شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الشرح : هذا هو جواب الشرط يعني إذا أردت أن تعرف ما نزل بأهل التعطيل من بلاء وتنكيل ، وأسر وتقتيل ، فاقرأ تصانيف ذلك الامام الجليل التي ما لها فيما ألف الناس مثيل ، والتي هي لكل حائر دليل ، فاقرأ له كتاب الموافقة بين المعقول والمنقول ، الذي ينفي فيه كل تعارض بين العقل الصريح الخالي من شوائب الهوى والتقليد ، والمتحرر من سلطان الوهم والتخييل ، واقرأ له كتابه الكبير المسمى (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) الذي كتبه في الرد على ابن المطهر الرافضي ، والذي ضمنه من فنون الحجاج وألوان الجدل في الرد على فرق الضلال والزيغ ما يعد أعجوبة من الأعاجيب ، واقرأ له كتابه في (نقض تأسيس التقديس) الذي ألفه الفخر الرازي في التأويل والتعطيل ، فأتى هذا النقض عليه من قواعده ، واقرأ له كتاب (الأجوبة المصرية) وهو عبارة عن جملة كبيرة من فتاويه الفروعية جمعها بعض أصحابه وبوبها على أبواب الفقه في ستة مجلدات وعرفت (بالفتاوى المصرية) وسماها بعضهم (الدرر المضيئة من فتاوى ابن تيمية) واقرأ له كتاب (الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح) في مجلدين أتى فيه بما يكفي ويشفي في موضوعه ، واقرأ له كتاب (الاصبهانية) شرح عقيدة الاصبهاني الذي أثبت فيه النبوات بأتم تقرير وأحسن بيان ، واقرأ له تلك القواعد العظيمة في الاستقامة وهي سفران كبيران ، وقد حكى المؤلف أنه قرأها على شيخه رحمهما‌الله تعالى ، فزاده على ما فيها علما ، وإيمانا ، ثم قال ، ولو أني قدرت أنه يموت قبلي وإني أبقى بعده لاهتبلت فرصة وجوده وقرأت عليه ما استطعت من كتبه.

* * *

وكذاك توحيد الفلاسفة الألى

توحيدهم هو غاية الكفران

سفر لطيف فيه نقض أصولهم

بحقيقة المعقول والبرهان

وكذاك تسعينية فيها له

رد على من قال بالنفساني

تسعون وجها بينت بطلانه

أعني كلام النفس ذا الوحدان

وكذا قواعده الكبار وأنها

أوفى من المائتين في الحسبان

لم يتسع نظمي لها فأسوقها

فأشرت بعض إشارة لبيان

١٦١

وكذا رسائله إلى البلدان والأ

طراف والأصحاب والأخوان

هي في الورى مبثوثة معلومة

تبتاع بالغالي من الأثمان

وكذا فتاواه فأخبرني الذي

أضحى عليها دائم الطوفان

بلغ الذي ألفاه منها عدة الأ

يام من شهر بلا نقصان

سفر يقابل كل يوم والذي

قد فاتني منها بلا حسبان

هذا وليس يقصر التفسير عن

عشر كبار ليس ذا نقصان

وكذا المفاريد التي في كل مس

ألة فسفر واضح التبيان

ما بين عشر أو تزيد بضعفها

هي كالنجوم لسالك حيران

الشرح : واقرأ له كتابه في الرد على الفلاسفة وإبطال قولهم ، بأن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، وله كتب أخرى في إبطال قولهم بالجواهر العقلية وقدم العالم وغير ذلك من أصولهم الفاسدة ، وأقرأ له (التسعينية) التي ألفها وهو بمصر في إبطال القول بالكلام النفسي من تسعين وجها واقرأ له قواعده الكبار التي تزيد على المائتين في العد والحساب ، ولو لا عجز النظم عن استيفائها لسقتها أليك ولكني أكتفي بالإشارة إليها.

وأقرأ له رسائله التي كان يكتبها إلى الأطراف والبلدان والأصحاب والأخوان مثل رسالته (المدنية) التي كتبها إلى الشيخ شمس الدين الدباهي. ورسالته (المصرية) التي كتبها إلى الشيخ نصر المنجى ورسالته (العدوية) ورسالته (القبرصية) التي كتبها إلى ملك قبرص يحثه فيها على رعاية مصالح المسلمين ، وقد ضمنها علوما نافعة ورسالته (الحموية) التي كتبها إلى أهل حماة في مسائل الصفات. ورسالته (التدمرية والواسطية) ، وغير ذلك من رسائله إلى اخوانه وأصحابه ، وهي رسائل مشهورة معلومة ، يغالي الناس في أثمانها لما تحويه من الفوائد العظيمة والعلوم الجمة.

