شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

والله لو خالفت نص رسوله

نصا صريحا واضح التبيان

وتبعت قول شيوخهم أو غيرهم

كنت المحقق صاحب العرفان

حتى إذا خالفت آراء الرجا

ل لسنة المبعوث بالقرآن

نادوا عليك ببدعة وضلالة

قالوا وفي تكفيره قولان

قالوا تنقصت الكبار وسائر ال

علماء بل جاهرت بالبهتان

هذا ولم نسلبهم حقا لهم

ليكون ذا كذب وذا عدوان

وإذا سلبت صفاته وعلوه

وكلامه جهرا بلا كتمان

لم يغضبوا بل كان ذلك عندهم

عين الصواب ومقتضى الإحسان

والأمر والله العظيم يزيد فو

ق الوصف لا يخفى على العميان

وإذا ذكرت الله توحيد رأي

ت وجوههم مكسوفة الألوان

بل ينظرون إليك شزرا مثل ما

نظر التيوس إلى عصا الجوبان

وإذا ذكرت بمدحه شركاءهم

يتباشرون تباشر الفرحان

والله ما شموا روائح دينه

يا زكمة أعيت طبيب زمان

الشرح : يعني أن هؤلاء القبوريين لا يعرفون من أمر دينهم إلا العكوف على هذه الأوثان وأزجاء المديح لها والنقمة ممن يسبها ويشتمها ويكشف عن حالها في عجزها وهوانها ، ولكنك لو شتمت ربك عندهم وعطلته عن صفات كماله كلها ما وجدت منهم من نكران ولما واجهوك ببعض ما ينزلونه بشاتم آلهتهم من أذى وعدوان. وكذلك لو خالفت سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصريحة الواضحة ، وتبعت رأي فلان وفلان من شيوخهم أو من غيرهم ، فأنت عندهم صاحب التحقيق والعرفان أما إذا خالفت آراء الرجال إلى سنة المبعوث بالقرآن شنوا عليك الغارة وأسرفوا في الطعن والتشهير ، فأحسن أحوالك عندهم أنك مبتدع ضال ، ومنهم من يسارع إلى الرمي بالتكفير ، لأنك في نظرهم وقح جريء تنتقص من قدر الكبار وتعمد إلى مخالفتهم وتقول بغير قولهم ، هذا مع أنك لم تسلبهم حقا هو لهم إذ ليس لهم على أحد حق الاتباع ، حتى يرمى مخالفهم بالكذب والعدوان والابتداع.

فهؤلاء الذين حموا لشيوخهم وصبوا جام غضبهم على من خالفهم في رأيهم ،

١٤١

وعدوا ذلك تنقيصا من أقدارهم لو سلبت صفات الله كلها عندهم ، ونفي علوه وكلامه جهارا بلا كتمان لما غضبوا على من فعل ذلك ، بل لأقروه عليه وصوبوا كلامه ، ومهما قيل في وصفهم فالأمر يزيد على كل وصف ، وهو أشهر من أن يخفى حتى على العميان.

وكذلك إذا ذكرت ربك توحيدا فرددت إليه الأمور كلها ونفيت عنه الظهير والمعين والوسيط والشفيع ، وقلت أنه يفعل ما يريد لا مغير لإرادته ، ولا مكره له على خلاف مشيئته اشمأزت منهم القلوب ، وعلت وجوههم الكآبة ، وكسفت منهم الألوان ، ونظروا إليك بأعين ملؤها الحقد والغضب أما إذا ذكرت آلهتهم بالخير وأطريتها في المديح فرحوا بذلك واستبشروا وهنأ بعضهم بعضا. فهم كمن قال الله فيهم : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر : ٤٥ ، ٤٦].

فهل تحسب أن أمثال هؤلاء قد شموا لدين الله رائحة أو ذاقوا له طعما ، كلا بل قد زكمت منهم القلوب زكمة أعيت كل طبيب وحار فيها كل مصلح أريب ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

* * *

فصل

في صف العسكرين وتقابل الصفين

واستدارة رحى الحرب العوان وتصاول الأقران

يا من يشب الحرب جهلا ما لكم

بقتال حزب الله قط يدان

أنى تقوم جنودكم لجنودهم

وهم الهداة وناصر والرحمن

وجنودكم ما بين كذاب ودج

ال ومحتال وذي بهتان

من كل أرعن يدّعي المعقول وه

ومجانب للعقل والإيمان

١٤٢

أو كل مبتدع وجهمي غدا

في قلبه حرج من القرآن

أو كل من قد دان دين شيوخ أه

ل الاعتزال البيّن البطلان

أو قائل بالاتحاد وأنه

عين الإله وما هنا شيئان

أو من غدا في دينه متحيرا

أتباع كل ملدد حيران

الشرح : يخاطب المؤلف فريق المعطلة النفاة الذين يسعون في إشعال نار الخصومة بينهم وبين فريق أهل الإثبات جهلا منهم بقوة خصمهم واغترارا بما لديهم من شبهات زائفة يسمونها حججا عقلية ، وما هي إلا جهليات ، فيقول لهم لا طاقة لكم بقتال حزب الله من أهل الاثبات ، وكيف تستطيع جنودكم منازلة جنودهم وهم ليسوا أقرانهم؟ فإنهم أعلام الهدى وعسكر الإيمان وجنود الرحمن الذابّون عن دينه بالسيف واللسان ، وأما جنودكم فما بين كذاب معروف بالكذب والاختلاق ، ودجال مموه يغطي وجه الحق بما يظهر من منطق طلي وأسلوب براق ، ومحتال ماكر قد مرد على الخداع والنفاق ، وباهت مكابر بجحد الحق وهو أجلى من الشمس تملأ الآفاق من كل أحمق جاهل يزعم التمرس بالعقليات وهو لا علم به بمعقول ولا منقول ومن كل ذي بدعة جهمي يضيق صدره حرجا كلما وردت عليه نصوص الإثبات من القرآن ، ومن كل معتزلي مارق يدين بمذهب الاعتزال الواضح البطلان أو اتحادي خبيث يزعم أن هذا العالم هو ربه ، وأنه ليس ثم موجودان أو متردد في دينه لا يدري أين يتجه ، قد استهوته الشياطين في الأرض حيران ، فهؤلاء هم جنودكم يا أنصار الشيطان فأنى لهم بمناجزة أنصار الرحمن؟.

