شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

ذكر البيهقي من حديث يعقوب بن حميد بن كاسب عن أبي هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ القرآن فقام به آناء الليل والنهار ، ويحل حلاله ويحرم حرامه ، خلطه الله بلحمه ودمه وجعله رفيق السفرة الكرام البررة ، وإذا كان يوم القيامة كان القرآن له حجيجا ، فقال يا رب كل عامل يعمل في الدنيا يأخذ بعلمه من الدنيا إلا فلانا كان يقوم آناء الليل وأطراف النهار ، فيحل حلالي ويحرم حرامي ، يقول يا رب فأعطه ، فيتوجّه الله تاج الملوك ويكسوه من حلة الكرامة ثم يقول : هل رضيت؟ فيقول : (أي القرآن) يا رب أرغب له في أفضل من هذا ، فيعطيه الله الملك بيمينه والخلد بشماله ، ثم يقول : هل رضيت؟ فيقول نعم يا رب».

وعن أبي سعيد الخدري : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قوله عزوجل : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ) [فاطر : ٣٣] فقال : «إن عليهم التيجان ، إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين الشرق والمغرب».

وأما ثياب أهل الجنة فقد قال تعالى : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [الحج : ٢٣] وقال : (وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) [الكهف : ٣١] قيل السندس مارق من الديباج والاستبرق ما غلظ منه ، أو هو الصفيق. وقال الزجاج : هما نوعان من الحرير. ولما كان أبهج الألوان الأخضر وألين اللباس الحرير ، فقد جمع الله لأهل الجنة بين حسن منظر اللباس والتذاذ العين به ، وبين نعومته والتذاذ الجسم به.

ولكن ينبغي أن يعلم أن حرير الجنة ، بين رقيقه واستبرقه ، لم تخرج خيوطه من تلك الدودة المعروفة بدودة القز التي تبنيه من فوقها ثم تخرج منه وتعود لطيرانها ، وكذلك لم ينسج هذا الحرير على أنوال كهذه التي ننسج عليها ثيابنا التي نتخذها من القطن أو الكتان ، ولكن هذا الحرير صنعة الرحمن تخرج حلله من شجرة في الجنة تتفتح أكمامها عنه كما تتفتح شقائق النعمان.

روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر أن رجلا سأل رسول

٣٨١

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ثياب الجنة أتخلق خلقا أم تنسج نسجا؟ فسكت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة ثم قال : «أين السائل عن ثياب أهل الجنة؟ فقال ها هو ذا يا رسول الله ، قال لا ، بل يشقق عنها ثمر الجنة ثلاث مرات».

وعن أبي سلام الأسود قال : سمعت أبا أمامة يحدث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما منكم من أحد يدخل الجنة الا انطلق به إلى طوبى فتفتح له أكمامها فيأخذ من أي ذلك شاء أبيض وإن شاء أحمر وإن شاء أخضر وإن شاء أصفر وإن شاء أسود ومثل شقائق النعمان وأرق وأحسن».

وهذه الحلل في بهائها وحسنها لا يمسها الدنس والوسخ الذي يسرع بها إلى البلى والتمزق ، إذ ليس للبلى عليها من سبيل ، ونصيف الواحدة من نساء الجنة ، وهو خمارها على رأسها لا يقوم بثمن من أثمان هذه الدنيا.

روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقيد سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ، ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ، ولنصيف امرأة من الجنة خير من الدنيا ومثلها معها ، قال قلت يا رسول الله : وما النصيف؟ قال الخمار».

وروى الطبراني في معجمه من حديث عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول زمرة يدخلون الجنة كأن وجوههم ضوء القمر ليلة البدر ، والزمرة الثانية على لون أحسن كوكب دري في السماء ، لكل واحد منهم زوجتان من الحور العين ، على كل زوجة سبعون حلة ، يرى مخ سوقها من وراء لحومها وحللها كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء» وهذا إسناد على شرط الصحيح.

وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال : أهدى أكيدر دومة إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم جبة من سندس ، فتعجب الناس من حسنها ، فقال : «لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذا» والمراد سعد بن معاذ رضي الله عنه.

* * *

٣٨٢

فصل

في فرشهم وما يتبعها

والفرش من استبرق قد بطنت

ما ظنكم بظهارة لبطان

مرفوعة فوق الأسرة يتكئ

هو والحبيب بخلوة وأمان

يتحدثان على الأرائك ما ترى

حبين في الخلوات ينتجيان

هذا وكم زربية ونمارق

ووسائد صفت بلا حسبان

الشرح : قال الله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) [الرحمن : ٥٤] وقال : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) [الرحمن : ٧٦] وقال : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) [الغاشية : ١٣ ، ١٦].

فقوله تعالى في الآية الأولى : (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) يدل على أمرين ، أحدهما أن ظهائرها أعلى وأحسن من بطائنها ، لأن بطائنها تلي الأرض ، وظهائرها للجمال والزينة والمباشرة. روى سفيان الثوري عن عبد الله في قوله تعالى : (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) قال هذه البطائن قد خبرتم بها فكيف بالظهائر. والثاني أنها فرش عالية لها سمك وحشو بين البطانة والظهارة ، كما قال تعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة : ٣٤].

وقد روى عن أبي سعيد الخدري مرفوعا أن ما بين الفراشين كما بين السماء والأرض.

