شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

كل عصر ، وو الله ما يصح أن يصدر هذا القول ممن شمّ رائحة العلم فضلا عن أن يدعي فيه الإجماع ، بل من قال به فهو مخالف للإجماع وللخبر الصحيح وظاهر القرآن. والذي جره إلى الوقوع في هذه الشناعة أنه أراد ان يصرف لفظ الاستواء عما يدل عليه لغة ووضعا من العلو والارتفاع إلى معان أخرى باطلة فزعم أن معنى قوله تعالى : (اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] أقبل على خلقه ، وأن دلالته عليه بوضع اللغة ، وهذا كذب صريح على اللغة التي نزل بها القرآن ، فليس فيها استوى على كذا بمعنى أقبل على خلقه. ولكنه أراد أن يتوصل من هذا التفسير العجيب إلى القول بأن العرش مخلوق بعد السموات والأرض ، لأن الله سبحانه ذكر أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض ، فإذا فسر استوى بخلق دل على أنه خلقه بعد خلقهما.

فليهن هذا الجاهل الكذاب تكذيب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم له فقد قال في الصحيح «كان الله ولم يكن شيء غيره وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض وكان عرشه على الماء» فقد أخبر أنه عند خلقه السموات والأرض كان عرشه على الماء ، فدل على أن العرش كان موجودا قبل خلقهما.

وقد أجمع الأئمة الهداة على ذلك لم يختلف فيه منهم اثنان ، وفي هذا الإجماع تكذيب له أي تكذيب ، وليهنه كذلك تكذيب محكم القرآن له ، فقد قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود : ٧] والآية موافقة للحديث في وجود العرش على الماء عند خلق السموات والأرض.

* * *

فصل في الرد عليهم في تكفيرهم أهل العلم والإيمان

وذكر انقسامهم إلى أهل الجهل والتفريط والبدع والكفران

ومن العجائب أنكم كفرتم

أهل الحديث وشيعة القرآن

إذ خالفوا رأيا له رأى ينا

قضه لأجل النص والبرهان

٢٦١

وجعلتم التكفير عين خلافكم

ووفاقكم فحقيقة الإيمان

فوفاقكم ميزان دين الله لا

من جاء بالبرهان والفرقان

ميزانكم ميزان باغ جاهل

والعول كل العول في الميزان

أهون به ميزان جور عائل

بيد المطفّف ويل ذا الوزان

لو كان ثم حيا وأدنى مسكة

من دين أو علم ومن إيمان

لم تجعلوا آراءكم ميزان كف

ر الناس بالبهتان والعدوان

هبكم تأولتم وساغ لكم

أيكفر من يخالفكم بلا برهان

هذه الوقاحة والجراءة والجها

لة ويحكم يا فرقة الطغيان

الله أكبر ذا عقوبة تا

رك الوحيين للآراء والهذيان

الشرح : ومن عجيب أمركم أيها المعطلة الجاحدون أنكم تعمدون إلى تكفير خير الناس من أصحاب الحديث وأنصار القرآن العظيم لا لشيء إلا أنهم خالفوا آراءكم الضالة المناقضة من أجل ما عندهم من النصوص والأدلة القاطعة.

ومن العجيب أنكم تجعلون التكفير سيفا مصلتا على من يخالفكم في هذه الآراء ، وأما من يوافقكم عليها فهو عندكم مؤمن كامل الإيمان ، فجعلتم موافقتكم هي الميزان لدين الله لا موافقة رسوله المبعوث من عنده بالبرهان والفرقان مع أن ميزانكم قائم على أمرين يجعلانه ميزان جور وخسران ، وهما البغي على عباد الله والجهل بدينه ، فبئس الأمران أهون بميزان يقوم على جهل وعدوان ، فهو ميزان جور مائل وهو بيد مطفف مخسر للميزان ، فويل له يوم يقوم الناس لربنا الديان ، ولو كان عندكم بقية من حياء أو أقل مسكة من دين ، أو علم أو إيمان لم تجعلوا آراءكم هي ميزان كفر الناس بالبهتان والعدوان. فإنه لو قدر أنكم متأولون وسوغت لكم عقولكم هذا التأويل فهل يجوز لمتأول أن يكفر من يخالفه بلا حجة على كفره ولا برهان لكنها الوقاحة والجراءة ، والجهالة التي كانت نصيبكم من الأخلاق يا أمة الطغيان عقوبة من الله لكم على ترككم الوحيين من السنة والقرآن إلى آراء كلها فشر وهذيان.

