شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

وغرس عرشها بيده وقال لها تكلمي ، فقالت قد أفلح المؤمنون ، فقال طوبى لك منزل الملوك».

وأما حديث أبي الدرداء فقد سبقت الإشارة إليه ، وهو أثر عظيم يطرب له قلب المؤمن ، ومثل هذا لا يقال بالرأي ، بل لا بد أن يكون أبو الدرداء سمعه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو من علماء الصحابة الأجلاء. وفي هذا الحديث يخبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه عزوجل أنه ينزل لآخر ثلاث ساعات بقين من الليل ، وأنه في الساعة الأولى ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره فيمحو ويثبت ، ولهذا ترى المرء يبيت على حال ويصبح على أخرى مخالفة لها ، فيكون نائما وأموره تدبر من حيث لا يدري ولا يشعر ، فسبحانه من كل يوم هو في شأن ، وفي الساعة الثانية ينظر في جنة عدن التي هي مسكنه ومسكن خواص خلقه من الرسل والأنبياء والصديقين ، حيث أعد لهم فيها ما لم يخطر مثاله بقلب أحد وأما في الساعة الثالثة فينزل إلى خلقه يبسط لهم يد رحمته وعفوه حتى تصلى الفجر التي يشهدها الله وملائكته ، كما قال تعالى : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨].

* * *

فصل

في بناء الجنة

وبناؤها اللبنات من ذهب

وأخرى فضة نوعان مختلفان

وقصورها من لؤلؤ وزبرجد

أو فضة أو خالص العقيان

وكذاك من در وياقوت به

نظم البناء بغاية الاتقان

والطين مسك خالص أو زعفرا

ن جابذا أثران مقبولان

ليسا بمختلفين لا تنكرهما

فهما الملاط لذلك البنيان

الشرح : روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال : (قلنا يا رسول الله إذا رأيناك رقت قلوبنا وكنا من أهل الآخرة ، وإذا فارقتنا أعجبتنا الدنيا وشممنا النساء والأولاد. قال : لو بقيتم في كل حال على الحال التي أنتم عليها

٣٦١

عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ولزارتكم في بيوتكم ، ولو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون كي يغفر لهم ، قال قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال لبنة ذهب ولبنة فضة وملاطها المسك وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران ، من يدخلها ينعم لا يبأس ويخلد لا يموت ، لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه).

وروى أبو بكر بن مردويه من حديث الحسن عن ابن عمر قال : (سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الجنة فقال : من يدخل الجنة يحيا لا يموت ، وينعم لا يبأس لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ، قيل يا رسول الله كيف بناؤها؟ قال لبنة من ذهب ولبنة من فضة وملاطها مسك أذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت وترابها الزعفران) هكذا جاء في هذه الأحاديث أن ترابها الزعفران ، وقد ورد في بعضها أن ترابها المسك ، ولا تعارض بينها إذ يجوز أن تكون تربتها متضمنة للنوعين. كما قال بعض السلف : ويجوز أن يكون التراب من زعفران ، فإذا عجن بالماء صار مسكا ، والطين قد يسمى ترابا ، ويحتمل أن يكون زعفرانا باعتبار اللون ـ ومسكا باعتبار الرائحة ، وهذا من أحسن شيء يكون البهجة والإشراق لون الزعفران والرائحة رائحة المسك. وكذلك ورد تشبيهها بالدرمكة ، وهي الخبزة الصافية التي يضرب لونها إلى الصفرة مع لينها ونعومتها.

* * *

فصل

في أرضها وحصبائها وتربها

والأرض مرمرة كخالص فضة

مثل المرات تناله العينان

في مسلم تشبيهها بالدرمك الص

افي وبالمسك العظيم الشأن

هذا لحسن اللون لكن ذا لطي

ب الريح صار هناك تشبيهان

حصباؤها در وياقوت كذا

ك لآلئ نثرت كنثر جمان

وترابها من زعفران أو من الم

سك الذي ما استلّ من غزلان

٣٦٢

الشرح : سئل ابن عباس رضي الله عنهما : ما أرض الجنة؟ فقال : (مرمرة بيضاء من فضة كأنها مرآة ، قيل له فما نورها؟ قال : أما رأيت الساعة التي تكون فيها قبل طلوع الشمس؟ فذلك نورها ، إلا أنه ليس فيها شمس ولا زمهرير). وكذلك روى ابن عباس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خلق الله الجنة بيضاء وأحب الزي إلى الله البياض ، فليلبسه أحياءكم وكفنوا فيه موتاكم» وفي سنن ابن ماجة من حديث أسامة بن زيد قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا هل من مشمر للجنة ، فإن الجنة لا حظر لها ، هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانه تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ومقام في أيد في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة وحبرة ، ونعمة في محلة عالية بهية قالوا نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال قولوا إن شاء الله ، قال القوم إن شاء الله».