* * *

وجنودهم جبريل مع ميكال مع

باقي الملائك ناصري القرآن

وجميع رسل الله من نوح إلى

خير الورى المبعوث من عدنان

فالقلب خمستهم أولو العزم الأولى

في سورة الشورى أتوا ببيان

في أول الأحزاب أيضا ذكرهم

هم خير خلق الله من إنسان

١٤٣

ولواؤهم بيد الرسول محمد

والكل تحت لواء ذي الفرقان

وجميع أصحاب الرسول عصابة الا

سلام أهل العلم والإيمان

والتابعون لهم بإحسان على

طبقاتهم في سائر الأزمان

أهل الحديث جميعهم وأئمة ال

فتوى وأهل حقائق العرفان

العارفون بربهم ونبيهم

ومراتب الأعمال في الرجحان

صوفية سنية نبوية

ليسوا أولي شطح ولا هذيان

الشرح : وأما أهل الإثبات فجنودهم جبريل أمين الوحي وميكال خازن الرزق ، ومعهما باقي الملائكة أنصار الحق ، وإنما خص جبريل وميكال أولا بالذكر لأنهما الأميران المطاعان ، ومن عداهما من الملائكة تبع لهما ، ولهذا خصا في القرآن بالذكر بعد دخولهما في عموم الملائكة في قوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٩٨].

وجنودهم كذلك جميع الرسل من البشر من أولهم نوح إلى آخرهم محمد صلوات الله عليهم أجمعين ، وأولو العزم منهم وهم الخمسة الذين ذكرهم الله في موضعين من كتابه ، أولهما في سورة الشورى في قوله تعالى (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [١٣].

والثاني في سورة الأحزاب وهو قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) [٧]. فهؤلاء الخمسة الكبار هم القلب في ذلك الجيش وغيرهم في الميمنة والميسرة ، ولواؤهم بيد سيدهم ومقدمهم محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلهم تبع له وتحت لوائه.

ومن جنودهم كذلك جميع الصحابة الذين أكرمهم الله سبحانه بصحبة نبيه والجهاد معه وتلقى الدين عنه غضا طريا ، والذين هم عصابة الإسلام وأكمل الناس بعد النبيين في العلم ، ثم من بعدهم التابعون لهم بإحسان على اختلاف

١٤٤

مراتبهم وطبقاتهم في سائر الأزمان ، الذين هم حفاظ الحديث وأرباب الفتوى وأهل المعرفة الحقة بالله وبرسوله ، والعلم بمراتب الأعمال وتفاوتها في الخفة والرجحان ، فيقدمون أهمها وأثقلها في الميزان ، وهم جميعا سنية ينتسبون إلى سنة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليس فيهم مبتدع ولا ذو هوى ولا قائل برأيه بل كلهم على ما كان عليه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وأصحابه.

وهم كذلك نبوية مستضيئون بنور النبوة ومقتبسون من مشكاتها ، ليسوا من أولئك الصوفية الرعن المخابيل الذين ينطقون بالهراء والهذيان ، ويزعمون أنهم هم أولو العرفان ، وما عرفوا إلا سبيل الشيطان ، نعوذ بالله من الخذلان.

وأما قول المؤلف في أول البيت الأخير صوفية ، فنحن لا نوافقه على إطلاق هذا اللقب على أهل الحق والجماعة ، فإنه لفظ مبتدع ويحمل من المعاني الخبيثة ما ننزه القوم عنه ، بل نسميهم بما سماهم الله به المسلمين المؤمنين عباد الله.

* * *

هذا كلامهم لدينا حاضر

من غير ما كذب ولا كتمان

فاقبل حوالة من أحال عليهم

هم أملياء هم أولو امكان

فإذا بعثنا غارة من أخريا

ت العسكر المنصور بالقرآن

طحنتكم طحن الرحى للحب ح

تى صرتم كالبعر في القيعان

أنى يقاوم ذي العساكر طمطم

أو تنكلوشا أو أخو اليونان

أعني أرسطو عابد الأوثان أو

ذاك الكفور معلم الألحان

ذاك المعلم أولا للحروف والث

اني لصوت بئست العلمان

هذا أساس الفسق والحرف الذي

وضعوا أساس الكفر والهذيان

أو ذلك المخدوع حامل راية ال

إلحاد ذاك خليفة الشيطان

أعني ابن سينا ذلك المحلول من

أديان أهل الأرض ذا الكفران

وكذا نصير الشرك في اتباعه

أعداء رسل الله والإيمان

الشرح : يعني أن كلام هؤلاء السادة الأخيار في إثبات صفات الله عزوجل

١٤٥

موجود عندنا بالنقل الصحيح عنهم لم يفتروا فيه على الله الكذب ولم يكتموا منه شيئا ، فإذا أحلت على أحد منهم فأقبل تلك الحوالة ولا ترفضها فإنها حوالة على غني ملئ ، وقد قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا أحيل أحدكم على ملئ فليتبع».

وقد حشد المؤلف رحمه‌الله جملة كبيرة من كلام هؤلاء الأئمة الكبار في كتابه الذي أسماه : (اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية) وقد سبقه إلى ذلك شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه‌الله في (فتواه الحموية) كما فعل مثل ذلك أيضا الحافظ الذهبي في كتابه : (العلو للعلي الغفار) فمن أراد أن يعرف منهج القوم في عقيدتهم ، ويقف على ما خلفوه في هذا الباب من آثار وأقوال فليرجع إلى هذه الكتب وأمثالها.

