شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

فصل

في تعيين أن اتباع السنة والقرآن طريقة النجاة من النيران

يا من يريد نجاته يوم الحسا

ب من الجحيم وموقد النيران

اتبع رسول الله في الأقوال والأ

عمال لا تخرج عن القرآن

وخذ الصحيحين اللذين هم

ا لعقد الدين والإيمان واسطتان

واقرأهما بعد التجرد من هوى

وتعصب وحمية الشيطان

وأجعلهما حكما ولا تحكم على

ما فيهما أصلا بقول فلان

واجعل مقالته كبعض مقالة الأ

شياخ تنصرها بكل أوان

وانصر مقالته كنصرك للذي

قلدته من غير ما برهان

قدر رسول الله عندك وحده

والقول منه أليك ذو تبيان

ما ذا ترى فرضا عليك معينا

إن كنت ذا عقل وذا إيمان

عرض الذي قالوا على أقواله

أو عكس ذا فذانك الأمران

هي مفرق الطرقات بين طريقنا

وطريق أهل الزيغ والعدوان

الشرح : يخاطب المؤلف بهذه الأبيات كل من يهمه أن يسعى في خلاص نفسه من عذاب الله ونيرانه الموقدة يوم القيامة فيرسم له فيها سبيل النجاة التي لا سبيل غيرها ، وهو أن يتحرى الاتباع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع أقواله وأفعاله. فهو الذي أمرنا الله عزوجل باتباعه ، وجعل اتباعه وسيلتنا إلى كل خير وسعادة وفلاح ، ونهانا عن مخالفته وجعلها سببا لكل شر وشقاء وخيبة وحرمان ، وفي الحديث الصحيح «كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبي ، فقيل: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى» وقال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ٦٣].

وعلى طالب الخلاص كذلك أن يجعل القرآن العظيم أمامه فيقيم حدوده وينفذ أحكامه ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ولا يخرج عما تقتضيه سوره وآياته ، ولا يسومها تحريفا وتأويلا ، ولا يخرج بألفاظه عن مواضعها ، وأن يأخذ معه

٢٢١

بصحيحي البخاري ومسلم رحمهما‌الله فإنهما اللذان تضمنا أوثق الأخبار ، وقد أجمعت الأمة على تلقيهما بالقبول فهما من علم الدين والسنة كواسطة العقد التي تنتظم بها حباته ويتم جماله ورواؤه. ولكن ينبغي لمن يقرؤهما إذا كان يريد الانتفاع بما فيهما من علم ، أن يتجرد من كل هوى وعصبية ، وأن ينبذ كل ما يتقلده من مذاهب وآراء ، وأن لا تأخذه في نصرتها حمية الجاهلية فيجعلها حكما يزن به الآراء والأقوال ، ولا يحكم عليهما بأقوال الرجال ، وأن ينتصر لما فيهما من قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكمه كما ينتصر لأقوال شيوخه الذين يقلدهم في الدين بغير برهان ولا دليل.

والحاصل أنه يجب عليه أن يقدر أنه بين يدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذ عنه مباشرة بلا واسطة أحد ، وأن القول منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم واصل إليه في أتم وضوح وأجلى بيان.

ثم يتساءل المؤلف رحمه‌الله فيقول : ما الذي تراه واجبا عليك حتما إن كنت ممن رزقهم الله الفهم الصحيح والإيمان الوثيق؟ هل هو أن تعرض ما قاله الناس على ما قاله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم فتجعل قوله هو الميزان لقولهم أو ترى عكس ذلك فتجعل أقوالهم هي الأصل الذي تزن به أقوال المعصوم ، لا شك أن عقلك وإيمانك سيحملانك على اختيار الطريق المستقيم ، وكان التردد بين هذين الأمرين هو مفرق الطرق بين أهل الاستقامة والحق والإيمان ، وبين أهل الزيغ والجور والعدوان ، فنحن حكمنا ما قاله رسول الرحمن وجعلناه لديننا الأصل والميزان ، وهم حكموا ما قالته شيوخهم مما ألقاه إليهم الشيطان ، فشتان ما بين الطريقين شتان.

* * *

قدر مقالات العباد جميعهم

عدما وراجع مطلع الإيمان

واجعل جلوسك بين صحب محمد

وتلق معهم عنه بالإحسان

وتلق عنهم ما تلقوه هم

عنه من الإيمان والعرفان

أفليس في هذا بلاغ مسافر

ينبغي الإله وجنة الحيوان

٢٢٢

لو لا التناوش بين هذا الخلق ما

كان التفرق قط في الحسبان

فالرب رب واحد وكتابه

حق وفهم الحق منه دان

ورسوله قد أوضح الحق المب

ين بغاية الإيضاح والتبيان

ما تمّ أوضح منه فلا

يحتاج سامعها إلى تبيان

والنصح منه فوق كل نصيحة

والعلم مأخوذ عن الرحمن

فلأي شيء يعدل الباغي الهدى

عن قوله لو لا عمى الخذلان

الشرح : وعلى طالب النجاة كذلك أن يتجرد من كل ما درسه من المذاهب والمقالات وأن يعتبرها عدما ، وأن يمحوها من صفحة ذهنه ، وأن ييمم بعقله وفكره شطر مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن يخيل لنفسه كأنه يجلس بين أصحابه يتلقى معهم عنه العلم والهدى بالإحسان والمتابعة ، ثم يتلقى عنهم كذلك ما تلقوه هم من الرسول عليه الصلاة والسلام من حقائق الإيمان وأبواب العلم والمعرفة ، وأن يجعل هذا العلم النقي المصفى هو زاده في رحلته إلى الله الذي يبلغه كل ما يتمنى من رضوان الله ورحمته وجنته ، وو الله لو لا ما كتبه الله على بني آدم من الخصومات والعداوة لم يدر بخلد أحد قط أن يتفرق المسلمون في دينهم شيعا ، وأن يختصموا هكذا في ربهم فرقا ونحلا ، فإن الرب الذي يدينون له رب واحد ليس لهم رب غيره ، وكتابه الذي أنزله على رسوله حق لا ريب فيه ، وهو قد أنزله بلسان عربي مبين ليفهمه كل أحد ، فأخذ الحق منه دان قريب ، قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٧] وقال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩].

والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أوفى على الغاية في إيضاح الحق وبيانه ، فكلامه أفصح الكلام وأبينه ، لا يحتاج معه سامعه إلى من يوضحه له ، وهو كذلك أعظم الخلق شفقة على الخلق وأكملهم رغبة في نصحهم وإرشادهم إلى الحق ، وهو أيضا أعلمهم بهذا الحق بواسطة أمين الوحي جبريل عليه‌السلام ، فإذا كان هو عليه‌السلام قد كملت فيه هذه الثلاثة من العلم والقدرة على البيان وإرادة النصح ،

٢٢٣

فلأي شيء يعدل طالب الهدى عن قوله؟ أليس ذلك دليلا على خذلانه وعمى قلبه؟ نعوذ بالله من الخذلان.

* * *

فالنقل عنه مصدق والقول من

ذي عصمة ما عندنا قولان

والعكس عند سواه في الأمرين يا

من يهتدي هل يستوي النقلان

تالله قد لاح الصباح لمن له

عينان نحو الفجر ناظرتان

وأخو العماية في عمايته يقو

ل الليل بعد أيستوي الرجلان

تالله قد رفعت لك الأعلام ان

كنت المشمر نلت دار أمان

وإذا جبنت وكنت كسلانا فما

حرم الوصول إليه غير جبان

فاقدم وعد بالوصول نفسك واه

جر المقطوع منه قاطع الإنسان

عن نيل مقصده فذاك عدوه

ولو أنه منه القريب الداني

الشرح : والنقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثابت بواسطة العدول الثقات الضابطين الأمناء الأثبات ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصادق المصدوق المعصوم من الغواية والضلال ، فلا يجهل الحق ، ولا يقول خلاف ما يعلم أنه الحق ، وأما غيره ممن يأخذ عنهم الناس ويقلدونهم في دين الله فهو بعكس ذلك في الأمرين جميعا ، فالنقل عنه ليس موثوقا به لأنه نقل غير عدول ولا أمناء ، وهو كذلك غير معصوم من الخطأ ، فقد يجهل الحق ، ولأمن الكذب فقد يقول بغير ما يعلم أنه الحق ، فو الله ليس بعد هذا البيان بيان ، وقد أسفر الصبح لكل من له عينان فسبيل الله واضحة لكل من صح نظره واستقام فكره ، وأما أخو العمى فلا يزال متخبطا في عمايته ، يظن أن الليل لا يزال باقيا ، فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ تالله ، قد نشرت لك أعلام الحق ونصبت لك مناراته ، ولم يبق إلا أن تشمر عن ساعديك وتمضي قدما في غير ونى ولا فتور حتى تبلغ ما تشتهي في دار الأمان والحبور ، أما إذا ارتديت ثياب الجبن ورضيت لنفسك أن تعيش إمعة لا تقول إلا بما يقول لك الشيوخ والرؤساء ، وآثرت الكسل والقعود ، فقد قضيت

٢٢٤

على نفسك بالحرمان ، فإن الحرمان نصيب الكسول الجبان ، فتقدم غير هياب ولا كسلان ، ومن النفس بالوصال ، واهجر جميع العوائق التي تقطعك وتعوقك عن بلوغ الآمال ونيل المنى والأمان ، فتلك هي عدوك اللدود وإن كانت من أقرب المقربين ، وأما حبيبك فهو الذي يعينك على بلوغ غرضك ويساعدك على قطع الطريق إلى ما تشتهي وتريد.

* * *

فصل

في تيسير السير إلى الله على المثبتين الموحدين وامتناعه على

المعطلين والمشركين

يا قاعدا سارت به أنفاسه

سير البريد وليس بالذملان

حتى متى هذا الرقاد وقد سرى

وفد المحبة مع أولى الإحسان؟

وحدت بهم عزماتهم نحو العلى

لا حادي الركبان والاظعان

ركبوا العزائم واعتلوا بظهورها

وسروا فما حنوا إلى نعمان

ساروا رويدا ثم جاءوا أولا

سير الدليل يؤم بالركبان

ساروا بإثبات الصفات إليه لا الت

عطيل والتحريف والنكران

عرفوه بالأوصاف فامتلأت قلو

بهم له بالحب والإيمان

فتطايرت تلك القلوب إليه بال

أشواق إذ ملئت من العرفان

وأشدهم حبا له أدراهم

بصفاته وحقائق القرآن

فالحب يتبع للشعور بحسبه

يقوى ويضعف ذاك ذو تبيان

الشرح : يخاطب المؤلف هذا القاعد المتخلف الذي تسير به أنفاسه اللاهثة سير ركائب البريد الوانية المتباطئة : لا سير الذوامل النشيطة الساعية فيقول له : حتى متى تغط في نومك وتهيم في وادي غفلاتك ، وقد استيقظ الأكياس المحبون وجدوا في السير مع أهل الإحسان المخلصين ، وشحذوا العزائم فنهضت بهم نحو

٢٢٥

العلى صعدا ، ولم يرتضوا لهم حاديا غيرها ، بل ركبوها وامتطوا ظهورها وساروا لا يلتفتون إلى وصل غانية ودار حبيب ، حتى لا يقطعهم عن السير إلى الحبيب القريب ، ساروا إليه رويدا رويدا سيرا لينا متتابعا ، ثم جاءوا في مقدمة الركب كسير الدليل ، ساروا إليه بإثبات صفاته العليا لا بالتحريف والإنكار والتعطيل. عرفوه بأوصافه كلها ، أوصاف كماله وجماله وجلاله ، فامتلأت قلوبهم من محبته والإيمان به ، فأطارها الشوق إليه حين افعمت من كئوس معرفته وامتلأت من أنوار صفات قدسه.