* * *

فصل

في صفة غرفاتها

غرفاتها في الجو ينظر بطنها

من ظهرها والظهر من بطنان

سكانها أهل القيام مع الصيا

م وطيب الكلمات والإحسان

ثنتان خالص حقه سبحانه

وعبيده أيضا لهم ثنتان

الشرح : قال الله تعالى : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ) [الزمر : ٢٠] وقال : (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) [الفرقان : ٧٥] والغرفة هنا اسم جنس كالجنة وهي المنازل العالية.

روى الترمذي في جامعه من حديث عبد الرحمن بن اسحاق عن النعمان بن سعد عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة غرفا يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها ، فقام اعرابي فقال : يا رسول الله لمن هي؟ قال : لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام».

وروى البيهقي من حديث حفص بن عمرو بن قيس الملائى عن عطاء بن أبي

٣٦٣

رباح عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة لغرفا ، فإذا كان ساكنها فيها لم يخف عليه ما خلفها ، وإذا كان خلفها لم يخف عليه ما فيها ، قيل لمن هي يا رسول الله؟ قال لمن أطاب الكلام ، وواصل الصيام ، وأطعم الطعام ، وأفشى السلام وصلى والناس نيام».

فهؤلاء هم سكان هذه الغرف ، لأنهم قاموا بحق الله وحق عباده ، فثنتان من هذه الخصال هما خالص حقه سبحانه ، وهما أداء الصيام ، والصلاة بالليل والناس نيام ، وثنتان من حقوق العباد ، وهما افشاء السلام وإطعام الطعام.

* * *

فصل

في خيام أهل الجنة

للعبد فيها خيمة من لؤلؤ

قد جوفت هي صنعة الرحمن

ستون ميلا طولها في الجو في

كل الزوايا أجمل النسوان

يغشى الجميع فلا يشاهد بعضهم

بعضا وهذا لاتساع مكان

فيها مقاصير بها الأبواب من

ذهب ودر زين بالمرجان

وخيامها منصوبة برياضها

وشواطئ الأنهار ذي الجريان

ما في الخيام سوى التي لو قابلت

للنيرين لقلت منكسفان

لله هاتيك الخيام فكم بها

للقلب من علق ومن أشجان

فيهن حور قاصرات الطرف خي

رات حسان من خير حسان

خيرات أخلاق حسان أوجها

فالحسن والإحسان متفقان

الشرح : يعني أن للمؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤ مجوف قد صنعها له أحسن الخالقين ، وأن طول هذه الخيمة ستون ميلا ، وفي كل ركن من أركانها زوجة له من أجمل النساء ، فيجامع كل واحدة منهن من غير أن يرى بعضهن بعضا ، وذلك لتباعد ما بينهن.

وهذه الخيام فيها مقاصير بها أبواب مصنوعة من ذهب ودر مزين بالمرجان ،

٣٦٤

وهي غير الغرف والقصور ، بل هي خيام في البساتين وعلى شواطئ الأنهار ، في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلا فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا».

وروى ابن أبي الدنيا بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال : (لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ولكل خيمة أربعة أبواب يدخل عليها كل يوم من كل باب تحفة وهدية وكرامة لم تكن قبل ذلك ، وليس في هذه الخيام سوى الحور العين التي لو التقت احداهن بالشمس والقمر لأزرت بنورهما ولخلت أنهما منكسفان فلله هاتيك الخيام كم للقلوب بها من تعلق وميل وكم بها من غرام وأشجان.

فيهن قاصرات الطرف فلا ينظرن إلى غير أزواجهن وهن خيرات حسان خيرات أخلاقا وحسان وجوها ، كمل منهن الظاهر والباطن والخلق والخلق فاتفق لهما الحسن والجمال مع الإحسان وكريم الخلال).

* * *

فصل

في أرائكها وسررها

فيها الأرائك وهي من سرر علي

هن الحجال كثيرة الألوان

لا تستحق اسم الأرائك دون ها

تيك الحجال وذاك وضع لسان

بشخنانة يدعونها بلسان فا

رس وهو ظهر البيت ذي الأركان

الشرح : الأرائك جمع أريكة. قال مجاهد عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) [الكهف : ٣١] لا تكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة ، فإذا كان السرير بغير حجلة لا يكون أريكة ، وإن كانت حجلة بغير سرير لم تكن أريكة ، فإذا اجتمعا كانت أريكة.

وقال الليث : الأريكة سرير حجلة ، فالحجلة والسرير أريكة وجمعها أرائك ،

٣٦٥

والحجلة هي البشخانة التي تعلق فوق السرير بلغة فارس ، وفي الحديث أن خاتم النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مثل زر الحجلة : وهو الزر الذي يجمع بين طرفيها من جملة أزرارها ، والله أعلم.

