شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

حياة وبضاضة أن تزف إلى عنين لا حركة له ولا شهوة؟ كلا والله لن تزف هذه الشموس إلا لخطابها الحقيقيين الذين دفعوا أثمانها غالية وقدموا لهن المهور المجزية.

* * *

يا سلعة الرحمن لست رخيصة

بل أنت غالية على الكسلان

يا سلعة الرحمن ليس ينالها

في الألف إلا واحد لا اثنان

يا سلعة الرحمن ما ذا كفؤها

إلا أولو التقوى مع الإيمان

يا سلعة الرحمن سوقك كاسد

بين الأراذل سفلة الحيوان

يا سلعة الرحمن أين المشتري

فلقد عرضت بأيسر الأثمان

يا سلعة الرحمن هل من خاطب

فالمهر قبل الموت ذو إمكان

يا سلعة الرحمن كيف تصبر ال

خطّاب عنك وهم ذوو إيمان

يا سلعة الرحمن لو لا أنها

حجبت بكل مكاره الإنسان

ما كان عنها قط من متخلف

وتعطلت دار الجزاء الثاني

لكنها حجبت بكل كريهة

ليصد عنها المبطل المتواني

وتنالها الهمم التي تسمو إلى

رب العلى بمشيئة الرحمن

الشرح : صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا أن سلعة الله غالية ألا أن سلعة الله الجنة».

فالمؤلف يخاطب سلعة الرحمن التي هي جنته بأنها ليست رخيصة مبتذلة ولا مزهودا فيها ، بل هي غالية جدا على أهل الكسل والبلادة الذين لم يقدموا من السعي ما يرشحهم للظفر بها ، وهي لعلوها وتمنعها وغلاء مهرها لا يستطيع أن ينالها من كل ألف إلا واحد فقط ، كما ورد في الحديث الصحيح : «إن الله عزوجل يقول لآدم عليه‌السلام : يا آدم اذهب فأخرج بعث ذريتك إلى النار ، فيخرج من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون».

وليس من خاطب كفوء لسلعة الله الغالية ، بل لا ينالها من عباده إلا أولو

٤٤١

التقوى والإيمان ، فهما ثمنها الذي لا تنال إلا به من دون سائر الأثمان ، ولكنها سلعة بائرة عند الأخساء من أهل الكفر والفجور والعصيان.

فيا سلعة الرحمن أين مشتريك ، فقد عرضك مولاك بأيسر الأثمان ، ولكنه ليس يسيرا إلا على كل موفق ذي ثقة ، ولا يستطيعه أهل الخيبة والخذلان. وأين خطابك الذين يقدمون لك المهر في حال الحياة ، فإنه قبل الموت ذو إمكان. وكيف سلو هؤلاء الخطاب واصطبارهم عنك إذا كانوا بك ذوي إيمان ، فو الله لو لا أنك حففت بالمكاره والشدائد لما تخلف عنك إنسان ولتعطلت النار التي هي دار الجزاء الثاني وخلت من السكان ، ولكن الله حجبك بكل كريهة حتى لا يطيقك إلا كل مشمر مقدام غير متوان ولا جبان ، وحتى يعرض عنك كل مبطل كسلان. وهل ينالك في علاك إلا كل عالي الهمة غير مخلد إلى الأرض والحطام الفاني ، بل ساعيا إلى ربه بمشيئة الرحمن.

* * *

فاتعب ليوم معادك الأدنى تجد

راحاته يوم المعاد الثاني

وإذا أبت ذا الشأن نفسك فات

همها ثم راجع مطلع الإيمان

فإذا رأيت الليل بعد وصبحه

ما انشق عنه عمودة لأذان

والناس قد صلوا صلاة الصبح وان

تظروا طلوع الشمس قرب زمان

فاعلم بأن العين قد عميت فنا

شد ربك المعروف بالإحسان

واسأله إيمانا يباشر قلبك ال

محجوب عنه لتنظر العينان

واسأله نورا هاديا يهديك في

طرق المسير إليه كل أوان

والله ما خوفي الذنوب فانها

لعلى طريق العفو والغفران

لكنما أخشى انسلاخ القلب من

تحكيم هذا الوحي والقرآن

ورضا بآراء الرجال وخرصها

لا كان ذاك بمنة الرحمن

الشرح : وإذا كانت الجنة لا ينالها إلا من شمر لها وسعى لها سعيها وجد في طلبها ، فكن ممن يؤثر الآجلة على العاجلة ويتحمل كل ما يصادفه في سيره إلى

٤٤٢

الله من المتاعب والآلام إلى يوم معاده القريب بالموت لتعقبه الراحة الكبرى يوم معاده الثاني بالبعث والنشور ، وإذا استعصت عليك نفسك وأبت لا الركون والاخلاد إلى عرض هذا الأدنى ولم ترد إلا الحياة الدنيا ، فأسىء بها الظن واتهمها وامتحن ايمانك فلعله أن يكون مدخولا ، فإذا رأيت نفسك لا تزال تعيش في ليل لم ينشق فجره ولم يسفر صبحه ، والناس من حولك قد صلوا صلاة الصبح وأخذوا يرقبون طلوع الشمس ، فاعلم بأن عينك قد أصابها العمى وجعلت عليها غشاوة تمنعها من الرؤية ، فاضرع إلى ربك ذي الكرم والجود وأسأله أن يهبك إيمانا صادقا يباشر قلبك حتى تنفتح عيناك على الحق وترى الأشياء رؤية صحيحة واسأله نورا يهديك وأنت سائر إليه حتى لا تضل ولا تعوج ، فليس الخوف على العبد من ذنوب يلم بها ، فإنها مهما عظمت في معرض العفو والمغفرة ولكن الخوف كل الخوف من أن يزيغ قلبه ، فيخرج عن تحكيم الكتاب والسنة ولا يرضى بحكمهما ، بل يرضى بآراء الرجال وظنونهم الكاذبة فلا قدر الله علينا ذلك بفضله ورحمته (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨]

