شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

عنوانه هذا الكتاب من عزي

ز راحم لفلان ابن فلان

فدعوه يدخل جنة المأوى التي ار

تفعت ولكن القطوف دوان

هذا وقد كتب اسمه مذ كان في ال

أرحام قبل ولادة الإنسان

بل قبل ذلك هو وقت القبضتي

ن كلاهما للعدل والإحسان

سبحان ذي الجبروت والملكوت وال

إجلال والإكرام والسبحان

والله أكبر عالم الأسرار وال

إعلان واللحظات بالأجفان

والحمد لله السميع لسائر ال

أصوات من سر ومن إعلان

وهو الموحد والمسبح والممج

د والحميد ومنزل القرآن

والأمر من قبل ومن بعد له

سبحانك اللهم ذا السلطان

الشرح : يعني أن من كان من أهل السعادة وكتب له دخول الجنة ، فإنه لا يدخلها حتى يأتي توقيع من الله وإجازة له بالدخول ، كما روى الطبراني في المعجم من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية».

وكذلك يكتب له من قبل هذا التوقيع ، فهما توقيعان معلومان أحدهما بعد الموت عند عرض روحه على الله عزوجل ، فيقول سبحانه لملائكته ، اكتبوا كتاب عبدي في عليين. والثاني إذا انتهى إلى الصراط يوم الحشر يعطى لدخول الجنة كتابا آخر عنوانه ما سبق في حديث الطبراني.

هذا وقد كتب اسمه عند نفخ الروح فيه ، وهو لا يزال جنينا في بطن أمه ، حيث يؤمر الملك بأربع كلمات ـ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي هو أم سعيد ، بل هناك كتب سابقة على ذلك أيضا ، وهو عند ما أخرج الله ذرية آدم من صلبه فقبض منها قبضة بيمينه وقال : هؤلاء للجنة وقبض قبضة بشماله وقال : هؤلاء للنار.

روى الامام أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال :

٣٤١

(خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنازة ، فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على القبر وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير وهو يلحد له ، فقال أعوذ بالله من عذاب القبر ـ ثلاث مرات ـ ثم قال : إن المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا تنزلت إليه ملائكة كأن على وجوههم الشمس مع كل واحد منهم حنوط وكفن فجلسوا منه مد بصره ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الحنوط وذلك الكفن ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على الأرض قال فيصعدون بها فلا يمرون بها ـ يعني على ملأ من الملائكة ـ الا قالوا ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عزوجل ، فيقول الله عزوجل اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى. قال فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول ربي الله ، فيقولان له ما دينك؟ فيقول ديني الإسلام ، فيقولان له ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هو رسول الله ، فيقولان له وما علمك؟ فيقول قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. قال فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابا إلى الجنة. قال فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره. قال ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول له : أبشر بالذي يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير ، فيقول أنا عملك الصالح فيقول رب أقم الساعة ، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.

وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجيء

٣٤٢

ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال : فتغرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها : فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ، حتى ينتهي إلى سماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] فيقول الله عزوجل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى وتطرح روحه طرحا. ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحج : ٣١].

فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هاه هاه لا أدري ، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابا إلى النار : فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح ، فيقول له أبشر بالذي يسوؤك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر فيقول أنا عملك الخبيث ، فيقول رب لا تقم الساعة ورواه أبو داود بطوله بنحوه.

فهذا هو التوقيع والمنشور الأول ، وأما المنشور الثاني فهو ما ذكرنا من حديث الطبراني.

* * *

فصل

في صفوف أهل الجنة

هذا وان صفوفهم عشرون مع

مائة وهذى الأمة الثلثان

٣٤٣

يرويه عنه بريدة إسناده

شرط الصحيح بمسند الشيباني

وله شواهد من حديث أبي هري

رة وابن مسعود وحبر زمان

أعني ابن عباس وفي إسناده

رجل ضعيف غير ذي إتقان

ولقد أتانا في الصحيح بأنهم

شطر وما اللفظان مختلفان

إذ قال أرجو أن تكونوا شطرهم

هذا رجاء منه للرحمن

أعطاه رب العرش ما يرجو وزا

د من العطاء فعال ذي الإحسان

الشرح : روى الامام أحمد والترمذي بإسناد صحيح عن بريدة بن الحصيب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أهل الجنة عشرون ومائة صف هذه الأمة منها ثمانون صفا».