ثم يقول المؤلف : إننا لو بعثنا بغارة على أهل التعطيل لا من قلب هذا الجيش المنصور ومقدمته ، بل من ساقته ومؤخرته لمزقتهم شر ممزق ولضرستهم بأنيابها حتى تذرهم كعصف مأكول ، أو كبعر بعرته الإبل في القيعان ، جمع قيعة ، وهي الأرض المستوية السبخة التي يتراءى فيها السراب وكيف يستطيع أن يقاوم هذا العسكر المتسلح بأسلحة النصوص من السنة والقرآن ، والمتترس بتروس العلم والإيمان. هؤلاء الأوباش من التتار أتباع هولاكو وجانكيز خان ، ممن يسمى بطمطم أو تنكلوشا ونحو ذلك من أسماء أهل الجهل والعدوان ، أم كيف يستطيع مقاومتهم أخو اليونان الذي هو أرسطو عابد الأوثان الملقب عندهم بالمعلم الأول وما فلسفته الإلهية كلها إلا كذب وبهتان ، فأين صورته المحضة أو محركه الأول الذي لا نعت له ولا صفة من الله الرحيم الرحمن.

أو هذا المعلم الثاني الذي هو الفارابي معلم الألحان ، والذي تغذى بلبان الصابئة في بلده حران ، فجاءت فلسفته تنضح بما في عقائد الصابئة من عبادة للنجوم والأوثان ، حيث وضع عقوله العشرة ونسب إليها كل ما لا ينسب إلا للحي القيوم ، لا سيما عقله العاشر الذي سماه بالعقل الفعال أو عقل القمر ، وهو أقرب العقول إلى عالم العناصر ، فقد جعل له التصرف في هذا العالم بالكون

١٤٦

والفساد ، فهو عنده مفيض الحياة على الأحياء ، وواهب الصور للأنواع ، وأساس المعارف والعلوم.

فالمعلم الأول أرسطو هو معلم الحرف ، أي المنطق ، والمعلم الثاني الفارابي هو معلم الموسيقى والصوت ، وبئس العلم هذان العلمان ، فإن هذا الثاني هو أساس الفسق والفجور ، وأما الأول فهو أساس الضلال والزندقة.

ويجيء بعد هذين المعلمين ذلك القرمطي الخبيث حامل راية الإلحاد الملقب عندهم بالشيخ الرئيس ، ذلك هو ابن سينا المارق الضليل الذي تحلل من جميع الأديان واتخذ دينا له مذاهب فلاسفة اليونان ، وأخذ يصانع أهل الإسلام بمحاولة التوفيق بينها وبين عقائد الإيمان ، فأتى في هذا الباب بأنواع من الكفر والهذيان.

ومن العجيب أن تروج حماقات هذا الرجل وتمتلئ بها كتب أهل الإسلام وتدرس في معاهدهم وجامعاتهم على أنها إنتاج عقلي رفيع وتشغل بتحليلها وتحقيقها عقول الأساتذة والطلبة ، كأنها وحي وتنزيل ، بل ربما قدموها على قول الله ورسوله لزعمهم أنها حجج وبراهين قائمة على أصول منطقية وبديهيات عقلية ، وهي لا تخرج عن كونها جهالات قامت على خيال فاسد وظنون كاذبة.

ثم يجيء بعد ابن سينا ذلك الخواجة حامل لواء فلسفته ونصير إفكه وزندقته المسمى بنصير الدين الطوسي ، وما نصر إلا أعداء الدين ، ومكن لهم من رقاب المؤمنين ، وكان حربا على كل من ينتسب إلى السنة والقرآن ، ويتبع سبيل أهل الإيمان ، فتبا له من مارد شيطان.

* * *

نصروا الضلالة من سفاهة رأيهم

وغزوا جيوش الدين والقرآن

فجرى على الإسلام منهم محنة

لم تجر قط بسالف الأزمان

أو جعدا وجهم وأتباع له

هم أمة التعطيل والبهتان

١٤٧

أو حفص أو بشرا والنظام ذا

ك مقدم الفساق والمجان

والجعفران كذاك شيطان ويد

عى الطاق لا حييت من شيطان

وكذلك الشحام والعلاف والنّ

جار أهل الجهل بالقرآن

والله ما في القوم شخص رافع

بالوحي رأسا بل برأي فلان

وخيار عسكركم فذاك الأشعر

ي القرم ذاك مقدم الفرسان

لكنكم والله ما أنتم على

إثباته والحق ذو برهان

هو قال أن الله فوق العرش ،

واستولى مقالة كل ذي بهتان

في كتبه طرا وقرر قول ذي ال

إثبات تقريرا عظيم الشأن

لكنكم أكفرتموه وقلتم

من قال هذا فهو ذو كفران

فخيار عسكركم فأنتم منهم

برآء إذ قربوا من الإيمان

الشرح : يعني أن هؤلاء التتار الذين استقدمهم الوزير الرافضي المسمى بابن العلقمي ، والذين استعداهم نصير الدين الطوسي على أهل الحق كانوا أنصارا للمذاهب الضالة ، وذلك لخفة حلومهم وغلبة الجهل عليهم ، وكانوا حربا على جيوش الإيمان من أهل الدين والقرآن ، فجرى على الإسلام وأهله على أيدي هؤلاء التتار من الفظائع والأهوال ما لم يسمع بمثله فيما مضى من الاعصار.