* * *

٢٦٢

لكننا نأتي بحكم عادل

فيكم لأجل مخافة الرحمن

فاسمع إذا يا منصفا حكميهما

وانظر إذا هل يستوي الحكمان

هم عندنا قسمان أهل جهالة

وذوو العناد وذلك القسمان

جمع وفرق بين نوعيهم هما

في بدعة لا شكّ يجتمعان

وذوو العناد فأهل كفر ظاهر

والجاهلون فانهم نوعان

متمكنون من الهدى والعلم بال

أسباب ذات اليسر والإمكان

لكن إلى أرض الجهالة أخلدوا

واستسهلوا التقليد كالعميان

لم يبذلوا المقدور في إدراكهم

للحق تهوينا بهذا الشأن

فهم الألى لا شك في تفسيقهم

والكفر فيه عندنا قولان

والوقف عندي فيهم لست الذي

بالكفر أنعتهم ولا الإيمان

والله أعلم بالبطانة منهم

ولنا ظهارة حلة الاعلان

لكنهم مستوجبون عقابه

قطعا لأجل البغي والعدوان

الشرح : لكننا لا نحكم فيكم بالجور والظلم كما حكمتم فينا ، بل نحكم فيكم بالعدل والإنصاف من أجل خوفنا من الله عزوجل. فليسمع إذا كل منصف من الناس حكمنا وحكمكم ، ثم لينظر هل يستوي الحكمان. أما حكمكم فينا فقد عرف ما فيه من شطط وعدوان. وأما حكمنا فيكم فأنتم عندنا نوعان : أهل جهالة وذوو عناد وشقاق وعصيان ، وبينكم قدر مشترك تجتمعون فيه ، وهو أنكم أهل بدعة وضلالة خارجون عن السنة والقرآن ، ثم تفترقون بعد ذلك فيما يستحقه كل منكم من وصف الكفر أو الإيمان ، فأما أهل العناد والمشاقة فكفرهم ظاهر واضح للعيان. وأما أهل الجهالة منكم فإنهم عندنا نوعان : نوع كان متمكنا من الهدى والعلم قد يسرت له أسبابه من عقل ذكي وبصر نافذ وقدرة على فهم معاني السنة والقرآن ، لكنهم مالوا إلى القعود والكسل ورضوا بالتخلف وعطلوا ما وهبهم الله من سلامة العقول وجودة الأذهان ، واستسهلوا الجري وراء غيرهم ، يقلدونهم كالعميان ، ولم يبذلوا الوسع في إدراكهم للحق لقلة اكتراثهم بهذا الشأن ، فهؤلاء لا يشك أحد في أنهم فساق لخروجهم عما كان

٢٦٣

ينبغي لهم من النظر الذي هو خاصة الإنسان ، وأما تكفيرهم ففيه لأهل السنة قولان ، ولكن المؤلف اختار الوقف في شأنهم ، فهو لا يصفهم بكفر ولا إيمان فكل بواطنهم إلى الله العليم بالسر والإعلان ، ويحكم عليهم بما يظهر منهم جهرة بلا كتمان ، ونعلم أنهم مستوجبون للعقاب قطعا لما ارتكبوه في حق المثبتين الموحدين من بغي وعدوان.

* * *

هبكم عذرتم بالجهالة أنكم

لن تعذروا بالظلم والطغيان

والطعن في قول الرسول ودينه

وشهادة بالزور والبهتان

وكذلك استحلال قتل مخالفي

كم قتل ذي الإشراك والعدوان

إن الخوارج ما أحلوا قتلهم

إلا لما ارتكبوا من العصيان

وسمعتم قول الرسول وحكمه

فيهم وذلك واضح التبيان

لكنكم أنتم أبحتم قتلهم

بوفاق سنته مع القرآن

والله ما زادوا النقير عليهما

لكن بتقرير مع الإيمان

فبحق من قد خصكم بالعلم والت

حقيق والإنصاف والعرفان

أنتم أحق أم الخوارج بالذي

قال الرسول فأوضحوا ببيان

هم يقتلون لعابد الرحمن بل

يدعون أهل عبادة الأوثان

هذا وليسوا أهل تعطيل ولا

عزل النصوص الحق بالبرهان

الشرح : فإذا فرض أنا عذرناكم بجهلكم أيها الجهلة المقلدون فكيف نعذركم بما ارتكبتم في حق أهل الاثبات من ظلم وطغيان ، وما اجترأتم عليه من الطعن في أحاديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودينه ، ومن شهادتكم على خصومكم بالزور والبهتان ، وما استحللتموه من سفك دماء مخالفيكم ، كما يستحل دماء المشركين عبدة الأوثان.

وإن الخوارج وما أباحوا قتل خصومهم إلا لأنهم في نظرهم صاروا كفارا بما ارتكبوا من العصيان ، ومع ذلك فقد سمعتم ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من شأن

٢٦٤

الخوارج حيث قال «يمرقون في الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم».

وسمعتم كذلك حكمه فيهم حيث قال لأصحابه : «إذا لقيتموهم فاقتلوهم قتل عاد ، وهم شر قتلى تحت أديم السماء وخير قتلى من قتلوه ، وأنهم كلاب النار».

ولكنكم أنتم أبحتم قتل خصومكم بسبب موافقتهم للقرآن والسنة ، وو الله ما زادوا على ما فيهما نقيرا ، إلا أنهم آمنوا به وقرروه تقريرا.

فنسألكم بحق من أعطاكم ما تزعمون لأنفسكم من العلم والتحقيق والإنصاف والعرفان ، أأنتم أم الخوارج بالذي قاله الرسول وحكم به في شأنهم؟ وضحوا لنا ذلك.

فإنهم بقتلهم عباد الرحمن من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ويسمونهم كفارا كما يسمى عبدة الأوثان ، مع أنهم ليسوا مثلكم أهل تعطيل وجحد ونكران ، ولا عزل للنصوص الثابتة بما تزعمونه من البرهان.