* * *

فصل

في أشجارها وثمارها وظلالها

أشجارها نوعان منها ما له

في هذه الدنيا مثال ذان

كالسدر أصل النبق مخضود مكا

ن الشوك من ثمر ذوي ألوان

هذا وظل السدر من خير الظلا

ل ونفعه الترويح للأبدان

وثماره أيضا ذوات منافع

من بعضها تفريح ذي الأحزان

والطلح وهو الموز منضود كما

نضدت يد باصابع وبنان

أو أنه شجر البوادي موقرا

حملا مكان الشوك في الأغصان

وكذلك الرمان والأعناب التي منها القطوف دوان الشرح : يعني أن أشجار الجنة نوعان : نوع له شبيه في هذه الدنيا ، وذلك كالسدر الذي هو شجر النبق. كما قال تعالى: (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ* فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) [الواقعة : ٢٧ ، ٢٨] ومعنى مخضود. قال قتادة : الموقر الذي لا شوك ، فإن سدر الدنيا كثير الشوك قليل الثمر ، وفي الآخرة بالعكس من هذا ، لا شوك فيه ، وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله.

روى الحافظ أبو بكر أحمد بن سليمان النجار عن عامر بن سليم قال : (كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقولون أن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، قال : أقبل أعرابي يوما فقال : يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما هي؟ قال السدر فإن لو شوكا مؤذيا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أليس الله تعالى يقول : (فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) خضد الله شوكه فجعل

٣٦٦

مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمرا ففتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لونا من طعام ما فيه لون يشبه الآخر).

هذا ومن فوائد السدر أن ظلاله من خير الظلال وأنفعها وأشدها ترويحا للأبدان كما أن الأكل من ثمرته يجلب الفرح ويذهب الأحزان.

ومنها أيضا الطلح ، وهو شجر الموز ، قال تعالى : (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) [الواقعة : ٢٩] يعني نضد ثمره وتراكم فتراه في سباطته ، كما نضدت الأصابع والبنان في الكف ، وتفسير الطلح بالموز هو المعروف عن أبي سعيد وابن عباس وأبي هريرة وعكرمة ومجاهد وغيرهم وقيل هو شجر عظام من شجر العضاة واحدته طلحة ، وهو شجر كثير الشوك ، فيجعل الله مكان كل شوكة منها ثمرة فيها سبعون لونا من الطعام لا يشبه لون منها الآخر كما ورد في الحديث.

وكان علي رضي الله عنه يقرأ : في طلع منضود فعلى هذا يحتمل أن يكون صفة أخرى لسدر. ومنها أيضا الرمان والنخيل والأعناب التي دنت قطوفها وتدلّت ثمرتها لآكلها. قال تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرحمن : ٦٨] وقال : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً) [النبأ : ٣١ ، ٣٢].

* * *

هذا ونوع ما له في هذه الد

نيا نظير كي يرى بعيان

يكفي من التعداد قول الهنا

من كل فاكهة بها زوجان

وأتوا به متشابها في اللون مخ

تلف الطعوم فذاك ذو ألوان

أو أنه متشابه في الاسم مخ

تلف الطعوم فذاك قول ثان

أو أنه وسط خيار كله

فالفحل منه ليس ذا ثنيان

أو أنه لثمارنا ذي مشبه

في اسم ولون ليس يختلفان

لكن لبهجتها ولذة طعمها

أمر سوى هذا الذي تجدان

فيلذها في الأكل عند منالها

وتلذها من قبله العينان

قال ابن عباس وما بالجنة ال

عليا سوى أسماء ما تريان

يعني الحقائق لا تماثل هذه

وكلاهما في الاسم متفقان

٣٦٧

الشرح : وأما النوع الثاني من أشجار الجنة فليس له نظير في هذه الدنيا تراه العيون وهو كثير جدا ، لكن يكفي من عده قول الله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) [الرحمن : ٥٢] ويؤتى أهل الجنة بالثمر متشابها ، كما قال تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) [البقرة : ٢٥].

واختلف فيم يكون التشابه؟ فقيل يكون متشابها في اللون مع اختلاف الطعوم قال بهذا طائفة منهم ابن مسعود وابن عباس ومجاهد والربيع بن أنس وغيرهم. قال يحيى بن أبي كثير (عشب الجنة الزعفران وكثبانها المسك ويطوف عليهم الولدان بالفاكهة فيأكلونها ثم يأتونهم بمثلها ، فيقولون هذا الذي جئتمونا به آنفا ، فيقول لهم الخدم : كلوا فإن اللون واحد والطعم مختلف) ، وقيل إن التشابه في الأسماء مع اختلاف الطعم ، ولا أدري من قال بهذا.

وقيل معنى (متشابها) أي يشبه بعضه بعضا في الحسن ، فهو خيار كله لا رذل فيه. قال بذلك الحسن وقتادة وابن جريج وغيرهم ، وعلى هذا فالمراد بالتشابه التوافق والتماثل.