واقرأ له كذلك فتاواه الكبرى ، وقد أخبرني من كان معنيا بجمعها والبحث عنها أن ما وجده منها تساوي عدته عدة أيام شهر كامل بلا نقصان ، يعني

١٦٢

ثلاثين سفرا ، وأما ما فاته منها فشيء لا يحصره الحساب ، وأما تفسيره فليس يقل عن عشر مجلدات كبار.

وأعلم أن ناحية التفسير كانت من أبرز ما برع فيه شيخ الإسلام ، إلا أن معظمه قد ضاع لأنه لم يكن يكتبه ، بل كان يلقيه على أصحابه ، فكان من يدونه منهم يضن أن يظهره أو يخاف بسبب الفتنة. وقد سأله بعض أصحابه وهو أبو عبد الله بن رشيق أن يكتب على جميع القرآن ، لما حبس آخر مرة ، فكتب إليه الشيخ يقول : «إن القرآن فيه ما هو بين بنفسه وفيه ما قد بينه المفسرون في غير كتاب ، ولكن بعض الآيات أشكل تفسيرها على جماعة من العلماء ، فربما يطالع الإنسان عليها عدة كتب ولا يتبين له تفسيرها ، وربما كتب المصنف الواحد في آية تفسيرا ويفسر غيرها بنظيره ، فقصدت تفسير تلك الآيات بالدليل ، لأنه أهم من غيره ، وإذا تبين معنى آية تبين معنى نظائرها».

وأما مفرداته التي انفرد بها عن المذاهب الأربعة ، فهي ما بين عشرة إلى عشرين ، وفي كل مسألة منها سفر واضح ، وهي كالنجوم التي يهتدى بها في الظلمات فكم هدت من ضال ورشدت من حيران.

وأعلم أن ما ذكره المؤلف هنا من كتب شيخه ومؤلفاته إنما هو إشارة إلى بعض أمهاتها ، فمن أراد الوقوف على ما خلف الشيخ من ثروة طائلة في ميدان البحث والتأليف فليرجع إلى كتب التراجم مثل (العقود الدرية) لابن عبد الهادي.

* * *

وله المقامات الشهيرة في الورى

قد قامها لله غير جبان

نصر الإله ودينه وكتابه

ورسوله بالسيف والبرهان

أبدى فضائحهم وبين جهلهم

وأرى تناقضهم بكل زمان

وأصارهم والله تحت نعال أه

ل الحق بعد ملابس التيجان

وأصارهم تحت الحضيض وطالما

كانوا هم الأعلام للبلدان

١٦٣

ومن العجائب أنه بسلاحهم

أرداهم تحت الحضيض الداني

كانت نواصينا بأيديهم فما

منا لهم إلا أسير عان

فغدت نواصيهم بأيدينا فما

يلقوننا الا بحبل أمان

وغدت ملوكهم مماليكا لأنص

ار الرسول بمنة الرحمن

وأتت جنودهم التي صالوا بها

منقادة لعساكر الايمان

يدري بهذا من له خبر بما

قد قاله في ربه الفئتان

والفدم يوحشنا ولكن هناكم

فحضوره ومغيبه سيان

* * *

الشرح : بعد أن عدد المؤلف كتب الشيخ التي خلفها من بعده منارا للسالكين وهدى للمستعصرين ، وحجة دامغة فوق رءوس المبطلين ، أراد أن يشيد بما كان له من مواقف في نصرة الحق والذب عن دين الله وكتابه ورسوله ، وما اتصف به في ذلك من مضاء العزيمة وعظيم الجرأة وصدق الإيمان ، حتى أظهر فضائح خصومه وكشف عن جهلهم وأبان عن تناقضهم وتلبيسهم ، وما زال بهم يأخذهم بصولة الحق حتى كساهم ثياب الذلة ، وجردهم مما كانوا ينعمون به من الجاه والشهرة والنفوذ والسلطان ، وصيرهم في أسفل مكان بعد أن كانوا أعلام الأقطار والبلدان ومن العجيب أنه لم يحاربهم إلا بنفس سلاحهم ، وهو سلاح العقل والمنطق الذي كانوا يتطاولون به على أهل السنة ، ويرمونهم من أجل جهلهم به بأقبح الألقاب كقولهم حشوية ونوابت ونحو ذلك ، فكان أهل السنة من أجل ذلك في ذلة وانكسار ، وكانوا يتوارون بمذهبهم عن الأنظار ، حتى جاء شيخ الإسلام فأقام مذهب الحق على دعائم متينة من العقل ، وحمل على المذاهب الباطلة بنفس السلاح حتى كسرهم لأهل الحق كسرة غدت بها نواصيهم مأخوذة بأيديهم بعد أن كانوا هم الآخذين بنواصيهم ، وغدا ملوكهم عبيدا لأهل الحق وأنصار الرسول بفضل الله عزوجل ومنته ، وغدت جنودهم التي كانوا يصولون بها أذلاء منقادين لعساكر المؤمنين والموحدين ولا يدرك الحق ونصرته إلا من كان له خبرة بما قاله الفريقان من المثبتين والمعطلين في الله رب العالمين.