* * *

فبأي وجه التقى ربي إذا

أعرضت عن ذا الوحي طول زمان

وعزلته عمّا أريد لأجله

عزلا حقيقيا بلا كتمان

صرّحت أن يقيننا لا يستفاد

به وليس لديه من إتقان

أوليته هجرا وتأويلا وتح

ريفا وتفويضا بلا برهان

وسعيت جهدي في عقوبة ممسك

بعراه لا تقليد رأي فلان

يا معرضا عما يراد به وقد

جد المسير فمنتهاه دان

جذلان يضحك آمنا متبخترا

فكأنه قد نال عقد امان

خلع السرور عليه أوفى حلة

طردت جميع الهم والاحزان

يختال في حلل المسرة ناسيا

ما بعدها من حلة الأكفان

ما سعيه إلا لطيب العيش في الد

نيا ولو أفضى إلى النيران

٤٤٣

قد باع طيب العيش في دار النعي

م بذا الحطام المضمحل الفاني

اني أظنك لا تصدق كونه

بالقرب بل ظن بلا ايقان

بل قد سمعت الناس قالوا جنة

أيضا ونار بل لهم قولان

والوقف مذهبك الذي تختاره

واذا انتهى الإيمان للرجحان

أم تؤثر الأدنى عليه وقالت الن

فس التي استعلت على الشيطان

أتبيع نقدا حاصلا بنسيئة

بعد الممات وطي ذي الأكوان

لو انه بنسيئة الدنيا لها

ن الأمر لكن في معاد ثان

دع ما سمعت الناس قالوه وخذ

ما قد رأيت مشاهدا بعيان

الشرح : يعرض المؤلف في هذه الأبيات الأولى بخصومه الذين أعرضوا عن حكم الوحي ورضوا بالتقليد والتبعية الذليلة وعزلوا نصوص الوحي عما أريد بها من الإرشاد والبيان عزلا حقيقيا صرحوا به بلا حياء ولا كتمان ، وقالوا أنها ظواهر لفظية لا يستفاد منها الإيقان ، وهي خطابيات لم تسم إلى درجة البرهان فأوسعوها هجرا وتعطيلا ، وساموها تحريفا وتأويلا ، وتفويضا وتجهيلا بلا بينة ولا برهان ، ولم يكتفوا بذلك الجرم الشنيع ولا بالجناية على النصوص ، بل سعوا كذلك جهدهم في عقوبة أهلها المتمسكين بها الذين ربئوا بأنفسهم عن مهانة التقليد ولم يقبلوا وقد خلقهم الله أحرارا أن يكونوا من جملة العبيد.

ثم يلتفت بعد ذلك إلى أهل الغرور والغفلة الذين مد لهم الشيطان في حبل الأماني والأمان ، فأذهلهم عما يراد بهم وعن قافلة الحياة التي تسير بهم فتطوى أعمارهم طيا وتدنيهم من نهايتهم ، ترى الواحد منهم يمشي بين الناس جذلان ضاحكا ملء شدقيه متبخترا في حلله مزهوا بنفسه كأنه قد أمن العاقبة واتخذ عند الله عهدا أن لا يعذبه ، وتراه دائما مفعما بالسرور والنشوة خالي القلب من جميع الهموم والأحزان عاكفا على سروره ولهوه غير مفكر في عاقبة أمره ، كل همه وسعيه إنما هو في هناءة هذا العيش ورغده ، ولو أفضى به إلى جهنم في غده فهو قد باع حظه من نعيم الجنة وصفو سرورها بمتاع هذه الحياة القليل الذي لا يلبث أن يتلاشى ويزول. والظن بهذا الأحمق الغرير أنه لم يصدق بقرب وقوع ما

٤٤٤

وعد به من الثواب وأوعد به من العقاب ، بل هو ممن قال الله خبرا عنهم (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) [الجاثية : ٣٢].

بل هو قد سمع الناس يذكرون الجنة والنار وقد افترقوا في شأنهما بين كفر وإيمان ، فاختار الوقف له مذهبا ، فلا صدق ولا كذب ، بل وقف متحيرا مؤثرا للأدنى على الأعلى ، تزين له نفسه السوء ، وتمد له في حبل الغرور ، وتركب له من منطقها السقيم قياسا فاسدا غير مستقيم ، وتقول له أتبيع ما في يدك من لهو الحياة ومتعها بشيء بينك وبينه أهوال ثقال وآماد طوال ، فهو لا يجيء إلا بعد الموت وخراب هذه الدنيا وحصول نشأة أخرى لا يدري ما ذا سيكون من حالك فيها. فلو أن هذا الجزاء الآجل يحصل في الدنيا لهان الأمر وخف البيع على ما فيه من مخاطرة ، ولكن كيف الإقدام وهذا الجزاء إنما يتم في حياة آخرة ، فدع ما يقوله الناس ويمنون به أنفسهم ، واقطف زهرة هذه الحياة واطرح ذكر العواقب جانبا فإن هذا بيع ظاهر غبنه غير مأمون العاقبة.