وهكذا كلما زادت المعرفة في القلب زاد معها الشوق والحب ، فأشد المحبين له حبا وأكثرهم منه مودة وقربا أعلمهم بصفاته العليا من حيث ثبوتها وكمالها واتساعها وعظمتها وآثارها في الخلق ، وأعلمهم كذلك بحقائق القرآن وما تضمنه من أبواب العلم والايمان. فالحب يتبع الشعور ، والعرفان يقوى بقوته ويضعف بضعفه ، وذلك أمر ظاهر للعيان لا يحتاج الى توضيح وبيان.

* * *

ولذاك كان العارفون صفاته

أحبائه هم أهل هذا الشأن

ولذاك كان العالمون بربهم

أحبابه وبشرعة الايمان

ولذاك كان المنكرون لها هم ال

أعداء حقّا هم أولو الشنآن

ولذاك كان الجاهلون بهذا وذا

بغضائه حقا ذوي شنآن

وحياة قلب العبد في شيئين من

يرزقهما يحيا مدى الأزمان

في هذه الدنيا وفي الأخرى يكو

ن الحى ذا الرضوان والاحسان

ذكر الإله وحبه من غير إش

راك به وهما فممتنعان

من صاحب التعطيل حقا كامتنا

ع الطائر المقصوص من طيران

أيحبه من كان ينكر وصفه

وعلوه وكلامه بقران

لا والذي حقا على العرش استوى

متكلما بالوحى والفرقان

الشرح : واذا ثبت أن المحبة تابعة للمعرفة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها ،

٢٢٦

فالعارفون بصفاته المثبتون لها هم أحبابه حقا وأهل الخشية منه حقا ، فانه لا يحب الله ويخشاه الا العالمون به ، الذين كملت صورة الحق في قلوبهم ، وامتلأت من عظمتها وجلالها نفوسهم. وكذلك العالمون بما شرع لهم من حقائق الايمان وموجبات اليقين ، وأما المنكرون الجاحدون لصفات رب العالمين فهم أعداؤه حقا لأنهم جهلوا صفات ربهم وجهلوا ما شرعه لهم فاستحقوا بذلك بغضه وشنآنه.

وحياة القلب وغذاؤه في أمرين اثنين ، من يؤت حظه منهما يظل قلبه حيا دائما ، في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لأنهما يمدانه بأسباب الحياة والبقاء ، فلا يموت كما تموت قلوب أهل الجهل والغفلة ، وهما ذكر الله وحبه مع توحيده والاخلاص له ، وهذان الأمران لا يتوافران الا لمن يثبت الصفات للرحمن ، ولكنهما يمتنعان ويصعبان على أهل التعطيل والنكران ، فهم لا يقدرون على ذلك ، كما لا يقدر الطائر المقصوص على الطيران.

وكيف يستطيع حبه وذكره من كان ينكر صفاته العليا التي وصف بها نفسه ومن كان ينكر استواؤه وعلوه ، ومن كان ينكر كلامه بالقرآن وغيره من كتبه وكلامه لمن يشاء من خلقه.

لا والذي استوى حقا على عرشه ، وتكلم حقا بفرقانه ووحيه ، لا يستطيع جاحد معطل أبدا أن ينعم بذكر الله وحبه ، ولا أن يتمتع بأنسه وقربه ، كما يتمتع بذلك أهل معرفته.