١٦٤

فصل

في بيان أن المصيبة التي حلت بأهل التعطيل والكفران

من جهة الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان

يا قوم أصل بلائكم أسماء لم

ينزل بها الرحمن من سلطان

هي عكستكم غاية التعكيس واقت

لعت دياركم من الأركان

فتهدمت تلك القصور وأوحشت

منكم ربوع العلم والإيمان

والذنب ذنبكم قبلتم لفظها

من غير تفصيل ولا فرقان

وهي التي اشتملت على أمرين من

حق وأمر واضح البطلان

سميتم عرش المهيمن حيّزا

والاستواء تحيزا بمكان

وجعلتم فوق السموات العلى

جهة وسقتم نفي ذا بوزان

وجعلتم الإثبات تشبيها وتج

سيما وهذا غاية البهتان

وجعلتم الموصوف جسما قابل الا

عراض والأكوان والألوان

وجعلتم أوصافه عرضا وه

ذا كله جسر إلى النكران

* * *

الشرح : يخاطب المؤلف بهذه الأبيات جماعة النفي والتعطيل فيقول لهم : إن سر دائكم وأصل بلائكم هو استعمالكم لأسماء لم تقم عليها حجة ولا أصل لها في كتاب ولا سنة ، فهذا هو الذي قلب عليكم أمركم ، وأفسد علمكم وإيمانكم ، فاقتلع بيته من جذوره حتى تهدمت أركانه وسقط بنيانه ، فأقفرت منكم هاتيك الربوع ، وكنتم أنتم الذين جنيتم على أنفسكم حيث عمدتم إلى الفاظ موهمة كل منها يحتمل معنى حقا وآخر باطلا فقبلتموها على إجمالها من غير تفصيل يتبين منه ما يصح من معانيها وما لا يصح ، فيثبت المعنى الصحيح وينفى غيره فقد سميتم عرش الرحمن حيزا ولم تفرقوا بين ما كان من الأحياز وجوديا داخل هذا

١٦٥

العالم وما كان منها عدميا خارجه ، ولو أنكم فصلتم هذا التفصيل لهداكم إلى أن ما فوق العرش إنما هو حيز عدمي لأنه خلاء صرف ، إذ ليس وراء العرش جسم آخر وأن وجود الله سبحانه في حيز بهذا المعنى ليس مستحيلا ، وإنما المستحيل أن يكون في حيز من هذه الأحياز الوجودية داخل هذا العالم لما يلزم عليه من كونه محصورا في خلقه وكون الحوادث ظرفا له محيطة به.

وكذلك سميتم الاستواء على العرش تحيزا في المكان ، ولم تفرقوا كذلك بين الأمكنة الوجودية داخل هذا العالم ، فهذه هي التي لا يجوز حلول الله في شيء منها ، وأما الاستواء على العرش فهو تحيز في مكان عدمي ليس فيه شيء من الموجودات غيره سبحانه ، فلا يكون مستحيلا ولا ممتنعا ، لأنه لا يقتضي إحاطة الحوادث به ولا حلوله فيها ولا اتصاله بها وسميتم ما فوق السموات والعرش جهة ، ثم سقتم نفيكم للجهة عليه وجعلتموه مساويا لما يجب نفيه من الجهات حيث قلتم أن الله لا يجوز أن يكون في جهة من الجهات الست ومنها جهة الفوق. ولم تفرقوا كذلك بين ما كان من الجهات عدميا فوق هذا العالم حيث الخلاء الصرف والعدم المحض ، وبين ما كان منها وجوديا محصورا داخل أركان هذا العالم وموجوداته. وسميتم إثبات الصفات تشبيها وتجسيما ، وهذا محض الكذب والاختلاق ، فإنكم لم تفرقوا بين ما كان من الصفات من قبيل الأعراض التي تختص بالأجسام والمحدثات وبين ما كان منها من قبيل المعاني القائمة بموصوفها ، فإثبات الصفات لله بالمعنى الثاني لا يقتضي تشبيها ولا تجسيما إذ لا يلزم من إثبات الصفات لله أن تكون مثل صفات الأجسام المحدثة المخلوقة. ولو كان هذا لازما لكانت المماثلة لازمة لجميع الطوائف إذ لا يعقل وجود ذات مجردة من جميع الصفات.