ثم أخذ الشيخ بعدد بقية جند الباطل بعد ما ذكر من رءوسهم فيما تقدم هؤلاء الأربعة (أرسطو والفارابي وابن سينا والطوسي) فذكر الجعد بن درهم والجهم ابن صفوان ، وهما رأسان كبيران من رءوس الضلال ، وقد تقدم الكلام عليهما ، وكان الجعد أول من أسس مقالة التعطيل ، ثم تبعه عليها الجهم ، وزاد على ما قاله وأوغل في النفي حتى نسب المذهب إليه.

ثم ذكر من رءوس أهل الاعتزال الذين شايعوا الجهم في التعطيل. حفصا (١)

__________________

(١) من متكلمي المعتزلة ، تعلم على أبو هذيل ، لقبه الشافعي رحمه‌الله بهذا اللقب تهكما ، وكان يقول بخلق الله لأفعال العباد على طريقة الجبرية ، وله مؤلفات ضد المعتزلة والمسيحيين.

١٤٨

النرد. وبشر (١) بن المعتمر وابراهيم بن سيار (٢) الملقب بالنظام ، ووصفه بأنه مقدم القدم في الفسق والمجون ، ثم الجعفرين ، أعني جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب ، وكانا على مذهب النظام. ثم شيطان الطاق (٣) ، ثم أبا يعقوب الشحام صاحب أبي الهذيل وكان يقول بقوله في الصفات وأنها عين الذات ثم أبا الهذيل العلاف الذي كان يقول بتناهي حركات أهل الجنة وأهل النار ، ثم الحسين النجار من متأخري المعتزلة وكان مذهبه يميل إلى الاعتدال.

فهؤلاء جميعا ليس فيهم من يقف عند حدود الوحي المنزل أو يلتزم الأخذ بالنصوص الصريحة بل يبتدعون بأهوائهم ما لا أصل له في كتاب ولا سنة كما هو معروف من مذاهبهم التي نقلها عنهم من ألف في الفرق والمقالات وخير هؤلاء هو أبو الحسن علي بن اسماعيل الأشعري إمام الطائفة الاشعرية ، فإنه أقربهم إلى الكتاب والسنّة وإن كان خالف مذهب السلف في أشياء ، كالقول بالكلام النفسي ونفي الحرف والصوت ، ونفي الحكمة على أفعاله تعالى ، ونفي قيام الأفعال الاختيارية بذاته ، ولكنه رغم ذلك يثبت الصفات الخبرية من الاستواء والوجه واليدين والعينين ونحوها. وقد صرح في جميع كتبه بأن الله مستو على عرشه بمعنى العلو والفوقية ، وأنكر تأويل الاستواء بالاستيلاء.

ومن العجيب أن المتأخرين من أتباعه يكفرون من قال أن الله فوق عرشه بذاته لأنه يثبت الجهة والحيز وهو عندهم تجسيم فيلزمهم على ذلك تكفير إمامهم لأنه ممن يثبت الجهة ، وهكذا يتبرأ أهل التعطيل من خيار عسكرهم إذا قالوا قولا يوافقون فيه أهل الحق ويقربون به من الإيمان.

* * *

__________________

(١) أحد علماء المعتزلة ، وكان في زمن الرشيد ، وكان يقول بالتولد. وهناك بشر آخر ـ يقال بشر ابن غياث المريسي ، وهو الذي ناظره الإمام عبد العزيز بن يحيي الكناني في مسألة خلق القرآن وفلج عليه بين يدي المأمون ، كما ذكر ذلك في كتابه الحيدة.

(٢) هو صاحب القول بالطفرة وله آراء غريبة في علم الكلام وهو تلميذ لأبي الهذيل.

(٣) هو محمد بن النعمان وشيطان الطاق لقبه وأصحابه يقال لهم الشيطانية وهو من غلاة الشيعة وقد صنف لهم كتبا كثيرة منها كتاب (الإمامة).

١٤٩

هذه العساكر قد تلاقت جهرة

ودنا القتال وصيح بالأقران

صفوا الجيوش وعبئوها وابرزوا

للحرب واقتربوا من الفرسان

فهم إلى لقياكم بالشوق كي

يوفوا بنذرهم من القربان

ولهم إليكم شوق ذي قرم فما

يشفيه غير موائد اللحمان

تبا لكم لو تعقلون لكنتم

خلف الخدور كأضعف النسوان

من أين أنتم والحديث وأهله

والوحي والمعقول بالبرهان

ما عندكم إلا الدعاوى والشكا

وى أو شهادات على البهتان

هذا الذي والله نلنا منكم

في الحرب إذ يتقابل الصفان

الشرح : يقول الشيخ لهؤلاء الناكبين عن صراط الله المستقيم ممن قالوا في دين الله برأيهم ، وافتروا الكذب على ربهم وأوسعوا النصوص تحريفا وتأويلا وساموها إنكارا وتعطيلا ، أن جيوش. أهل الحق قد تجمعت للنضال وتهيأت للقتال ، وصاحت في وجوهكم تطلب المبارزة ، فصفوا جيوشكم وعبئوها للقتال والمناجزة وابرزوا من مكامنكم واقتربوا من فرسان أهل الحق ، فإنهم أشوق شيء إلى لقائكم لكي يوفوا بما نذروا لله من ضحايا وقرابين ، بل أن شوقهم إليكم أشد من شوق ذي النهمة المحروم الذي لا يشفيه من نهمه إلا أكوام اللحوم.

ولكن تبا لكم فلستم أهلا للبراز والمقاتلة ولو عرفتم قدر أنفسكم ومبلغ ضعفكم وفساد أسلحتكم لتواريتم خلف الخدور كما يتوارى النساء الضعيفات اللاتي لا قدرة لهن على حرب ولا قتال.

وإلا فأين أنتم من الحديث وأهله ، ومن الوحي وجهابذته ، ومن البراهين العقلية الصحيحة ، إذ ليس عندكم من بضاعة تزجونها إلا دعاوى عريضة وشكايات مغرضة وإلا شهادات كلها زور وبهتان ، وهذا هو الذي جعلنا ننال منكم وننتصر عليكم عند ما يلتقي الجيشان ويتقابل الصفان.