ولهذا الحديث شواهد من حديث أبي هريرة الذي رواه عبد الله بن احمد قال : «لما نزلت (ثلة من الأولين وثلة من الآخرين) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنتم ربع أهل الجنة ، أنتم ثلث أهل الجنة ، أنتم نصف أهل الجنة ، أنتم ثلثا أهل الجنة» قال الطبراني : تفرد برفعه ابن المبارك عن الثوري.

وله شاهد أيضا من حديث ابن مسعود عند الطبراني قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يف أنتم وربع الجنة لكم ولسائر الناس ثلاثة أرباعها؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال : كيف أنتم وثلثها؟ قالوا : ذاك أكثر ، قال كيف والشطر لكم؟ قالوا ذاك أكثر ، فقال رسول الله : «أهل الجنة عشرون ومائة صف لكم منها ثمانون صفا».

ورواه الطبراني أيضا عن حبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لكن في إسناده خالد بن يزيد البجلي وقد تكلم فيه.

وورد في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ فكبرنا ، ثم قال : أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ فكبرنا ، ثم قال : اني لأرجو أن تكونوا شطر

٣٤٤

أهل الجنة ، وسأخبركم عن ذلك : ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة بيضاء في ثور أسود أو كشعرة سوداء في ثور أبيض».

ولا تنافي بين هذا الحديث وبين ما سبق من كونهم ثلثا أهل الجنة ، لأنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رجا أولا أن يكونوا شطر أهل الجنة ، فأعطاه الله سبحانه رجاءه وزاد عليه سدسا آخر ، وفضل الله واسع ، وهو سبحانه وتعالى ذو الجود والإحسان.

* * *

فصل

في صفة أول زمرة تدخل الجنة

هذا وأول زمرة فوجوههم

كالبدر ليل الست بعد ثمان

السابقون هم وقد كانوا هنا

أيضا أولى سبق إلى الإحسان

الشرح : جاء في الصحيحين من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول زمرة تلج الجنة صورتهم على صور القمر ليلة البدر ، لا يبصقون فيها ولا يتمخطون فيها ولا يتغوطون فيها ، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحسن ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم على قلب رجل واحد يسبحون الله بكرة وعشيا».

وهؤلاء هم السابقون الذين سبقوا في الدنيا إلى الخيرات وسبقوا في الآخرة إلى الجنات ، فإن السبق هناك على قدر السبق هنا.

* * *

فصل

في صفة الزمرة الثانية

والزمرة الأخرى كأضوأ كوكب

في الأفق تنظره به العينان

٣٤٥

أمشاطهم ذهب ورشحهم فمس

ك خالص يا ذلة الحرمان

الشرح : وأما الجماعة التي تلي هؤلاء المقربين في دخول الجنة ، فإن أحدهم يرى كأشد الكواكب إضاءة في أفق السماء ، وتكون أمشاطهم من ذهب وعرقهم مسك خالص ، فما أعظم هذا النعيم ، ويا ذلة من حرمه ولم يظفر به ، إن ذلك هو الخسران المبين.

وفي الصحيحين من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون ، أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوة وأزواجهم الحور العين ، أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء».

* * *

فصل

في تفاضل أهل الجنة في الدرجات العلى

ويرى الذين بذيلها من فوقهم

مثل الكواكب رؤية بعيان

ما ذاك مختصا برسل الله بل

لهم وللصديق ذي الإيمان

الشرح : سبق أن روينا ما ورد في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين».