وقالت طائفة أخرى : إن معنى الآية أن ثمر الجنة يشبه ثمر الدنيا في الاسم واللون ، ولكنه أبهج منه منظرا وألذ طعما ، فآكلها يلتذ بها عند تناولها أعظم لذة ومن قبل ذلك تلتذ عيناه بحسن مرآها. قال ابن وهب قال عبد الرحمن بن زيد (يعرفون أسماءه كما كانوا في الدنيا ، التفاح بالتفاح والرمان بالرمان ، وليس هو مثله في الطعم). وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء) ومعنى هذا أن الحقائق مختلفة غير متماثلة ، فليس النخل كالنخل ولا الرمان كالرمان ولا اللبن كاللبن ولا العسل كالعسل وغير ذلك ، ولكن الأسماء متفقة ، ولكن يجب أن يكون هناك قدر مشترك بينهما يصحح إطلاق الاسم على كل منهما كما سيأتي.

* * *

٣٦٨

يا طيب هاتيك الثمار وغرسها

في المسك ذاك الترب للبستان

وكذلك الماء الذي يسقى به

يا طيب ذاك الورد للظمآن

وإذا تناولت الثمار أتت نظي

رتها فحلت دونها بمكان

لم تنقطع أبدا ولم ترقب نزو

ل الشمس من حمل إلى ميزان

وكذاك لم تمنع ولم تحتج إلى

أن ترتقي للقنو في العيدان

بل ذللت القطوف فكيف ما

شئت انتزعت بأسهل الإمكان

ولقد أتى أثر بأن الساق من

ذهب رواه الترمذي ببيان

قال ابن عباس وهاتيك الجذو

ع زمرد من أحسن الألوان

ومقطعاتهم من الكرم الذي

فيها ومن سعة من العقيان

وثمارها ما فيه من عجم كأم

ثال القلال فجلّ دو الإحسان

وظلالها معدودة ليست تقي

حرا ولا شمسا وأنى ذان

أو ما سمعت بظل أصل واحد

فيه يسير الراكب العجلان

مائة سنين قدرت لا تنقضي

هذا العظيم الأصل والأفنان

ولقد روى الخدري أيضا أن طو

بى قدرها مائة بلا نقصان

تتفتح الأكمام فيها عن لبا

سهم بما شاءوا من الألوان

الشرح : فما أطيب هذه الثمار التي غرست أشجارها في أرض المسك الذي هو تراب الجنة ، ثم سقيت بماء هو أطهر ماء وأنقاه ، وأعذب مورد للظامئ الصادي وأحلاه.

وهذه الثمار إذا تناولت منها ثمرة خلق الله مكانها أخرى ، فثمارها لا تنقطع أبدا ، بل هي متجددة دائما ، وهي توجد حين توجد نضيجة مهيأة للقطاف ، فلا تنتظر نزول الشمس من برج الحمل إلى برج الميزان الذي هو أوان نضوج ثمار الدنيا.

وهي أيضا غير ممنوعة على من أراد تناولها ، فلا يحتاج أن يصعد إلى قنواتها ليقطفها ، كما هو الحال في الدنيا ، بل هي قطوف مذللة منقادة ودانية قريبة

٣٦٩

يقطف منها كيف شاء ، قائما أو قاعدا أو مضطجعا ، وينتزعها بأيسر قدرة ولقد روى الترمذي في جامعه من حديث أبي حامد عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب».

وقال ابن المبارك حدثنا سفيان عن حماد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (نخل الجنة جذوعها من زمرد أخضر وكربها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل أجنة ، منها مقطعاتهم وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدلاء أشد بياضا من اللبن وأحلى مذاقا من العسل وألين من الزبدة ليس فيها عجم).

وأما ظلال الجنة فظليلة ممدودة لكنها لا تحمى من حر ولا شمس ، إذ لا حر ولا شمس هناك. قال تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) [الإنسان : ١٣].

روى عكرمة عن ابن عباس قال : (الظل الممدودة شجرة في الجنة على ساق قدر ما يسير الراكب المجد في ظلها مائة عام في كل نواحيها ، فيخرج إليها أهل الجنة أهل الغرف وغيرهم يتحدثون في ظلها ، قال فيشتهي بعضهم ويذكر لهو الدنيا ، فيرسل الله ريحا من الجنة فتحرك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا).

وروى ابن وهب عن أبي سعيد الخدري قال : (قال رجل يا رسول الله ما طوبى؟ قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ، ثياب أهل الجنة تخرج من اكمامها).

