شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

مقيدة بالتوبة من الذنب يلغى التقييد بالمشيئة ، فان الله قد وعد كل تائب بقبول توبته.

وقول المؤلف رحمه‌الله (فلو أتى بقرابها ... الخ) البيتين الأولين اشارة الى قوله سبحانه في الحديث القدسي «يا بن آدم انك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة».

وأما التواب فهو الكثير التوب بمعنى الرجوع على عبده بالمغفرة وقبول التوبة ، قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) [الشورى : ٢٥].

وقال : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) [غافر : ٣].

ولا يزال الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر أو تطلع الشمس من مغربها ، فاذا ظهرت أمارات القيامة الصغرى بالغرغرة أو الكبرى بطلوع الشمس من المغرب أغلق باب التوبة.

قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) [النساء : ١٨].

وقال : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨].

وفي الحديث الصحيح : «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها».

وتوبته سبحانه على عبده نوعان :

أحدهما أنه يلهم عبده التوبة إليه ويوفقه لتحصيل شروطها من الندم والاستغفار والاقلاع عن المعصية والعزم على عدم العود إليها واستبدالها بعمل الصالحات.

١٠١

والثاني : توبته على عبده بقبولها واجابتها ومحو الذنوب بها ، فان التوبة النصوح تجب ما قبلها لقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٧٠].

* * *

فصل

وهو الإله السيد الصمد الذي

صمدت إليه الخلق بالاذعان

الكامل الأوصاف من كل الوجو

ه كماله ما فيه من نقصان

الشرح : قال صاحب النهاية : (الصمد هو السيد الذي انتهى إليه السؤدد ، وقيل هو الدائم الباقي ، وقيل هو الذي لا جوف له ، وقيل هو الذي يصمد في الحوائج إليه أي يقصد).

وهذا تفسير جامع لكل معاني هذا الاسم الكريم ، وقد اختار المصنف اثنين من هذه التفسيرات ، لأنهما أشهر من غيرهما :

أولهما : أنه الذي تصمد إليه الخلائق وتفزع إليه في جميع حاجاتها لكمال غناه وشدة فقرها إليه.

والثاني : أنه الذي كملت جميع أوصافه من كل الوجوه فلا تشوبها شائبة نقص أصلا : فهو السيد الذي كمل في سؤدده ، والعليم الذي كمل في علمه ، والحليم الذي كمل في حلمه ، والغني الذي كمل في غناه الخ.

* * *

وكذلك القهار من أوصافه

فالخلق مقهورون بالسلطان

لو لم يكن حيا عزيزا قادرا

ما كان من قهر ومن سلطان

الشرح : ومن اسمائه سبحانه القهار ولم يرد في القرآن الا مقرونا باسمه الواحد كقوله تعالى على لسان يوسف عليه‌السلام في خطابه لصاحبي السجن : (يا

١٠٢

صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩].

وكقوله سبحانه : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد : ١٦].

وكقوله عز شأنه : (قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [ص : ٦٥].

وكقوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [الزمر : ٤] فدل هذا على توحده وانفراده بالقهر لجميع الخلق وأنهم جميعا مقهورون تحت سلطانه فهو سبحانه الذي قهر جميع الكائنات وذلت له جميع المخلوقات ، فلا يحدث حادث ولا يسكن ساكن إلّا بإذنه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وجميع الخلق فقراء إليه عاجزون لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ولا خيرا ولا شرا ، وقهره تعالى لجميع خلقه مستلزم لكمال حياته وعزته واقتداره اذ لو لا هذه الأوصاف الثلاثة لا يتم له قهر ولا سلطان.

* * *

وكذلك الجبار من أوصافه

والجبر في أوصافه نوعان

جبر الضعيف وكل قلب قد غدا

ذا كسرة فالجبر منه دان

والثاني جبر القهر بالعز الذي

لا ينبغي لسواه من إنسان

وله مسمى ثالث وهو الع

لو فليس يدنو منه من انسان

من قولهم جبارة للنخلة العلي

ا التي فاتت لكل بنان

الشرح : قال صاحب النهاية : (في أسماء الله تعالى الجبار ومعناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر ونهى يقال جبر الخلق وأجبرهم وأجبر أكثر ، وقيل هو العالى فوق خلقه وفعال من أبنية المبالغة ومنه قولهم نخلة جبارة وهي العظيمة التي

١٠٣

تفوت يد المتناول) ١ ه‍. وقال الراغب في المفردات (أصل الجبر اصلاح الشيء بضرب من القهر يقال جبرته فانجبر واجتبر وقد قيل جبرته فجبر ، فأما في وصفه تعالى نحو العزيز الجبار المتكبر فقد قيل سمي بذلك من قولهم جبرت الفقير ، لأنه هو الذي يجبر الناس بفائض نعمه ، وقيل لأنه يجبر الناس أن يقهرهم على ما يريده) ١ ه‍.