* * *

٣٤٦

فصل

في ذكر أعلى أهل الجنة منزلة وأدناهم

هذا وأعلاهم فناظر ربه

في كل يوم وقته الطرفان

لكن أدناهم وما فيهم دني

إذ ليس في الجنات من نقصان

فهو الذي تلقى مسافة ملكه

بسنيننا ألفان كاملتان

فيرى بها أقضاه حقا مثل رؤ

يته لأدناه القريب الداني

أو ما سمعت بأن آخر أهلها

يعطيه رب العرش ذو الغفران

أضعاف دنيانا جميعا عشر أم

ثال لها سبحان ذي الإحسان

الشرح : روى الترمذي من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جناته وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف عام ، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية» ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢] وكذا رواه الطبراني في معجمه بلفظ : «إن أدنى أهل الجنة منزلة لرجل ينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه» الحديث.

وفي صحيح مسلم من حديث المغيرة بن شعبة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن موسى سأل ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ فقال رجل يجيء بعد ما دخل أهل الجنة الجنة ، فيقال له ادخل الجنة ، فيقول رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم ، فيقال له : أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول رضيت رب ، فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله فقال في الخامسة رضيت رب. قال رب فأعلاهم منزلة؟ قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها ، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر».

وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لاعلم آخر أهل النار خروجا منها وآخر أهل الجنة دخولا الجنة رجل يخرج من النار حبوا ، فيقول الله له : اذهب فادخل الجنة ، فيأتيها فيخيل

٣٤٧

إليه أنها ملآى ، فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملآى ، فيقول الله له اذهب فادخل الجنة ، فياتيها فيخيل إليه أنها ملآى ، فيرجع فيقول يا رب وجدتها ملآى ، فيقول له : اذهب فادخل الجنة ، فإن كل مثل الدنيا وعشر أمثالها أو أن لك عشرة أمثال الدنيا ، فيقول أتسخر بي وتضحك بي وأنت الملك قال ابن مسعود : لقد رايت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضحك حتى بدت نواجذه ، قال فكان يقول : ذلك أدنى أهل الجنة منزلة» فسبحان واسع الفضل والإحسان.

* * *

فصل

في ذكر سن أهل الجنة

هذا وسنهم ثلاث مع ثلا

ثين التي هي قوة الشبان

وصغيرهم وكبيرهم في ذا على

حد سواء ما سوى الولدان

ولقد روى الخدري أيضا أنهم

أبناء عشر بعدها عشران

وكلاهما في الترمذي وليس ذا

بتناقض بل هاهنا أمران

حذف الثلاث ونيف بعد العقو

د وذكر ذلك عندهم سيان

عند اتساع في الكلام فعند ما

يأتوا بتحرير فبالميزان

الشرح : يعني أن أهل الجنة جميعا على تفاوت أسنانهم في الدنيا يكونون على هذه السن الواحدة التي هي وقت اكتمال الشباب وعنفوانه ، وهي ثلاث وثلاثون سنة ، ولا يستثنى من ذلك إلا الولدان الذين هم خدم الجنة ، فقد جاء في جامع الترمذي من حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين» وقال هذا حديث حسن غريب وكذلك روى مثله من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد ثلاث وثلاثين سنة جردا مردا مكحلين ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى ثيابهم ولا يفنى شبابهم».

٣٤٨

لكن روى الترمذي في جامعه أيضا من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بنى ثلاثين سنة في الجنة لا يزيدون عليها أبدا ، وكذلك أهل النار».

قال المؤلف رحمه‌الله في كتابه حادي الأرواح (فإن كان هذا محفوظا لم يناقض ما قبله فإن العرب إذا قدرت بعدد له نيف فإن لهم طريقين تارة يذكرون النيف للتحرير وتارة يحذفونه ، وهذا معروف في كلامهم وخطاب غيرهم من الأمم) أه.