* * *

الله أكبر ذاك فضل الله يؤ

تيه لمن يرضى بلا حسبان

وترى المخلف في الديار تقول ذا

احدى الاثافي خص بالحرمان

الله أكبر ذاك عدل الله يقضيه

على من شاء من انسان

وله على هذا وهذا الحمد في الا

ولى في الأخرى هما حمدان

حمد لذات الرب جل جلاله

وكذاك حمد العدل والاحسان

يا من تعز عليهم أرواحهم

ويرون غبنا بيعها بهوان

٢٢٧

ويرون خسرانا مبينا بيعها

في أثر كل قبيحة ومهان

ويرون ميدان التسابق بارزا

فيتاركون تقحم الميدان

ويرون أنفاس العباد عليهم

قد أحصيت بالعد والحسبان

ويرون أن أمامهم يوم اللقا

لله مسألتان شاملتان

ما ذا عبدتم ثم ما ذا قد أجب

تم من أتى بالحق والبرهان

هاتوا جوابا للسؤال وهيئوا

أيضا صوابا للجواب يدان

وتيقنوا أن ليس ينجيكم سوى

تجريدكم لحقائق الايمان

تجريدكم توحيده سبحانه

عن شركة الشيطان والأوثان

وكذاك تجريد أتباع رسوله

عن هذه الآراء والهذيان

والله ما ينجى الفتى من ربه

شيء سوى هذا بلا روغان

الشرح : أما من أتاه الله حظه من معرفته والايمان به ، ومن ذكره سبحانه وحبه ، فذلك فضل الله يؤتيه لمن يرضى عنه من خلقه ، عطاء بغير حساب ولا تقدير ولا تضييق ولا تقتير. وأما المخلفون في البيوت الذين رضوا بأن يكونوا مع القواعد ، فانهم كأثافي القدر فقد خصهم الله بالحرمان من ذلك الخير ، وذاك عدله الذي يقضيه على من يشاء من عباده ، الذين علم أنهم ليسوا للفضل أهلا ولا للخير والكرامة محلا ، وهو سبحانه المحمود على كل ما يقضيه من فضل لأهل طاعته وعدل في أهل معصيته ، حمدا دائما في الأولى والآخرة ، فله الحمد لذاته المقدسة على ما اتصف به من نعوت الكمال ، وله الحمد على عدله واحسانه وكل ما يصدر عنه من أفعال. فيا من كرمت عليهم نفوسهم وغلت عندهم أرواحهم ، فرأوا ان من الغبن والخسران أن يبيعوها بيع الهوان ، جريا وراء كل قبيحة يزينها الشيطان ويرون فرسان السباق يركضون في الميدان ، فيتحاشون تقحم الميدان ويرون أعمارهم تمر سريعا ، قد عدت عليهم أنفاسهم بالدقائق والثواني ، ويرون أن أمامهم يوما شديد الهول فظيع المطلع ، سيلقون فيه ربهم ، فيسألهم وهو أعلم بهم ، عن مسألتين شاملتين لجميعهم ، أولاهما يسألهم عما كانوا يعبدون ، ليرى ما ذا فعلوا بحقه عليهم في التوحيد والاخلاص ، والثانية يسألهم عما أجابوا به من

٢٢٨

أرسلوا إليهم بالبينات والهدى ليعرف ما ذا فعلوا بحق رسله عليهم في الطاعة والاتباع.

فليعد كل انسان للسؤال جوابا ، وليهيّئ للجواب أن يكون صوابا ، وليعلم علم اليقين أن ليس ينجيه من خزى هذا الموقف سوى تخليصه لحقائق الايمان من كل أنواع الزيغ والكفران ، وسوى تجريده التوحيد لله من كل ما يشرك به من شيطان وأوثان ، وتجريده الاتباع لرسوله من كل ما يهرف به الناس من أنواع الهراء والهذيان ، فو الله لا منجاة للعبد من عذاب النيران ، ولا مخلص له من غضب الله الا هذان الأمران ، توحيد واتباع ، فاتركوا التحايل والروغان.

* * *

يا رب جرد عبدك المسكين را

جى الفضل منك أضعف العبدان

لم تنسه وذكرته فاجعله لا

ينساك أنت بدأت بالاحسان

وبه ختمت فكنت أولى بالجمي

ل وبالثناء من الجهول الجاني

فالعبد ليس يضيع بين فواتح

وخواتم من فضل ذي الغفران

أنت العليم به وقد أنشأته

من تربة هي أضعف الأركان

كل عليها قد علا وهوت الى

تحت الجميع بذلة وهوان

وعلت عليها النار حتى ظن أن

يعلو عليها الخلق من نيران

وأتى الى الأبوين ظنا أنه

سيصير الأبوين تحت دخان

فسعت الى الأبوين رحمتك التي

وسعتهما فعلا بك الأبوان

الشرح : بعد أن ذكر ما أعده الله من الفضل والكرامة لمن جرد التوحيد لله فلم يشرك بالله شيئا ، وجرد الاتباع لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يقدم على قوله قول أحد من الناس ، أخذ يناجي ربه بهذه الأبيات الرائعة التي تفيض ذلا وضراعة ، فهو يدعوه أن يخلصه من كل آثار الشرك والوثنية والعصيان والمخالفة ومن أتباع هوى النفس والشيطان ، فانه عبده الخاضع لجناب قهره وعزته ، المؤمل الطامع في بحبوحة غفرانه ورحمته.

٢٢٩

ثم يقول : انك لم تنسه أبدا من رحمتك مذ كان جنينا في بطن أمه ، بل سبق الاحسان منك إليه من قبل أن يصعد منه أليك عمل ، فأجريت عليه رزقه من غذاء أمه ، وحفظته في مستقره ، ولم يزل يتوالى عليه احسانك ، فكنت المحسن في البدء والمحسن في الختام ، فكنت أحق بالثناء الحسن الجميل من عبدك الجاني الظلوم الجهول ، وأنت أحق أن تغفر لعبدك ما ارتكب من زلات ، وأكرم من أن تضيعه بين فواتح وخواتم ، بل تعامله في البين بما عاملته به في البدايات والنهايات ، وأنت العليم بعبدك وقد خلقته من التراب الذي هو أضعف عناصر المخلوقات فكلها من الماء والهواء ، والنار تعلو عليه وهو يميل الى الهبوط والتسفل والاستقرار والثبات ، وقد علت النار التي خلق منها الجان على التراب الذي خلق منه آدم ، حتى إبليس عليه اللعنات أنه خير منه ، فاستكبر عن السجود له وعارض أمر ربه وقال (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢].

ثم سعى الى الأبوين بالفتنة وحملهما على ارتكاب الزلة حين أغراهما بالأكل من الشجرة ، وخيل إليه أنه أهلكهما هلاكا لا قيامة لهما بعده ، وأنه صيرهما بالغواية والمعصية تحته ، ولكن أدركتهما رحمة الله فجبرت كسرهما وداوت جرحهما وعلت بهما الى مكان العزة والكرامة ، فعاد اللعين مغيظا مخنقا يمنى نفسه أن يدرك من الأبناء ما فاته من الآباء (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) [سبأ : ٢١].