* * *

فصل

في سماع أهل الجنة

قال ابن عباس ويرسل ربنا

ريحا تهز ذوائب الأغصان

فتثير أصواتا تلذ لمسمع الإ

الإنسان كالنغمات بالأوزان

يا لذة الأسماع لا تتعوضى

بلذاذة الأوتار والعيدان

أو ما سمعت سماعهم فيها غنا

ء الحور بالأصوات والألحان

٣٧٠

واها لذيّاك السماع فإنه

ملئت به الأذنان بالإحسان

واها لذيّاك السماع وطيبه

من مثل أقمار على أغصان

واها لذيّاك السماع فكم به

للقلب من طرب ومن أشجان

واها لذيّاك السماع ولم أقل

ذيّاك تصغيرا له بلسان

ما ظن سامعه بصوت أطيب ال

أصوات من حور الجنان حسان

نحن النواعم والخوالد خيرا

ت كاملات الحسن والإحسان

لسنا نموت ولا نخاف وما لنا

سخط ولا ضغن من الأضغان

طوبى لمن كنا له وكذاك طو

بى للذي هو حظنا لفظان

في ذاك آثار روين وذكرها

في الترمذي ومعجم الطبراني

ورواه يحيي شيخ الأوزاعي تف

سيرا للفظة يحبرون أغان

الشرح : سبق أن ذكرنا الأثر الذي رواه عكرمة عن ابن عباس أن أهل الجنة حين يشتهون السماع ويذكرون لهو الدنيا وهم تحت شجرة طوبى يرسل الله إليهم ريحا تهز أفنان الشجرة فتنطلق منها أنغام وأصوات هي ألذ في السمع من كل أنغام الدنيا وألحانها.

فيا لذة الأسماع لا تستعيضى عن هذا السماع العالي الحلو النشيد بما تسمعين في هذه الدنيا من أوتار وعيدان ، ولا تستبدلي الذي هو أدنى بالذي هو خير. ولقد وردت الآثار أيضا بأن الحور العين يغنين في كل صباح بأعذب الألحان. روى الترمذي بإسناده عن النعمان بن سعد عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة لمجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها ، يقلن : نحن الخالدات فلا نبيد ، ونحن الناعمات فلا نبأس ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن كان لنا وكنا له».

وروى الطبراني من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط ، وأن مما يغنين به : نحن الخيرات الحسان أزواج قوم كرام. ينظرون بعشرة أعين ، وأن مما يغنين

٣٧١

به : نحن الخالدات فلا نمتنه ، نحن الآمنات فلا نخفنه ، نحن المقيمات فلا نظعنه». وروى أبو نعيم في صفة الجنة من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة شجرة جذوعها من ذهب وفروعها من زبرجد ولؤلؤ ، فتهب لها ريح فيصطفقن ، فما سمع السامعون بصوت شيء قط ألذ منه». وروى الأوزاعي عن شيخه يحيى بن أبي كثير في تفسير قوله تعالى : (يُحْبَرُونَ) [الروم : ١٥] قال الحبرة السماع في الجنة.

فوا لهفتا على ذلك السماع التي تمتلئ منه الآذان لذة ونشوة ، ووا لهفتا لذلك السماع وطيبه حين تنطلق به حناجر الحور الحريرية وتتمايل عنده رءوسهن كأنها أقمار على أغصان ، ووا لهفتا لذلك السماع الذي ملأ القلوب طربا وشجنا ، ولم أقل بذياك بصيغة التصغير تحقيرا له وتهوينا من شأنه ، فما ظنك بأطيب صوت في أعذب لحن يخرج من أجمل امرأة ، لا شك أنه قد اجتمعت له كل عناصر اللذة والامتاع.

* * *

نزه سماعك إن أردت سماع ذي

اك الغنى عن هذه الألحان

لا تؤثر الأدنى على الأعلى فتح

رم ذا وذا يا ذلة الحرمان

إن اختيارك للسماع النازل ال

أدنى على الأعلى من النقصان

والله أن سماعهم في القلب وال

إيمان مثل السم في الأبدان

والله ما انفك الذي هو دأبه

أبدا من الإشراك بالرحمن

فلقلب بيت الرب جل جلاله

حبا واخلاصا مع الإحسان

فإذا تعلق بالسماع اصاره

عبدا لكل فلانة وفلان

حب الكتاب وحب ألحان الغنى

في قلب عبد ليس يجتمعان

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا

تقييده بشرائع الإيمان

واللهو خف عليهم لما رأوا

ما فيه من طرب ومن ألحان

قوت النفوس وانما القرآن قو

ت القلب أنى يستوي القوتان

٣٧٢

ولذا تراه حظ ذي النقصان كال

جهال والصبيان والنسوان

وألذهم فيه أقلهم من العقل

الصحيح فسل أخا العرفان

يا لذة الفساق لست كلذة ال

أبرار في عقل ولا قرآن

الشرح : فإن أردت أن تحظى بسماع ذلك الغناء العلوي العبقري النشيد فنزه سمعك عن هذه الألحان الدنسة المنطلقة بسعار الشهوة ، ولا تؤثر هذا الأدنى الخسيس على الأعلى الشريف النفيس. فيكون مآلك أن تحرمهما جميعا ، وما أقسى الحرمان وما أصعبه. وأن إيثارك هذا السماع الدني المنحط على السماع العلوي الكريم من أمارات نقصانك في عقلك وإيمانك ، فكيف يؤثر عاقل لذة حقيرة تفوت وتذهب على لذة عالية تبقى وتخلد؟