* * *

فصل

في طول قامات أهل الجنة وعرضهم

والطول طول أبيهم ستون ل

كن عرضهم سبع بلا نقصان

الطول صح بغير شك في الصحي

حين اللذين هما لنا شمسان

والعرض لم نعرفه في احداهما

لكن رواه أحمد الشيباني

هذا ولا يخفي التناسب بين ه

ذا العرض والطول البديع الشأن

كل على مقدار صاحبه وذا

تقدير متقن صنعة الإنسان

الشرح : يعني أن أهل الجنة يكونون على طول أبيهم آدم ستين ذراعا في السماء ، وهذا أمر مقطوع به لوروده في صحيحي البخاري ومسلم اللذين هما أوثق كتب السنة. وأما العرض فلم يرد فيهما ، لكن روى أحمد رحمه‌الله أن عرضهم سبعة أذرع كاملة ، ولا يخفى ما بين هذا الطول والعرض من التناسب والانسجام وأن كلا منهما موافق لصاحبه على التمام ، فتبارك الله الذي أحسن كل شيء خلقه وأتقن صنعة الإنسان.

* * *

٣٤٩

فصل

في لحاهم وألوانهم

ألوانهم بيض وليس لهم لحى

جعد الشعور مكحّلوا الأجفان

هذا كمال الحسن في أبشارهم

وشعورهم وكذلك العينان

الشرح : يعني أن أهل الجنة يدخلونها بيضا جردا ليس لهم لحى ، جعد الشعور ، في شعورهم تكسر وليست سبطة ، مكحلى الأجفان. وهذا هو تمام الحسن في هذه الأشياء الثلاثة ، فتمام الحسن في اللون أن يكون أبيض صافيا ، وتمامه في الشعر أن يكون جعدا ، وتمامه في العينين أن تكونا مكتحلتين.

روى الإمام أحمد عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين ، وهم على خلق آدم ستون ذراعا في عرض سبعة أذرع».

* * *

فصل

في لسان أهل الجنة

ولقد أتى أثر بأن لسانهم

بالمنطق العربي خير لسان

لكنّ في إسناده نظرا ففي

ه راويان وما هما ثبتان

أعني العلاء هو ابن عمرو ثم يح

يى الأشعري وذان مغموزان

الشرح : ولقد ورد أثر بأن أهل الجنة يتكلمون فيها باللسان العربي الفصيح فإن لغة العرب هي التي أنزل الله بها أفضل كتبه ، واختار من العرب أكرم رسله لأعظم رسالة إلى خلقه ، فالأثر معقول المعنى وإن كان في إسناده ضعف لوجود راويين فيه ليسا بحجة ، وهما العلاء بن عمر ويحيى الأشعري ، فانهما مغموران ، أي مطعون فيهما ، وفي بعض النسخ مغموران بالراء ، أي مجهولان.

روى ابن أبي الدنيا بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم «يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعا بذراع الملك ، على

٣٥٠

حسن يوسف وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثون سنة وعلى لسان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جرد مرد مكحلون».

وروى داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال : «لسان أهل الجنة عربي» وقال عقيل قال الزهري : «لسان أهل الجنة عربي».

* * *

فصل

في ريح أهل الجنة من مسيرة كم يوجد

والريح يوجد من مسيرة أربعي

ن وإن تشأ مائة فمرويان

وكذا روى سبعين أيضا صح ه

ذا كله وأتى به أثران

ما في رجالهما لنا من مطعن

والجمع بين الكل ذو إمكان

ولقد أتى تقديره مائة بخم

س ضربها من غير ما نقصان

إن صح هذا فهو أيضا والذي

من قبله في غاية الإمكان

أما بحسب المدركين لريحها

قربا وبعدا ما هما سيان

أو باختلاف قرارها وعلوّها

أيضا وذلك واضح التبيان

أو باختلاف السير أيضا فهو أن

واع بقدر إطاقة الإنسان

ما بين ألفاظ الرسول تناقض

بل ذاك في الأفهام والأذهان

الشرح : وردت آثار متعددة في مقدار المسافة التي تشم منها رائحة الجنة ، فقد قدرت في بعضها بأربعين خريفا ، وفي بعضها بمائة عام ، وفي بعضها بسبعين وبخمسمائة ، ونحن نورد هاهنا بعض هذه الآثار ، ثم نبين ما حاوله المؤلف من التوفيق بينهما.