* * *

والله لو جالست نفسك خاليا

وبحثتها بحثا بلا روغان

لرأيت هذا كامنا فيها ولو

أمنت لألقته إلى الآذان

هذا هو السر الذي من أجله اخ

تارت عليه العاجل المتدان

نقد قد اشتدت إليه حاجة

منها ولم يحصل لها بهوان

أتبيعه بنسيئة في غير هذي

الدار بعد قيامة الأبدان

هذا وإن جزمت بها قطعا ول

كن حظها في حيّز الإمكان

ما ذاك قطعيا لها والحاصل ال

موجود مشهود برأي عيان

فتألفت من بين شهوتها وشب

هتها قياسات من البطلان

واستنجدت منها رضا بالعاجل ال

أدنى على الموعود بعد زمان

وأتى من التأويل كل ملائم

لمرادها يا رقة الإيمان

الشرح : وهذا الذي تعلله به النفس من باطل هذا العيش وغروره ومطالبتها

٤٤٥

إياه أن يحرص عليه وأن لا يضحي به في سبيل آجل غير مضمون ليس أمرا فرضيا تقديريا ، بل لو أنه خلا بنفسه وبحث أغوارها في غير مخادعة لوجده مستقرا في أعماقها ولكنها تخفيه خوفا من الاتهام بالإلحاد والزندقة ، ولو أنها أمنت لتحدثت به في غير مواربة ولا خفاء ، وهذا هو حقيقة السر الذي جعلها تختار هذا العاجل القريب على المؤمل البعيد ، فهو متاع حاضر قد اشتدت رغبتها فيه وتعبت في تحصيله ، فكيف تطيب أن تبيعه بنسيئة ، لا في هذه الدنيا ولكن في دار أخرى لا تجيء إلا بعد فناء هذه الأجسام وقيامها من قبورها في نشأة أخرى. هذا ولو أنها جزمت بوجود هذا النعيم في العقبى لكنها لا تدري إن كانت ستكون من أهله أم لا ، فنصيبها منه غير مقطوع به ، بل هو في حيز الإمكان ، فكيف يقاس عندها بالحاصل الموجود الذي تحسه وتراه.

وهكذا استطاعت النفس من بين الشهوات والشبهات أن تؤلف هذه الأقيسة الباطلة وأن تستنتج منها هذه النتيجة الكاذبة ، وهي اختيار هذا العاجل والرضا به على المؤمل الموعود الذي لن يجيء إلا بعد زمان بعيد ، ثم وجدت من تأويلات الباطنية والفلاسفة لنصوص الوعد واعتقاد أنها أمور متخيلة لا حقيقة لها ما يناسب مرادها في الإنكار والجحود ، فجرت وراءها وتعللت بها لرقة دينها وضعف يقينها.

وهذا والله حال أغلب الناس وإن كانوا لا يتحدثون به ، ولكن أعمالهم وتصرفاتهم تشهد عليهم بما يكتمونه في صدورهم ، فإن الواحد منهم يدأب ليله ونهاره في عمل دنياه وخدمة جسده ، ولكنه يمل ويستثقل أن يطول عليه إمام في خطبة أو صلاة فلا حول ولا قوة إلا بالله.

* * *

وصغت إلى شبهات أهل الشرك وال

تعطيل مع نقص من العرفان

واستنقصت أهل الهدى ورأيتهم

في الناس كالغرباء في البلدان

ورأت عقول الناس دائرة على

جمع الحطام وخدمة السلطان

٤٤٦

وعلى المليحة والمليح وعشرة ال

أحباب والأصحاب والأخوان

فاستوعرت ترك الجميع ولم تجد

عوضا تلذ به من الإحسان

فالقلب ليس يقر ألا في انا

ء فهو دون الجسم ذو جولان

يبغي له سكنا يلذ بقربه

فتراه شبه الواله الحيران

فيحب هذا ثم يهوى غيره

فيظل منتقلا مدى الأزمان

لو نال كل مليحة ورئاسة

لم يطمئن وكان ذا دوران

بل لو ينال بأسرها الدنيا لما

قرت بما قد ناله العينان

نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى

واختر لنفسك أحسن الانسان

فالقلب مضطر الى محبوبه ال

أعلى فلا يغنيه حب ثان

وصلاحه وفلاحه ونعيمه

تجريد هذا الحب للرحمن

فإذا تخلى منه أصبح حائرا

ويعود في ذا الكون ذا هيمان

الشرح : والنفس حين يكون فيها شهوة خفية إلى الاقتناع بشيء من الأشياء فإنها تتلمس كل الوسائل التي تبرر هذا الاقتناع ، فتراها تنزع وتميل إلى شبهات أهل الشرك والتعطيل ممن لا يؤمنون بحشر الأجساد ولا يقرون بنعيم حسى ولا بآلام جسدية ستجري على العباد ، هذا مع نقصها في العلم والعرفان وعدم قدرتها على إدراك ما في هذه الآراء من فساد وبطلان وتراها كذلك تستنقص أهل لهدى والإيمان وتزدريهم حين تشاهد قلتهم وغربتهم بين الأهل والأوطان. ثم هي مع ذلك تأتسي بمن حولها من الناس الذين لا هم لهم إلا جمع هذا الحطام الفاني ، والسعي في خدمة من تنشد الزلفى لديه من أمير أو سلطان ، والحرص على لظفر بما تعلقت به النفس من مليحة حسنا أو مليح حسن ، وعشرة ما أنست به من الأصحاب والخلان.

فهي تستوحش أن تفارق هذا كله وأن تقطع كل هذه العلائق وتعيش وحدها في عزلة ، لا سيما وهي فارغة ليس فيها من المعاني ما يعوضها عما فارقت ويصلح أن يقوم بدله.