* * *

فصل

والآخرون فأهل عجز عن بلو

غ الحق مع قصد ومع إيمان

بالله ثم رسوله ولقائه

وهم إذا ميزتهم ضربان

قوم دهاهم حسن ظنهم بما

قالته أشياخ ذوو أسنان

وديانة في الناس لم يجدوا سوى

أقوالهم فرضوا بها بأمان

لو يقدرون على الهدى لم يرتضوا

بدلا به من قائل البهتان

فأولاء معذورون إن لم يظلموا

ويكفروا بالجهل والعدوان

والآخرون فطالبوا الحق ل

كن صدهم عن علمه شيئان

٢٦٥

مع بحثهم ومصنفات قصدهم

منها وصولهم إلى العرفان

إحداهما طلب الحقائق من سوى

أبوابها متسوري الجدران

وسلوك طرق غير موصلة إلى

درك اليقين ومطلع الإيمان

فتشابهت تلك الأمور عليهم

مثل اشتباه الطرق بالحيران

فترى أفاضلهم حيارى كلها

في التيه يقرع ناجذ الندمان

ويقول قد كثرت على الطرق لا

أدري الطريق الأعظم السلطاني

بل كلهم طرق مخوفات بها ال

آفات حاصلة بلا حسبان

فالوقف غايته وآخر أمره

من غير شك منه في الرحمن

أو دينه وكتابه ورسوله

ولقائه وقيامة الأبدان

فأولاء بين الذنب والاجرين أو

إحداهما أو واسع الغفران

الشرح : وأما الفريق الثاني من أهل الجهالة فهم قوم عجزوا عن الوصول إلى الحق مع حسن قصدهم وصلاح نياتهم ، ومع إيمانهم بالله ورسوله ورجاء لقائه ، وهؤلاء أيضا ضربان :

قوم أتوا من حسن ظنهم بأقوال شيوخ من أهل العلم ذوي أسنان وشرف وحسن تدين واستقامة ، ولم يجدوا سوى هذه الأقوال فرضوا بها واطمأنوا إليها لحسبانهم أنها هي الحق ، ولكنهم لو وجدوا من يدلهم على الحق ويأخذ بيدهم إلى الهدى لم يؤثروا عليه شيئا ولم يرضوا به بديلا من أقوال أهل الكذب والبهتان.

وحكم هؤلاء أنهم معذورون لعدم تمكنهم من الهدى بشرط أن لا يظلموا أهل الحق ولا يكفروهم بالجهل والعدوان.

وأما الآخرون فقوم يطلبون الحق ويتلمسون الطريق إليه ، ولكنهم مع اجتهادهم في البحث وقراءتهم للكتب التي يقصدون منها الوصول إلى المعرفة قد حال بينهم وبين الوصول إليه أمران.

أحدهما أنهم طلبوا الحقائق من غير أبوابها وسلكوا إليها غير طريقها ، كمن يتسور الجدران إلى الدار ولا يدخل من الباب.

٢٦٦

وثانيهما أنهم سلكوا إليها طرقا غير موصلة إلى اليقين بحقائق الإيمان ، فالتبست عليهم تلك الأمور كما تلتبس الطرق على السالك الحيران ، فترى أفاضل هؤلاء ورؤساءهم حيارى في بيداء الضلال يقرعون أسنانهم ندما ، ويقولون قد كثرت علينا الطرق واشتبهت ، فلا ندري أيها الطريق الموصل إلى الله ، بل كلها طرق مخوفة مملوءة بالآفات ، فينتهي بهم الأمر إلى التوقف مع تحصيلهم لأركان الإيمان التي هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه والبعث بعد الموت ، فهؤلاء أمرهم مردد بين أن يؤخذوا بذنبهم وبين أن يؤجروا على اجتهادهم ، فلمن أصاب منهم أجران ، ولمن أخطأ منهم أجر ، واما أن يتركوا لواسع مغفرة الله وعظيم رحمته.

* * *

فانظر إلى أحكامنا فيهم وقد

جحدوا النصوص ومقتضى القرآن

وانظر إلى أحكامهم فينا لأج

ل خلافهم إذ قاده الوحيان

هل يستوي الحكمان عند الله أو

عند الرسول وعند ذي إيمان

الكفر حق الله ثم رسوله

بالنص يثبت لا بقول فلان

من كان رب العالمين وعبده

قد كفراه فذاك ذو الكفران

فهلم ويحكم نحاكمكم الى

النصين من وحي ومن قرآن

وهناك يعلم أي حزبينا على

الكفران حقا أو على الإيمان

فليهنكم تكفير من حكمت بإس

لام وإيمان له النصان

لكن غايته كغاية من سوى ال

معصوم غاية نوع ذا الإحسان

خطأ يصير الأجر أجرا واحدا

إن فاته من أجله الكفلان

إن كان ذاك مكفرا يا أمة ال

عدوان من هذا على الإيمان

قد دار بين الأجر والأجرين والت

كفير بالدعوى بلا برهان

كفرتم والله من شهد الرسو

ل بأنه حقا على الإيمان

ثنتان من قبل الرسول وخصلة

من عندكم أفأنتما عدلان

٢٦٧

الشرح : فانظر يا أخا العقل والإنصاف إلى الفرق الواضح بين أحكامنا في خصومنا مع جحدهم للنصوص ومخالفتهم لمقتضى القرآن. ثم انظر إلى أحكامهم فينا حيث كفرونا من أجل أننا خالفناهم في آرائهم خلافا اضطرنا إليه وقوفنا مع الوحيين من السنة والقرآن ، فهل يستوي هذان الحكمان عند الله عزوجل وعند رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعند ذوي الإيمان ، إنه ليس لأحد من الناس أن يكفر أحدا لمخالفته له في رأيه ، بل التكفير حق لله ورسوله وحدهما ، فلا يثبت إلا بالنص ولا يقع برأي أحد ولا بقوله ، فمن كفره الله ورسوله فهو الكافر حقا ، فتعالوا إذا نحتكم إلى النصين من السنة والقرآن لنعرف أي الحزبين منا ومنكم على الكفر أو على الإيمان ، فليهنكم أنكم كفرتمونا وقد شهدت بإسلامنا وإيماننا النصان. لكن غاية ما يمكن أن يحكم به علينا أننا لسنا بمعصومين ، فقد نخطئ خطأ يصير لنا به أجر واحد إن فاتنا من أجرنا الكفلان ، فهل هذا يصلح أن يكون مكفرا يا أمة العدوان ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد حكم لنا بأجر إن أخطأنا ، وإن أصبنا فلنا أجران ، وأما أنتم فكفرتمونا بالدعوى بلا برهان ، فاجترأتم على تكفير من شهد له الرسول بأنه على الإيمان.