وقد ذكر المؤلف هنا لاسمه (الجبار) ثلاثة معان كلها داخلة فيه ، بحيث يصح ارادتها منه. أحدها أنه الذي يجبر ضعف الضعفاء من عباده ، ويجبر كسر القلوب المنكسرة من أجله الخاضعة لعظمته وجلاله ، فكم جبر سبحانه من كسير وأغنى من فقير وأعز من ذليل وأزال من شدة ويسر من عسير. وكم جبر من مصاب فوفقه للثبات والصبر ، وأعاضه من مصابه أعظم الأجر ، فحقيقة هذا الجبر هو اصلاح حال العبد بتخليصه من شدته ودفع المكاره عنه.

المعنى أنه القهار الذي دان كل شيء لعظمته وخضع كل مخلوق لجبروته وعزته ، فهو يجبر عباده على ما أراد مما اقتضته حكمته ومشيئته ، فلا يستطيعون الفكاك منه. والثالث أنه العلي بذاته فوق جميع خلقه ، فلا يستطيع أحد منهم أن يدنو منه.

وقد ذكر العلامة الشيخ السعدي رحمه‌الله أن له معنى رابعا ، وهو أنه المتكبر عن كل سوء ونقص ، وعن مماثلة أحد ، وعن أن يكون له كفو أو ضد أو سمي أو شريك في خصائصه وحقوقه.

* * *

وهو الحسيب حماية وكفاية

والحسب كافي العبد كل أوان

الشرح : ومن أسمائه سبحانه الحسيب ، وهو بالمعنى العام الذي يكفي العباد جميع ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم ، فيوصل إليهم المنافع ويدفع عنهم المضار.

وبالمعنى الأخص الذي يكفي عبده المتقي المتوكل عليه كفاية خاصة يصلح

١٠٤

بها ، المعنى الثاني أنه القهار دان كل شيء لعظمته وخضع كل مخلوق لجبروته بها دينه ودنياه ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ٦٤] فقوله ومن اتبعك ، عطف على الكاف في حسبك ، أي حسبك ومن اتبعك الله ، ولا يجوز عطفها على لفظ الجلالة ، لأن الحسب بمعنى الكافي من خصائص الرب جل شأنه لا يجوز أن يكون له ند فيه ، ولهذا قال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ راغِبُونَ) [التوبة : ٥٩] فجعل الإيتاء لله ورسوله ، وجعل الحسب والرغبة لله عزوجل وحده ، وقال تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] فجعل الكفاية وهي بمعنى الحسب لله وحده ، فكفاية الله لعبده بحسب ما قام به من متابعة الرسول ظاهرا وباطنا وقيامه بعبودية الله تعالى ، ومن الحسيب أيضا أنه الذي يحفظ أعمال عباده من خير وشر ويحاسبهم عليها ، كما في قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) [النساء : ٨٦](وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) [الأحزاب : ٣٩].

* * *

وهو الرشيد فقوله وفعاله

رشد وربك مرشد الحيران

وكلاهما حق فهذا وصفه

والفعل للارشاد ذاك الثاني

الشرح : قال العلامة السعدي رحمه‌الله في شرحه لهذا الاسم الكريم : (يعني أن (الرشيد) هو الذي قوله رشد وفعله كله رشد ، وهو مرشد الحيران الضال ، فيهديه الى الصراط المستقيم بيانا وتعليما وتوفيقا).

فالرشد الدال عليه اسمه الرشيد وصفه تعالى ، والارشاد لعباده فعله.

فأقواله القدرية التي يوجد بها الأشياء ويدبر بها الأمور كلها حق لاشتمالها على الحكمة والحسن والاتقان. وأقواله الشرعية الدينية هي أقواله التي تكلم بها في كتبه وعلى ألسنة رسله المشتملة على الصدق التام في الأخبار والعدل الكامل في الأمر والنهي ، فإنه لا أصدق من الله قيلا ولا أحسن منه حديثا (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ

١٠٥

صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] في الأمر والنهى ، وهي أعظم وأجل ما يرشد بها العباد ، بل لا حصول للرشاد بغيرها ، فمن ابتغى الهدى من غيرها أضله الله ، ومن لم يسترشد بها فليس برشيد ، فيحصل بها الرشد العلمي وهو بيان الحقائق والأصول والفروع والمصالح والمضار الدينية والدنيوية ، ويحصل بها الرشد العملي ، فأنها تزكي النفوس وتطهر القلوب وتدعو الى أصلح الأعمال وأحسن الأخلاق ، وتحث على كل جميل وترغب عن كل ذميم رذيل ، فمن استرشد بها فهو المهتدى ، ومن لم يسترشد بها فهو ضال ، ولم يجعل لأحد عليه حجة بعد بعثته للرسل وإنزاله الكتب المشتملة على الهدى المطلق ، فكم هدى بفضله ضالا وأرشد حائرا ، وخصوصا من تعلق به وطلب منه الهدى من صميم قلبه ، وعلم أنه المنفرد بالهداية) ١ ه‍.