٤٤٧

وشأن القلب ليس كشأن الجسم ، بل هو دائم القلق والاضطراب لا يستقر على حال الا ويتطلع إلى أحسن منها ، فهو يطلب ما يسكن إليه وينعم بقربه ، كمثل العاشق الولهان ، ولكنه لا يسكن إلى شيء أبدا ، بل يحب هذا الآن ثم ينتقل منه إلى غيره مما هو أطيب وألذ ، وهكذا يظل متنقلا على مدى الأزمان ، بل لو ظفر بكل مليحة ورئاسة لم يقر قراره وظل في اضطراب وجولان ، بل لو حيزت له الدنيا كلها بما فيها من متع ورغائب لما قرت منه العينان ، فلا قرار للقلب ولا سكن إلا بالوصول إلى محبوبه الأول وهو الله جل شأنه ، فمعرفته والقرب منه هو غذاء القلوب وقوتها وسكنها وراحتها وغاية مطلوبها الذي لا تطمح إلى شيء وراءه. فمهما جلت بفؤادك بين مغاني الهوى وارتدت له آنق المرعى ، وجلبت له كل ما على الأرض من حسن فهو شاعر بالفقر والحرمان ، لأنه مضطر إلى محبوبه الأعلى جل شأنه ، فلا يتعوض عنه بأي حب كان. فصلاحه وفلاحه ونعيمه وأنسه وراحته وسكنه في توحيد حبه للرحمن ، فإذا ما أقفر من هذا الحب عاودته الحيرة والاضطراب ورجع إلى حاله من الاضطراب والجولان.

* * *

فصل

في زهد أهل العلم والإيمان وإيثارهم الذهب الباقي على الخزف الفاني

لكن ذا الإيمان يعلم أن ه

ذا كالظلال وكل هذا فان

كخيال طيف ما استتم زيارة

الا وصبح رحيله بأذان

وسحابة طلعت بيوم صائف

فالظل منسوخ بقرب زمان

وكزهرة وافى الربيع بحسنها

أو لامعا فكلاهما أخوان

أو كالسراب يلوح للظمآن في

وسط الهجير بمستوى القيعان

أو كالأماني طاب منها ذكرها

بالقول واستحضارها بجنان

وهي الغرور رءوس أموال المفا

ليس الألى اتجروا بلا أثمان

٤٤٨

أو كالطعام يلذ عند مساغه

لكن عقباه كما تجدان

هذا هو المثل الذي ضرب الرسو

ل لها وذا في غاية التبيان

الشرح : أما أهل العلم والإيمان فهم يعرفون هذه الدنيا على حقيقتها فلا يغرهم منها بهرج ولا يخدعهم منها رواء ، وهم يضربون لها الأمثال التي تكشف عن جوهرها وتدل على قصر عمرها ، فهم يشبهونها بتلك الأفياء التي تكون ممتدة ثم تتقلص رويدا رويدا حتى تذهب وتزول ، أو بخيال طيف ألم برأس نائم ، فما استتم زورته حتى آذن بالرحيل.

أو بسحابة طلعت في يوم قيظ ، فما أن انتشر ظلها حتى طلعت عليها الشمس فمحت هذا الظل القليل ، أو بزهرة في الروض أقبل الربيع بنضرتها وازدهارها ثم آل أمرها إلى تصوح وذبول.

أو ببرق لمع من خلال السحاب فأضاء الأفق ثم انطفأ فانتشر بعده ظلام ثقيل أو بسراب يتراءى في القيعان فيهرع إليه الظمآن يحسبه ماء ، فإذا جاءه لم يرو منه الغليل ، أو بالأماني الحلوة ينعم بذكرها اللسان ويستحضر صورتها الجنان ، ثم لا يرى لها في الواقع تأويل ، والدنيا هي متاع الغرور كما سماها الله عزوجل ، وهي رأس مال العجزة المفاليس الذين أقفرت نفوسهم من كل معنى سبيل ، وهي أشبه بالطعام يحلو لآكله عند مضغه ويجد له حلاوة على لسانه ، ثم يكون نهايته عند غائط أو بول.

هذا هو المثل الذي ضربه لها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهل هناك بعد القرآن أوضح وأبين من أمثال الرسول؟

* * *

وإذا أردت ترى حقيقتها فخذ

منه مثالا واحدا ذا شان

أدخل بجهدك إصبعا في أليم وان

ظر ما تعلقه إذا بعيان

هذا هو الدنيا كذا قال الرسو

ل ممثلا والحق ذو تبيان

وكذاك مثلها بظل الدوح في

وقت الحرور لقائل الركبان

٤٤٩

هذا ولو عدلت جناح بعوضة

عند الإله الحق في الميزان

لم يسق منها كافرا من شربة

ماء وكان الحق بالحرمان

تالله ما عقل امرئ قد باع ما

يبقى بما هو مضمحل فان

هذا ويفتي ثم يقضي حاكما

بالحجر من سفه لذا الانسان

اذ باع شيئا قدره فوق الذي

يعتاضه من هذه الأثمان

فمن السفيه حقيقة ان كنت ذا

عقل واكن العقل للسكران

والله لو أن القلوب شهدن من

ا كان شأن غير هذا الشأن

نفس من الأنفاس هذا العيش إن

قسناه بالعيش الطويل الثاني

يا خسة الشركاء مع عدم الوفاء

ء وطول جفوتها من الهجران

هل فيك معتبر فيسلو عاشق

بمصارع العشاق كل زمان

لكن على تلك العيون غشاوة

وعلى القلوب أكنة النسيان

الشرح : وإذا أردت أن تعرف حقيقة الدنيا وخسة قدرها وقلة متاعها فخذ لها مثالا واحدا ضربه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» فما ذا يعلق بإصبعه من ماء البحر إن هو أدخله فيه ، إن ذلك لا يعدو أن يكون قطرة لا تقاس بذلك الخضم الكبير وكذلك شبهها صلى‌الله‌عليه‌وسلم بظل شجرة قال تحتها الراكب ثم انصرف عنها قال عليه الصلاة والسلام : «ما لي وللدنيا إنما أنا فيها كراكب قال تحت شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها» وقال صلوات الله وسلامه عليه فيما صح عنه : «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء» فجعلها أهون شأنا عند الله من أحقر المحقرات وهو جناح البعوض.