وهذه الفرش موضوعة فوق الأسرة ليتكئ عليها صاحب الجنة هو وحبيبته من الحور العين ، حيث يتحدثان ويتناجيان ويتطارحان عبارات الغرام ، بعيدين عن الناس وفي مأمن من العواذل والرقباء ، كما يجلس عشيقان من أهل الدنيا في خلوة يتناجيان.

هذا وكم في الجنة من زرابي ، جمع زربية بمعنى البسط والطنافس ، ونمارق جمع نمرقة بضم النون. قال الواحدي : هي الوسائد. وقال الكلبي : وسائد مصفوفة

٣٨٣

بعضها إلى بعض وقال مقاتل : هو الوسائد مصفوفة على الطنافس.

* * *

فصل

في حلى أهل الجنة

والحلى أصفى لؤلؤ وزبرجد

وكذاك أسورة من العقيان

ما ذاك يختص الإناث وإنما

هو للإناث كذاك للذكران

التاركين لباسه في هذه الد

نيا لأجل لباسه بجنان

أو ما سمعت بأن حليتهم إلى

حيث انتهاء وضوئهم بوزان

وكذا وضوء أبي هريرة كان قد

فازت به العضدان والساقان

وسواه أنكر ذا عليه قائلا

ما الساق موضع حلية الإنسان

ما ذاك إلا موضع الكعبين والز

ندين لا الساقان والعضدان

وكذاك أهل الفقه مختلفون في

هذا وفيه عندهم قولان

والراجح الأقوى انتهاء وضوئنا

للمرفقين كذلك الكعبان

هذا الذي قد حده الرحمن في ال

قرآن لا تعدل عن القرآن

واحفظ حدود الرب لا تتعدها

وكذاك لا تجنح إلى النقصان

وانظر إلى فعل الرسول تجده قد

أبدى المراد وجاء بالتبيان

ومن استطاع يطيل غرته فمو

قوف على الراوي هو الفوقاني

فأبو هريرة قال ذا من كيسه

فغدا يميزه أولو العرفان

ونعيم الراوي له قد شك في

رفع الحديث كذا روى الشيباني

وإطالة الغرات ليس بممكن

أبدا وذا في غاية التبيان

الشرح : وأما حلى أهل الجنة فمن أصفى الجواهر الكريمة ، وأثمنها من اللؤلؤ والزبرجد وأساور العقيان الذي هو الذهب وأساور الفضة ، قال تعالى : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) [الحج : ٢٣] قرئ لؤلؤا بالنصب عطف على محل أساور أو منصوبا بفعل محذوف ، أي ويحلون لؤلؤا ، وقرئ بالجر عطفا على ذهب ، وهو يحتمل أمرين : أن يكون لهم أساور من لؤلؤ كما لهم أساور

٣٨٤

من ذهب وأن تكون الأساور مركبة من الأمرين معا ، الذهب المرصع باللؤلؤ والله أعلم بمراده.

وهذه الحلى لا تختص بالإناث في الجنة ، بل هي للذكور والإناث جميعا. بل روي عن الحسن أن الحلى في الجنة على الرجال أحسن منه على النساء ، وهم الرجال الذين تركوا لباس الحرير والذهب في الدنيا ليظفروا بلباسها في الجنة.

وقد ورد أن حلية المؤمن في الجنة تبلغ إلى حيث يبلغ وضوؤه ، فقد أخرجا في الصحيحين والسياق لمسلم عن أبي حازم قال : (كنت خلف أبي هريرة وهو يتوضأ للصلاة ، فكان يمد يده حتى يبلغ إبطه ، فقلت يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال يا بني فروخ أنتم هاهنا؟ لو أعلم أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء» وقد احتج بهذا من يرى استحباب غسل العضد وإطالته ، وكذا غسل الساق ، والصحيح أنه لا يستحب. والحديث لا يدل على الإطالة ، فإن الحلية إنما تكون زينة في الساعد والمعصم لا في العضد والكتف. وكذلك لا تكون زينة في الساقين ولكن في موضع الكعبين ، فالصحيح أن تمام الوضوء هو غسل اليدين إلى المرفقين وغسل الرجلين إلى الكعبين ، وهذا هو الذي حده الله في كتابه حيث قال في آية الوضوء : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦] فالواجب أن يوقف عند ما حدّه الله تعالى بلا زيادة ولا نقصان ، ولا سيما وقد بيّنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بفعله أحسن بيان.

وأما قوله في الحديث الآخر : «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» بعد قوله : «يبعث أمتي غرا محجلين من آثار الوضوء» فالصحيح أن هذه الجملة الشرطية موقوفة على أبي هريرة وأنها ليست من تمام الحديث ، بل قالها أبو هريرة بناء على ما فهمه من الحديث ، وقد بيّن ذلك غير واحد من الحفاظ ، فقد جاء في مسند الإمام أحمد في هذا الحديث أن نعيما راوي الحديث قال : فلا أدري قوله من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ، من كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو شيء قاله أبو هريرة من عنده.

٣٨٥

قال ابن القيم (وكان شيخنا يقول هذه اللفظة لا يمكن أن تكون من كلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الغرة لا تكون في اليد لا تكون إلا في الوجه وإطالته غير ممكنة ، إذ تدخل في الرأس فلا تسمى تلك غرة).