ووالله أن سماع هذه الألحان لأشد فتكا بالقلب والإيمان من فتك السموم بالأبدان ، وأن الذي يجعل هذا السماع ديدنه وهجيراه ويغرم به لا ينفك أبدا من الإشراك بالرحمن ، فإن القلب هو بيت الرب جل جلاله ووعاء محبته ومعرفته والإخلاص له ، فهو عرش للمثل الأعلى ، فإذا خلا من هذه المعالي الكريمة وتعلق بالغناء واللهو الباطل ، جعله ذلك عبدا للمغنين والمغنيات لا يلهج إلا بذكرهم ، ولا يفكر إلا فيهم ، واعتبر بما نراه في هذه الأيام من تعلق هذه الأمة بمن نبغوا في الغناء والطرب ، من أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وصباح وغيرهم ، فإنك لا تجد أغلب هذه الأمة إلا عبيدا لهؤلاء ، قد فتنوا بهم أعظم فتنة ، حتى أن الفتيان والفتيات يحفظون أغنياتهم عن ظهر قلب ، وكثير منهم قد لا يحفظ فاتحة الكتاب. فحب القرآن وحب الغناء والألحان في قلب عبد واحد لا يجتمعان. قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ، فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [لقمان : ٦ ، ٧] والناس قد استثقلوا القرآن لما فيه من قيود التكاليف وشرائع الإيمان ، ولكنهم استخفوا اللهو والغناء لما فيه من الطرب والألحان.

٣٧٣

أما هذا اللهو والغناء فهو غذاء النفوس المريضة الأمارة بالسوء ، ولكن القرآن هو قوت القلوب ، ولا يمكن أن يستوي القوتان. ولهذا ترى الغناء هو نصيب أهل النقص القريبين من درجة العجماوات من الجهال والغلمان والنسوان وترى أشدهم تعلقا به ولذة فيه أقلهم حظا من العقل السليم فاسأل به خبيرا. وأين لذة الفساق والمجان من لذة الأبرار في العقل والقرآن.

* * *

فصل

في أنهار الجنة

أنهارها في غير أخدود جرت

سبحان ممسكها عن الفيضان

من تحتهم تجري كما شاءوا مفج

رة وما للنهر من نقصان

عسل مصفى ثم ماء ثم خم

ر ثم أنهار من الألبان

والله ما تلك المواد كهذه

لكن هما في اللفظ مجتمعان

هذا وبينهما يسير تشابه

وهو اشتراك قام بالأذهان

الشرح : يعني أن أنهار الجنة تجري على وجه الأرض في غير أخاديد ، وأما قوله تعالى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٥] فالمراد أنها تجري تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم ، والله سبحانه يمسكها أن تفيض على الجانبين ، وهي أنهار مطردة دائمة الجريان لا يطرأ لها غيض ولا نقصان ، وتتفجر لهم كما شاءوا وأينما كانوا ، كما قال تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) [الإنسان : ٦].

وهي أنهار تجري بأنواع مختلفة من الأشربة ، كما قال تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥] وليست هذه الأشربة كالمعهود منها في الدنيا ، بل بينها من التفاوت في الطعم والشكل ما لا يعلمه إلا الله ، ولا اشتراك بينها إلا في اللفظ ، كما قال ابن

٣٧٤

عباس : ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء ، وبينها كذلك قدر يسير من التشابه ، وهو اشتراكها في المعنى الكلي الحاصل في الأذهان. قال المؤلف في (حادي الأرواح).

(فذكر سبحانه هذه الأجناس الأربعة ، ونفى عن كل واحد منها الآفة التي تعرض له في الدنيا ، فآفة الماء أن يأسن ويأجن من طول مكثه ، وآفة اللبن أن يتغير طعمه إلى الحموضة وأن يصير قارصا ، وآفة الخمر كراهة مذاقها المنافي للذة شربها ، وآفة العسل عدم تصفيته).