فصار لنا من الرسول ثنتان ، إما أجر أو أجران ، ولنا من عندكم خصلة واحدة وهي الحكم بالكفران ، فهل أنتما بعد متساويان.

* * *

فصل

في تلاعب المكفرين لأهل السنة والإيمان

بالدين كتلاعب الصبيان

كم ذا التلاعب منكم بالدين وال

إيمان مثل تلاعب الصبيان

خسفت قلوبكم كما خسفت عقو

لكم فلا تزكو على القرآن

كم ذا تقولوا مجمل ومفصل

وظواهر عزلت عن الإيقان

حتى إذا رأى الرجال أتاكم

فاسمع لما يوصي بلا برهان

٢٦٨

مثل الخفافيش التي إن جاءها

ضوء النهار ففي كوى الحيطان

عميت عن الشمس المنيرة لا تطي

ق هداية فيها إلى الطيران

حتى إذا ما الليل جاء ظلامه

جالت بظلمته بكل مكان

فترى الموحد حين يسمع قولهم

ويراهم في محنة وهوان

وا رحمتاه لعينه ولأذنه

يا محنة العينين والأذنان

إن قال حقا كفروه وإن يقو

لوا باطلا نسبوه للإيمان

حتى إذا ما رده عادوه مث

ل عداوة الشيطان للإنسان

الشرح : ولقد هان الدين على قلوبكم ، فأنتم تتلاعبون به كما يتلاعب الصبيان بالكرة ، وذلك لأن قلوبكم قد حصل لها من الخسف وذهاب النور كما حصل لعقولكم فهي لا تطيب وتصلح بما يتلى عليها من كتاب الله عزوجل.

ولطالما رددتم نصوص الوحيين ولم تروها صالحة لأخذ العقائد منها بحجة أنها يقع فيها الإجمال والتفصيل والإطلاق ، والتقييد والعموم ، والخصوص والابهام والبيان ، وأنها ظواهر لا تفيد القطع واليقين ، فلا تصلح للاحتجاج بها في باب الاعتقاد. حتى إذا ما وقع لكم رأي لأحد من الشيوخ طرتم به فرحا واستمعتم إليه كأنه وحي وتنزيل ، ولم تسألوه على ما قال أي دليل ، فأنتم مثل الخفافيش التي لا تعيش إلا في الظلام ، فتراها إذا أقبل عليها ضوء النهار لجأت إلى الطيقان تستتر فيها لأنها لا تطيق أن تبصر ضوء الشمس ، ولا تستطيع فيها هداية إلى الطيران حتى اذا ما أقبل عليها الليل بظلمته خرجت من مكامنها وأخذت تجول في ظلمته في جميع الأمكنة.

ولا شيء يؤذي الموحد ويستثير حزنه وأشجانه مثل سماعه لسخافات هؤلاء ورؤيته لقبيح حركاتهم وسوء أفعالهم فتراه حين يسمع أقوالهم ويرى أشخاصهم في أشد محنة فوا رحمتاه لعينه مما ترى ولأذنه مما تسمع. وهو أن قال حقا مستمدا من نصوص الوحيين كفروه به ما دام مخالفا لآرائهم ، وإن قالوا هم باطلا نسبوه إلى الإيمان ، فإذا حاول الموحد رده وإبطاله كشروا له عن أنيابهم

٢٦٩

وجاهروه بالعداوة التي مثل عداوة الشيطان للإنسان.

* * *

قالوا له خالفت أقوال الشيو

خ ولم يبالوا الخلف للفرقان

خالفت أقوال الشيوخ فأنتم

خالفتم من جاء بالقرآن

خالفتم قول الرسول وانما

خالفت من جراه قول فلان

يا حبذا ذاك الخلاف فإنه

عين الوفاق لطاعة الرحمن

أو ما علمت بأنّ أعداء الرسو

ل عليه عابوا الخلف بالبهتان

لشيوخهم ولما عليه قد مضى

أسلافهم في سالف الأزمان

ما العيب إلا في خلاف النص لا

رأى الرجال وفكرة الأذهان

أنتم تعيبونا بهذا وهو من

توفيقنا والفضل للمنان

فليهنكم خلف النصوص ويهننا

خلف الشيوخ أيستوي الخلفان

والله ما تسوى عقول جميع أه

ل الأرض نصا صح ذا تبيان

حتى نقدمها عليه معرض

ين مؤولين محرّفي القرآن

والله أن النص فيما بيننا

لأجل من آراء كل فلان

الشرح : يقولون للموحد حين يرد باطلهم ويدفعه بسلاح الحق هذه القولة التي تدل على التعصب والجهل (خالفت أقوال الشيوخ) فتلك عندهم عظيمة من العظائم مع أنهم هم لم يبالوا بمخالفتهم للفرقان الذي هو كتاب ربهم. فإذا كان هو قد خالف أقوال الشيوخ الذين يجوز عليهم الخطأ والصواب ، ولا يجب على أحد من الناس تقليدهم ، فأنتم خالفتم قول المعصوم الذي جاء بالقرآن العظيم صلوات الله وسلامه عليه ، والذي يجب على كل أحد اتباعه ، فشتان بين من خالف قول الرسول ، وبين من خالف قول فلان من الناس من أجل قول الرسول ، وحبذا ذاك الخلاف لأقوال شيوخكم ، فإنه محض الموافقة لطاعة اللهعزوجل.