* * *

فصل

في صفة عرائس الجنة وحسنهن وجمالهن ولذة وصالهن ومهورهن

يا من يطوف بكعبة الحسن التي

خفت بذاك الحجر والأركان

ويظل يسعى دائما حول الصفا

ومحسّر مسعاه لا العلمان

ويروم قربان الوصال على منى

والخيف يحجبه عن القربان

فلذا تراه محرما أبدا ومو

ضع حله منه فليس بدان

يبغي التمتع مفردا من حبه

متجردا يبغي شفيع قران

فيظل بالجمرات يرمى قلبه

هذى مناسكه بكل زمان

والناس قد قضوا مناسكهم وقد

حثوا ركائبهم الى الأوطان

وحدت بهم همم لهم وعزائم

نحو المنازل أول الأزمان

رفعت لهم في السير أعلام الوصا

ل فشمّروا يا خيبة الكسلان

الشرح : في هذا الفصل والذي بعده تظهر عبقرية المؤلف وترق حواشي شعره وهو يصف عرائس الجنة وخرائدها الحسان وصفا يزري بكل ما قيل من غزل ونسيب ، ويكثر في كلامه هنا التورية ، وهو أراد معان بعيدة غير التي تعطيها ظواهر الألفاظ ، فهو ينادي هذا الذي يهيم في أودية الجمال وينشد وصل ربات الحجال وبينه وبينهن حواجز يعقنه عن الوصال ، فيظل يسعى بين صفاء يرجوه وحسرة تلوعه ، وينشد بلوغ المنى بقرب وصالها ، ولكن خوفه من العواذل والرقباء يمنعه من قربانها ، فيظل يقاسي ألم الحرمان ، ويرى يوم الوصل منه غير دان ، فهو يطلب التمتع بمحبوبه خاليا به ، وينشد شفيعا إليه يقربه منه فيظل قلبه متقدا بنار الغرام ، مشبوبا بلواذع الهجر والحرمان ، وهذه مناسكه على مدى

٣٨٦

الأيام لا ينقضي ما بقلبه من وجد وهيام ، ولكن الأكياس الفطناء من الأنام لم يتعلقوا من هذه الدنيا بحسن زائف ولا بجمال زائل ، بل جردوا من ذلك قلوبهم ورنوا بأبصار بصائرهم إلى الغايات البعيدة ، فحثوا إليها ركائب العزائم وامتطوا صهوات الهمم وجدّوا في بلوغ هاتيك المنازل التي هي المنازل الأولى والأوطان الأصلية التي كانوا يسكنونها وهم في صلب أبيهم آدم ، قبل أن يرتكب الخطيئة ويهبط الى الأرض. وقد رفعت لهم في سيرهم أعلام الوصال فقربت منهم بعيد الآمال ، وشحذت منهم الهمم ، فلم يشعروا في سيرهم بسأم ولا كلال على حين باء الكسلان بالخيبة والحرمان.

* * *

ورأوا على بعد خياما مشرفا

ت مشرقات النور والبرهان

فتيمموا تلك الخيام فآنسوا

فيهن أقمارا بلا نقصان

من قاصرات الطرف لا تبغى سوى

محبوبها من سائر الشبان

قصرت عليه طرفها من حسنه

والطرف في ذا الوجه للنسوان

أو أنها قصرت عليه طرفه

من حسنها فالطرف للذكران

والأول المعهود من وضع الخطا

ب فلا تحد عن ظاهر القرآن

ولربما دلت إشارته على الث

اني فتلك إشارة لمعان

هذا وليس القاصرات كمن غدت

مقصورة فهما إذا صنفان

الشرح : وتراءت لهؤلاء الجادين المثمرين على بعد خياما عالية قد أشرق منها النور وسطع الضياء ، فقصدوا نحو تلك الخيام فأبصروا فيهن نساء كأنهن البدور ليلة التمام من كل قاصرة طرفها على محبوبها فلا تتحول عنه إلى غيره من سائر الأنام قال تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٥٦] وقال : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات : ٤٨ ، ٤٩] وقد اتفق المفسرون كلهم على أن معنى قاصرات الطرف أنهن حبسن أطرافهن على أزواجهن فلا يطمحن إلى غيرهم

٣٨٧

لحسنهم عندهن. فالطرف هنا طرف النساء لا طرف الرجال. وقيل قصرن طرف أزواجهن عليهن ، فلا يدعهم حسنهن وجمالهن أن ينظروا إلى غيرهن ، وهذا الوجه صحيح من جهة المعنى وأما من جهة اللفظ فقاصرات صفة مضافة إلى الفاعل ، وأصله قاصر طرفهن ، أي ليس بطامح متعد ، فالوجه الأول هو المألوف من وضع الخطاب وهو ظاهر الآيات الكريمة فلا يجوز أن يعدل عنه ، وإن كان هو قد يدل بالإشارة على المعنى الثاني ، فإن قصر المرأة طرفها على زوجها من شأنه أن يحمله على قصر طرفه عليها. هذا وقد ورد في وصفهن كذلك قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) [الرحمن : ٧٢] وفرق بين القاصرات والمقصورات ، فإن شأن التي قصرت طرفها على زوجها أعظم ممن قصرها ، أي حبسها غيرها ، فهما إذا نوعان من النساء ، النوع الأول للمقربين ، لأنهن ذكرن في وصف الجنتين الفضليين. وأما الثاني فهو لأصحاب اليمين لأنهن ذكرن في وصف الجنتين اللتين من دون الأوليين والله أعلم.