* * *

والعدل من أوصافه في فعله

ومقاله والحكم في الميزان

فعلى الصراط المستقيم إلهنا

قولا وفعلا ذاك في القرآن

الشرح : ومن أسمائه سبحانه أنه (العدل) وهو في الأصل مصدر وصف به للمبالغة ، وأصل العدل والمعادلة المساواة ، يقال هذا عدل ذلك ، وعديله أي نظيره ، ومساويه.

وهو سبحانه موصوف بالعدل في فعله ، فأفعاله كلها جارية على سنن العدل والاستقامة ، ليس فيها شائبة جور أصلا ، فهي دائرة كلها بين الفضل والرحمة ، وبين العدل والحكمة كما قدمنا ، وما ينزله سبحانه بالعصاة والمكذبين من أنواع الهلاك والخزي في الدنيا وما أعده لهم من العذاب المهين في الآخرة ، فانما فعل بهم ما يستحقونه ، فانه لا يأخذ الا بذنب ، ولا يعذب الا بعد اقامة الحجة. وأقواله كلها عدل ، فهو لا يأمرهم الا بما فيه مصلحة خالصة أو راجحة ، ولا ينهاهم الا عما مضرته خالصة أو راجحة. وكذلك حكمه بين عباده يوم فصل القضاء ووزنه لأعمالهم عدل لا جور فيه ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ

١٠٦

الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧].

فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله وحكمه.

* * *

فصل

هذا ومن أوصافه الق

دوس ذو التنزيه بالتعظيم للرحمن

وهو السلام على الحقيقة سالم

من كل تمثيل ومن نقصان

الشرح : هذا تفسير لاسميه الكريمين (القدوس والسلام) ومعناهما متقاربان فان القدوس مأخوذ من قدس بمعنى نزهه وأبعده عن السوء مع الاجلال والتعظيم والسلام مأخوذ من السلامة ، فهو سبحانه السالم من مماثلة أحد من خلقه ، ومن النقصان ، ومن كل ما ينافي كماله ، فهذا ضابط ما ينزه عنه. ينزه عن كل نقص بوجه من الوجوه. وينزه ويعظم عن أن يكون له مثيل أو شبيه أو كفو أو سمى أو نديد أو مضاد وينزه عن نقص صفة من صفاته التي هي أكمل الصفات وأعظمها وأوسعها ، ومن تمام تنزيهه عن ذلك إثبات صفات الكبرياء والعظمة له فان التنزيه مراد لغيره ومقصود به حفظ كماله عن الظنون السيئة ، كظن الجاهلية الذين يظنون به غير ما يليق بجلاله ، فاذا قال العبد مثنيا على ربه (سبحان الله) أو (تقدس الله) أو (تعالى الله) كان مثنيا عليه بالسلامة من كل نقص واثبات كل كمال.

* * *

والبر في أوصافه سبحانه

هو كثرة الخيرات والاحسان

صدرت عن البر الذي هو وصفه

فالبر حينئذ له نوعان

وصف وفعل فهو بر محسن

مولى الجميل ودائم الاحسان

١٠٧

وكذلك الوهاب من أسمائه

فانظر مواهبه مدى الأزمان

أهل السموات العلى والأرض عن

تلك المواهب ليس ينفكان

الشرح : ومن أسمائه سبحانه (البر والوهاب) أما البر فقد ورد ذكره مرة واحدة في القرآن في قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) [الطور : ٢٨] والبر هو الموصوف بالبر ، وهو كثرة الخير والاحسان ، فالبر وصفه سبحانه ، وآثار هذا الوصف جميع النعم الظاهرة والباطنة فلا يستغني مخلوق عن احسانه وبره طرفه عين ، واحسانه سبحانه عام وخاص ، فالعام هو المذكور في مثل قوله تعالى : (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) [غافر : ٧](وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] فانه يشترك فيه البر والفاجر ، وأهل السماء وأهل الأرض ، والمكلفون وغيرهم لا ينفك عنه موجود من الموجودات.

وأما الخاص فهو رحمته التي كتبها للمتقين يرحمهم بها في الدنيا بالتوفيق للهداية والايمان والأعمال الصالحة وصلاح أحوالهم كلها ، ويرحمهم بها في الآخرة فينجيهم من عذاب السموم ويورثهم جنات النعيم ، قال تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] وأما الوهاب فقد ورد كثيرا في القرآن ، كقوله تعالى : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) [ص : ٩] وكقوله على لسان الراسخين في العلم : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨].

وكقوله على لسان سليمان بن داود عليهما‌السلام (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص : ٣٥].

والوهاب مبالغة من واهب وهو الكثير الهبات والعطايا التي يتقلب فيها أهل سماواته وأرضه ، والتي لا تنفك عنهم طرفة عين منذ أن خلق السموات والأرض كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن يمين الله ملآى لا تغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، ألم تروا

١٠٨

الى ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فانه لم يغض مما بيده».