وأنتم حين تعيبوننا بمخالفة من مضى من شيوخكم تشبهون المشركين أعداء

٢٧٠

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين عابوا عليه مجيئه بدين يخالف ما ورثوه عن أسلافهم الأولين.

وأنتم قد انتكست فطركم وعقولكم فأصبحتم لا تعرفون مواطن العيب من مواطن المدح ، فاعلموا أن العيب كل العيب ليس إلا في مخالفة النصوص التي جاء بها المعصوم ، وليس في مخالفة آراء الرجال وأفكار العقول.

فليهنكم أنتم مخالفة النصوص وليهننا نحن مخالفة الشيوخ ، فهل يستوي الخلفان؟ كلا والله أن جميع ما أنتجته عقول أهل الأرض من آراء ومذاهب لا تساوي نصا واحدا تثبت صحته ، وكان معناه واضحا بينا ، فلا نقدمها أبدا عليه معرضين عنه محرفين له وو الله إن النص عندنا معشر أهل السنة لأجل وأرفع من آراء جميع الناس من الأولين والآخرين لأنها آراء غير معصومين ، فهي محتملة للخطأ والصواب ، ولكن النص إذا صح لا يكون إلا عين الصواب.

* * *

والله لم ينقم علينا منكم

أبدا خلاف النص من انسان

لكن خلاف الأشعري بزعمكم

وكذبتم أنتم على الإنسان

كفرتم من قال ما قد قاله

في كتبه حقا بلا كتمان

هذا وخالفناه في القرآن مث

ل خلافكم في الفوق للرحمن

فالأشعري مصرح بالاستوا

ء وبالعلو بغاية التبيان

ومصرح أيضا بإثبات اليدين ووج

ه رب العرش ذي السلطان

ومصرح أيضا بأن لربنا

سبحانه عينان ناظرتان

ومصرح أيضا بإثبات النزو

ل لربنا نحو الرفيع الداني

ومصرح أيضا بإثبات الاصا

بع مثل ما قد قال ذو البرهان

ومصرح أيضا بأن الله يو

م الحشر يبصره أولو الإيمان

جهرا يرون الله فوق سمائه

رؤيا العيان كما يرى القمران

ومصرح أيضا بإثبات المج

يء وأنه يأتي بلا نكران

ومصرح بفساد قول مؤول

للاستواء بقهر ذي سلطان

٢٧١

وصرح أن الألى قالوا بذا الت

أويل أهل ضلالة ببيان

ومصرح أن الذي قد قاله

أهل الحديث وعسكر القرآن

هو قوله يلقى عليه ربه

وبه يدين الله كل أوان

الشرح : ومن العجيب أنه لم ينقم علينا أحد منكم مخالفتنا للنصوص ، ولكن تنقمون علينا أننا خالفنا الأشعري بزعمكم ، وكذبتم أنتم على الأشعري حين نسبتم إليه التعطيل ونفي الصفات ، وكفرتمونا بمخالفة الأشعري مع أننا لم نقل إلا بما قاله وصرح به في كتبه مثل الإبانة والمقالات.

هذا ونحن وأنتم في مخالفة الأشعري سواء ، فنحن خالفناه في رأيه في القرآن حيث نفى الحرف والصوت ، وزعم أنه الكلام النفسي ، كما خالفتموه أنتم في إثبات صفة الفوقية لله عزوجل ، فإنه قد صرح في جميع كتبه بإثبات الاستواء والعلو وأوضح ذلك غاية الإيضاح ، كما صرح أيضا بإثبات اليدين والوجه والعينين ، وصرح بإثبات النزول إلى السماء الدنيا في كل ليلة ، وبإثبات الأصابع لورود الأحاديث الصحيحة بإثبات ذلك. وصرح بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عيانا بأبصارهم كما يرى الشمس والقمر ليس دونهما سحاب وصرح بإثبات المجيء والاتيان بلا نفي ولا نكران. وصرح بفساد قول من أول الاستواء بالاستيلاء ورمى القائلين له بالضلال وفساد الاعتقاد ، وصرح بأن مذهب أهل الحديث كالإمام أحمد وغيره هو مذهبه الذي يقول به ويدين الله عليه إلى يوم أن يلقاه. ومن أراد أن يعرف مذهب الأشعري في الإثبات فليرجع إلى كتابه (الإبانة) (ومقالات الإسلاميين) ليظهر له أن هؤلاء الذين يتظاهرون بالانتساب إلى مذهبه وتأخذهم حمية الجاهلية على من يخالفه هم أكثر الناس مخالفة له وجهلا بمذهبه.