* * *

فصل

في طعام أهل الجنة

وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم

ولحوم طير ناعم وسمان

وفواكه شتى بحسب مناهم

يا شبعة كملت لذي الإيمان

لحم وخمر والنسا وفواكه

والطيب مع روح ومع ريحان

وصحافهم ذهب تطوف عليهم

بأكف خدام من الولدان

وانظر إلى جعل اللذاذة للعيو

ن وشهوة للنفس في القرآن

للعين منها لذة تدعو إلى

شهواتها بالنفس والأمران

سبب التناول وهو يوجب لذة

أخرى سوى ما نالت العينان

الشرح : يعني أن طعام أهل الجنة هو كل ما تتطلبه نفوسهم من لحوم الطير السمان والفواكه المتنوعة ، كما قال تعالى : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة: ٢٠ ، ٢١] وكما قال : (لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) [يس : ٥٧] ويأكلون منها وفق ما يتمنونه حتى يمتلئون شبعا ، فلهم فيها لحم طيب نضيج وخمر معتقة لذة للشاربين ونساء طاهرات من الحيض ومن كل قذر ، وفواكه لا يصيبها عفن ولا عطب ، ولهم فيها أريج الطيب وشذى الروح والريحان ، فطاب لهم فيها كل شيء ، من مطعوم ومشروب ومنكوح ومشموم.

٣٧٥

ويأتي لهم الطعام في صحاف من الذهب يطوف عليهم بها غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون. قال تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [الزخرف : ٧١].

وتأمل في هذه الآية الكريمة حيث جعل اللذة للعين والشهوة للنفس ، لأن العين إذا التذت شيئا اشتهته النفس ، فلذة العين سبب داع إلى شهوة النفس ، وكلاهما باعث على التناول وهو مقتض لذة أخرى فوق ما نالته العينان.

وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يأكل أهل الجنة ويشربون ولا يمتخطون ولا يتغوطون ولا يبولون ، طعامهم ذلك جشاء كريح المسك يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس». وفي المسند وسنن النسائي بإسناد صحيح عن زيد بن أبي أرقم قال : (جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال نعم والذي نفس محمد بيده أن أحدهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة ، قال فإن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة أذى ، قال تكون أحدهم رشحا يفيض من جلودهم كرشح المسك فيضمر بطنه).

وعن عبد الله بن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا». وعن عبد الله بن عمرو في قوله تعالى : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ) [الزخرف : ٧١] قال : يطاف عليهم بسبعين صحفة من ذهب كل صحفة منها فيها لون ليس في الأخرى.

وروى الحاكم بإسناده عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الجنة طيرا أمثال البخاتي ، فقال أبو بكر إنها لناعمة يا رسول الله ، قال أنعم منها من يأكلها وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر».

* * *

٣٧٦

فصل في شرابهم

يسقون فيها من رحيق ختمه

بالمسك أوله كمثل الثاني

مع خمرة لذت لشاربها بلا

غول ولا داء ولا نقصان

والخمر في الدنيا فهذا وصفها

تغتال عقل الشارب السكران

وبها من الأدواء ما هي أهله

ويخاف من عدم لذي الوجدان

فنفى لنا الرحمن أجمعها عن ال

خمر التي في جنة الحيوان

وشرابهم من سلسبيل مزجه ال

كافور ذاك شراب ذي الإحسان

هذا شراب أولي اليمين ولكن ال

أبرار شربهم شراب ثان

يدعى بتسنيم سنام شربهم

شرب المقرب خيرة الرحمن

صفى المقرب سعيه فصفا له

ذاك الشراب فتلك تصفيتان

لكن أصحاب اليمين فأهل مز

ج بالمباح وليس بالعصيان

مزج الشراب لهم كما مزجوا

هم الأعمال ذاك المزج بالميزان

هذا وذو التخليط مزجا أمره

والحكم فيه لربه الديان

الشرح : قال الله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين : ٢٢ ، ٢٨].

وقال سبحانه : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) [الإنسان : ١٦٠].

وقال جل ذكره : (يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) [الصافات : ٤٥ ، ٤٧].

قال ابن عباس : (بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) الخمر (لا فِيها غَوْلٌ) ليس فيها صداع (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) لا تذهب عقولهم ، وقال في تفسير قوله تعالى :

٣٧٧

(وَكَأْساً دِهاقاً) [النبأ : ٣٤] ممتلئة. وقوله : (رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) [المطففين : ٢٥] يقول الخمر ختم بالمسك.

فهذا شأن خمر الآخرة تحدث لصاحبها أعظم نشوة وأصفى لذة من غير أن تغتال عقله أو تصدع رأسه أو تجلب له الأمراض.

وأما خمر الدنيا فهذا وصفها : تغتال عقل شاربها حتى يهذي ويقدم على ارتكاب العظائم ، وتحدث له من الأدواء والعلل ما هي جديرة به ، وتورثه العدم والإملاق بعد الغنى واليسار ، فنفى لنا الرحمن عزوجل كل هذه الآفات التي تحدثها خمر الدنيا عن خمر الجنة من الصداع والغول واللغو والإنزاف وعدم اللذة. وأهل الجنة فريقان : مقربون ، وأصحاب يمين.