* * *

يا مطلق الطرف المعذب في الألى

جردن عن حسن وعن احسان

لا تسبينّك صورة من تحتها

الداء الدوي تبوء بالخسران

قبحت خلائقها وقبح فعلها

شيطانة في صورة الإنسان

تنقاد للأنذال والارذال هم

أكفاؤها من دون ذي الإحسان

ما ثم من دين ولا عقل ولا

خلق ولا خوف من الرحمن

وجمالها زور ومصنوع فان

تركته لم تطمح لها العينان

طبعت على ترك الحفاظ فما لها

بوفاء حق البعل قط يدان

إن قصر الساعي عليها ساعة

قالت وهل أوليت من إحسان

أو رام تقويما لها استعصت ولم

تقبل سوى التعويج والنقصان

أفكارها في المكر والكيد الذي

قد حار فيه فكرة الإنسان

فجمالها قشر رقيق تحته

ما شئت من عيب ومن نقصان

نقد رديء فوقه من فضة

شيء يظن به من الأثمان

٣٨٨

فالناقدون يرون ما ذا تحته

والناس اكثرهم من العميان

الشرح : بعد أن رغب المؤلف في عرائس الجنان اللاتي كمل حسنهن وخلائقهن أخذ يحذر من الانخداع بنساء الدنيا اللاتي تجردن من كل مزية ، فلا حسن في الخلقة ولا إحسان في العمل ، فهو يوصي صاحب الطرف الطموح المعذب الذي ينطلق وراء كل غانية هيفاء أن لا تخدعه صورة ظاهرة من تختها الداء العياء فيرجع بكل خسارة وشقاء. وكيف ينخدع بامرأة قبحت منها الخلائق فلا أمانة ولا وفاء ، ولا صبر ولا رضى ، ولا طاعة ولا تواضع ، وقبحت منها الفعال ، بل هي شيطانة في صورة انسان ، تخضع وتنقاد لمن يهواها من الأنذال والأرذال ، لأنهم هم أشبه بها وأقرب إلى طباعها ، دون أهل الخير والفضل فإنها لا تريدهم ولا ترغب فيهم لعدم المشاكلة بينهم وبينها ، وهي خالية من كل ما يدفعها إلى الخير ويحجزها عن الشر ، فلا دين ولا عقل ، ولا خلق ولا خوف من الله عزوجل. وجمالها ليس بالخلقة والطبيعة ، ولكنه جمال مزور مصنوع من الأصباغ والألوان ، حتى أنها إذا تركت التزين والتجمل زهدت فيها العيون وخلت من كل ما يثير الرغبة فيها ، وهي مطبوعة على الغدر ونكران العشير وعدم الحفاظ عليه والوفاء بحقه ، حتى أنه لو أحسن إليها الدهر كله ثم رأت منه شيئا لا يعجبها ولو مرة واحدة قالت له : ما رأيت منك خيرا قط. وهي مخلوقة من ضلع أعوج ، فإن أراد إصلاحها وتقويمها امتنعت عليه وأبت ألا أن تظل على عوجها ونقصها. وهي لا تعمل فكرها إلا في المكر السيئ والكيد الدنيء الذي يعيا الرجل به ، فهي كما قال تعالى : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف : ٢٨] فجمالها قشرة رقيقة تحتها من العيوب والقبائح ما شاء الله ، فهو يشبه نقدا رديئا قدموه بالفضة أو الذهب ليظن أنه منهما ، ولكن النقاد الصيارفة لا يروج عليهم هذا البهرج ، وإن كان ينطلي على كثير من الناس.

* * *

أما جميلات الوجوه فخائنا

ت بعولهن وهن للأخدان

٣٨٩

والحافظات الغيب منهن التي

قد أصبحت فردا من النسوان

فانظر مصارع من يليك ومن خلا

من قبل من شيب ومن شبان

وارغب بعقلك أن تبيع العالي ال

باقي بذا الأدنى الذي هو فان

إن كان قد أعياك خود مثل ما

تبغي ولم تظفر إلى ذا الآن

فاخطب من الرحمن خودا ثم قد

م مهرها ما دمت ذا إمكان

ذاك النكاح عليك أيسر أن يكن

لك نسبة للعلم والإيمان

والله لم تخرج إلى الدنيا للذ

ة عيشها أو للحطام الفاني

لكن خرجت لكي تعد الزاد لل

أخرى فجئت بأقبح الخسران

أهملت جمع الزاد حتى فات بل

فات الذي ألهاك عن ذا الشأن

والله لو أنّ القلوب سليمة

لتقطعت أسفا من الحرمان

لكنها سكرى بحب حياتها الد

نيا وسوف تفيق بعد زمان

الشرح : أما من رزقت منهن حظا من جمال الوجه ورشاقة القد وسحر العيون فقد غرها جمالها فراحت تبيعه في سوق الدعارة والفتون ، فسرعان ما تقع في أحابيل المعجبين بها ، فتتخذ منهم أخدانا تبيح لهم من نفسها ما حرم الله ، فتهدر شرفها وتخون بعلها وتغضب ربها ، وتعيش مطية للشيطان ، والقانتات الصالحات الحافظات للغيب منهن اللاتي يرعين أزواجهن في غيبتهم ، فلا يتعرضن لأحد بفتنة ولا يأذن لأحد أن يطأ فراشهن ولا أن يدخل عليهن ، فانهن في غاية الندرة والقلة ، وإن شئت أن تعرف مكايد هؤلاء النساء وما وقع بسببهن في الدنيا من شر وبلاء فاعتبر بمصارع من حولك وانظر في مصائر من خلا قبلك من الشيب والشبان والكبار والصغار.