* * *

١٥٠

والله ما جئتم بقال الله أو

قال الرسول ونحن في الميدان

إلا بجعجعة وفرقعة وغم

غمة وقعقعة بكل لسان

ويحق ذاك لكم وأنتم أهله

أنتم بحاصلكم أولو عرفان

وبحقكم تحموا مناصبكم وأن

تحموا مآكلكم بكل سنان

وبحقنا نحمي الهدى ونذب عن

سنن الرسول ومقتضى القرآن

قبح الإله مناصبا ومآكلا

قامت على العدوان والطغيان

والله لو جئتم بقال الله أو

قال الرسول كفعل ذي الإيمان

كنا لكم شاويش تعظيم وإج

لال كشاويش لذي سلطان

لكن هجرتم ذا وجئتم بدعة

وأردتم التعظيم بالبهتان

الشرح : وإذا كنا نحن وأنتم في مجال الخصومة والمناظرة واستعر بيننا أوار الجدل فإنكم لا تعولون في الاحتجاج لآرائكم على شيء من النصوص فلا تقولون أبدا قال الله عزوجل ، كذا ولا قال رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذا ، بل تحاولون الغلب بالتهويش وشقشقة اللسان وتعمدون إلى الألفاظ الطنانة والاصطلاحات الغريبة تجعجعون بها مع فرقعة بالأصابع ، وغمغمة بكلام غير مفهوم ، وقعقعة كالطبل الأجوف ، وهذا هو محصولكم من العلم وأنتم أهله وأدرى الناس به ومقصودكم من كل هذا أن تحموا مناصبكم التي أسندت إليكم في التدريس والقضاء والفتيا بهذه البضاعة الكاسدة التي راجت عند الجهلة من الأمراء والحكام ، وأن تحموا كذلك ما يجري عليكم من رواتب وجاريات. وأما نحن فأحقاء بحماية الهدى من عبث الضلال والدفاع عن السنة المطهرة ممن يتنقصها أو يتهجم عليها ، والذب عما تقتضيه آيات الكتاب العزيز من معان تريدون الإلحاد فيها والزيغ عنها ، فلا بارك الله لكم في مناصب ومآكل لم تقم على عدل وحق وإنصاف ولكنها قامت على ظلم وعدوان وإجحاف ، وو الله لو التزمتم النصفة ووقفتم عند نصوص الكتاب والسنة كما هو شأن أهل العلم والإيمان لوجدتمونا لكم نعم الجند والأعوان ، ولفعلنا بكم من التوقير والإجلال ما يفعله الشاويش عند السلطان ، لكنكم هجرتم الوحيين من السنة والقرآن. وأتيتم ببدع ومفتريات ما أنزل الله بها

١٥١

من سلطان ومع ذلك تريدون من الناس ان يعظموكم بالزور والبهتان.

* * *

فصل

العلم قال الله قال رسوله

قال الصحابة هم أولو العرفان

ما العلم نصبك للخلاف سفاهة

بين الرسول وبين رأي فلان

كلا ولا جحد الصفات لربنا

في قالب التنزيه والسبحان

كلا ولا نفي العلو لفاطر الأ

كوان فوق جميع ذي الأكوان

كلا ولا عزل النصوص وأنها

ليست تفيد حقائق الايمان

إذ لا تفيدكم يقينا لا ولا

علما فقد عزلت عن الإيقان

والعلم عندكم ينال بغيرها

بزبالة الأفكار والأذهان

سميتموه قواطعا عقلية

تنفي الظواهر حاملات معان

كلا ولا إحصاء آراء الرجا

ل وضبطها بالحصر والحسبان

كلا ولا التأويل والتبدي

ل والتحريف للوحيين بالبهتان

كلا ولا الأشكال والتشكيك وال

وقف الذي ما فيه من عرفان

هذي علومكم التي من أجلها

عاديتمونا يا أولي العرفان

* * *

الشرح : يفرق لنا المؤلف في هذه الأبيات بين العلم الصحيح النافع الذي هو الحق المطابق للواقع. وبين العلم المموه الزائف الذي هو في حقيقته جهل مركب وسم ناقع. فيقول أن العلم الحقيقي بأن يسمى علما لا يعدو واحدة من ثلاث ، فأما أن يكون آية من كتاب الله عزوجل ، أو حديثا صح عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو أثرا عن واحد من الصحابة الذين هم أكمل هذه الأمة علما وإيمانا وكل ما خالف ذلك فهو جهل وضلال فليس العلم أن تتحامق فتعارض بآراء الرجال قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتكون بذلك مخالفا عن أمره ومعرضا عن قبول حكمه فتكون

١٥٢

ممن قال الله فيهم (وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ). [النور : ٤٨].

وليس العلم أن تعمد إلى صفات الرب الثابتة بالنصوص الصريحة الواضحة فتنفيها وتجحد ثبوتها بحجة أنك تقدس الله وتنزهه عن الاتصاف بصفات الأجسام والمحدثات. وليس العلم أن تعمد إلى صفة العلو الثابتة لله بالنقل والعقل والفطرة فتنفيها بحجة التنزيه لله عن الأحياز والجهات.

وليس العلم ان تعزل نصوص الوحيين عن إفادة الحق في باب الاعتقاد بحجة أنها ظواهر لفظية محتملة ، وأن ما تطرق إليه الاحتمال يسقط به الاستدلال. ولهذا حكمتم عليها بأنها لا تفيد علما ولا يقينا ، بل إنما يستفاد هذا عندكم من البراهين التي هي أوساخ العقول والأفكار ، والتي تسمونها قواطع عقلية تنفون بها ظواهر الآيات والأخبار.