* * *

وكذلك الفتاح من أسمائه

والفتح في أوصافه أمران

فتح بحكم وهو شرع الهنا

والفتح بالأقدار فتح ثان

والرب فتاح بذين كليهما

عدلا وإحسانا من الرحمن

قال صاحب (النهاية) : (في أسماء الله تعالى الفتاح : هو الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده ، وقيل معناه الحاكم بينهم ، يقال فتح الحاكم بين الخصمين اذا فصل بينهما ، والفاتح الحاكم والفتاح من أبنية المبالغة) فالفتاح هو الحكم المحسن الجواد وفتحه تعالى نوعان. (١) أحدهما فتحه بحكمه الديني وحكمه الجزائي (٢) والثاني فتحه بحكمه القدري. ففتحه بحكمه الديني هو هدايته لعباده وشرعه لهم على ألسنة رسله جميع ما يحتاجون إليه ويستقيمون به على صراطه المستقيم.

وأما فتحه الجزائي فهو فتحه لأنبيائه وأتباعهم باكرامهم ونجاتهم وإهانة أعدائهم وعقوباتهم وكذلك فتحه بين الخلائق يوم القيامة حين يوفى كل إنسان جزاء عمله من خير أو شر.

وأما فتحه القدري فهو ما يقدره على عباده من خير وشر ونفع وضر وعطاء ومنع قال تعالى : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فاطر : ٢]. فالرب تعالى هو الفتاح العليم الذي ينفتح بعنايته كل منغلق وبهدايته يكشف كل مشكل ومفاتيح الغيب والرزق كلها بيده وهو الذي يفتح لعباده الطائفين خزائن جوده وكرمه ، ويفتح على أعدائه ضد ذلك ، وذلك بفضله وعدله.

* * *

وكذلك الرزاق من أسمائه

والرزق من أفعاله نوعان

١٠٩

رزق على يد عبده ورسوله

نوعان أيضا ذا معروفان

رزق القلوب العلم والإيمان

والرزق المعد لهذه الأبدان

هذا هو الرزق الحلال وربنا

رزاقه والفضل للمنان

والثاني سوق القوت للأعضاء في

تلك المجاري سوقه بوزان

هذا يكون من الحلال كما يكو

ن من الحرام كلاهما رزقان

والله رازقه بهذا الاعتبا

ر وليس بالإطلاق دون بيان

الشرح : ومن أسمائه سبحانه (الرزّاق) وهو مبالغة من رازق للدلالة على الكثرة مأخوذ من الرزق : بفتح الراء الذي هو المصدر. وأما الرزق بكسرها فهو اسم لنفس الشيء الذي يرزق الله به العبد. فمعنى الرزاق الكثير الرزق لعباده الذي لا تنقطع عنهم أمداده وفواضله طرفة عين ، والرزق كالخلق صفة من صفات الفعل ، وهو شأن من شئون ربوبيته عزوجل ، لا يصح أن ينسب إلى غيره ، فلا يسمى غيره رازقا ، كما لا يسمى خالقا ، قال تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [الروم : ٤٠] فالأرزاق كلها بيد الله وحده ، فهو خالق الأرزاق والمرتزقة وموصلها إليهم وخالق أسباب التمتع بها ، فالواجب نسبتها إليه وحده وشكره عليها فهو موليها وواهبها.

ورزقه تعالى لعباده نوعان : عام وخاص.

فالعام : إيصاله لجميع خلقه كل ما يحتاجون إليه في معاشهم وقيامهم فيسهل لهم سبيل الأرزاق ويدبرها في أجسامهم ويسوق إلى كل عضو صغير وكبير ما يحتاجه من القوت ، فهذا عام للبر أو الفاجر ، والمسلم والكافر بل للإنس والجن ، والحيوانات كلها.

وهذا الرزق قد يكون من الحلال الذي لا تبعة على العبد فيه ، وقد يكون من الحرام ، ولكنه يسمى رزقا بهذا الاعتبار الذي هو سوقه للأعضاء وهدايتها لامتصاصه والانتفاع به ، فيصح أن يقال : رزقه الله بهذا الاعتبار سواء ارتزق من حلال أم من حرام. وهذا يقال له مطلق الرزق.

١١٠

وأما النوع الثاني : فهو الرزق المطلق أو الرزق الخاص وهو النافع المستمر نفعه في الدنيا والآخرة وهو الذي يحصل على يد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو نوعان :

١ ـ أحدهما رزق القلوب بالعلم والإيمان وحقائق ذلك ، فإن القلوب مفتقرة غاية الافتقار إلى أن تكون عالمة بالحق مريدة له متألهة لله ، وبذلك يحصل غناها ويزول فقرها.

٢ ـ والثاني رزق الأبدان بالرزق الحلال الذي لا تبعة فيه ، فإن الرزق الذي خص به المؤمنين والذين يسألونه منه شامل للأمرين.