وإذا كنت ذا عقل سليم وإدراك كامل فكيف يليق بك أن تبيع العالي بالسافل وأن تستبدل العاجل الفاني بالذي هو خير وابقى وأهنأ وأصفى ، إن ذلك لا يقدم عليه إلا ذو عقل مدخول وبصيرة مغلولة وإيمان مهزول ، وإن كنت لا تزال عزبا لم تنكح النساء ولم تجد من ترغب فيها من ذوات الجمال والعفة والدين والخلق فما عليك إلا أن تصبر عنهن بقية عمرك وأن تيمم وجهك شطر

٣٩٠

الخرد الغيد من عرائس الجنان فتخطب لنفسك واحدة منهن من ربك الرحمن ثم تقدم لها مهرها من الإيمان والتقى ما دمت ذا قدرة وإمكان. فذلك النكاح أيسر وأخف كلفة من خطبة واحدة من نساء هذا الزمان ، ولا سيما على من له نسب بالعلم والإيمان.

وأعلم أنك لم تخرج إلى هذه الدنيا لتتخذها دار قرار تعكف على لذاتها العاجلة وحطامها الهزيل الفاني ، وإنما خرجت للابتلاء والامتحان لكي تكسب لنفسك زادا يؤهلك لبلوغ دار القرار ، ولكنك بدلا من أن تشتغل بما خلقت له وقفت عند شهواتك الدنيا ، وأذهبت طيباتك في هذه الحياة ، ولم تتخذ الزاد لآخرتك حتى فات العمر وذهبت الفرصة ، وحتى فاتك الذي ألهاك عن الاستعداد لأخراك فو الله لو أن القلوب سليمة غير معلولة لتقطعت حسرات على ما مر من أيام قضتها في التفريط والغفلات والجري وراء الأوهام والخيالات ، ولكنها ثملة بحب ما ترتع فيه من شهوات وسوف تصحو من سكرتها بعد حين ، ولكن هيهات أن ينفعها ذلك هيهات.

* * *

فصل

فاسمع صفات عرائس الجنات ثم اخ

تر لنفسك يا أخا العرفان

حور حسان قد كملن خلائقا

ومحاسنا من أجمل النسوان

حتى يحار الطرف في الحسن الذي

قد ألبست فالطرف كالحيران

ويقول لما أن يشاهد حسنها

سبحان معطي الحسن والإحسان

والطرف يشرب من كئوس جمالها

فتراه مثل الشارب النشوان

كملت خلائقها وأكمل حسنها

كالبدر ليل الست بعد ثمان

والشمس تجري في محاسن وجهها

والليل تحت ذوائب الأغصان

فتراه يعجب وهو موضع ذاك من

ليل وشمس كيف يجتمعان

٣٩١

فيقول سبحان الذي ذا صنعه

سبحان متقن صنعة الإنسان

لا الليل يدرك شمسها فتغيب عن

د مجيئه حتى الصباح الثاني

والشمس لا تأتي بطرد الليل بل

يتصاحبان كلاهما أخوان

الشرح : فإن كنت لا تزال مفتونا بما هاهنا من جمال ، مأخوذا بسحر عيون ربات الحجال ، فاسمع ما سأقصه عليك من صفات عرائس الجنان وما بلغنه من كمال في باب الحسن والإحسان ، ثم اختر لنفسك ما يحلو منهن أو من هؤلاء النسوان ، فهن حور حسان قد عملت خلائقهن ، فلا يرى من عيب ولا نقصان ، وكملت محاسنهن حتى ليحار الطرف فيهن من رقة الجلد وصفاء الالوان ، وحتى ليرى مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر وجهه في كبد احداهن ، كما ترى الصور في المرآة ، ولا تسل عن جمال العيون ، ففيها كل السحر والفتون ، قد زانها الحور فاشتد بياض بياضها واشتد سواد سوادها ، والتأم كل منهما بالآخر وتناسبا حتى أصبحا يشعان الفتنة. وبالجملة ففيهن كل ما شئت من شباب وجمال وحسن ودلال ، حتى يقول صاحبها حين يشاهدها وهو مشدوه حائر الطرف : سبحان من كملك جسما ومعنى وأعطاك هذا الحسن والإحسان ، ويظل طرفه يشرب من كئوس جمالها ويعبّ من معين فتنتها وسحرها ، حتى يصير ثملا نشوان في مثل الشارب السكران. كملت خلائقها ، فلا يصدر عنها إلا كل جميل من عفة وشرف وطاعة للزوج وتحبب إليه وقصر للطرف عليه ، ومناجاته بأحب الكلام إليه ، لا يبدر منها إليه ما يسوؤه ولا يرى منها ما يكرهه ، ولا يقع منها دائما إلى على كل ما يزيده حبا فيها وانجذابا إليها ، والله سبحانه قد جمع فيها بين الليل والنهار ، فالشمس تجري في محاسن وجهها ، والليل تحت ذوائب شعرها الفاحم الجميل ، فاعجب لشمس وليل كيف يجتمعان ، وقل سبحان من هذا صنعه ، سبحان متقن صنعة الإنسان. ومن عجب أن الشمس والليل باقيان فيها لا يستطيع كل منهما أن ينسخ الآخر ، فلا الليل بمدرك شمسها فتغيب عند إقباله ، ولا شمسها تأتي بطرد الليل وإدباره ، بل هما فيها متلازمان كأنهما أخوان.

٣٩٢

روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٥٨] قال : (ينظر إلى وجهه في خدها أصفى من المرآة ، وأن أدنى لؤلؤة عليها لتضيء ما بين المشرق والمغرب ، وأنه ليكون عليها سبعون ثوبا ينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك).

وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : (لو أن حوراء أخرجت كفها بين السماء والأرض لافتتن الخلائق بحسنها ، ولو أخرجت نصيفها لكانت الشمس عند حسنها مثل الفتيلة في الشمس لا ضوء لها ، ولو أخرجت وجهها لأضاء حسنها ما بين السماء والأرض).

* * *

وكلاهما مرآة صاحبه اذا

ما شاء يبصر وجهه يريان

فيرى محاسن وجهه في وجهها

وترى محاسنها به بعيان

حمر الخدود ثغورهن لآلئ

سود العيون فواتر الأجفان

والبرق يبدو حين يبسم ثغرها

فيضيء سقف القصر بالجدران

ولقد روينا أن برقا ساطعا

يبدو فيسأل عنه من بجنان

فيقال هذا ضوء ثغر ضاحك

في الجنة العليا كما تريان

لله لاثم ذلك الثغر الذي

في لثمه إدراك كل أمان

ريانة الأعطاف من ماء الشبا

ب فغصنها بالماء ذو جريان

لما جرى ماء النعيم بغصنها

حمل الثمار كثيرة الألوان

فالورد والتفاح والرمان في

غصن تعالى غارس البستان

الشرح : يعني أن كلا من الرجل وزوجته في الجنة يكون مرآة لصاحبه إذا ما شاء أن يرى وجهه فيه رآه ، فهو يرى محاسن وجهه في وجهها وهي كذلك ترى محاسنها في وجهه وهي حمر الخدود ، فخدودهن أصفى من لون الورود وثغورهن حين يبسمن كأنهن لؤلؤ منضود ، وعند ما يفتر ثغرها عن ابتسامة حلوة يسطع منها البرق فيضيء جوانب القصر وسقفه. ولقد روى أن أهل الجنة يشيمون برقا

٣٩٣

ساطعا فيسألون عنه فيقال لهم : هذا ضوء انبعث من ثغر حوراء ضحكت لزوجها في أعلى الجنان ، فطوبى للاثم ذلك الثغر ومقبله ، ففي تقبيله تحقيق كل المنى. روى علقمة عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سطع نور في الجنة فرفعوا أبصارهم فإذا هو من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها».

وهي أيضا طرية الجسم بضّته ، تكاد تتفجر شبابا وصحة وامتلاء ، يجري ماء الشباب في جسمها الممشوق فيزيده لينا وطراوة وحسنا ، فهي بيضاء باكرها النعيم وجرى ماؤه في غصنها الناعم الرخيم ، فحمل من كل الثمار ففيه ما شئت من ورد على الخدود وتفاح على الجبين ورمان في الصدور ، فتعالى الله غارس ذلك البستان الذي أودعه من كل ما تشتهيه النفس وتلذه العينان.

* * *

والقد منها كالقضيب اللدن في

حسن القوام كأوسط القضبان

في مغرس كالعاج تحسب انه

عالي النقا أو واحد الكثبان

لا الظهر يلحقها وليس ثديها

بلواحق للبطن أو بدوان

لكنهن كواعب ونواهد

فثديهن كألطف الرمان

والجيد ذو طول وحسن في بيا

ض واعتدال ليس ذا نكران

يشكو الحليّ بعاده فله مدى ال

أيام وسواس من الهجران

والمعصمان فان تشأ شبههما

بسبيكتين عليهما كفان

كالزبد لينا في نعومة ملمس

أصداف در دورت بوزان

والصدر متسع على بطن لها

حفت به خصران ذات ثمان

وعليه أحسن سرة هي مجمع ال

خصرين قد غارت من الأعكان

حق من العاج استدار وحوله

حبات مسك جل ذو الاتقان

الشرح : وأما قدها فكالغصن الرطيب في حسن القوام واعتداله ، فلم يشنه قصر ولا طول ، وهذا القد الممشوق والقوام المعتدل قد قام على عجيزة بيضاء كالعاج ثقيلة ممتلئة كأنها كثيب من الرمل ، فليس الظهر بلاحق لها ، بل هي

٣٩٤

متميزة منفصلة عنه ، وكذلك ثدياها قد بعدا عن بطنها فليسا بلا صقين فيه ولا بقريبين منه بل نساء الجنة كلهن كواعب ونواهد ، قد كعبت أثداؤهن ونهدت ، أي تمت استدارتها وبرزت وارتفعت ، فصارت كفحول الرومان الجيدة.

وأما أعناقهن فذو طول وجمال في بياض واعتدال ، فهن مثل كئوس الفضة حتى أن الحلى وهو على الصدر يشكو من بعد جيدها ، فهو دائما من هذا الهجر في هم وقلق.

وأما المعصمان فإن شئت فشبههما بسبيكتين اتخذنا من خالص الفضة قد ركب فيهما كفان ألين من الزبد مجسا ، وأنعم من الحرير ملمسا ، فكأنهما أصداف در قد دور على قدره.

وأما الصدر فرحيب متسع فوق بطنها يحف به من الجانبين خصران دقيقان يشكلان حرف الثماني ، وعلى البطن سرة هي أجمل السرر يلتقي عندها الخصران ، وهذه السرة في بياضها واستدارتها وشدة غورها تشبه حقا من العاج مستديرا ، وحوله حبات مسك أسود فجل ربنا الذي خلقها على هذه الصورة من الإبداع والإتقان.