وكذلك عرفتم الموصوف بأنه جسم قابل للأعراض والأكوان التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ، والألوان كالسواد والبياض والحمرة والصفرة ، مع أن الموصوف هو الذات التي تقوم بها الصفات ، وهذا أعم من أن يكون جسما أو غير جسم ، كما جعلتم الصفات كلها أعراضا قائمة بالأجسام ،

١٦٦

والصفة أعم من أن تكون عرضا أو غير عرض. ولكن غرضكم من وضع هذه الاصطلاحات أن تجعلوها جسرا تعبرون منه إلى ما تريدون من النفي والتعطيل ، فضللتم بهذا عن سواء السبيل.

* * *

وكذاك سميتم حلول حوادث

أفعاله تلقيب ذي عدوان

إذ تنفر الأسماع من ذا اللفظ نف

رتها من التشبيه والنقصان

فكسوتم أفعاله لفظ الحوا

دث ثم قلتم قول ذي بطلان

ليست تقوم به الحوادث والمرا

د النفي للأفعال للديان

فإذا انتفت أفعاله وصفاته

وكلامه وعلو ذي السلطان

فبأي شيء كان ربا عندكم

يا فرقة التحقيق والعرفان

والقصد نفي فعاله عنه بذا الت

لقيب فعل الشاعر الفتان

وكذاك حكمة ربنا سميتم

عللا وأغراضا وذان اسمان

لا يشعران بل ضدها

فيهون حينئذ على الأذهان

نفي الصفات وحكمة الخلاق والأ

فعال إنكارا لهذا الشأن

الشرح : وكذلك سميتم ما يقوم به سبحانه من الأفعال الاختيارية بأنه حلول الحوادث في ذاته تسمية معتدية جائرة لأنكم تعلمون أن الأسماع تنبو عن هذه الألفاظ وتنفر منها كما تنفر من ألفاظ التشبيه والنقصان ، فتعمدون إلى أفعاله التي يحدثها هو في ذاته بمشيئته وقدرته ، وتكسونها لفظ الحوادث ثم تحكمون حكما عاما بأن الحوادث يمتنع قيامها به ، وليس مرادكم من ذلك إلا نفي أفعاله دون أن تفرقوا بين أجناس الحوادث وأشخاصها ، ولا بين ما يحدثه هو في ذاته ، وبين ما يحدثه فيه غيره لأن قصدكم هو الإيهام والتلبيس.

ولكن إذا نفيتم أفعاله بحجة حلول الحوادث في ذاته ونفيتم صفاته بحجة أنها أعراض لا تقوم إلا بالأجسام ، ونفيتم كلامه بالحرف والصوت ، ونفيتم علوه على عرشه بحجة استلزام ذلك كله لأن يكون جسما. فبأي شيء عندكم تثبت له

١٦٧

الربوبية على خلقه ، وهل يعقل رب لا فعل له ولا نعت ولا كلام. يا أولي التحقيق والافهام ، ولكن لما كان قصدكم هو نفي أفعاله عنه لقبتموه بهذا اللقب الشنيع لتنفروا منه كل من يسمعه كما يفعل الشاعر الفتان بالشيء الذي يريد تنفير الناس منه فإنه يختار له أقبح الأوصاف ويخلعها عليه كما يقول في صفة الورد مثلا أنه صرم بغل فيه روث.

وكذلك سميتم حكمته التي يحبها ويرضاها ويفعل من أجلها علة وغرضا وهما لفظان لا يدلان على مدح المتصف بهما ، بل على مذمته ونقصه وذلك ليسهل عليكم بعد ذلك نفي حكمته ، لأنكم لو عمدتم إلى نفي الحكمة عنه قبل أن تلقبوها بهذه الألقاب الشنيعة لأنكر ذلك عليكم العقلاء فتوصلتم إلى نفيها بتسميتها بهذه الأسماء ، وهذا هو دأبكم في كل ما تريدون نفيه من كمالات ثابتة لله سبحانه تنعتونها أولا بنعوت السوء وألقاب الذم ثم تكرون عليها بالنفي والإبطال.