فبالله أي عقل يمكن أن يدعى لرجل باع ما يبقى أبد الآباد فما له من نفاد بعرض قصير الأمد سريع الزوال ، ثم هو مع ذلك يفتي ويقضي على فلان بالحجر والمنع من التصرف في ماله لأنه سفيه وسفاهته أنه باع شيئا من ماله بأقل مما يستحقه من ثمن ، فمن الأحق باسم السفيه إذا؟ أأنت يا من بعث أشرف اللذات وأدومها بلعاعات من الدنيا وتفاهات من العيش ، أم ذاك الذي حكمت بسفهه

٤٥٠

والحجر عليه لأنه غبن في دراهم معدودات وو الله لو أن بصائر القلوب مفتوحة تشهد هذه الحقائق وتتدبرها لكان شأننا غير هذا الشأن ، فإن من الحمق والسفه قياس فان بباق ، ولو جاز لنا أن نقيس لقلنا أن هذا العيش في عيش الآخرة كنفس واحد من الأنفاس ، فهو متاع خسيس لا وفاء لأهله ولا حفاظ على مودة ولا رعاية لعشير أو شريك ، فيا موله القلب في حب الدنيا أما لك معتبر فيمن مضى قبلك من عشاقها وقد شهدت مصارعهم وسمعت عنها ، ولكن على تبصير منك غشاوة وعلى قلبك غطاء من النسيان.

* * *

وأخو البصائر حاضر متيقظ

متفرد عن زمرة العميان

يسمو إلى ذاك الرفيق الأرفع الأ

على وخلى اللعب للصبيان

والناس كلهم فصبيان وإن

بلغوا سوى الأفراد والوحدان

واذا رأى ما يشتهيه قال مو

عدك الجنان وجد في الأثمان

واذا أبت الا الجماح أعاضها

بالعلم بعد حقائق الإيمان

ويرى من الخسران بيع الدائم ال

باقي به يا ذلة الخسران

ويرى مصارع أهلها من حوله

وقلوبهم كمراجل النيران

حسراتها هن الوقود فإن خبت

زادت سعيرا بالوقود الثاني

جاءوا فرادى مثل ما خلقوا بلا

مال ولا أهل ولا اخوان

ما معهم شيء سوى الأعمال فه

ي متاجر للنار أو لجنان

تسعى بهم أعمالهم سوقا إلى الد

ارين سوق الخيل بالركبان

صبروا قليلا فاستراحوا دائما

يا عزة التوفيق للإنسان

حمدوا التقى عند الممات كذا السرى

عند الصباح فحبذا الحمدان

وحدت بهم عزماتهم نحو العلى

وسروا فما نزلوا إلى نعمان

باعوا الذي يفنى من الخزف الخسي

س بدائم من خالص العقيان

رفعت لهم في السير اعلام السعا

دة والهدى يا ذلة الحيران

فتسابق الأقوام وابتدروا لها

فتسابق الفرسان يوم رهان

٤٥١

وأخو الهوينا في الديار مخلف

مع شكله يا خيبة الكسلان

الشرح : وأما أخو البصيرة فهو دائما حاضر القلب يقظان لا يجري مع أهل اللهو في لهوهم ، ولا يسير مع جماعة السكارى والعميان ، ولا ينحط إلى طلب هذا المتاع الأرضي الحقير الفاني ، بل يسمو دائما بهمته وروحه إلى الرفيق الأرفع في أعلى الجنان ، وقد ترك اللعب في هذه الدنيا وخلاه للصبيان ، والناس كلهم صبيان العقول وإن كبرت أجسامهم إلا أفرادا قليلين في كل زمان.

وإذا رأى العاقل البصير ما تشتهيه نفسه لم ينقد لها ولم يسرع إلى تلبية ندائها ولكنه يقول لها موعدك الجنان ، ثم يجد في تحصيل ما تتطلبه الجنة ، تلك السلعة الغالية من مهر وأثمان.

وإذا أبت نفسه إلا العناد والجماح ولم تستنم لهذه العدة الكريمة أعاضها عن ذلك بلذة العلم والعرفان ، ويرى بحق أن بيع الدائم الباقي بذلك العرض الفاني من أفحش الغبن وأقبح الخسران.

ويشاهد مصارع أهل الدنيا من حوله وما تغلي به صدورهم من سعير الشهوات ولاذع الحسرات وجمر الأحقاد والعداوات ، فكلما خبت وضعف لهبها جاءها الوقود فازدادت به اشتعالا واتقادا ، ثم أن هؤلاء الأكياس الفطناء تخففوا من هذه الدنيا ، فجاءوا إلى الله فرادى كما خلقهم أول مرة ، لا مال ولا أهل ولا اخوان بل ليس معهم سوى أعمالهم التي هي متاجر وأثمان للجنان أو للنيران. فأعمالهم هي التي تسعى بهم وتسوقهم أما إلى هذه الدار أو تلك ، كما تساق الخيل قد امتطاها الفرسان ، فهم صبروا قليلا على لأواء هذه الدنيا وشدتها فاستراحوا الراحة الكبرى بتوفيق العزيز المنان ، حمدوا عند الممات استمساكهم بعرى التقوى ، كما يحمد القوم عند الصباح السري ، فيا لهما حمدان.

ونهضت بهم عزائمهم نحو العلى فسروا إليها مدلجين ولم ينزلوا بشيء من منازل الطريق مستريحين ، ولكنهم واصلوا السير إلى غايتهم معرضين عن هذا الخزف الخسيس مؤثرين عليه الذهب النفيس. وقد رفعت لهم في سيرهم رايات

٤٥٢

السعادة والهداية فتبينوا معالم الطريق ، فساروا قاصدين غير متعثرين ولا معوجين ولا وانين ولا متخلفين حتى وصلوا إلى غايتهم سالمين.