فينبغي للعبد إذا دعا ربّه في حصول الرزق أن يستحضر بقلبه هذين الأمرين ، فإذا قال مثلا (اللهم ارزقني) أراد ما يصلح به قلبه من العلم والهدى ، والمعرفة والإيمان ، وما يصلح به بدنه من الرزق الحلال الهنيء الذي لا صعوبة فيه ، ولا تبعة تعتريه.

* * *

فصل

هذا ومن أوصافه القيوم وال

قيوم في أوصافه أمران

إحداهما القيوم قام بنفسه

والكون قام به هما الأمران

فالأول استغناؤه عن غيره

والفقر من كل إليه الثاني

والوصف بالقيوم ذو شأن كذا

موصوفه أيضا عظيم الشأن

والحي يتلوه فأوصاف الكما

ل هما لأفق سماؤها قطبان

فالحي والقيوم لن تتخلف ال

أوصاف أصلا عنهما ببيان

الشرح : ومن أسمائه الحسنى سبحانه (القيوم) وهو مبالغة من قائم وله معنيان :

١ ـ أحدهما : أنه القائم بنفسه المستغني عن جميع خلقه فلا يفتقر إلى شيء

١١١

أصلا لا في وجوده ، ولا في بقائه ، ولا فيما اتصف به من كمال ، ولا فيما يصدر عنه من أفعال ، فإن غناه كما قدمنا ذاتي له فلا يطرأ عليه فقر أو حاجة.

والثاني : أنه الكثير القيام بتدبير خلقه ، فكل شيء في هذا الوجود مفتقر إليه فقرا ذاتيا أصيلا لا يمكن أن يستغني عنه في لحظة من اللحظات ، فهو مفتقر إليه في وجوده أولا وفي بقائه بعد الوجود ، فهو الذي يمده بأسباب البقاء ، فلا يقوم شيء في الوجود كله إلا به ، فهو دائم التدبير والرعاية لشئون خلقه ، لا يمكن أن يغفل عنهم لحظة وإلا اختل نظام الكون وتحطمت أركانه ، قال تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) [الأنبياء : ٤٢] وقال : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر : ٤١].

فهذا الوصف من أوصافه سبحانه ذو شأن عظيم كشأن موصوفه ، إذ هو متضمن بمعناه الأول لكمال غناه وعظمته ، ومتضمن بمعناه الثاني لجميع صفات الكمال في الفعل ، إذ لا تمام لها إلا بقيوميته.

ومن أسمائه الحسنى كذلك (الحي) وقد ورد مقترنا باسمه القيوم في ثلاثة مواضع من القرآن :

١ ـ في آية الكرسي من سورة البقرة قال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [٢٥٥].

٢ ـ في أول سورة عمران ، قال تعالى : (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [١ ، ٢].

٣ ـ في سورة طه ، قال تعالى : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [١١١].

ومعنى الحي الموصوف بالحياة الكاملة الأبدية التي لا يلحقها موت ولا فناء ، لأنها ذاتية له سبحانه ، وكما أن قيوميته مستلزمة لسائر صفات الكمال الفعلية فكذلك حياته مستلزمة لسائر صفات الكمال الذاتية من العلم والقدرة والإرادة

١١٢

والسمع والبصر والعزة والكبرياء والعظمة ونحوها ، فالحي والقيوم متضمنان لصفات الكمال كلها وهما القطبان لأفق سمائها فلا تتخلف عنهما صفة منها أصلا ولهذا ورد أنهما اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب. وإنما كان هذان الاسمان العظيمان متضمنين لسائر صفات الكمال لأن الحياة تعتبر شرطا للاتصاف بجميع الكمالات في الذات من العلم والقدرة ، والإرادة والسمع والبصر والكلام إلخ ، فإن غير الحي لا يتصف بهذه الصفات ، فمن كملت حياته كان أكمل في كل صفة تكون الحياة شرطا لها وأما القيوم فلما كان أحد معانيه أنه الكثير القيام بشئون خلقه ، بحيث لا يغفل عنهم لحظة ، كان ذلك مستلزما لكمال أفعاله ودوامها.

* * *

هو قابض هو باسط هو خافض

هو رافع بالعدل والإحسان

وهو المعز لأهل طاعته وذا

عز حقيقي بلا بطلان

وهو المذل لمن يشاء بذله الدّا

رين ذل شقاء وذل هوان

هو مانع معط فهذا فضله

والمنع عين العدل للمنان

يعطي برحمته ويمنع من يشا

ء بحكمة والله ذو سلطان

الشرح : هذه الأسماء الكريمة من الأسماء المتقابلات التي لا يجوز أن يفرد أحدها عن قرينه ، ولا أن يثنى على الله عزوجل بواحد منها إلا مقرونا بمقابله ، فلا يجوز أن يفرد القابض عن الباسط ، ولا الخافض عن الرافع ، ولا المذل عن المعز ، ولا المانع عن المعطي إلخ ، لأن الكمال المطلق إنما يحصل بمجموع الوصفين ، فهو سبحانه القابض الباسط ، يقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات ، ويبسط الأرواح في الأجساد عند الحياة ، ويقبض الصدقات من الأغنياء ويبسط الأرزاق للضعفاء ، ويبسط الرزق لمن يشاء حتى لا تبقى فاقة ، ويقبضه عمن يشاء حتى لا تبقى طاقة ، ويقبض القلوب فيضيقها حتى تصير حرجا كأنما تصعد في السماء ، ويبسطها بما يفيض عليها من معاني بره ولطفه وجماله ، قال تعالى : (فَمَنْ