* * *

وكذا استواء الرب فوق العر

ش قلتم أنه التركيب ذو بطلان

وكذاك وجه الرب جل جلاله

وكذاك لفظ يد ولفظ يدان

سميتم ذا كله الأعضاء بل

سميتموه جوارح الإنسان

وسطوتم بالنفي حينئذ علي

ه كنفينا للعيب مع نقصان

قلتم ننزهه عن الأعراض والا

غراض والأبعاض والجثمان

وعن الحوادث أن تحل بذاته

سبحانه من طارق الحدثان

والقصد نفي صفاته وفعاله

والاستواء وحكمة الرحمن

والناس أكثرهم بسجن اللفظ مس

جونون خوف معرة السبحان

والكل لا الفرد يقبل مذهبا

في قالب ويرده في ثان

والقصد أن الذات والأوصاف وال

أفعال لا تنفى بذا الهذيان

سموه ما شئتم فليس الشأن في ال

أسماء بل في مقصد ومعان

١٦٨

الشرح : وكذلك سميتم استواءه تعالى على العرش الثابت له بالأدلة الصريحة من الكتاب والسنة تركيبا لتتوصلوا بذلك إلى نفيه حيث قلتم لو كان فوق العرش بذاته لكان جسما فيكون مركبا ، والتركيب محال ، وسميتم ما وصف الله به نفسه من الوجه واليد واليدين والعينين واليمين ، وما وصفه به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القدم والساق والاصبع ، ونحو ذلك أعضاء بل سميتموها جوارح ثم سطوتم عليها بعد ذلك بالنفي ، كما ينفى عنه العيب والنقص فسويتم بين ما أثبته لنفسه من الكمال ، وبين ما يجب تنزيهه عنه من النقص ، مع أنه لا يلزم أصلا من إثبات الوجه واليدين ونحوهما أن تكون في الله كما هي في الحيوان جوارح وأعضاء. وقلتم على سبيل التمويه والمغالطة ، إنما نفينا هذه الأشياء بقصد تنزيهه عن الأعراض والأغراض والأبعاض أي الأجزاء والجثمان أي الجسمية ، وبقصد تنزيهه أيضا عن أن تحل الحوادث بذاته مع أن قصدكم بذلك هو نفي صفاته وأفعاله واستوائه وحكمته ، تعالى الله عما تقولون علوا كبيرا.

ومن العجب أن الناس إلا أقلهم ممن عصم الله يحسبون أنفسهم في دائرة الألفاظ ويؤثر فيهم جرسها وطنينها ، فتذهلهم عما وراءها من معان ، فإذا سمعوا لفظا يوهم شيئا من النقص أو التشبيه فروا منه خشية الوقوع فيما ينافي السبحان ، أي التنزيه ، ومن العجب أن الناس أيضا كلهم إلا الفرد بعد الفرد تراه يقبل مذهبا إذا صيغ له في قالب معين من الألفاظ ، ثم يرفضه هو نفسه إذا صيغ في قالب آخر.

وجملة قولنا لهؤلاء النفاة أن ذات الله وصفاته وأفعاله لا يصح أن تنفى بهذا الهراء ، فإن العبرة ليست بما يتواضعون عليه من ألفاظ وأسماء ، بل بما وراء ذلك من معان ومدلولات ، فليسموا هذه الأشياء بما أرادوا ، فإن ذلك لن يغير من الحق شيئا.