* * *

هذا ونحن بنوهما وحلومنا

في جنب حلمهما لدى الميزان

جزء يسير والعدو فواحد

لهما وأعدانا بلا حسبان

والضعف مستول علينا في جميع جها

تنا سيما من الإيمان

يا رب معذرة أليك فلم يكن

قصد العباد ركوب ذا العصيان

٢٣٠

لكن نفوس سوّلته وغرّها

هذا العدوّ لها غرور أمان

فتيقنت يا رب أنك واسع ال

غفران ذو فضل وذو إحسان

ومقاله ما قاله الأبواب قب

ل مقالة العبد الظلوم الجاني

نحن الألى ظلموا وان لم تغفر الذ

نب العظيم فنحن ذو خسران

يا رب فانصرنا على الشيطان لي

س لنا به لو لا حماك يدان

الشرح : وكما وسعت رحمتك يا رب الأبوان فلقنتهما توبتهما ثم قبلتها منهما فنحن يا رب بعدهما بنوهما وأحوج الى رحمتك منهما ، فان عقولنا لا تعد شيئا اذا قيست الى عقليهما ، مع أن عدونا وعدوهما واحد لا يزال يجد في اغوائنا وفتنتنا كما أغواهما ، ولنا مع ذلك أعداء كثيرون كلهم يتربصون بنا وينتظرون غراتنا وغفلاتنا ، والضعف مستول علينا من جميع جهاتنا ، لا سيما ما ألم بنا من ضعف الايمان وقلة اليقين.

فمعذرة أليك يا ربنا ومغفرة منك لذنوبنا التي لم نقصد أبدا الى ارتكابها عمدا الى عصيانك ومخالفتك ، ولكن النفوس الأمارة بالسوء سولتها لنا ، وجاء هذا العدو الماكر فغرر بنا ووعدنا ومنانا بغرور ، وقد تيقنا سعة مغفرتك وعظيم احسانك وفضلك ، ونحن نتوب أليك منها ونقول ما قاله الأبوان قبلنا (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) [الأعراف : ٢٣] فاغفر لنا كما غفرت لهما وأعنا على هذا الشيطان الرجيم ، ورد عنا كيده اللئيم ، فانه لو لا فضلك وحمايتك ما نجا من كيده انسان ولا كان لأحد على التخلص من اغوائه يدان ، فاللهم لك الحمد وأليك المشتكى ، وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بك يا رحيم يا رحمن.

* * *

فصل

في ظهور الفرق بين الطائفتين وعدم التباسه إلا على من ليس بذي عينين

والفرق بينكم وبين خصومكم

من كل وجه ثابت ببيان

٢٣١

ما أنت منهم ولا هم منكم

شتان بين السعد والدبران

فاذا دعونا للقرآن دعوتم

للرأى أين الرأى من قرآن

واذا دعونا للحديث دعوتم

أنتم الى تقليد قول فلان

وكذا تلقينا نصوص نبينا

بقبولها بالحق والاذعان

من غير تحريف ولا جحد ولا

تفويض ذي جهل بلا عرفان

لكن باعراض وتجهيل وتأ

ويل تلقيتم مع النكران

أنكرتموها جهدكم فاذا أتى

ما لا سبيل له الى نكران

أعرضتم عنه ولم تستنبطوا

منه هدى لحقائق الايمان

فاذا ابتليتم مكرهين بسمعها

فوضتموها لا على العرفان

لكن يجهل للذي سيقت له

تفويض اعراض وجهل معان

فاذا ابتليتم باحتجاج خصومكم

أوليتموها دفع ذي صولان

فالجحد والإعراض والتأويل والت

جهيل حظ النص عند الجاني

لكن لدينا حظه التسليم مع

حسن القبول وفهم ذي الاحسان

الشرح : والفرق بينكم أيها المعطلة الجاحدون ، وبين خصومكم من أهل الحق والاثبات ثابت من كل النواحي ثبوتا بينا لا شك فيه ، فلستم منهم في شيء ، ولا هم منكم كذلك بل بينكم وبينهم من الخلاف ، كما بين هذين النجمين المعروفين السعد والدبران ونحن ندلكم على مواضع الخلاف بيننا وبينكم ، ونحن اذا دعونا للأخذ بنصوص القرآن واتباع ما فيه من هدى وبيان دعوتم أنتم الى تقليد فلان وفلان ، ونحن اذا تلقينا أحاديث نبينا بالقبول والتسليم والاذعان من غير تحريف لها عن مواضعها ، ولا جحد وانكار لها ، ولا تفويض جاهل بلا عرفان تلقيتموها أنتم بالجحود والتكذيب والنكران ، تنكرونها جهد استطاعتكم وتطعنون في نقلها من أهل العلم والايمان ، فاذا جاءكم ما لا سبيل لكم الى انكاره لثبوته في النقل ثبوتا لا يسوغ معه نكران أعرضتم عنه أعراض الجاهلين ، ولم تحاولوا أن تستخرجوا منه بيانا لحقائق الايمان. فاذا ابتليتم مكرهين بمن يتلوها على مسامعكم قلتم نفوض في معناها ، لكنه ليس تفويض ذي معرفة بل تفويضا

٢٣٢

قائما على الاعراض والجهل بالمعاني ، أما اذا ابتليتم باحتجاج خصومكم بها ، فانكم تصولون وتجولون في دفعها وردها.

وهكذا يتم الخلاف ويستحكم بيننا وبينكم ، فالجحد والاعراض والتأويل والتجهيل هو نصيب النص عندكم ، أما عندنا فحظه التسليم والرضى وحسن القبول وفهم ذي الاحسان.