١١٣

يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) [الأنعام : ١٢٥]. وهو سبحانه الخافض الرافع ، يخفض الكفار بالإشقاء والإبعاد ، ويرفع أولياءه بالتقرب والإسعاد ، ويداول الأيام بين عباده ، فيخفض أقواما ، يخمل شأنهم ، ويذهب عزهم ، ويرفع آخرين فيورثهم ملكهم وديارهم.

وهو سبحانه المعز المذل ، يعز أهل طاعته بالعز الحقيقي الذي لا يبطله شيء ، فإن المطيع لله عزيز وإن تحالفت عليه كل أسباب الذل والشقاء. ويذل أهل معصيته ذل شقاء وحرمان ، وذل خزي وخذلان ، فإن العاصي لله وإن ظهر بمظهر العز فحشو قلبه الذل وإن لم يشعر به لانغماسه فيما هو فيه من الشهوات.

فالعز كل العز في طاعة الله ، والذل كل الذل في معصيته.

وهو سبحانه المانع المعطي ، فلا معطي لما منع ، ولا مانع لما أعطى ، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.

قال العلامة السعدي رحمه‌الله :

(وهذه الأمور كلها تبع لعدله وحكمته وحمده ، فإن له الحكمة في خفض من يخفضه ويذله ويحرمه ، ولا حجة لأحد على الله ، كما له الفضل المحض على من رفعه وأعطاه وبسط له الخيرات ، فعلى العبد أن يعترف بحكمة الله ، كما عليه أن يعترف بفضله ويشكره بلسانه وجنانه وأركانه.

وكما أنه هو المنفرد بهذه الأمور وكلها جارية تحت أقداره ، فإن الله جعل لرفعه وعطائه وإكرامه أسبابا ، ولضد ذلك أسبابا ، من قام بها ترتبت عليها مسبباتها ، وكل ميسر لما خلق له أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة.

وهذا يوجب للعبد القيام بتوحيد الله والاعتماد على ربه في حصول ما يحب ويجتهد في فعل الأسباب النافعة ، فإنها محل حكمة الله) أه.

* * *

١١٤

فصل

والنور من أسمائه أيضا ومن

أوصافه سبحانه ذي البرهان

قال ابن مسعود كلاما قد حكا

ه الدارمي عنه بلا نكران

ما عنده ليل يكون ولا نها

ر قلت تحت الفلك يوجد ذان

نور السموات العلى من نوره

والأرض كيف النجم والقمران

من نور وجه الرب جل جلاله

وكذا حكاه الحافظ الطبراني

فيه استنار العرش والكرسي مع

سبع الطباق وسائر الأكوان

وكتابه نور كذلك شرعه

نور كذا المبعوث بالفرقان

وكذلك الإيمان في قلب الفتى

نور على نور مع القرآن

وحجابه نور فلو كشف الحجا

ب لأحرق السبحات للأكوان

وإذا أتى للفصل يشرق نوره

في الأرض يوم قيامة الأبدان

وكذاك دار الرب جنات العلى

نور تلألأ ليس ذا بطلان

الشرح : ومن أسمائه سبحانه (النور) وهو أيضا صفة من صفاته ، فيقال الله نور فيكون اسما مخبرا به على تأويله بالمشتق ، ويقال ذو نور ، فيكون صفة ، قال تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] وقال : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) [الزمر : ٦٩].

وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يستيقظ من الليل يقول : «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن».

وقد روى الدارمي والطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال «إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور العرش من نور وجهه» وذلك لأن الليل والنهار سببهما طلوع الشمس وغروبها ، وهذا إنما يوجد تحت الفلك لا فوقه.

فهو سبحانه الذي استنارت به جميع الكائنات من العرش والكرسي والسموات السبع وغيرها ، وكتابه سبحانه وهو القرآن نور ، لأنه يهدي القلوب

١١٥

من العمي ويبصرها طريق الرشد ، قال تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ، وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة : ١٥ ، ١٦].

وقال سبحانه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) [الشورى : ٥٢].

وكذلك شرعه الذي شرّعه لعباده نور ، ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بعثه بالقرآن نور ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) [الأحزاب : ٤٥ ، ٤٦].