وليس العلم كذلك أن تشتغل بسرد آراء الرجال وعدها ومحاولة ضبطها وحصرها ، فيكون حظك من العلم أن تقول : قال فلان كذا ، ورأى فلان كذا ، دون أن تناقش هذه الآراء وتبين صحيحها من زائفها.

وليس العلم أيضا تأويل النصوص بما ينفي معانيها الظاهرة منها ولا تبديل ألفاظها بغيرها ، ولا تحريف كلمها عن مواضعها بالكذب والبهتان.

وليس العلم إشكالات تورد ولا تشكيكات تعد ، ولا توقّف في المسائل يدل على الحيرة والتردد.

فهذه هي كل ما لديكم من أبواب العلم ، وليس فيها شيء من العلم ، وكانت هي السبب في أن ناصبناكم العداوة والبغضاء.

* * *

١٥٣

فصل

في عقد الهدنة والأمان الواقع بين المعطلة

وأهل الإلحاد حزب جنكيز خان

يا قوم صالحتم نفاة الذات والأ

وصاف صلحا موجبا لأمان

وأغرتم وهنا عليهم غارة

قعقعتم فيها لهم بشنان

ما كان فيها من قتيل منهم

كلا ولا فيها أسير عان

ولطفتم في القول أو صانعتم

وآتيتم في بحثكم بدهان

وجلستم معهم مجالسكم مع ال

أستاذ بالآداب والميزان

وضرعتم للقوم كل ضراعة

حتى أعاروكم سلاح الجاني

فغزوتم بسلاحهم لعساكر الا

ثبات والآثار والقرآن

ولأجل ذا صانعتموهم عند حر

بكم لهم باللطف والاذعان

ولأجل ذا كنتم مخانيثا لهم

لم تنفتح منكم لهم عينان

حذرا من استرجاعهم لسلاحهم

فترون بعد السلب كالنسوان

الشرح : ينعي المؤلف على هؤلاء المعطلة ممالأتهم لأعداء الله من التتار الذين لا يقرون بوجود الله عزوجل ، وينفون الذات والصفات جميعا ، وذلك حين غلبوا على الدولة الإسلامية واستولوا على بغداد قصبة الخلافة سنة ٦٥٦ ه‍. وقتلوا الخليفة المستعصم ، وأعملوا السيف في أهل الإسلام ، حتى كانت القتلى في طرقات بغداد كأنها التلول ، واختلطت مياه دجلة بدماء القتلى ، وارتكبوا من ألوان القسوة والوحشية ما لا نظير له في التاريخ ، فرأى هؤلاء الملاحدة من المتكلمين والمتفلسفة أن يصانعوا القوم ليأمنوا شرهم ويكسبوا نصرتهم لهم على أهل الحق فأغاروا عليهم وهنا ، أي في أول الليل غارة لم يستعملوا فيها السيف والسنان ، ولكن شقشقة باللسان وقعقعة بالشنان ، أي الطبل ، ولهذا لم تسفر هذه المعركة عن قتيل من هؤلاء ولا أسير.

ثم أخذوا يتلطفون لهم في القول ويلاينونهم في الكلام ، ويلجئون في بحثهم معهم إلى الدهاء والمخادعة ، وجلسوا بين أيديهم في غاية الأدب والاحتشام ، كما

١٥٤

يجلس التلميذ بين يدي أستاذه ، فحركاتهم بميزان ، وكلماتهم بميزان ، وأبدوا لهم غاية الضراعة والذلة ، حتى ملكوا قلوبهم وضمنوا ولاءهم ، فأعاروهم أسلحة الظلم والعدوان ، فلما اطمأنوا إلى مودة القوم ونصرتهم غزوا بسلاحهم عساكر الإثبات والإيمان وأهل الآثار والقرآن. ومن أجل هذا كانوا يصانعونهم عند حربهم لهم باللطف والاذعان ، وكانوا ذيولا لهم ينقادون لأمرهم ويغمضون أعينهم عن كل ما يرتكبه القوم من عدوان خوفا من غضبهم عليهم ، فيسترجعون ما كانوا قد أعاروهم من أسلحة ، فيرون بعد سلبها عنهم كالنسوان لا قدرة لهم على حرب ولا طعان.

* * *

وبحثتم مع صاحب الإثبات بالت

كفير والتضليل والعدوان

وقلبتم ظهر المجن له وأجلب

تم عليه بعسكر الشيطان

والله هذى ريبة لا يختفي

مضمونها إلا على الثيران

هذا وبينهما أشد تفاوت

فئتان في الرحمن يختصمان

هذا نفى ذات الإله ووصفه

نفيا صريحا ليس بالكتمان

لكن إذا وصف الإله بكل أو

صاف الكمال المطلق الرباني

ونفى النقائص والعيوب كنف

يه التشبيه للرحمن بالإنسان

فلأي شيء كان حربكم له

بالحد دون معطل الرحمن

قلنا نعم هذا المجسم كافر

أفكان ذلك كامل الإيمان

لا تنطفي نيران غيظكم على

هذا المجسم يا أولي النيران

فالله يوقدها ويصلي حرها

يوم الحساب محرف القرآن

الشرح : وفي الوقت الذي تصانعون فيه هؤلاء الكفار وتذلون لهم ، نراكم تشددون النكير على أهل الحق المثبتين للصفات ، فترمونهم بالتضليل والتكفير ، وتجاهرونهم بالعداوة ، وتجلبون عليهم بما لديكم من حشود الباطل ، مما جعلنا نرتاب في أمركم ، ونتهمكم بأنكم على دين هؤلاء الذين واليتموهم ، وهي