* * *

فصل

في التفاوت بين حظ المثبتين والمعطلين

من وحي رب العالمين

ولنا الحقيقة من كلام الهنا

ونصيبكم منه المجاز الثاني

وقواطع الوحيين شاهدة لنا

وعليكم هل يستوى الأمران

وأدلة المعقول شاهدة لنا

أيضا فقاضونا الى البرهان

وكذاك فطرة ربنا الرحمن شا

هدة لنا أيضا شهود بيان

وكذاك إجماع الصحابة والألى

تبعوهم بالعلم والاحسان

وكذاك اجماع الأئمة بعدهم

هذا كلامهم بكل مكان

هذي الشهود فهل لديكم أنتم

من شاهد بالنفى والنكران

وجنودنا من قد تقدم ذكرهم

وجنودكم فعساكر الشيطان

وخيامنا مضروبة بمشاعر ال

وحيين من خبر ومن قرآن

وخيامكم مضروبة بالتيه فالس

كان كل ملدد حيران

ونصيبنا من كلام الله عزوجل حقيقة معناه التي تدل عليها ألفاظه بوضع اللغة ، وأما نصيبكم منه فالمجاز الثاني الذي يصرف إليه الكلام صرفا من غير مقتض لذلك ولا قرينة تدل عليه.

أما الشهود الذين يشهدون لنا فهم كثرة كاثرة ، وكلهم شهود عدل ليس

٢٣٣

فيهم مدلس ولا شاهد زور ، فالنصوص القاطعة من الكتاب والسنة شاهدة لنا وهي في نفس الوقت شاهدة عليكم ، والادلة العقلية المؤسسة على المعقولات الصريحة الخالية من شوائب الوهم والخيال والتقليد شاهدة لنا كذلك ، وان لم تصدقوا فتعالوا نحن وأنتم نحتكم الى البرهان الصريح ، وكذلك فطرة الله التي فطر الناس عليها والتي لا يمكن أن تكذب أو تضل ما دامت سليمة خالية من التأثر بعوامل البيئة والتقليد للأبوين هي شاهدة لنا شهودا واضحا.

ومن شهودنا أيضا إجماع الصحابة الذين هم أكمل هذه الامة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا والتابعين لهم باحسان ممن ورثوا علمهم وفضلهم ، وكذلك أئمة الهدى من بعدهم فكلامهم موجود في بطون الكتب وهو ناطق بصريح الاثبات فهذه هي شهودنا التي تشهد لنا بصحة قولنا في اثبات الصفات ، فهل لديكم أنتم ولو شاهد واحد على النفى والانكار.

وأما جنودنا فمن قد علمتم ممن تقدم ذكرهم من الملائكة المقربين وجميع الأنبياء والمرسلين ، وجميع من جرى على سنتهم واهتدى بهديهم الى يوم الدين ، وأما جنودكم فعساكر الشيطان اللعين ، وخيامنا مضروبة بمكان ذي صوى وأعلام فلا يضل سكانها مواقع الخيام وهو معالم الوحيين من سنة وقرآن ، وأما خيامكم فمنصوبة في تيه لا دليل عليه فلا يأوى إليها الا كل ملدد حيران.

* * *

هذي شهادتهم على محصولهم

عند الممات وقولهم بلسان

والله يشهد أنهم أيضا كذا

تكفى شهادة ربنا الرحمن

ولنا المساند والصحاح وه

ذه السنن التي نابت عن القرآن

ولكم تصانيف الكلام وهذه ال

آراء وهي كثيرة الهذيان

شبه يكسر بعضها بعضا كبي

ت من زجاج خرّ للأركان

هل ثم شيء غير رأى أو كلا

م باطل أو منطق اليونان

ونقول قال الله قال رسوله

في كل تصنيف وكل مكان

٢٣٤

لكن تقولوا قال ارسطو وقا

ل ابن الخطيب وقال ذو العرفان

شيخ لكم يدعى ابن سينا لم يكن

متقيدا بالدين والايمان

وخيار ما تأتون قال الأشعر

ي وتشهدون عليه بالبهتان

فالأشعري مقرر لعلو رب ال

عرش فوق جميع ذي الأكوان

في غابية التقرير بالمعقول

والمنقول ثم بفطرة الرحمن

الشرح : يعني أن علماءكم يدركهم الندم عند الموت ويشهدون على أنفسهم أنهم أضاعوا أعمارهم فيما لا ينفع من دراسة المذاهب والمقالات معرضين عن هدى الكتاب والسنة ، وذلك كقول الشهرستاني صاحب كتاب (نهاية الاقدام في علم الكلام).

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر الا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعا سن نادم

وكقول ابن الخطيب الرازي صاحب التفسير المشهور ، وأشهر متكلمي الاشعرية في عصره.

نهاية اقدام العقول عقال

وأكثر سعى العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفى عليلا ولا تروى غليلا ، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن أقرأ في الإثبات : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه: ٥](إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) [فاطر : ١٠] واقرأ في النفي : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١](وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه : ١١٠] (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي).

وكقول إمام الحرمين الجويني عند موته :

(لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الاسلام وعلومهم وخضت في الذي نهوني عنه ، والآن ان لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان ، وها أنا أموت على

٢٣٥

عقيدة أمي) والله يشهد عليهم كذلك بما شهدوا به على أنفسهم (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ٧٩].

