السلام بأن أباهما خير منهما في صلاحيته للإمامة بعد ورود النص الصريح من أبيهما بإمامتهما الذي لا يحتمل التأويل «لم ينازعاه في تقدمه كرّم الله وجهه» بل سلّما أمرهما إليه

__________________

(١) الشعراء (٢١٤).

١٥٨

لعلمهما أنه أولى منهما بالإمامة ، «وهذا المعنى لا يختلف عند أهل اللسان العربي» كما يقال : فلان كريم وفلان خير منه أي في الكرم ، وهذا الخبر مجمع على صحته لأنه متلقى بالقبول من الناس جميعا.

قالت «العترة» صلوات الله عليهم «والشيعة : ولا دليل على إمامة من ذكره المخالف» والإمامة كما سبق تقريره لا تثبت لأحد إلّا بدليل شرعي واختيار من الشارع.

وقالت «البكرية» وهم أصحاب بكر بن عبد الواحد من فرق المجبرة : «بل النص الجلي في أبي بكر» بن أبي قحافة.

«قلنا : لم يظهر هذا الدليل» الذي زعمتم.

«و» قد انعقد «الإجماع على وجوب ظهور ما تعمّ به البلوى علما وعملا» كما سبق تقريره في أول الكتاب ، والإمامة ممّا يعمّ وجوب العلم والعمل بها جميع المكلفين.

وقال «الحسن» بن أبي الحسن «البصري : بل النص الخفي المأخوذ من الإمامة الصغرى» دليل على إمامة أبي بكر ، يعني حين أراد أبو بكر أن يصلي بالناس في مرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وزعم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمره بذلك.

«قلنا : هي» أي الإمامة الصغرى «بمعزل عن الإمامة الكبرى» أي في جانب بعيد عنها فلا يصحّ قياس إحداهما على الأخرى ، «بدليل أنها» أي الإمامة الصغرى «تصحّ من المماليك» ومن غير المجتهد ومن الأعمى ونحوه.

«وإن سلّم» أنه يصحّ قياس إحداهما على الأخرى على استحالته «ففي الرواية الصحيحة : أن النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأمره بالصلاة» بالناس «وإنّما أمرته عائشة».

روى العنسي في المحجة البيضاء عن زيد بن علي عليهما‌السلام أنه سئل عن صلاة أبي بكر بالناس في مرض النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

١٥٩

فقال : ما أمر النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر أن يصلي بالناس وروى صاحب المحيط بإسناده إلى موسى بن عبد الله عن أبيه عن جده [وهو موسى بن عبد الله الثاني] عن أبيه عبد الله بن الحسن عليهم‌السلام في خبر الوفاة بطوله إلى أن قال :

ثم قام ودخل منزله فلبث أيّاما يجد الوجع والناس يأتونه ويخرج إلى الصلاة ، فلمّا كان آخر ذلك ثقل وأتاه بلال ليؤذنه بالصلاة وهو ملق (١) ثوبه على وجهه قد تغطى به فقال : الصلاة يا رسول الله فكشف الثوب وقال «لقد أبلغت يا بلال فمن شاء فليصل».

فخرج بلال ثم رجع الثانية والثالثة وهو يقول : الصلاة يا رسول الله فقال : «لقد أبلغت يا بلال من شاء فليصل» فخرج بلال وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجر عليّ عليه‌السلام والفضل بن العباس بين يديه يروّحه وأسامة بن زيد بالباب يحجب عنه زحمة الناس ، ونساء النبيء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ناحية من البيت يبكين فقال «اعز بن عنّي يا صويحبات يوسف».

فلما رجع بلال ولم يقم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تبعته عائشة بنت أبي بكر فقالت : يا بلال : مر أبا بكر فليصل بالناس ، ووجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خفّة (٢) فقام فتمسّح وتوضأ وخرج معه علي والفضل بن العباس وقد أقيمت الصلاة وتقدمهم أبو بكر ليصلي ، وكان جبريل عليه‌السلام أمره بالخروج ليصلي بهم ونبّهه على ما يقع من الفتنة إن صلّى أبو بكر ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمشي بين علي والفضل وقدماه تخطان في الأرض حتى دخل المسجد ، فلما رآه أبو بكر تأخّر وتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّى بالناس ، فلمّا سلّم أمر عليّا ... الخبر إلى آخره. انتهى.

وفي رواية أخرى : فصلّى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) (ب) ملقي.

(٢) (ض) في نفسه خفّة.

١٦٠