وكذلك الإيمان في قلب المؤمن مع القرآن نور على نور ، كما في قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور : ٣٥]. فهو مثل ضربه الله لنوره في قلب عبده المؤمن وهذا النور هو الذي يسعى بين يدي العبد وعن يمينه يوم القيامة ، كما قال تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ) [الحديث : ١٢]. وحجابه سبحانه النور كما ورد في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. قال : «قام فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربع كلمات ، قال : إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل ، وعمل الليل قبل عمل النهار ، حجابه النور ، أو قال النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» والمراد بالسبحات جمع سبحة وهو تلألؤ الوجه وإشراقه ، وهو سبحانه حين يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده ، تشرق الأرض بنوره ، كما قال تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ) [الزمر : ٦٩].

١١٦

وكذلك داره سبحانه التي أعدها للطيبين من عباده ، وهي الجنات العلى ، نور تزهر ، كما ورد في الحديث.

* * *

والنور ذو نوعين مخلوق ووص

ف ما هما والله متحدان

وكذلك المخلوق ذو نوعين مح

سوس ومعقول هما شيئان

احذر تزلّ رجلك هوة

كم قد هوى فيها على الأزمان

من عابد بالجهل زلت رجله

فهوى إلى قعر الحضيض الداني

لاحت له أنوار آثار العبا

دة ظنها الأنوار للرحمن

فأتى بكل مصيبة وبلية

ما شئت من شطح ومن هذيان

وكذا الحلولي الذي هو خدنه

من هاهنا حقا هما أخوان

ويقابل الرجلين ذو التعطيل وال

حجب الكثيفة ما هما سيّان

ذا في كثافة طبعه وظلامه

وبظلمة التعطيل هذا الثاني

والنور محجوب فلا هذا ولا

هذا له من ظلمة يريان

الشرح : قال العلامة الشيخ السعدي رحمه‌الله (والنور نوعان : حسي كهذه العوالم التي لم يحصل لها نور إلا من نوره ، ونور معنوي يحصل في القلوب والأرواح بما جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم من كتاب الله وسنة نبيه ، فعلم الكتاب والسنة والعمل بهما ينير القلوب والأسماعوالأبصار ويكون نورا للعبد في الدنيا والآخرة : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) [النور : ٣٥] لما ذكر أنه نور السموات والأرض وسمى الله كتابه نورا ورسوله نورا ووحيه نورا. ثم أن المؤلف حذر من اغترار من اغتر من أهل التصوف الذين لم يفرقوا بين نور الصفات ، وبين أنوار الإيمان والمعارف ، فإنهم لما تألهوا وتعبدوا من غير فرقان وعلم كامل ولاحت أنوار التعبد في قلوبهم لأن العبادات لها أنوار في القلوب فظنوا أن هذا النور هو نور الذات المقدسة ، فحصل منهم من الشطح والكلام القبيح ما هو أثر هذا الجهل والاغترار والضلال. وأما أهل العلم والإيمان

١١٧

والفرقان. فإنهم يفرقون بين نور الذات والصفات ، وبين النور المخلوق الحسي منه والمعنوي فيعترفون أن نور أوصاف الباري ملازم لذاته لا يفارقها ، ولا يحل بمخلوق ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وأما النور المخلوق فهو الذي تتصف به المخلوقات بحسب الأسباب والمعاني القائمة بها والمؤمن إذا كمل إيمانه أنار الله قلبه ، فانكشفت له حقائق الأشياء ، وحصل له فرقان يفرق به بين الحق والباطل ، وصار هذا النور هو مادة حياة العبد وقوته على الخير علما وعملا وانكشفت عنه الشبهات القادحة في العلم واليقين والشهوات الناشئة عن الظلمة والغفلة ، وكان قلبه نورا وكلامه نورا وعمله نورا والنور محيط به من جهاته ، والكافر أو المنافق أو المعارض أو المعرض الغافل ، كل هؤلاء يتخبطون في الظلمات ، كل له من الظلمة بحسب ما معه من موادها وأسبابها والله الموفق وحده) أه.

ويظهر من هذا النص أن الشيخ السعدي قد تابع المؤلف في القول بأن أهل الاغترار والجهل حين تلوح في قلوبهم أنوار آثار العبادة تحملهم على الشطح والهذيان بكلمات تفهم الوحدة كقول أبي يزيد البسطامي قبحه الله : (سبحاني ما أعظم شاني) وقوله (انسلخت عن نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها ، ثم نظرت فإذا أنا هو) أو تفهم معنى الحلول كقول الحلاج : (أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا).