ونحن ورثنا علم النبوة كابرا عن كابر ، وألفنا فيه الكتب القيمة فلنا المساند التي يجمع فيها المحدث في ترجمة كل صحابي ما يرويه عنه من حديثه ويجعله على حدة وأن اختلفت أنواعه مثل مسند الامام أحمد بن حنبل الشيباني رحمه‌الله ، ومسند اسحاق بن راهويه ومسند عثمان بن أبي شيبة ، ومسند الحميدي ، ومسند عبد بن حميد ، والمسند الكبير ليعقوب بن شيبة ، والمسند الكبير لبقى بن مخلد القرطبي الخ.

ولنا كذلك الكتب الصحاح مثل صحيحي البخاري ومسلم رحمهما‌الله ، وهما يعتبران أوثق الكتب بعد كتاب الله ، ولنا السنن المشهورة مثل سنن النسائي وأبي داود والترمذي وابن ماجه القزويني وغيرها.

وأما أنتم فليس لكم الا تصانيف الكلام الباطل التي لا تحوي الا آراء كلها فشر وهذيان مثل كتب أبي المعالي الجويني ، وأبي حامد الغزالي ، وابن الخطيب الرازي والآمدي ، ونصير الدين الطوسي ، وعضد الدين الإبجي ، وسعد الدين التفتازاني والجلال الدواني وغيرهم. وهي كتب مليئة بالمتناقضات والايرادات والشبه التي يحطم بعضها بعضا ، كأنها بيت من زجاج قذفته بحجر فصار هشيما متداعي الأركان ، وليس فيها شيء من العلم النافع بل كل ما فيها أما رأي قائل ، أو كلام باطل ، أو أدلة متهافتة ركبت على قواعد المنطق الأرسطي.

ونحن لا نقول في كل كتبنا ومؤلفاتنا إلا قال الله عزوجل وقال رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأما أنتم فتنقلون عن أساتذتكم في الكفر والضلال فتقولون قال أرسطو أو قال الفخر الرازي أو قال الشيخ الرئيس ابن سينا ذلك الزنديق المتحلل من قيود الدين والايمان ، وأفضل منقولاتكم ما تنقلونه عن الشيخ أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري رحمه‌الله ، ولكنكم تشهدون عليه شهادة زور وبهتان فتنسبونه الى القول بالتعطيل مع أنه يقرر صفة العلو في جميع كتبه أحسن تقرير فيثبتها

٢٣٦

بطريق العقل والنقل والفطرة ويرد على نفاتها ، وينكر تأويل الاستواء بالاستيلاء ، ومن يقرأ كتابيه المشهورين (الآبانة) و (مقالات الاسلاميين) لا يشك في أنه كان من المثبتين.

* * *

هذا ونحن فتاركو الآراء

للنقل الصحيح ومحكم الفرقان

لكنكم بالعكس قد صرحتم

ووضعتم القانون ذا البهتان

والنفي عندكم على التفصيل وال

إثبات إجمالا بلا نكران

والمثبتون طريقهم نفي على وال

إجمال والتفصيل بالتبيان

فتدبروا القرآن مع من منكما؟

وشهادة المبعوث بالقرآن

وعرضتم قول الرسول على الذي

قال الشيوخ ومحكم الفرقان

فالمحكم النص الموافق قولهم

لا يقبل التأويل في الأذهان

لكنما النص المخالف قولهم

متشابه متأول بمعان

واذا تأدبتم تقولوا مشكل

أفواضح يا قوم رأى فلان

والله لو كان الموافق لم يكن

متشابها متأولا بلسان

الشرح : والفرق بيننا وبينكم كذلك أننا نترك آراء الناس وأقوالهم اذا كانت مخالفة للحديث الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو للمحكم الصريح من كتاب الله عزوجل ، وأما أنتم فقد صرحتم بعكس ذلك تماما ووضعتم في ذلك قانونا جائرا ظالما ، وهو أنه اذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم حكم العقل لأنه قطعي عندكم بخلاف النقل فانه لا يفيد الا الظن.

وأنتم كذلك تتوسعون في صفات السلب فتذكرونها على التفصيل وتزعمون ذلك مبالغة في التنزيه ، مع أن النفى الصرف لا مدح فيه ، وأما صفات الاثبات فتذكرونها اجمالا. وأما نحن فطريقتنا عكس ذلك ، نقتصر في النفى على ما نفاه الله ورسوله ، ونتوسع في الاثبات فنثبت كل ما أثبته الله ورسوله ، وهذه هي طريقة الكتاب والسنة ، اجمال في النفى وتفصيل في الاثبات ، فتدبروهما ان كنتم

٢٣٧

من أهل ذلك ، لتعرفوا هل هما على طريقتنا أو على طريقتكم ، وأنتم تعرضون ما قاله الله ورسوله على الذي قالته شيوخكم ، فان وافق النص قولهم كان محكما غير قابل للتأويل عندكم ، وأما ان خالف فهو متشابه يجب تأويله بمعان أخر ، واذا تصنعتم الأدب مع النص قلتم انه مشكل ولا نخوض فيه ، وو الله لو كان موافقا لقول شيوخكم لم يكن عندكم متشابها ولا مشكلا ولا قابل للتأويل.