روى الطبراني بإسناده عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة ، وأن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام» ورواه البخاري في الصحيح بإسناده أيضا إلى عبد الله بن عمرو قال : «ليوجد من مسيرة أربعين عاما».

٣٥١

وروى الترمذي بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يراح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا».

وروى أبو نعيم بإسناده عن مجاهد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن رائحة الجنة توجد من مسيرة خمسمائة عام».

وكذلك روى أبو داود الطيالسي في مسنده ، حدثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من ادعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام».

وأما التوفيق بين هذه الآثار فقد يكون اختلاف المسافة باختلاف المدركين لرائحتها في القرب والبعد ، فليسوا كلهم في ذلك بدرجة واحدة أو بحسب قرارها الذي هو أرضها وعلوها ، وهي كما ذكرنا درجات كثيرة بعضها فوق بعض فبعضها يشم من مسيرة أربعين ، وبعضها من مسيرة سبعين الخ.

أو يكون اختلاف المسافات راجعا إلى اختلاف السير في السرعة والبطء ، فتكون الأربعون بالنسبة للجواد الراكض مثلا ، والسبعون بالنسبة لما هو دونه وهكذا. والحاصل أنه لا تناقض أصلا بين ألفاظ الرسول عليه الصلاة والسلام ، وإنما التناقض حاصل في الأفهام بحسب إدراكها لما يقصده من الكلام.

* * *

فصل

في أسبق الناس دخولا إلى الجنة

ونظير هذا سبق أهل الفقر لل

جنات في تقديره أثران

مائة بخمس ضربها أو أربعي

ن كلاهما في ذاك محفوظان

فأبو هريرة قد روى أولاهما

وروى لنا الثاني صحابيان

هذا بحسب تفاوت الفقراء في اس

تحقاق سبقهم إلى الإحسان

٣٥٢

أو ذا بحسب تفاوت في الأغنيا

ء كلاهما لا شك موجودان

هذا وأولهم دخولا خير خل

ق الله من قد خصّ بالقرآن

والأنبياء على مراتبهم من الت

فضيل تلك مواهب المنان

هذا وأمة أحمد سباق با

قي الخلق عند دخولهم بجنان

وأحقهم بالسبق أسبقهم إلى ال

إسلام والتصديق بالقرآن

وكذا أبو بكر هو الصديق أس

بقهم دخولا قول ذي البرهان

الشرح : وشبيه هذا التفاوت في تقدير المسافة التي تنشق منها رائحة الجنة واختلاف الآثار فيها ، تفاوت المدة التي يسبق بها الفقراء الأغنياء إلى دخول الجنة فقد ورد تقديرها بخمسمائة عام ، وورد تقديرها بأربعين خريفا ، وكلها آثار محفوظة معلومة.

روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم ، وهو خمسمائة عام» وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورجال اسناده احتج بهم مسلم في صحيحه.

وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة بأربعين خريفا».

وكذلك روى الترمذي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بأربعين خريفا». وحينئذ يقال أن الذي في الصحيح أن الفقراء يسبقون بأربعين خريفا ، فيجب التعويل عليه أو نوفق بين هذه الآثار كما وفقنا من قبل فنقول : إن مدة السبق تختلف بحسب أحوال الفقراء والأغنياء ، فمنهم من يسبق بأربعين ، ومنهم من يسبق بخمسمائة ، كما يتأخر مكث العصاة من الموحدين في النار بحسب أحوالهم والله أعلم.

هذا وأول الناس دخولا الجنة على الاطلاق هو رسولنا عليه الصلاة والسلام فقد روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال :

٣٥٣

«أنا أكثر الناس تبعا يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة».

وله كذلك عن أنس : «آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح ، فيقول الخازن من أنت؟ فأقول محمد ، فيقول بلى أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك».

وروى الترمذي كذلك عن أنس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا ، وقائدهم إذا وفدوا وشافعهم إذا حبسوا ، وأنا مبشرهم إذا أيسوا ، لواء الحمد بيدي ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم يومئذ على ربي ولا فخر ، يطوف على ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون».