* * *

كم ذا توسلتم بلفظ الجسم

والتجسيم للتعطيل والكفران

١٦٩

وجعلتموه الترس إن قلنا لكم

الله فوق العرش والأكوان

قلتم لنا جسم على جسم تعا

لى الله عن جسم وعن جثمان

وكذاك إن قلنا القرآن كلامه

منه بدا لم يبد من إنسان

كلا ولا ملك ولا لوح ول

كن قاله الرحمن قول بيان

قلتم لنا أن الكلام قيامه

بالجسم أيضا وهو ذا حدثان

عرض يقوم بغير جسم لم يكن

هذا بمعقول لذي الأذهان

وكذاك حين نقول ينزل ربنا

في ثلث ليل وآخر أو ثان

قلتم لنا أن النزول لغير أج

سام محال ليس ذا إمكان

وكذاك إن قلنا يرى سبحانه

قلتم أجسم كي يرى بعيان

أم كان ذا جهة تعالى ربنا

عن ذا فليس يراه من إنسان

الشرح : كانت شبهة الجسم والتجسيم من أعظم أسباب الضلال في باب الصفات ، فقد جعلها المعطلة عرضة مانعة لهم من القول بالاثبات ونصبوها صخرة عاتية يحطمون عليها صريح الأحاديث ومحكم الآيات ، واتخذوا منها ترسا يحتمون به مما يوجه إليهم من طعنات ، فإذا قيل لهم أن الله فوق العرش بذاته ، قالوا لو كان فوق العرش (والعرش جسم) لكان جسما لأنه حينئذ يكون متحيزا وفي جهة ، ولأنه إما أن يكون مساويا للعرش أو أكبر منه أو أصغر إلخ ما يذكرون من هذا الهراء.

وكذلك إذا قيل لهم أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، بدا بلا كيفية قولا وأنه ليس قول بشر ولا ملك ولا مأخوذا من اللوح المحفوظ ، ولكنه قول الله الذي تكلم به بحروفه وألفاظه بصوت نفسه ، وسمعه منه جبريل عليه‌السلام قالوا إن الكلام عرض من الأعراض التي لا تقوم إلا بالأجسام ، وهو أيضا حادث يمتنع قيامه بذاته تعالى ، وإذا كان الله تعالى غير جسم فلا يعقل أن يقوم به الكلام الذي هو عرض ، فإن الأعراض لا تقوم إلا بالأجسام.

وكذلك إذا قيل لهم ما وردت به الروايات الصحيحة من نزول الرب تبارك

١٧٠

وتعالى في ثلث الليل الآخر أو في نصف الليل الثاني ، قالوا إن النزول من خصائص الأجسام ، فيمتنع أن يتصف به ما ليس بجسم ، وهو الله تعالى.

وكذلك إذا قيل لهم إن المؤمنين سيرون ربهم يوم القيامة عيانا بأبصارهم كما نطقت بذلك الآيات والأحاديث ، قالوا : إن الذي يصح رؤيته إنما هو الجسم ، لأنه هو الذي يكون في جهة من الرائي ، ويمكن اتصال شعاع منه إليه ، أما ما ليس بجسم ولا هو في جهة فلا تمكن رؤيته.

فتدبر كيف جعل هؤلاء من لفظ الجسم طاغوتا يهدمون به صروح الإيمان ويخالفون من أجله موجب السنة والقرآن.

* * *

ما إذا قلنا له وجه كما

في النص أو قلنا كذاك يدان

وكذاك إن قلنا كما في النص أ

ن القلب بين أصابع الرحمن

وكذاك إن قلنا الأصابع فوقها

كل العوالم وهي ذو رجفان

وكذاك إن قلنا يداه لأرضه

وسمائه في الحشر قابضتان

وكذاك إن قلنا سيكشف ساقه

فيخر ذاك الجمع للأذقان

وكذاك إن قلنا يجيء لفصله

بين العباد بعدل ذي سلطان

قامت قيامتكم كذاك قيامة الآ

تي بهذا القول في الرحمن

والله لو قلنا الذي قال الصحا

بة والألى من بعدهم بلسان

لرجمتمونا بالحجارة إن قدر

تم بعد رجم الشتم والعدوان

والله قد كفرتم من قال بع

ض مقالهم يا أمة العدوان

وجعلتم الجسم الذي قدرتم

بطلانه طاغوت ذا البطلان

الشرح : أما إذا أثبتنا له الوجه الذي أثبته هو لنفسه في قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) [الرحمن : ٢٧] وكما في قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨] أو أثبتنا له اليدين كما في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] أو أثبتنا له الأصابع كما ورد في الحديث

١٧١

الصحيح «إن القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء» أو إذا قلنا بما ورد في تفسير البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن حبرا من الأحبار جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد إنا نجد أن الله عزوجل يجعل السموات على اصبع والأرضين على اصبع والشجر على إصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ، فيقول أنا الملك : فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٦٧] وكذلك رواه مسلم وأحمد والترمذي والنسائي في التفسير من سننيهما.

أو إذا قلنا بما ورد في البخاري أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا المالك أين ملوك الأرض؟».