* * *

لكنه قد قال أن كلامه

معنى يقوم بربنا الرحمن

في القول خالفناه نحن وأنتم

في الفوق والأوصاف للديان

٢٧٢

لم كان نفس خلافنا كفرا وكا

ن خلافكم هو مقتضى الإيمان

هذا وخالفتم لنص حين خا

لفنا لرأي الجهم ذي البهتان

والله ما لكم جواب غير تك

فير بلا علم ولا إيقان

أستغفر الله العظيم لكم جوا

ب غير ذا الشكوى إلى السلطان

فهو الجواب لديكم ولنحن من

تظروه منكم يا أولي البرهان

والله لا للأشعرى تبعتم

كلا ولا للنص بالإحسان

يا قوم فانتبهوا لأنفسكم وخل

وا الجهل والدعوى بلا برهان

ما في الرئاسة بالجهالة غير ضح

كة عاقل منكم مدى الأزمان

لا ترتضوا برياسة البقر التي

رؤساؤها من جملة الثيران

الشرح : يعني أن الأشعري وإن وافق السلف في إثبات العلو وغيره من الصفات الخبرية فقد خالفهم في صفة الكلام ، فلم يثبت إلا كلاما نفسيا قائما بذاته تعالى من غير حرف ولا صوت ، فلهذا خالفناه نحن في هذه الصفة كما خالفتموه أنتم في إثباته صفة الفوق وغيرها من الصفات ، فلأي شيء كان خلافنا للأشعري كفرا وكان خلافكم أنتم له إيمانا ، مع أنكم حين خالفتموه خالفتم النص الذي تمسك هو به ، ونحن حين خالفناه كان خلافنا لما ذهب إليه من رأي الجهم ذي الكذب ، فو الله لا تجدون على هذا الكلام جوابا غير التكفير لنا عن جهل وحمية بلا علم ولا إيقان. لا ، أستغفر الله ، بل لكم جواب آخر ، وهو أن تجأروا بالشكوى منا إلى السلطان ، فهو جوابكم دائما الذي تلجئون إليه كلما أعوزتكم الحجة وفاتكم البرهان ، ونحن دائما منتظروه ومستعدون له في كل آن.

وأنتم والله لا للأشعري اتبعتم ، فقد خالفتم ما صرّح به في سائر كتبه كما عرفتم ، ولا بالنصوص من الوحيين تمسكتم ، فما أحراكم أن تنتبهوا لأنفسكم وأن تتركوا ما أنتم عليه من الجهل والدعاوى العريضة التي ليس لكم عليها برهان ، ولا تظنوا أن ما تتقلبون فيه من مناصب ورئاسات يخفي جهلكم أو يغطي عن الناس عوراتكم ، فإن الرئاسة بالجهالة لا تزيد العقلاء إلا سخرية منكم وازدراء

٢٧٣

لكم على أنكم لم ترأسوا أناسا لهم عقول وأفهام ، وإنما رأستم قطعانا من البقر ، وجدير بمن يترأس على البقر أن يكون من جملة الثيران.

* * *

فصل

في أن أهل الحديث هم أنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ولا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الآخر

يا مبغضا أهل الحديث وشاتما

أبشر بعقد ولاية الشيطان

أو ما علمت بأنهم أنصار دي

ن الله والإيمان والقرآن

أو ما علمت بأن أنصار الرسو

ل هم بلا شك ولا نكران

هل يبغض الأنصار عبد مؤمن

أو مدرك لروائح الإيمان

شهد الرسول بذاك وهي شهادة

من أصدق الثقلين بالبرهان

أو ما علمت بأن خزرج دينه

والأوس هم أبدا بكل زمان

ما ذنبهم إذ خالفوك لقوله

ما خالفوه لأجل قول فلان

لو وافقوك وخالفوه كنت تش

هد أنهم حقا أولو الإيمان

لما تحيّزتم إلى الأشياخ وان

حازوا إلى المبعوث بالقرآن

نسبوا إليه دون كل مقالة

أو حالة أو قائل ومكان

هذا انتساب أولى التفريق نسبته

من أربع معلومة التبيان

فلذا غضبتم حينما انتسبوا إلى

خبر الرسول بنسبة الإحسان

فوضعتم لهم من الألقاب ما

تستقبحون وذا من العدوان

هم يشهدونكم على بطلانها

أفتشهدونهم على البطلان

ما ضرهم والله بغضكم لهم

إذ وافقوا حقا رضا الرحمن

الشرح : يا من تعادي أهل الحديث وحملة علم النبوة وتسبهم بغير حق وتنبزهم بألقاب السوء ، هنيئا لك ما عقدت يمينك من ولاية الشيطان : (وَمَنْ

٢٧٤

يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً) [النساء : ١١٩].

أتعاديهم وتشتمهم وما علمت بأنهم أنصار دين الله الذين يذبون عنه أعداءه من الكفار والمنافقين ، وأنصار الإيمان الذين يبينونه للناس مجردا من عقائد أهل الزيغ والمبتدعين ، وأنصار القرآن الذين ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال الجاهلين وتأويل المبطلين ، وأنصار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ويدفعون عن أحاديثه سهام الطاعنين والمفترين.

فهل يبغض الأنصار عبد شم رائحة الإيمان ، وقد شهد لهم الرسول الذي هو أصدق خلق الله من أنس ومن جان بأنهم لا يبغضهم رجل يؤمن بالله واليوم الآخر صادق الإيمان. ولا تحسبن أن أنصاره هم الأوس والخزرج وحدهم ، بل أنصار دينه موجودون دائما بكل زمان.

فهل كل ذنبهم عندك أنهم خالفوك أيها المعطل من أجل قول نبيهم وأنهم لم يخالفوا قوله من أجل قول أحد من الناس؟ ولكنهم لو خالفوه ووافقوك أنت كنت تشهد لهم بكمال الإيمان.