١٥٥

ريبة لا تخفى على من له أقل درجة من التمييز ، فإن بيننا وبين من صانعتموهم من التفاوت كما بين الليل والنهار ، أو بين العمى والإبصار ، فنحن فئتان اختصمتا في الله عزوجل ، ووقفت كل منهما على النقيض من الأخرى ، فهم ينفون ذات الاله ووصفه نفيا صريحا لا مواربة فيه ولا كتمان ، وأما نحن فنصف الله سبحانه بكل أوصاف الكمال المطلق التي وصف بها نفسه ، ووصفه بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وننفي عنه كل ما لا يليق بجنابه من النقائص والعيوب ، كوجود مثيل له أو شبيه ، أو شريك أو معين ، أو صاحبة أو ولد ، أو نحو ذلك ، فلأي شيء كنا نحن موضع حربكم وعداوتكم ، وكانوا هم المؤمنون الكاملو الإيمان ، وما لكم لا تهدأ مراجل حقدكم ولا تخمد نار غيظكم على هؤلاء الذين سميتموهم مجسمة؟ ليس ذلك إلا لكراهتكم لما هم عليه من اتباع السنة والقرآن ، وإذا فالله نسأل أن يوقد النار ويذكى لهيبها ، ثم يصليكم إياها يوم الحساب جزاء وفاقا لتحريفكم القرآن واتباعكم غير سبيل أهل الإيمان.

* * *

يا قومنا لقد ارتكبتم خطة

لم يرتكبها قط ذو عرفان

وأعنتم وأعداءكم بوفاقكم

لهم على شيء من البطلان

أخذوا نواصيكم بها ولحاكم

فغدت تجر بذلة وهوان

قلتم بقولهم ورمتم كسرهم

أنّى وقد غلقوا لكم برهان

وكسرتم الباب الذي من خلفه

أعداء رسل الله والإيمان

فأتى عدو ما لكم بقتالهم

وبحربهم أبد الزمان يدان

فغدوتم أسرى لهم بحبالهم

أيديكم شدت إلى الأذقان

حملوا عليكم كالسباع استقبلت

حمرا معقرة ذوي إرسال

صالوا عليكم بالذي صلتم به

أنتم علينا صولة الفرسان

لو لا تحيزكم إلينا كنتم

وسط العرين ممزقى اللحمان

لكن بنا استنصرتم وبقولنا

صلتم عليهم صولة الشجعان

وآليتم الإثبات إذ صلتم به

وعزلتم التعطيل عزل مهان

١٥٦

وأتيتم تغزوننا بسرية

من عسكر التعطيل والكفران

من ذا بحق الله أجهل منكم

وأحقنا بالجهل والعدوان

تالله ما يدري الفتى بمصابه

والقلب تحت الختم والخذلان

* * *

المفردات : الوفاق الموافقة ، النواصي : جمع ناصية وهي مقدم الرأس. اللحا : جمع لحية وهي معروفة. رمتم : قصدتم. غلقوا لكم برهان : أي ملكوكم ، يقال غلق الرهن في يد المرتهن صار ملكه ، وذلك إذا عجز الراهن عن افتكاكه في الوقت المشروط ، يدان : بمعنى قوة وحمر معقرة ، أي جرحت ظهورها فلم تعد تقوى على الحمل.

صالوا : من الصولان ، بمعنى الاقدام والهجوم. تحيزكم : انضمامكم. واليتم ناصرتم. الختم : الطبع.

الشرح : يتوجه المؤلف بهذا الخطاب إلى من كانوا في زمانه من علماء الأشعرية المتأخرين الذين رضوا لأنفسهم بالتذبذب بين الفريقين ، فلا هم على السنة المحضة والإثبات الكامل ، ولا هم على النفي الشامل فيقول لهم انكم قد سلكتم في دينكم خطة تدل على منتهى الحمق والغفلة ولا يرتضيها عاقل لنفسه ، حيث أعنتم أعداءكم من الفلاسفة والمعتزلة بموافقتكم لهم في بعض باطلهم ، كنفى الصفات الخبرية وتأويل ما ورد فيها من الآيات والأحاديث بما ينفي معناها عن الله عزوجل ، وكاعتدادكم بالأدلة العقلية وعزلكم نصوص الوحيين عن إفادة اليقين ، وقولكم معهم إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل ، فلما رأوا ذلك منكم شددوا قبضتهم عليكم وأخذوا بلحاكم ورءوسكم يجرونكم إليهم جر ذلة وهوان فكيف تطعمون أن تكسروهم وتفلجوا عليهم وقد أعطيتموهم من أنفسكم ما تمكنوا به من رقابكم ، وفتحتم لهم الباب الذي كان موصدا في وجوههم ، فدخلوا حصونكم ومعاقلكم فتبروا ما علوا تتبيرا حتى إذا جاء عدو آخر لا قبل لكم بحربه ، ولا قدرة لكم على مناجزته ، وقعتم أسرى في أيديهم

١٥٧

حيث شددا وثاقكم ، وغلوا أيديكم إلى أعناقكم ، وحملوا عليكم حملة الآساد الكاسرة على قطيع من الحمر المعقرة ، فصالوا عليكم بنفس السلاح الذي صلتم به علينا صولة الفرسان المغاوير ، فلو لا انضمامكم إلينا وعودتكم إلى حظيرتنا وتمسككم بأهداب الوحي لغدوتم في العرين ، وهو بيت الأسد ممزقي الاشلاء ، فلم تجدوا لكم في هذه المعركة إلا أن تستنصروا بنا وتقولوا بقولنا في الإثبات حتى تتمكنوا من رد غارتهم عليكم فأنتم توالون الإثبات وتعزلون التعطيل عزل مهان ذليل حين يكون الإثبات هو سلاحكم الذي به تصولون ، ولكنكم في نفس الوقت له تتنكرون حين تكون الحرب بيننا وبينكم حيث تغزوننا بجيوش التعطيل والإنكار ، فمن بالله أجله منكم حين تتسلحون بالشيء وضده ، وتوالون الإثبات مرة وتعادونه مرة ، ومن أحق منا ومنكم أن ينتسب إلى الجهل والعدوان. ولكن الله سبحانه هو مقلب القلوب ، فهي بين إصبعين من أصابعه أن يشأ يختم عليها ويخذلها فلا يدري أصحابها بمصابهم وإن كان هو أعظم مصاب.