وأما البطيء الكسلان الذي قعدت به همته فلم يستطع اللحاق بركب الصاعدين بل بقي مخلفا في الديار مع المخلفين ، إن هذا لهو الخسران المبين.

* * *

فصل

في رغبة قائلها إلى من يقف عليها من أهل العلم والإيمان أن

يتجرد لله

ويحكم عليها بما يوجبه الدليل والبرهان ، فإن رأى حقا قبله

وحمد

الله عليه وإن رأى باطلا عرف به وأردت إليه

يا أيها القارئ لها اجلس مجلس ال

حكم الأمين أتى له الخصمان

واحكم هداك الله حكما يشهد ال

عقل الصريح به مع القرآن

واحبس لسانك برهة عن كفره

حتى تعارضها بلا عدوان

فإذا فعلت فعنده أمثالها

فنزال آخر دعوة الفرسان

فالكفر ليس سوى العناد ورد ما

جاء الرسول به لقول فلان

فانظر لعلك هكذا دون الذي

قد قالها فتفوز بالخسران

فالحق شمس والعيون نواظر

لا تختفي إلا على العميان

والقلب يعمى عن هداه مثل ما

تعمى وأعظم هذه العينان

الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من نظم هذه القصيدة الجامعة التي عالج فيها القضايا الإيمانية ونصر مذهب السلف بما لا يحصى من البراهين العقلية والنقلية ودحض مذاهب المعطلة النفاة ورد عليهم بأدلة حاسمة قوية ، توجه إلى من قرأها

٤٥٣

وتأمل أبياتها أن ينصب من نفسه حكما أمينا منزها من الهوى والتعصب ، وأن يحكم لها أو عليها حكما قائما على العقل الصريح الخالي من شوائب الوهم وعلى النصوص القرآنية الواضحة.

ثم طلب إليه أن لا يتسرع في رمي قائلها بالكفر حتى يقوم بمعارضتها معارضة نزيهة لا يقصد بها إلا وجه الحق في غير ظلم ولا عدوان ، فإن هو فعل ذلك ولا أخاله يفعل ، فسيجد عنده من أمثالها ما يهدم معارضته ويفل غربها ، لأنه مستعد لقراع الأبطال ومنازلتهم في مضمار الحجاج والجدال ، على أنه لا يستحق أحد اسم الكفر إلا إذا عاند الحق ورد ما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أجل آراء الناس وأقوالهم. فانظر إذا أيها المتسرع بالتكفير لعلك أن تكون أنت المتصف بما يوجب الكفر دون قائلها فترجع بالخيبة والخذلان ، فالحق في ظهوره ووضوحه كالشمس في رأد الضحى صحوا ليس دونها قتر ولا سحاب ، والعيون السليمة تراها وتنظر إليها فلا تخفى إلا على العميان ، فكذلك بصيرة القلب في إدراكها للحق إذا كانت سليمة غير مدخولة ، ولكنها أحيانا تعمى وتنطمس مثل ما تعمى العينان ، بل أشد وأعظم ، كما قال تعالى : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] فقوله : (أعظم) عطف على (مثل) وقوله : (هذه العينان) فاعل تعمى.

* * *

هذا واني بعد ممتحن بأر

بعة وكلهم ذوو أضغان

فظ غليظ جاهل متعلم

ضخم العمامة واسع الأردان

متفيهق متضلع بالجهل ذو

صلع وذو جلح من العرفان

مزجى البضاعة في العلوم وأنه

زاج من الايهام والهذيان

يشكو إلى الله الحقوق تظلّما

من جهله كشكاية الأبدان

من جاهل متطبب يفتي الورى

ويحيل ذاك على قضا الرحمن

٤٥٤

عجت فروج الخلق ثم دماؤهم

وحقوقهم منه إلى الديان

ما عنده علم سوى التكفير والت

بديع والتضليل والبهتان

فإذا تيقن أنه المغلوب عن

د تقابل الفرسان في الميدان

قال اشتكوه إلى القضاة فانهم

حكموا وألا أشكوه للسلطان

قولوا له هذا يحل الملك بل

هذا يزيل الملك مثل فلان

فاعقره من قبل اشتداد الأمر من

ه بقوة الاتباع والأعوان

وإذا دعاكم للرسول وحكمه

فادعوه كلكم لرأي فلان

وإذا اجتمعتم في المجالس فالغوا

والغوا اذا ما احتج بالقرآن

واستنصروا بمحاضر وشهادة

قد أصلحت بالرفق والاتقان

لا تسألوا الشهداء كيف تحملوا

وبأي وقت بل بأي مكان

وارفوا شهادتهم ومشوا حالها

بل أصلحوها غاية الإمكان

وإذا هم شهدوا فزكوهم ولا

تصغوا لقول الجارح الطعان

قولوا العدالة منهم قطعية

لسنا نعارضها بقول فلان

ثبتت على الحكام بل حكموا بها

فالطعن فيها ليس ذا إمكان

من جاء يقدح فيهم فليتخذ

ظهرا كمثل حجارة الصوان

واذا هو استعداهم فجوابكم

أتردها بعداوة الديان

الشرح : يذكر المؤلف في هذه الأبيات والتي بعدها كيف امتحن بتألّب الخصوم والأعداء عليه وعلى شيخه العظيم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما‌الله ، وكيف كانوا يدبرون لهما المكايد ويستعدون عليهما الشعوب والحكام فلله كم لقي هذان الامامان الجليلان من عداوات واحن صنعها الجهل والتعصب الأعمى من الفقهاء الجامدين وزنادقة المتكلمين والصوفية المارقين ، ومن كان يسمع لهم من الأمراء والسلاطين وكثير غير هؤلاء من العامة والدهماء الذين كانوا يدينون دين الخرافة من عبادة القبور والعكوف عليها وتأليه شيوخ الصوفية والخضوع لهم. فصبرا على ما امتحنا وثبتا في وجه الباطل وتحملا الاضطهاد والحبس حتى أقاما حجة الله في أرضه ، وتركا من بعدهما ثروة علمية ، هي لباب العلم وخلاصة

٤٥٥

المعرفة وهي الإسلام نقيا من كل شائبة ، فجزاهما الله عن كل من انتفع بعلمهما خير ما يجزي به العلماء العاملين.