* * *

وإذا انحدرت رأيت امرا هائلا

ما للصفات عليه من سلطان

لا الحيض يغشاه ولا بول ولا

شيء من الآفات في النسوان

فخذان قد جفا به حرسا له

فجنابه في عزة وصيان

قاما بخدمته هو السلطان بي

نهما وحق طاعة السلطان

وهو المطاع أميره لا ينثني

عنه ولا هو عنده بجبان

وجماعها فهو الشفاء لصبها

فالصبّ منه ليس بالضجران

وإذا يجامعها تعود كما أتت

بكرا بغير دم ولا نقصان

فهو الشهي وعضوه لا ينثنى

جاء الحديث بذا بلا نكران

ولقد روينا أن شغلهم الذي

قد جاء في يس دون بيان

٣٩٥

شغل العروس بعرسه من بعد ما

عبثت به الأشواق طول زمان

بالله لا تسأله عن أشغاله

تلك الليالي شأنه ذو شان

واضرب لهم مثلا بصب غاب عن

محبوبه في شاسع البلدان

والشوق يزعجه إليه وما له

بلقائه سبب من الإمكان

وافى إليه بعد طول مغيبه

عنه وصار الوصل ذا امكان

أتلومه ان صار ذا شغل به

لا والذي أعطى بلا حسبان

يا رب غفرا قد طغت اقلامنا

يا رب معذرة من الطغيان

الشرح : وإذا نزلت قليلا عن السرة رأيت أمرا عظيما لا يقادر قدره ولا يستباح وصفه ، رأيت فرجا محصنا طاهرا من كل قذر فلا يعتريه حيض ولا يخرج منه بول ولا شيء من الآفات التي تصيب نساء الدنيا.

وتراه وقد حف به من الجانبين فخذان مهولان كأنهما له جندان حارسان فحرمه لا يستباح لإنسان غير صاحبه ، بل هو في حماية وصيان ، وهذان الفخذان يقومان بخدمته لأنه أمير عليهما ومن الواجب طاعة السلطان.

وأما جماعها فهو الراحة الكبرى واللذة العظمى لعاشقها الولهان اختص بها واختصت به من دون الرجال والنسوان ، وهو لا يمل أبدا جماعها ولا يكسل عنه بل كلما نزل عنها تجدد له نشاطه كما كان ، فهو يشتهيها دائما وعضوه لا يعتريه انثناء ولا غيضان ، ورد الحديث بهذا ولكن فيه نكران. فقد روى خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أمامة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من عبد يدخل الجنة الا ويزوج ثنتين وسبعين زوجة ، ثنتان من الحور العين وسبعون من أهل ميراثه من أهل الدنيا ، ليس منهن امرأة إلا ولها قبل شهي وله ذكر لا ينثني».

فخالد بن يزيد هذا هو الدمشقي ابن عبد الرحمن قد وهاه ابن معين وقال احمد ليس بشيء ، وقال النسائي غير ثقة ، وقال الدار قطني ضعيف ، وذكر ابن عدى هذا الحديث في معرض النكران.

٣٩٦

ولكن ورد في الصحيح ما يشهد له ، فقد روى الترمذي في جامعه من حديث قتادة عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع ، قيل يا رسول الله أو يطيق ذلك؟ قال : يعطى قوة مائة» وقد ورد في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ) [يس : ٥٥ ، ٥٦] إن ذلك الشغل هو اشتغال كل منهم بعرسه وافضاؤه إليها بعد ما قاسى من الحرمان ، فقد روى سليمان التيمي عن أبي مجلز : قلت لابن عباس عن قول الله تعالى : (إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ) ما شغلهم؟ قال افتضاض الأبكار. وقال مقاتل : (شغلوا بافتضاض العذارى عن أهل النار فلا يذكرونهم ولا يهتمون بهم) ولا ينكر على أهل الجنة شغلهم بأزواجهم وقد تمكنوا من وصالهم بعد طول الغيبة ، فإن العاشق الصب من أهل الدنيا إذا غاب عن محبوبه في بلاد بعيدة وأصبح يكابد لواعج الفراق ويتجرع مرارة الأشواق وينتظر بفارغ الصبر يوم التلاق ، ثم آب إليه ووافاه بعد هذا الغياب الطويل ، وصار وصاله في الإمكان بعد ما كان أشبه بالمستحيل ، فمن ذا يلومه إذا أقبل على محبوبه يطفئ نار أشواقه بالعناق والتقبيل ويقضي منه أوطاره وحاجاته ، ما على المحب المدنف من سبيل.

ولقد استشعر المؤلف رحمه‌الله أن قلمه قد جرى به أشواطا بعيدة في التصريح بما لا يحسن التصريح به فاستغفر الله من جماح قلمه واعتذر إليه مما جاوز فيه حده.

* * *

فصل

أقدامها من فضة قد ركبت

من فوقها ساقان ملتفان

والساق مثل العاج ملموم يرى

مخ العظام وراءه بعيان

والريح مسك والجسوم نواعم

واللون كالياقوت والمرجان

٣٩٧

وكلاهما يسبى العقول بنغمة

زادت على الأوتار والعيدان

وهي العروب بشكلها وبدرها

وتحبب للزوج كل أوان

وهي التي عند الجماع تزيد في

حركاتها للعين والأذنان

لطفا وحسن تبعل وتغنج

وتحبب تفسير ذي العرفان

تلك الحلاوة والملاحة أوجبا

اطلاق هذا اللفظ وضع لسان

فملاحة التصوير قبل غناجها

هي أول وهي المحل الثاني

فإذا هما اجتمعا لصب وامق

بلغت به اللذات كل مكان

الشرح : يعني أن قدمي هذه الحوراء كالفضة في بياضها ، وقد ركب من فوقها ساقان في غاية البياض والصفاء والالتفات ، فهي أجمل السوق ، وقد بلغ من صفائها أن مخ عظامها يرى من وراء الثياب واللحوم.