* * *

فصل

في مصارع النفاة والمعطلين بأسنة

أمراء الإثبات الموحدين

وإذا أردت ترى مصارع من خلا

من أمة التعطيل والكفران

وتراهم أسرى حقير شأنهم

أيديهم غلت إلى الاذقان

وتراهم تحت الرماح دريئة

ما فيهم من فارس طعان

وتراهم تحت السيوف تنوشهم

من عن شمائلهم وعن إيمان

وتراهم انسلخوا من الوحيين والع

قل الصحيح ومقتضى القرآن

وتراهم والله ضحكة ساخر

ولطالما سخروا من الإيمان

قد أوحشت منهم ربوع زاده

ا الجبار ايحاشا مدى الأزمان

وخلت ديارهم وشتت شملهم

ما فيهم رجلان مجتمعان

١٥٨

قد عطل الرحمن أفئدة لهم

من كل معرفة ومن إيمان

إذ عطلوا الرحمن من أوصافه

والعرش أخلوه من الرحمن

بل عطلوه عن الكلام وعن صفا

ت كماله بالجهل والبهتان

المفردات : المصارع : المهالك ـ غلت : شدت ـ دريئة : ما يستتر به الصائد ليخدع الصيد ـ تنوشهم : تأخذهم.

الشرح : يريد المؤلف بهذه الأبيات أن يكشف لنا عن الدور العظيم الذي قام به شيخه شيخ الإسلام وقدوة الأنام وعلم الأعلام وأعجوبة الأيام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني الدمشقي مجدد القرن الثامن وباعث النهضة الإسلامية ، الذي لم يأت الدهر له بنظير في الجمع بين العلوم النقلية والعقلية ، ناصر السنة وقامع البدعة ، ورافع راية التوحيد ، ومبدد جيوش الملاحدة والمبطلين ، صاحب المؤلفات الخالدة التي هي مشاعل هدى ، ومنارات رشد يستضيء بنورها طلاب الحق ، وأعلام الفكر ، ومهما قلت في وصفه وأطنبت فلن أوفيه حقه ، ولن أجزيه عن بعض ما قلدني من منة ، فلقد كنت أحد الذين تخرجوا على كتبه حين قدر الله سبحانه أن يرفع عني غشاوة التقليد ، وأن يذهب من نفسي ما ألمّ بها بحكم النشأة من عصبية مذهبية ولوثة صوفية وانحدار في بوائق الوثنية. فما هي إلا جولة في رياض كتبه المونقة حتى زالت عني سقام الجهل وعادت للقلب عافيته ، وللعقل صحته ، وحتى تجلى لي الدين في نقائه وطهارته بعد أن انزاحت عنه عمايات الباطل وضلالات البدع وظلمات الأهواء.

ولنرجع إلى شرح الأبيات التي يصور لنا فيها المؤلف مدى ما أصاب جيوش الزيغ والتعطيل من هزيمة وانكسار حين حمل عليها شيخه البطل المغوار والفارس الكرار بسيفه البتار ففرقهم شذر مذر ، فلم يبق لهم من عين ولا أثر ، فيقول إذا أردت أن تشهد أئمة الكفر والتعطيل وهم يسقطون صرعى في الميدان ويقعون أسرى ترهقهم الذلة ، ويعلوهم الهوان ، وتربط أيديهم بالحبال إلى الأذقان وأن تراهم دريئة للرماح لا قدرة لهم على حرب ولا طعان ، وأن تراهم قد تجردوا

١٥٩

من الوحيين والسنة والقرآن ، بل وتجردوا من العقل الصحيح وما يقتضيه من البرهان ، بل وتراهم مضحكة للناس يتخذون منهم مادة للفكاهة والهذيان ، ولطالما كانوا يسخرون من أهل الإيمان ، وتراهم قد خلت منهم الديار وتبدد جمعهم في الأقطار ، كما أخلى الرحمن أفئدتهم من كل معرفة وإيمان جزاء وفاقا لما عطلوا الرحمن من صفات كماله وعطلوا منه عرشه فأنكروا أن يكون فوق عرشه بذاته ، بل وعطلوه عن كلامه فنفوا أن يكون له كلام هو صفة له بحروف وأصوات يسمعها من يشاء من خلقه وعطلوه عن صفات كماله كلها بلا دليل ولا برهان بل بالكذب والبهتان.

* * *

فاقرأ تصانيف الامام حقيقة

شيخ الوجود العالم الرباني

أعني أبا العباس احمد ذل

ك البحر المحيط بسائر الخلجان

وأقرأ كتاب العقل والنقل الذي

ما في الوجود له نظير ثان

وكذاك منهاج له في رده

قول الروافض شيعة الشيطان

وكذاك أهل الاعتزال فإنه

أرادهم في حفرة الجبان

وكذلك التأسيس أصبح نقضه

أعجوبة للعالم الرباني

وكذاك أجوبة له مصرية

في ست أسفار كتبن سمان

وكذا جواب للنصارى فيه ما

يشفي الصدور وأنه سفران

وكذاك شرح عقيدة للأصبها

ني شارح المحصول شرح بيان

فيها النبوات التي إثباتها

في غاية التقرير والتبيان

والله ما لأولي الكلام نظيره

أبدا وكتبهم بكل مكان

وكذا حدوث العالم العل

وي والسفلي فيه في أتم بيان

وكذا قواعد الاستقامة أنها

سفران فيما بيننا ضخمان

وقرأت أكثرها عليه فزادني

والله في علم وفي إيمان

هذا ولو حدثت نفسي أنه

قبلي يموت لكان هذا الشأن

* * *

١٦٠