يذكر المؤلف أنه امتحن بأربعة أصناف من الناس وكلهم ذوو ضغن وأحقاد عليه ، أما الأول فهو من ذلك النوع الذي يستر جهله بالكبر والنفخة ويتوارى وراء الثياب الواسعة الفضفاضة والكلمات الفخمة الطنانة ، فهو كما يقول فظ غليظ الطبع ، جاهل يتظاهر بالعلم ، حسن المظهر والرواء ، فهو ضخم العمامة واسع الأكمام متفيهق يتشدق بالكلام ، وهو راسخ في الجهل ، ومع ذلك من يراه يظنه من أهل المعرفة لصلع رأسه ، وهو قليل البضاعة في العلم ، ولكنه ذو ثروة هائلة من الأوهام والخرافات. وهو إذا كان قاضيا لا يعرف وجوه القضاء ، فكم ضيع من حقوق ، حتى أن الحقوق لتشكو إلى الله متظلمة من جهله ، كما تشكو الأبدان من طبيب جاهل لا يعرف كيف يشخص الداء ليصف له الدواء المناسب فهو يقتل الناس بجهله ويحمل ذلك على القضاء والقدر. وكم ضجت منه فروج الناس ودماؤهم وحقوقهم التي ضيعها إلى الله الملك الديان.

وقصارى علمه رمي خصومه بأشنع التهم من التكفير والتبديع والتضليل وبهتهم بالإثم والعدوان ، فإذا دعى إلى المناظرة وأيقن أنه منهزم مغلوب لجأ إلى حيلة العاجز الضعيف ، وهي الجأر بالشكوى مرة إلى القضاء ومرة إلى السلطان وهو يستعدي عليه السلطان بأن كلامه هذا يثير فتنة تحل عقد الملك ، بل تزيله وأن الواجب هو عقره والقضاء عليه قبل أن يجتمع عليه الناس ويكثر أتباعه وأعوانه. وهو يوصي من معه ويرسم لهم الخطط ، فيقول إذا دعاكم إلى الكتاب والسنة ، فادعوه إلى ما قال الغزالي والرازي وغيرهما ، وإذا اجتمعتم معه في مجلس فشوشوا عليه حتى لا يسمع كلامه ، وإذا ما ساق حجج القرآن فالغوا فيها وردوها عليه بأنها ظواهر لفظية لا تفيد اليقين ، ثم استنصروا عليه بما حرر ضده من محاضر وبشهادات الزور التي أديت ضده بإحكام وإتقان ، ولا تسألوا هؤلاء الشهود كيف تحملوها ولا عن وقت تحملها ومكانه ، بل أصلحوا ما فيها من خلل وسووها تسوية حتى تقبل ، وإذا هم شهدوا عليه بالزور فزكوا شهادتهم ولا

٤٥٦

تلتفتوا إلى قول من يجرحهم أو يطعن فيهم ، وقولوا له أن عدالتهم قطعية قد حكم بها الحكام وقبلها القضاة ، فالطعن فيها مستحيل ، ومن أراد أن يقدح في عدالتهم فليستند على ظهر متين.

* * *

فصل

في حال العدو الثاني

أو حاسد قد بات يغلي صدره

بعداوتي كالمرجل الملآن

لو قلت هذا البحر قال مكذبا

هذا السراب يكون بالقيعان

أو قلت هذي الشمس قال مباهتا

الشمس لم تطلع إلى ذا الآن

أو قلت قال الله قال رسوله

غضب الخبيث وجاء بالكتمان

أو حرف القرآن عن موضوعه

تحريف كذاب على القرآن

صال النصوص عليه فهو بدفعها

متوكل بالدأب والديدان

فكلامه في النص عند خلافه

من باب دفع الصائل الطعان

فالقصد دفع النص عن مدلوله

كيلا يصول اذا التقى الزحفان

الشرح : وأما الصنف الثاني من الخصوم فهو حاسد شانئ قد رأى تفوق المؤلف في العلم وبزه للأقران ، فامتلأ قلبه منه بالحسد والشنآن وباتت مراجل غيظه تغلي منه كغلي المرجل الملآن ، فجعل همه ووكده دفع كلامه وردّه ولو كان في غاية الوضوح والبيان وكان صدقه باديا للعيان ، فلو قال هذا هو البحر ، لقال هذا العدو الكاشح إنه ليس بحرا ، بل هو سراب بقيعة ، ولو قال هذه الشمس طالعة تملأ الأفق ، لقال هذا الخبيث مباهتا إننا لا نزال بليل وأن الشمس لم تطلع بعد ، ولو أورد المؤلف النصوص من الكتاب والسنة محتجا بها ، عمد هذا الشرير إلى كتمانها أو حرّف الكلم عن مواضعه تحريف مكذب بها ، فهو يخشى صولة النصوص على آرائه المتهافتة فيبادر إلى ردها.

ويجعل ذلك هجيراه وديدنه ، فكلامه في النص بالتحريف والتأويل عند

٤٥٧

مخالفته لرأيه الهزيل من قبيل الدفع للصائل الطعان ، فقصده كله هو دفع النص ورده عن مدلوله كي لا يصول عليه اذا التقت الفئتان وتناجز الخصمان.