ثم الأنبياء بعد ذلك على درجاتهم في الفضل كما قال تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) [الإسراء : ٥٥] وقال : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٢١]. ثم أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي أول الأمم دخولا الجنة. ففي الصحيحين من حديث همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن السابقون الأولون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم».

وفي صحيح مسلم من حديث أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، ونحن أول من يدخل الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه».

وأما أول هذه الأمة دخولا الجنة فهو صديقها وأفضل الناس بعد النبيين أبو بكر رضي الله عنه ، فقد روى أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتاني جبريل فأخذ بيدي فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي ، فقال أبو بكر: يا رسول الله وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما انك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي».

* * *

٣٥٤

وروى ابن ماجة أن أولهم يصا

فحه إله العرش ذو الإحسان

ويكون أولهم دخولا جنة ال

فردوس ذلك قامع الكفران

فاروق دين الله ناصر قوله

ورسوله وشرائع الإيمان

لكنه أثر ضعيف فيه مج

روح يسمى خالدا ببيان

لو صلح كان عمومه المخصوص بالص

ديق قطعا غير ذي نكران

هذا وأولهم دخولا فهو حم

اد على الحالات للرحمن

إن كان في السراء أصبح حامدا

أو كان في الضرا فحمد ثان

هذا الذي هو عارف بإلهه

وصفائه وكماله الرباني

وكذا الشهيد فسبقه متيقن

وهو الجدير بذلك الإحسان

وكذلك الملوك حين يقوم بال

حقين سباق بغير توان

وكذا فقير ذو عيال ليس بال

ملحاح بل ذو غفة وصيان

الشرح : وأما الحديث الذي رواه ابن ماجة في سننه عن سعيد بن المسيب عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أول من يصافحه الحق عمر ، وأول من يسلم عليه ، وأول من يأخذ بيده فيدخله الجنة» فهو حديث شديد النكارة. قال الإمام أحمد : داود بن عطاء ليس بشيء ، ولو سلم فعمومه مخصوص بالصديق قطعا ، فيكون المراد أن عمر أول من يدخل من هذه الأمة بعد صديقها فهي أولية نسبية. هذا وقد وردت آثار بسبق بعض الطوائف من هذه الأمة إلى الجنة ، فمنهم الحمادون الذين يكثرون حمد الله عزوجل في جميع الحالات ، من عسر ويسر ، ومنشط ومكره ، لا يفترون عن حمده والثناء عليه.

روى شعبة بن قيس عن حبيب عن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أول من يدعى إلى الجنة يوم القيامة الحامدون الذين يحمدون الله في السراء والضراء» فهؤلاء هم الذين كملت معرفتهم بالله عزوجل وصفات كماله فلهجوا بحمده ، ومنهم كذلك ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عرض عليّ أول ثلاثة

٣٥٥

من أمتي يدخلون الجنة ، وأول ثلاثة يدخلون النار ، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة ، فالشهيد وعبد مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه ، وفقير متعفف ذو عيال ، وأول ثلاثة يدخلون النار ، فأمير مسلط وذو ثروة من مال لا يؤدي حق الله من ماله وفقير فخور».

* * *

فصل

في عدد الجنات وأجناسها

والجنة اسم الجنس وهي كثيرة

جدا ولكن أصلها نوعان

ذهبيتان بكل ما حوتاه من

حلى وآنية ومن بنيان

وكذاك أيضا فضة ثنتان من

حلى وبنيان وكل أوان

لكن دار الخلد والمأوى وعد

ن والسلام اضافة لمعان

أوصافها استدعت اضافتها إلي

ها مدحة مع غاية التبيان

لكنما الفردوس أعلاها وأو

سطها مساكن صفوة الرحمن

أعلاه منزلة لأعلى الخلق من

زلة هو المبعوث بالقرآن

وهي الوسيلة وهي أعلى رتبة

خلصت له فضلا من الرحمن

الشرح : والجنة إذا أفردت فإنما يراد بها اسم الجنس الذي يندرج تحته ما لا يحصى من الجنات الخاصة ، ولكنها مع كثرتها ترجع إلى أصلين ، أولهما جنتان ذهبيتان بكل ما اشتملتا عليه من آنية وحلى وقصور ، والثاني جنتان فضيتان كذلك بكل ما احتوتاه من حلى وآنية وبنيان.

روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك أن أم الربيع بنت البراء ، وهي أم حارثة بن سراقة ، أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة ، وكان قتل يوم بدر ، أصابه سهم غرب ، فإن كان في الجنة صبرت ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء ، قال : «يا أم حارثة انها جنان في الجنة وأن ابنك أصاب الفردوس الأعلى». وفي الصحيحين من حديث أبي موسى

٣٥٦

الأشعري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن».

وأما تسمية الجنة بدار الخلد والمأوى والسلام وعدن والحيوان والمقامة ونحوها ، فهي ليست أسماء لجنات مختلفة ، ولكنها أسماء الجنة باعتبار صفاتها ، فالإضافة فيها من قبيل إضافة الموصوف لصفته ، فالمسمى واحد باعتبار الذات ، وهي من هذا الوجه مترادفة ، ولكنها تتغاير بتغاير الصفات ، فتكون من هذا الوجه متباينة ، وهكذا أسماء الرب سبحانه وتعالى وأسماء كتبه وأسماء رسله وأسماء اليوم الآخر وأسماء النار ونحو ذلك.

والفردوس هو أعلى الجنة ووسطها ، وهي مساكن الصفوة المختارة من خلق الله من النبيين والصديقين والشهداء.

روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلا الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة».

وروى الطبراني في معجمه بسنده إلى أبي الدرداء قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ينزل الله تعالى في آخر ثلاث ساعات بقين من الليل ، فينظر الله في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت ، ثم ينظر في الساعة الثانية إلى جنة عدن ، وهي مسكنه الذي يسكن فيه ، ولا يكون معه فيها أحد إلا الأنبياء والشهداء والصديقون ، وفيها ما لم تره عين أحد ولا خطر على قلب بشر ، ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول : ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له؟ ألا سائل يسألني فأعطيه؟ ألا داع يدعوني فأستجيب له؟ حتى يطلع الفجر». وأعلا منزلة في الفردوس هي الوسيلة التي خص الله بها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٣٥٧

الذي هو أعلى الخلق منزلة ، فهي خالصة له من دون الناس فضلا من الله عزوجل على حبيبه وأكرم خلقه.

روى مسلم في صحيحه من حديث عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ ، فإن من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشرا ، ثم سلوا لي الوسيلة ، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون هو».

* * *

ولقد أتى في سورة الرحمن تف

صيل الجنان مفصلا ببيان

هي أربع ثنتان فاضلتان ثم

يليهما ثنتان مفضولان

فالأوليان الفضليان لأوجه

عشر ويعسر نظمها بوزان

واذا تأملت السياق وجدتها

فيه تلوح لمن له عينان

الشرح : ولقد أتى في سورة الرحمن تفصيل للجنان في غاية البيان ، فذكر الآيات أنها أربع جنان ، منها جنتان فاضلتان ، وهما المذكورتان في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ذَواتا أَفْنانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) [٤٦ ، ٥٨] فهاتان الجنتان قد فضلتا على الأخريين بعشرة أوجه يصعب ذكرها في النظم ، ولكنها لا تخفى على المتأمل في سياق الآيات ، وهاتان الجنتان هما المخصوصتان بالمقربين. وأما الأخريان المفضولتان فهما لأصحاب اليمين ، فالأوليان من ذهب والثانيتان من فضة.