* * *

لكن عرضنا نحن أقوال الشيو

خ على الذي جاءت به الوحيان

ما خالف النصين لم نعبأ به

شيئا وقلنا حسبنا النصان

والمشكل القول المخالف عندنا

في غاية الاشكال لا التبيان

والعزل والابقاء مرجعه إلى ال

آراء عندكم بلا كتمان

لكن لدينا ذاك مرجعه الى

قول الرسول ومحكم القرآن

والكفر والاسلام عين خلافه

ووفاقه لا غير بالبرهان

والكفر عندكم خلاف شيوخكم

ووفاقهم فحقيقة الايمان

هذي سبيلكم وتلك سبيلنا

والموعد الرحمن بعد زمان

وهناك يعلم أي حزبينا على ال

حق الصريح وفطرة الديان

فاصبر قليلا انما هي ساعة

فاذا أصبحت ففي رضا الرحمن

فالقوم مثلك يألمون ويصبرو

ن وصبرهم في طاعة الشيطان

الشرح : لكننا بخلافكم نعرض أقوال الناس على ما جاء في الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، فما خالف نصوصهما لم نرفع به رأسا ولم نقم له وزنا ، وقلنا يكفينا ما جاء به النصان ، والمشكل عندنا هو القول المخالف لهما ، فهذا عندنا في غاية الاشكال ، والعزل والابقاء عندكم مرجعه الى آراء الشيوخ ، فما وافقها من النصوص أبقيتموه وما خالفها عزلتموه ، فلا يصلح عندكم حجة ولا دليلا.

وأما عندنا فالعزل والابقاء يرجع الى النصوص الصريحة من الكتاب والسنة فما وافقها من الآراء أبقيناه واعتددنا به ، وما خالفها عزلناه ولم نعبأ به.

٢٣٨

والنصوص عندنا كذلك هي ميزان كفر الرجل واسلامه ، فمن خالف النصوص الصريحة من الكتاب والسنة حكمنا بكفره ، ومن وافقها حكمنا باسلامه ، وأما عندكم فالكفر هو مخالفة أقوال الشيوخ والاجتراء على نقد آرائهم ، والاسلام والايمان هو اتباعهم وموافقة أقوالهم. هذي سبيلكم وتلك سبيلنا ، قد استبان الفرق بينهما ، وهو فرق كما رأيتم جد كبير والموعد غدا لله العلى الكبير يحكم بيننا وبينكم فيما اختلفنا فيه ، وستعلمون حينئذ أي الحزبين منا ومنكم هو على الحقّ المبين وعلى فطرة الديان التي فطر عليها عباده أجمعين.

فاصبر يا أخا الحق قليلا ولا تجزع من قلة الأعوان وكثرة الأعداء ، فانما هي أيام قليلة وينقضى العمر ، واعلم ان ما تلقاه في هذه الدنيا من بلاء ، وما تقاسيه من أذى الجهلاء انما هو في مرضاة ربك ، فلا يكن أهل الباطل أصبر على باطلهم منك على حقك ، فان القوم مثلك يألمون كما تألم ويصبرون لكن في طاعة الشيطان فاجعل صبرك أنت في طاعة الرحمن.

* * *

فصل

في بيان الاستغناء بالوحي المنزل من السماء عن تقليد الرجال والآراء

يا طالب الحق المبين ومؤثرا

علم اليقين وصحة الايمان

اسمع مقالة ناصح خبر الذي

عند الورى مذ شب حتى الآن

ما زال مذ عقدت يداه ازاره

قد شد ميزره الى الرحمن

وتخلل الفترات للعزمات أم

ر لازم لطبيعة الإنسان

وتولد النقصان من فتراته

أو ليس سائرنا بنى النقصان

وتولد النقصان من فتراته

أو ليس سائرنا بنى النقصان

طاف المذاهب يبتغي نورا ليهديه

وينجيه من النيران

وكأنه قد طاف يبغي ظلمة ال

ليل البهيم ومذهب الحيران

والليل لا يزداد الا قوة

والصبح مقهور بذي السلطان

٢٣٩

حتى بدت في سيره نار على

طور المدينة مطلع الايمان

فأتى ليقبسها فلم يمكنه مع

تلك القيود منالها بأمان

الشرح : ينادي المؤلف كل من يتجرد لطلب الحق ويسعى في نيله وتحصيله ويؤثر علم اليقين على القول بالظن والتخمين ، ويريد لنفسه ايمانا صحيحا بعيدا عن شوائب الزيغ والكفران ، فيقول له اسمع لنصيحتي ، فإنها نصيحة مجرب خبر كل ما عند الناس من المذاهب والمقالات وطوف مذ شب عن الطوق على الفرق المختلفة يطلب الطريق الى اللهعزوجل.

ولكن الانسان مهما شد منه العزم فلا بد ان تتخلل عزمه فترات كما في الحديث «ان لكل شيء شرة ولكل شرة فترة» فهذا أمر لازم لنقص الطبيعة الانسانية وضعفها ، والناس كلهم أبناء نقصان ، قال تعالى : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ، وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) [النور : ٢١].

والمؤلف يخبر عن نفسه رحمه‌الله أنه قد طاف على جميع أرباب المذاهب والمقالات يبتغي لنفسه نورا يهدى قلبه ويبصره طريق النجاة ، ولكنه ما وجد عندهم الا ظلمات فوق ظلمات ، فكأنه ما طاف يبغي نورا ، بل طاف يبغي ظلمة الليل البهيم ، وكلما أوغل في الطلب كلما ازدادت أمامه الظلمات التي قهرت بجيوشها العاتية نور الصبح ، وما زال هكذا يهيم في وادي الظلمات حتى ظهر له في مسيره نار من جهة المدينة المنورة ، كما تراءت لموسى عليه‌السلام النار في طور سيناء فيمم نحوها ليقبس منها نورا وهدى يبدد أمامه غياهب الظلمات. فلم يمكنه أن ينالها وهو مقيد بقيود التقليد وأسر العادات.

وهذا الذي يتحدث عنه المؤلف قد حصل لكل من مر بمثل تجربته ممن أوغل في دراسة الكلام وعب مما في وردها الآسن من خرافات وأوهام ، حتى انبلج له صبح الاسلام.

* * *

٢٤٠