ولما تحيزتم إلى الشيوخ الذين قلدتموهم في دين الله وانحازوا هم إلى نبيهم المبعوث بالقرآن ، صارت نسبتهم إليه دون ما سواه من مقالة أو حالة أو قائل أو مكان ، فهذه الأربعة هي نسب أهل التفرق والاختلاف ، فمن أجل انتسابهم إلى حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنته غضبتم عليهم ورميتموهم بالألقاب القبيحة المستهجنة كقولكم حشوية ونوابت ومشبهة ومجسمة الخ عدوانا منكم وظلما ، وما يضرهم والله بغضكم ولا سبكم شيئا ما داموا قد وافقوا رضا الله باتباعهم لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

يا من يعاديهم لأجل مآكل

ومناصب ورئاسة الأخوان

تهنيك هاتيك العداوة كم بها

من حسرة ومزلة وهوان

ولسوف تجني غيها والله عن

قرب وتذكر صدق ذي الإيمان

٢٧٥

فإذا تقطعت الوسائل وانتهت

تلك المآكل في سريع زمان

هناك تقرع سن ندمان على الت

فريط وقت السير والإمكان

وهناك تعلم ما بضاعتك التي

حصلتها في سالف الأزمان

إلا الوبال عليك والحسرات وال

خسران عند الوضع في الميزان

قيل وقال ما له من حاصل

إلا العناء وكل ذي الأذهان

والله ما يجدي عليك هناك الا

ذا الذي جاءت به الوحيان

والله ما ينجيك من سجن الجحي

م سوى الحديث ومحكم القرآن

والله ليس الناس إلا أهله

وسواهم من جملة الحيوان

الشرح : ينادي المؤلف في هذه الأبيات علماء السوء من مقلدة المذاهب الأربعة في الفقه ومذهب الأشعري في علم الكلام ، وكانوا هم أهل الحظوة في دولة الجهل في أيامه ، حيث يتولون مناصب الافتاء والتدريس والقضاء وغيرها وتجري عليهم الجرايات والأحباس الكثيرة ، ويتمتعون بأطيب المآكل والمشارب ويجالسون السلاطين والأمراء ويغرونهم بخصومهم من أهل الحديث والسنة فيقول لهم : يا من تعادون أنصار السنة والتوحيد وتحرضون عليهم أهل الجهل والظلم من الحكام والأمراء ، من أجل أن يبقى لكم ما تتمتعون به من مآكل ومناصب ورياسات ، هنيئا لكم هذه العداوة للحق وأهله ، فلسوف تنقلب عليكم هوانا وحسرة ومذلة ، ولسوف تجنون عاقبتها قريبا عند الموت ، وحينئذ تذكرون صدق نصيحة أهل الإيمان لكم ، فإذا تقطعت بكم تلك الأسباب التي كانت مودة بينكم في الحياة الدنيا ، وفنيت عنكم تلك المآكل اللذيذة في زمان قريب ، وصرتم إلى أجداث يأكلكم فيها الدود ويعفر وجوهكم التراب ، فهناك تقرعون أسنانكم ندما وتعضون على أيديكم غما على تفريطكم في فسحة العمر وفي وقت القدرة والإمكان ، وهناك تعلمون أي بضاعة فاسدة تلك التي حصلتموها في أيامكم الخوالي ، فانقلبت عليكم وبالا وحسرات ونقصا في ميزانكم وزيادة في أوزاركم ، وما هذه البضاعة التي عنيتم بها أنفسكم طول عمركم وأتعبتم فيها قرائحكم إلا قيل وقال لا محصول له ولا طائل تحته ولا يغني عنكم من عذاب

٢٧٦

الله شيئا ، بل لا ينفعكم هناك إلا استمساككم بما جاء به الوحيان من الكتاب والسنة ، ولا يخلصكم من ضيق النار وظلمتها وحرها ولظاها إلا أخذكم بالحديث ومحكم القرآن ، فإن أهل الحديث والقرآن هم الناس على الحقيقة ، وأما غيرهم من البشر فهم معدودون من جملة الحيوان.

* * *

ولسوف تذكر بر ذي الإيمان عن

قرب وتقرع ناجذ الندمان

رفعوا به رأسا ولم يرفع به

أهل الكلام ومنطق اليونان

فهم كما قال الرسول ممثلا

بالماء مهبطه على القيعان

لا الماء تمسكه ولا كلأ بها

يرعاه ذو كبد من الحيوان

هذا إذا لم يحرق الزرع الذي

بجوارها بالنار أو بدخان

والجاهلون بذا وهذا هم زوا

ن الزرع أي والله شر زوان

وهم لدى غرس الإله كمثل غر

س الدلب بين مغارس الرمان

يمتص ماء الزرع مع تضييقه

أبدا عليه وليس ذا قنوان

ذا حالهم مع حال أهل العلم أن

صار الرسول فوارس الإيمان

فعليه من قبل الإله تحية

والله يبقيه مدى الأزمان

المفردات : زوان الزرع بتثليث الزاي : أي زينته. الدلب : بضم الدال شجر عظيم عريض الورق لا زهر له ولا ثمر. القنوان جمع قنو وهو العذق وهو من النخل كالعنقود من العنب.

الشرح : ولسوف تذكر هناك بعد أن تفارق ما أنت فيه من طيبات الحياة ومتعها قريبا بر أهل الإيمان واجتهادهم في النصيحة لك ، وتقرع أسنانك ندما على أنك لم تكن تبعتهم فيما دعوك إليه من الاحتفاء بالوحي الذي رفعوا به رأسا ، وجعلوه لدينهم أسا بخلاف أهل الكلام وأصحاب منطق اليونان ، فإنهم لم يرفعوا بذلك رأسا ، ولم يقبلوا هدى الله الذي جاء به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد ضرب

٢٧٧

الرسول لهم مثلا (١) بالغيث ، ينزل على أرض سبخة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ليشرب منه الزرع والحيوان ، ولا تنبت كلأ ليرعاه بهيمة الأنعام هذا إذا اقتصر ضررها عليها ، ولم تحرق ما يجاورها من الزرع بنارها ودخانها. وأما الجاهلون بالوحي وغيره من أبواب العلم ، فهم كرواء الزرع وزينته ، شر زوان لأنهم مع قلة فائدتهم ممتصون ماء الزرع ويضيقون عليه ، ويمنعون عنه الهواء والشمس ، فهم مع غرس الله من الإيمان والهدى في القلب ، كمثل شجر الدلب تراه ضخما عظيم الورق مع أنه لا زهر له ولا ثمر ، فإذا كان بين أشجار الرمان فإنه يمتص منها الماء فلا يصل إليها ، ويضيق بضخامته عليها فلا تنمو فروعها ولا تبسق أغصانها.