أو إذا قلنا بما رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة ، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا».

أو إذا قلنا أنه سبحانه يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده كما قال : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢].

نعم لو قلنا بهذا الذي نطقت به النصوص الصحيحة لهيجتم علينا الدنيا وملأتم الأرض من حولنا صخبا وضجيجا ، ولو قلنا بالذي قاله الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان لكان نصيبنا منكم الرجم بالحجارة بعد رجمكم لنا بألفاظ السب والعدوان ، فلقد كفرتم من قال ببعض قولهم ، فكيف بمن أخذ في عقيدته بسبيلهم وكان الجسم الذي قدرتم بطلانه في حق الله تعالى هو طاغوتكم الذي أبطلتم به كل ما وردت به النصوص من الصفات.

* * *

١٧٢

ووضعتم للجسم معنى غير مع

روف به في وضع كل لسان

وبنيتم نفي الصفات عليه فاج

تمعت لكم إذ ذاك محذوران

كذب على لغة الرسول ونفي إث

بات العلو لفاطر الأكوان

وركبتم إذ ذاك تحريفين تح

ريف الحديث ومحكم القرآن

وكسبتم وزرين وزر النفي والت

حريف فاجتمعت لكم كفلان

وعداكم أجران أجر الصدق وال

إيمان حتى فاتكم حظان

وكسبتم مقتين مقت إلهكم

والمؤمنين فنالكم مقتان

ولبستم ثوبين ثوب الجهل وال

ظلم القبيح فبئست الثوبان

واتخذتم طرزين طرز الكبر والت

يه العظيم فبئست الطرزان

ومددتم نحو العلى باعين ل

كن لم تطل منكم لها الباعان

وأتيتموها من سوى أبوابها

لكن تسورتم من الحيطان

وغلقتم بابين لو فتحا لكم

فزتم بكل بشارة وتهان

باب الحديث وباب هذا الوحي من

يفتحهما فليهنه البابان

الشرح : وقد فسرتم الجسم بمعنى ليس هو معناه المعروف في وضع جميع اللغات ، فقال المتكلمون منكم : انه ما تركب من جواهر فردة غير قابلة للقسمة وقال الفلاسفة : إنه المركب من هيولى ومن صورة ، ثم بنيتم نفيكم للصفات على هذا الاصطلاح الفاسد ، فاجتمع لكم بهذا أمران كل منهما يجب أن يحذر الوقوع فيه ، أحدهما الكذب على لغة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فليس فيها أبدا وضع الجسم لهذا المعنى الذي اصطلحتم عليه.

يقول شيخ الاسلام ابن تيمية في رسالته التدمرية :

فإن لفظ الجسم للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي ، فإن أهل اللغة يقولون : الجسم هو الجسد والبدن ، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسما ، ولهذا يقولون الروح والجسم كما قال تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) [المنافقون : ٤] وقال تعالى : (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) [البقرة : ٢٤٧].

١٧٣

وأما أهل الكلام فمنهم من يقول : الجسم هو الموجود ، ومنهم من يقول هو القائم بنفسه ، ومنهم من يقول هو المركب من الجواهر الفردة ، ومنهم من يقول هو المركب من المادة والصورة ، وكل هؤلاء يقولون أنه مشار إليه اشارة حسية ومنهم من يقول ليس مركبا من هذا ، بل هو بما يشار إليه ويقال انه هنا أو هناك. والثاني منهما نفي صفة العلو الثابتة لفاطر الأكوان سبحانه نقلا وعقلا وفطرة.

وركبتم بهذا الاصطلاح الفاسد أيضا تحريفين : أحدهما تحريف الحديث ، والثاني تحريف المحكم من آيات القرآن ، فملتم بكل منهما عن أصل وضعه وتأولتموه بما ينفي معناه الظاهر منه من غير قرينة موجبة لذلك ، واقترفتم به أيضا جرمين : أحدهما جرم النفي لما دلت عليه النصوص من الصفات ، والثاني جرم التحريف للنصوص وصرفها عن المعاني المرادة منها : فاجتمع لكم كفلان ، أي نصيبان من الوزر ، وحرمتها بذلك من أجرين : أجر الصدق حيث كذبتم على الله ورسوله ، وأجر الايمان حيث كفرتم بما هو ثابت من الصفات ، ففاتكم بذلك حظان ، أي نصيبان من الأجر.

وكسبتم به مقتين : أحدهما مقت الله لكم حيث قلتم عليه بغير علم ، والثاني مقت المؤمنين حيث خالفتم سبيلهم وأخذتم في سبل الغواية والشيطان.