وأما ريحها فنوافج المسك يفوح أريجه من فمها وثيابها حتى يتضوع به المكان من حولها وأما جسمها فأشد نعومة من الحرير لا يرى به آثار خشونة ولا تشقق ولا يبوسة وأما اللون فهو كما قال الله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٥٨] والمراد كما قال الحسن وغيره صفاء الياقوت في بياض المرجان ، شبههن في صفاء اللون وبياضه بالياقوت والمرجان.

وأما كلامها فيسلب اللب بحسن أنغامه وجمال تطريبه الذي يفوق كل لحن تنطق به آلات الغناء ، وهي عروب بشكلها ، فهي أحسن شيء صورة وبحسن عشرتها ، فهي دائما متحببة إلى زوجها مطيعة له ، وبحسن مواقعتها وملاطفتها لزوجها عند الجماع ، حيث تزيد في حركات عينها وآذانها ، وبالجملة فهي جامعة لكل صفات العروب من اللطف والرقة وحسن التبعل للزوج والتغنج له والتحبب إليه فكمال لذة الرجل بها بأمرين : أولهما ملاحة صورتها والثاني غناجها وحسن مودتها فإذا هما اجتمعا للعاشق الولهان بلغ من اللذة أرفع مكان.

* * *

٣٩٨

فصل

أتراب سن واحد متماثل

سن الشباب لأجمل الشبان

بكر فلم يأخذ بكارتها سوى ال

محبوب من انس ولا من جان

حصن عليه حارس من أعظم ال

حرّاس بأسا شأنه ذو شان

فاذا أحس بداخل للحصن ول

ى هاربا فتراه ذا امعان

ويعود وهنا حين رب الحصن يخ

رج منه فهو كذا مدى الأزمان

وكذا رواه أبو هريرة أنها

تنصاغ بكرا للجماع الثاني

لكن دراجا أبا السمح الذي

فيه يضعفه أولو الإتقان

هذا وبعضهم يصحح عنه في الت

فسير كالمولود من حبان

فحديثه دون الصحيح وأنه

فوق الضعيف وليس ذا اتقان

الشرح : يعني أن نساء الجنة أتراب أسنانهن متماثلة ، وهي سن الشباب والغضارة ، كما قال : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ) [الواقعة : ٣٥ ، ٣٨].

قال ابن عباس وسائر المفسرين : أي مستويات على سن واحد وميلاد واحد ، بنات ثلاث وثلاثين سنة ، والمراد من الأخبار باستواء أسنانهن أنهن ليس فيهن عجائز فات حسنهن ولا ولائد لا يطقن الوطء ، بخلاف الذكور فإن فيهم الغلمان وهم الخدم لأهل الجنة.

ونساء الجنة كلهن أبكار ، حتى من كانت منهن ثيبا في الدنيا ، فإن الله يخلقها خلقا جديدا كما قال : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً) وكل منهن لا يفتض بكارتها إلا محبوبها الذي اختصه الله بها ، كما قال تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) [الرحمن : ٥٦].

ففرجها حصن منيع يقف عليه حارس ذو بأس شديد ، وهو تلك البكارة ، فلا يستطيع اقتحام هذا الحصن غير من أعد هو له ، فإذا أحس هذا الحارس بداخل للحصن غار بالداخل وأمعن في الهروب ، فإذا قضى الرجل حاجته ونزع

٣٩٩

عاد الحارس مكانه ، ويظل هذا شأنه مدى الأيام.

وقد جاء هذا في حديث رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : يا رسول الله أنطأ في الجنة؟ قال : «نعم والذي نفسي بيده دحما دحما ، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا» لكن الحديث فيه دراج أبو السمح ، وقد ضعفه أئمة الجرح والتعديل ، ومنهم من يصحح أحاديثه في التفسير كابن حبان ، ولكن الحق أن أحاديثه دون الصحيح وفوق الضعيف ، فهي خالية من الإتقان وقد روى الطبراني أيضا من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكارا» وهو ضعيف أيضا.

* * *

يعطى المجامع قوة المائة التي اج

تمعت لأقوى واحد الإنسان

لا أن قوته تضاعف هكذا

اذ قد يكون لأضعف الأركان

ويكون أقوى منه ذا نقص من ال

إيمان والأعمال والإحسان

ولقد روينا أنه يغشى بيو

م واحد مائة من النسوان

ورجاله شرط الصحيح رووا لهم

فيه وذا في معجم الطبراني

هذا دليل أن قدر نسائهم

متفاوت بتفاوت الإيمان

وبه يزول توهم الأشكال عن

تلك النصوص بمنة الرحمن

وبقوة المائة التي حصلت له

أفضى إلى مائة بلا خوران

وأعفهم في هذه الدنيا هو ال

أقوى هناك لزهده في الفاني

فاجمع قواك لما هناك وغمض ال

عينين واصبر ساعة لزمان

ما هاهنا والله ما يسوى قلا

مة ظفر واحدة ترى بجنان

ما هاهنا الا النقار وسيّئ ال

أخلاق مع عيب ومع نقصان

هم وغم دائم لا ينتهي

حتى الطلاق أو الفراق الثاني

والله قد جعل النساء عوانيا

شرعا فأضحى البعل وهو العاني

لا تؤثر الأدنى على الأعلى فان

تفعل رجعت بذلة وهوان

٤٠٠