* * *

فصل

في حال العدو الثالث

والثالث الأعمى المقلد ذينك الر

جلين قائد زمرة العميان

فاللعن والتكفير والتبديع والت

ضليل والتفسيق بالعدوان

فاذا هم سألوه مستندا له

قال اسمعوا ما قاله الرجلان

الشرح : وأما الصنف الثالث فأعمى القلب والبصيرة لا علم عنده ولا معرفة بل رضي أن يعيش ذيلا لذينك الرجلين السابقين ويقلدهم فيما يقولونه ، وهو يقود جماعة من الجهلة المتعصبين مثله ، وهذا الصنف لجهله وقلة بضاعته من العلم لا شغل له إلا أن يردد اتهامات السابقين باللعن والتكفير والتبديع والتضليل والرمي بالفسوق ظلما وعدوانا في غير تحرج ولا حياء.

فإذا سئل دليلا على ما يقول لم يجد حيلة إلا أن يحيل سائله على ما قاله الرجلان السابقان فيه.

* * *

فصل

في حال العدو الرابع

هذا ورابعهم وليس بكلبهم

حاشا الكلاب الآكلي الأنتان

خنزير طبع في خليقة ناطق

متسوف بالكذب والبهتان

كالكلب يتبعهم يشمشم أعظما

يرمونها والقوم للحمان

يتفكهون بها رخيصا سعرها

ميتا بلا عوض ولا أثمان

هو فضلة في الناس لا علم ولا

دين ولا تمكين ذي سلطان

فإذا رأى شرا تحرك يبتغي

ذكرا كمثل تحرك الثعبان

٤٥٨

ليزول منه أذى الكساد فينفق ال

كلب العقور على ذكور الضان

فبقاؤه في الناس أعظم محنة

من عسكر يعزى إلى غازان

هذي بضاعة ضارب في الأرض يب

غي تاجرا يبتاع بالأثمان

وجد التجار جميعهم قد سافروا

عن هذه البلدان والأوطان

الا الصعافقة الذين تكلفوا

أن يتجروا فينا بلا أثمان

فهم الزبون لها فبالله ارحموا

من بيعة من مفلس مديان

يا رب فارزقها بحقك تاجرا

قد طاف بالآفاق والبلدان

ما كل منقوش لديه أصفر

ذهبا يراه خالص العقيان

وكذا الزجاج ودرة الغواص في

تمييزه ما إن هما مثلان

الشرح : وأما الصنف الرابع فهو رذل خسيس الطبع كالخنزير الذي يتقمم المزابل وإن كان في صورة انسان ناطق ، يتسول القوم ويجري وراءهم كالكلب عسى أن يصيب منهم عظما يفرح به وينهش فيه ، تاركا لهم قطعان اللحم وافرة من عرض المؤلف ، فهم يتمتعون بها رخيصة السعر ، كالميت الذي لا عرض له ولا ثمن. وهذا الصنف من سقط الناس وحشوهم ليس له حيثية ولا قدر ، فلا علم ولا دين ولا سلطة ، ولكنه يبغي الظهور والشهرة ، فإذا هاج الشر وثارت الفتنة تحرك نحوها كما تتحرك الحية ، لينفق سوقه ويزول عنه معرة الكساد ، كما ينفق الكلب العقور هجم على ذكور الضأن. فهذا الصنف وجوده في الناس أعظم بلية وأقسى محنة ، بل هو شر من وجود عسكر التتار ، فهو يضرب في الأرض يبتغي مشتريا لشره وفساده ، فلما وجد التجار جميعا قد رحلوا عن هذه الأوطان ولم يبق فيها إلا هؤلاء المفاليك الذين يتجرون في أعراض أفاضل الناس بلا عوض ولا أثمان ، قدم نفسه زبونا لهم يشتري منهم ويروج لتجارتهم. فيا من يرحم هذه الأعراض واللحمان من أن تباع بيع السماح لعاجز مفلس قد ركبته الديون.

فيا رب ارزقها بتاجر بصير قد جوب الآفاق وطاف بالأمصار حتى اكتسب

٤٥٩

خبرة ومهارة ، فهو يستطيع أن يميز الجيد من الزيف ، فليس كل منقوش أصفر يعده ذهبا ، ولا يسوي بين الزجاج ودرة الغواص.

* * *

فصل

في توجه أهل السنة إلى رب العالمين أن ينصر

دينه وكتابه ورسوله وعباده المؤمنين

هذا ونصر الدين فرض لازم

لا للكفاية بل على الأعيان

بيد وأما باللسان فان عجز

ت فبالتوجه والدعاء بجنان

ما بعد ذا والله للإيمان حب

ه خردل يا ناصر الإيمان

بحياة وجهك خير مسئول به

وبنور وجهك يا عظيم الشأن

وبحق نعمتك التي أوليتها

من غير ما عوض ولا أثمان

وبحق رحمتك التي وسعت جميع ال

خلق محسنهم كذاك الجاني

وبحق أسماء لك الحسنى معا

نيها نعوت المدح للرحمن

وبحق حمدك وهو حمد واسع ال

أكوان بل أضعاف ذي الأكوان

وبأنك الله الإله الحق مع

بود الورى متقدس عن ثان

بل كل معبود سواك فباطل

من دون عرشك للثرى التحتاني

وبك المعاذ ولا ملاذ سواك أن

ت غياث كل ملدد لهفان

من ذاك للمضطر يسمعه سوا

ك يجيب دعوته مع العصيان

إنّا توجهنا إليك لحاجة

ترضيك طالبها أحق معان

فاجعل قضاها بعض انعمك التي

سبغت علينا منك كل زمان

الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من ذكر صنوف أعداء التوحيد والسنة وطريق سلف الأمة من أهل الزيغ والضلال والإلحاد والبدعة توجه إلى إخوانه من أهل السنة المحمدية وأنصار الطريقة السلفية التي هي الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام

٤٦٠