وهذه غفلة من الشيخين غفر الله لهما وإسراف في حسن الظن بهؤلاء الصوفية قبحهم الله ، فإنهم لم يعبدوا الله عبادة صحيحة حتى تظهر عليهم أنوارها ، فإن شرط العبادة الصحيحة معرفة المعبود المعرفة الحقة بأسمائه وصفاته ، وهؤلاء الصوفية إنما عرفوه على الصورة التي رسمتها لهم شياطينهم ، وهو أنه ملك خليع يجب الرقص ويولع بالغناء وعاشق ولهان يبيح لمحبيه السكر والفجور ومضاجعة الغلمان ، فلم يزدادوا بعبادته إلا خبالا ، ولو كانوا قد عرفوه حق معرفته لهدتهم هذه المعرفة إلى سبيل الرشاد ، ولما وقعوا عند ظهور أنواره لهم في بوائق الكفر

١١٨

والالحاد فإن من يحصل له نور العبادة الحقة لا يمكن أن يضل به ، كيف وقد جعله الله فرقانا في قلب العبد يبصره بمواطن الرشد ويجنبه مواضع الزلل ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) [الأنفال : ٢٩] أي نورا تفرقون به بين الحق والباطل ، فكيف يكون هذا النور الهادي هو سبب الضلال؟

والعجب من رجل لقب بحجة الإسلام يقال له الغزالي كفر الفلاسفة لقولهم بقدم العالم وإنكارهم علم الله بالجزئيات وحشر الأجساد. وهو مع ذلك يعتذر عن أسلافه في التصوف فيما نطقوا به من الكفر البواح ، ويحاول جاهدا أن يجعل لكلامهم مساغا من التأويل كأنما كلامهم وحي وتنزيل ، ولكن الأنسب كما قيل (حبّك الشيء يعمي ويصم) ومن يضلل الله فما له من سبيل.

* * *

فصل

وهو المقدم والمؤخر ذانك الص

فتان للأفعال تابعتان

وهما صفات الذات أيضا إذ هما

بالذات لا بالعير قائمتان

ولذاك قد غلط المقسم حين ظ

ن صفاته نوعان مختلفان

إن لم يرد هذا ولكن قد أرا

د قيامها بالفعل ذي الإمكان

والفعل والمفعول شيء واحد

عند المقسم ما هما شيئان

فلذاك وصف الفعل ليس لديه إلا

نسبة عدمية ببيان

فجميع أسماء الفعال لديه لي

ست قط ثابتة ذوات معان

موجودة لكن أمور كلها

نسب ترى عدمية الوجدان

هذا هو التعطيل للأفعال

كالتعطيل للأوصاف بالميزان

الشرح : ومن أسمائه سبحانه (المقدم والمؤخر) وهما من الأسماء المتقابلة التي لا يجوز إفراد أحدها عن مقابله كما قدمنا ذلك في المعز والمذل والخافض والرافع

١١٩

والقابض والباسط والمانع والمعطي ونحوها ، فهو سبحانه المقدم لبعض الأشياء على بعض ، إما تقديما كونيا كتقديم بعض المخلوقات في الوجود على بعض وكتقديم الأسباب على مسبباتها والشروط على مشروطاتها ، وإما تقديما شرعيا معنويا كتفضيل الأنبياء عليهم‌السلام على سائر البشر وتفضيل بعض النبيين على بعض ، وتفضيل العباد كذلك بعضهم على بعض وهو سبحانه المؤخر لبعض الأشياء عن بعض أما بالزمان أو بالشرع كذلك.

والتقديم والتأخير صفتان من صفات الأفعال التابعة لمشيئته تعالى وحكمته وهما أيضا صفتان للذات إذ قيامهما بالذات لا بغيرها ، وهكذا كل صفات الأفعال هي من هذا الوجه صفات ذات حيث أن الذات متصفة بها ، ومن حيث تعلقها بما ينشأ عنها من الأقوال والأفعال تسمى صفات أفعال.

ولهذا غلط علماء الكلام من الأشاعرة حين ظنوا أن هناك نوعين مختلفين من الصفات أحدهما قائم بالذات لازم لها ، كصفات المعاني السبعة التي هي العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام ، والثاني صفات أفعال لا تقوم عندهم بالذات ، بل هي نسب إضافية عدمية تنشأ من إضافة المفعول لفاعله ، ولا يعقل لها وجود إلا بتلك الاضافة فوجودها أمر سلبي ، وليس لها وجود في نفسها ، فليس ثمت عندهم موجود الا المفعولات ، وأما الأفعال فنسب وإضافات.

وهذا قول باطل مخالف كما قدمنا لما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف ، بل والعقل أيضا الذي يقضي بأن تكون صفات الأفعال قائمة بمن فعلها ، ويكون متصفا بها من قالها أو عملها ، إذ لا يتصور في العقل مفعول من غير فعل ، ولا مخلوق من غير خالق ، كما لا يتصور أحد اسما مشتقا ولا يكون دالا على صفة في المحل المسمى به.

والذي أوقعهم في هذا الغلط الشنيع أن صفات الأفعال عندهم لا تكون إلا حادثة لتعلقها بالمفعولات الحادثة ، فيستحيل عندهم قيامها بذاته تعالى ، لأن قيام

١٢٠