أما أصحاب اليمين فيشربون فيها من سلسبيل مزج بالكافور والزنجبيل ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً) [الإنسان : ٥] وقال بعد ذلك : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) [الإنسان : ١٧ ، ١٨] قال المؤلف رحمه‌الله في حادي الأرواح :

فأخبر سبحانه عن مزاج شرابهم بشيئين ، بالكافور في أول السورة والزنجبيل في اخرها ، فإن في الكافور من البرد وطيب الرائحة وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرائحة ما يحدث لهم باجتماع الشرابين ومجيء أحدهما على أثر الآخر حالة اخرى أكمل وأطيب وألذ من كل منهما بانفراده ، ويعدل كيفية كل منهما بكيفية الآخر. وما ألطف موقع ذكر الكافور في أول السورة والزنجبيل في آخرها ، فإن شرابهم مزج أولا بالكافور ، وفيه من البرد ما يجيء الزنجبيل بعده فيعدله والظاهر أن الكأس الثانية غير الأولى ، وأنهما نوعان لذيذان من الشراب ، أحدهما مزج بكافور والثاني مزج بزنجبيل أه.

وأما المقربون فيشربون من هذه الكأس صرفا غير مزيج كما قال تعالى : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً) [الإنسان : ٦] وذلك لأنهم

٣٧٨

أخلصوا الأعمال لله فأخلص شرابهم. وأما الأولون فمزجوا فمزج شرابهم. ونظير هذا قوله تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) [المطففين : ٢٧ ، ٢٨] يعني أن شراب أصحاب اليمين يمزج لهم من هذه العين التي تسمى بتسنيم والتي يشرب منها المقربون صرفا. فالمقرب أخلص سعيه وصفاء حتى صار كله لله ، فلهذا صفى له شرابه ولم يمزج ، والجزاء من جنس العمل. وأما أصحاب اليمين فلما مزجوا سعيهم الصالح ببعض المكروهات التي ليست معصية مزج لهم شرابهم حزاء وفاقا.

وهناك فريق ثالث ، وهم الذين قال الله فيهم : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٠٢] وهم الذين قصروا في بعض الواجبات وارتكبوا بعض المحرمات ، فهؤلاء أمرهم مفوض إلى الله سبحانه ، إن شاء عفا عنهم وتاب عليهم ، وإن شاء عذبهم بقدر ذنوبهم ثم يدخلهم الجنة.

* * *

فصل

في مصرف طعامهم وشرابهم وهضمه

هذا وتصريف المآكل منهم

عرق يفيض لهم من الأبدان

كروائح المسك الذي ما فيه خل

ط غيره من سائر الألوان

فتعود هانيك البطون ضوامرا

تبغي الطعام على مدى الأزمان

لا غائط فيها ولا بول ولا

مخط ولا بصق من الإنسان

ولهم جشاء ريحه مسك يكو

ن به تمام الهضم بالإحسان

هذا وهذا صح عنه فواحد

في مسلم ولأحمد الأثران

الشرح : يعني أن طعام أهل الجنة وشرابهم لا يخلف في بطونهم فضلات تؤذيهم يحتاجون معها إلى بول أو غائط ، بل تخرج عرقا له رائحة كرائحة المسك

٣٧٩

الخالص الذي لم يخلط به غيره ، فتعود بطونهم ضوامر خاوية تتطلب الطعام وتشتهيه ، وهكذا حالهم على الدوام ، أكل وانهضام ، وقد طهر الله الجنة وأهلها من كل قذر الدنيا وخبثها ، فلا غائط فيها ولا بول ، ولا تمخط ولا بصق ، ولا حيض ولا نفاس. ولأهل الجنة جشاء ، وهو ذلك الريح الذي يخرج من الفم ، يكون كريح المسك يتم به هضمهم للطعام. وهذا كله صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سبق أن ذكرنا حديث مسلم في جشاء أهل الجنة.

ولأحمد رحمه‌الله أثران في هذا الباب يدلان على أن طعام أهل الجنة يفيض من جلودهم كرشح المسك ، وقد تقدم ذكر ذلك.

* * *

فصل

في لباس أهل الجنة

وهم الملوك على الأسرة فوق ها

تيك الرءوس مرصع التيجان

ولباسهم من سندس خضر ومن

استبرق نوعان معروفان

ما ذاك من دود بنى من فوقه

تلك البيوت وعاد ذا الطيران

كلا ولا نسجت على المنوال نس

ج ثيابنا بالقطن والكتان

لكنها حلل تشق ثمارها

عنها رأيت شقائق النعمان

بيض وخضر ثم صفر ثم حم

ر كالرباط بأحسن الألوان

لا تقرب الدنس المقرب للبلى

ما للبلى فيهن من سلطان

ونصيف احداهن وهو خمارها

ليست له الدنيا من الأثمان

سبعون من حلل عليها لا تعو

ق الطرف عن مخ ورا الساقان

لكن يراه من ورا ذا كله

مثل الشراب لذي زجاج أوان

الشرح : يعني أن أهل الجنة يكونون ملوكا فيها متكئين على أسرتهم ، والتيجان المرصعة فوق رءوسهن.

٣٨٠