* * *

٣٥٨

سبحان من غرست يداه جنه ال

فردوس عند تكامل البنيان

ويداه أيضا أتقنت لبنائها

فتبارك الرحمن أعظم بان

هي في الجنان كآدم وكلاهما

تفضيله من أجل هذا الشأن

لكنما الجهميّ ليس لديه من

ذا الفضل شيء فهو ذو نكران

ولد عقوق عق والده ولم

يثبت بذا فضلا على شيطان

فكلاهما تأثير قدرته وتأ

ثير المشيئة ليس ثم يدان

آلاهما أو نعمتاه وخلقه

كل بنعمة ربه المنان

الشرح : ورد في بعض الآثار أن الله عزوجل غرس الفردوس بيده بعد أن تم بناؤها ، وأنه سبحانه بناها فأحسن البناء وجعلها في غاية الجمال والبهاء ، فقد روى الحسن بن سفيان عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله بنى الفردوس بيده وحظرها على كل مشرك وكل مدمن خمر ومتكبر».

وروى الدارمي من حديث عبد الله بن الحارث قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خلق الله ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس الفردوس بيده ، ثم قال : وعزتي وجلالي لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث» قال ابن القيم : المحفوظ أنه موقوف. وذكر الحاكم عن مجاهد قال : «إن الله تعالى غرس جنات عدن بيده ، فلما تكاملت أغلقت ، فهي تفتح في كل سحر فينظر الله إليها فتقول قد أفلح المؤمنون».

وبهذا فضلت جنة عدن على سائر الجنات ، كما فضل به آدم على سائر البشر ، لكن الجهمي الذي ينكر أن يكون لله يد يخلق بها ما يشاء لا يعترف بهذا الفضل لأبيه آدم ، بل ينكره غاية الإنكار ، فهو ولد عاق يجحد فضل أبيه وخصوصيته ويرى أنه لا فضل له على الشيطان ، لأن كلا منهما مخلوق بقدرة الله ومشيئته ، وليس هناك يد أن امتاز آدم على غيره بأنه خلق بهما ، بل يفسر اليدين بالقدرة أو النعمة أو نحوهما ، ولو تأمل الجهمي قوله تعالى لإبليس حين امتنع من السجود لآدم عليه‌السلام : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥]

٣٥٩

لاستحيا من نفسه وأدرك أن سر الأمر بالسجود لآدم هو تلك الخصوصية التي امتاز بها ، ولو كان آدم مخلوقا بمجرد القدرة والمشيئة ، وأن اليدين هنا بمعنى القدرة لكان إبليس أعلم من هذا الجهمي بما يجيب به حيث يقول : «وأنا أيضا خلقتني بيديك ، فأي خصوصية لآدم علي».

* * *

لما قضى رب العباد العرش قا

ل تكلمي فتكلمت ببيان

قد أفلح العبد الذي هو مؤمن

ما ذا ادّخرت له من الإحسان

ولقد روى حقا أبو الدرداء ذا

ك عويمر أثرا عظيم الشأن

يهتز قلب العبد عند سماعه

طربا بقدر حلاوة الإيمان

ما مثله أبدا يقال برأيه

أو كان يا أهلا بذا العرفان

فيه النزول ثلاث ساعات فاح

داهن ينظر في الكتاب الثاني

يمحو ويثبت ما يشاء بحكمة

وبعزة وبرحمة وحنان

فترى الفتى يمسي على حال ويص

بح في سواها ما هما مثلان

هو نائم واموره قد دبرت

ليلا ولا يدري بذاك الشأن

والساعة الأخرى إلى عدن مسا

كن أهله هم صفوة الرحمن

الرسل ثم الأنبياء ومعهم الص

ديق حسب فلا تكن بجبان

فيها الذي والله لا عين رأت

كلا ولا سمعت به الأذنان

كلا ولا قلب به خطر المثا

ل له تعالى الله ذو السلطان

والساعة الأخرى إلى هذي السما

ء يقول هل من تائب ندمان

أو داع أو مستغفر أو سائل

أعطيه اني واسع الإحسان

حتى يصلى الفجر يشهدها مع ال

أملاك تلك شهادة القرآن

هذا الحديث بطوله وسياقه

وتمامه في سنة الطبراني

الشّرح : ذكر البيهقي من حديث البغوي عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله أحاط حائط الجنة لبنة من ذهب ولبنة من فضة ،

٣٦٠