فهذا حال هؤلاء الجهلاء مع حال أهل العلم أنصار الرسول وفوارس الإيمان من أمثال شيخ المؤلف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه‌الله ، فعليه تحية من الله مباركة طيبة ، فسلام الله عليه ورحمته والله يبقيه مدى الأزمان لسان صدق لدعوة الحق يذود عنها كيد المضلين وأكاذيب المفترين.

* * *

لولاه ما سقى الغراس فسوق ذا

ك الماء للدلب العظيم الشأن

فالغرس دلب كله وهو الذي

يسقى ويحفظ عند أهل زمان

فالغرس في تلك الحضارة شارب

فضل المياه مصاوه البستان

لكنما البلوى من الحطاب قط

اع الغراس وعاقر الحيطان

__________________

(١) في الحديث الصحيح «ان مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس فسقوا وزرعوا وكان منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به».

٢٧٨

بالفوس يضرب في أصول الغرس كي

يجتثها ويظن ذا إحسان

ويظل يحلف كاذبا لم أعتمد

في ذا سوى التثبيت للعيدان

يا خيبة البستان من حطابه

ما بعد ذا الحطاب من بستان

في قلبه غل على البس

تان فهو موكل بالقطع كل أوان

فالجاهلون شرار أهل الحق وال

علماء سادتهم أولو الإحسان

والجاهلون خيار أحزاب الضلا

ل وشيعة الكفران والشيطان

وشرارهم علماؤهم هم شر خل

ق الله آفة هذه الأكوان

الشرح : يقول أنه لو لا أن قيض الله له شيخ الإسلام يبثه من علمه الغزير ويرشده إلى الطريق القويم لما سقى غراس قلبه بماء العلم والإيمان ، فإن الماء كله كان يساق للدلب الضخم العظيم الشأن فيمتصه ولا ينتفع به أحد ، وقد كان الغراس في هذه الأيام كله دلبا ما عدا شيخ الإسلام ، فقد كان هو الذي يسقي ويحفظ في علماء عصره. فالغرس في تلك الحضارة كان يشرب فضل المياه التي تفيض من البستان. وهذا كله هين قليل ضرره ، ولكن البلوى كل البلوى في ذلك الحطاب الذي لا يهدأ قلبه حتى يقطع الغراس ويدمر البستان ، فهو عامل فأسه في أصول الشجرة بقوة ليجتثها من مغارسها ، ويظن مع ذلك أنه ذو إحسان فيما يفعل ، وإذا نهي عن هذا الفساد والتدمير أخذ يقسم بالله جهد إيمانه انه لم يقصد بذلك إلا تثبيت العيدان في مغارسها ، فيا ويل هذا البستان من حطابه الذي لا يريد أن يبقى منه ، ولا يذر حتى يجعله صعيدا جرزا لأن قلبه مملوء بالحقد على ذلك البستان ، فكأنه موكل بقطعه وتخريبه كل أوان ، فالجاهلون من أهل الحق هم شرارهم وساداتهم وخيارهم هم العلماء أهل الفضل والإحسان. وأما الجاهلون من أهل الضلالة فهم خيارهم لأن ضررهم أخف ، أما علماؤهم فهم شر خلق الله وهم آفة هذا الوجود كله والساعون فيه بالفساد.

* * *

٢٧٩

فصل

في تعين الهجرة من الآراء والبدع إلى سنته

كما كانت فرضا من الأمصار إلى بلدته عليه‌السلام

يا قوم فرض الهجرتين بحاله

والله لم ينسخ إلى ذا الآن

فالهجر الأول إلى الرحمن بال

إخلاص في سر وفي إعلان

حتى يكون القصد وجه الله بال

أقوال والأعمال والإيمان

ويكون كل الدين للرحمن ما

لسواه شيء فيه من إنسان

والحب والبغض اللذان هما ل

كل ولاية وعداوة أصلان

لله أيضا هكذا الاعطاء والمن

ع اللذان عليهما يقفان

والله هذا شطر دين الله

والتحكيم للمختار شطر ثان

وكلاهما الإحسان لن يتقبل الر

حمن من سعي بلا إحسان

والهجرة الأخرى إلى المبعوث بال

إسلام والإيمان والإحسان

أترون هذى هجرة الأبدان لا

والله بل هي هجرة الإيمان

قطع المسافة بالقلوب إليه في

درك الأصول مع الفروع وذان

أبدا إليه حكمها لا غيره

فالحكم ما حكمت به النصان

الشرح : صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يوم فتح مكة «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، وإذا استنفرتم فانفروا» فهذه الهجرة من مكة إلى المدينة التي كانت فرضا في أول الأمر قد بطل حكمها بالفتح لأن مكة أصبحت بعده دار إسلام. ولكن هناك هجرتين فرضيتهما باقية بحالها وحكمهما ماض إلى يوم القيامة لا يلحقه نسخ أبدا.

الأولى منهما : الهجرة إلى الله عزوجل بإخلاص العبادة له في السر والعلانية حتى لا يقصد بقوله وعمله وإيمانه إلا وجه الله ، وحتى يخلص دينه كله لله ، لا يجعل لغيره شركة معه في شيء منه ، وحتى يكون حبه وبغضه الله ، وكذلك ما يترتب عليهما من الموالاة والمعاداة فيوالي من والى الله ، ويكون أيضا إعطاؤه

٢٨٠