ولبستم به ثوبين : أحدهما ثوب الجهل حيث لم تعرفوا ربكم بصفات كماله ، وحسبتموها نقصا ، والثاني ثوب الظلم والعدوان حيث تعديتم على حرمة النصوص وجرتم عليها بالتحريف والتأويل.

وتحليتم بطرزين : أحدهما طرز الكبر حيث تأبون قبول الحق والانقياد له والثاني طرز التيه والخيلاء اغترارا بما عندكم من علم مموه وسفسطة كاذبة.

ومددتم نحو العلى باعين لكن قصرت أيديكم عن تناولها : لأنكم لم تعدوا لها أسبابها ولم تأتوها من أبوابها ، ولكن تسورتم عليها من الجدران.

١٧٤

وأغلقتم على أنفسكم بابين لو فتحا لكم لظفرتم بكل ما يسركم وأدركتم كل ما تؤملون من خير : أحدهما باب الحديث الذي حرفتموه وأنكرتموه وطعنتم في نقلته. والثاني باب هذا القرآن العظيم الذي لم تتلوه حق تلاوته ، فهما بابان للخير من يفتحهما بالوقوف عند نصوصهما وتأملها حق التأمل والاعتداد بها ، وعدم التعويل في الدين الا عليها فليهنه البابان وطوبى له من موفق معان.

* * *

وفتحتم بابين من يفتحهما

تفتح عليه مواهب الشيطان

باب الكلام وقد نهيتم عنه

والباب الحريق فمنطق اليونان

* * *

فدخلتم دارين دار الجهل في الد

نيا ودار الخزي في النيران

وطعمتم لونين لون الشك والتش

كيك بعد فبئست اللونان

وركبتم أمرين كم قد أهلكا

من أمة في سالف الازمان

تقديم آراء الرجال على الذي

قال الرسول ومحكم القرآن

والثاني نسبتهم الى الالغاز

والتلبيس والتدليس والكتمان

ومكرتم مكرين لو تمّا لكم

لانفصمت فينا عرى الايمان

أطفأتم نور الكتاب وسنة اله

ادي بذا التحريف والهذيان

لكنكم أوقدتموا للحرب نا

را بين طائفتين مختلفان

والله مطفيها بألسنة الأولى

قد خصهم بالعام والايمان

والله لو غرق المجسم في فم التجس

يم من قدم الى الآذان

فالنص أعظم عنده وأجل قد

را أن يعارضه بقول فلان

الشرح : وكما أغلفتم على أنفسكم بابي الرحمة والخير والحق والايمان فقد فتحتم عليها بابين هما من أعظم مداخل الشيطان : أما الأول : فهو باب الكلام والجدل المذموم وقد نهاكم عنه الله ورسوله قال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ

١٧٥

إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦] وقال (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) [الكهف : ٥٤].

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه الا أوتوا الجدل» وقال «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وان كان محقا» وقد ورد عن السلف رضي الله عنهم من الآثار في ذم الكلام ما لا يتسع له هذا المقام ، ونكتفي هنا بقول الامام الشافعي رضي الله عنه (حكمى في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة) وقول أبي يوسف : (من طلب العلم بالكلام تزندق).

وأما الثاني فهو باب المنطق الذي وضعه أرسطو أشهر فلاسفة اليونان وقد سماه المؤلف باب الحريق لأن معظم من دخلوا منه واتخذوه آلة لعلمهم أحرق دينهم وايمانهم. بسبب سوء استعمالهم له ، والا فالمنطق قواعد عقلية مجردة يعرف بها تركيب الحدود وتأليف الاقيسة. ولما كانت معظم الطوائف العقلية من فلاسفة ومعتزلة وأشعرية قد ضلت بهذا المنطق حيث اتخذته أداة لتحصيل عقائد الايمان معرضة عن أدلة الحديث والقرآن فقد حمل عليه شيخ الاسلام ابن تيمية وألف في نقضه كتبا قيمة تدل على ما بلغه رحمه‌الله من قدرة في الجدل وبراعة في النقد قد لا تتاح لأحد بعده في الاسلام.

وكذلك دخلتم بسببه في دارين ، دار الجهل في الدنيا حين أعرضتم عن علم الكتاب والسنة ، ودار الخزى والهوان في الآخرة حيث ارتكبتم من الكفر والتعطيل ما يوجب لكم نار السعير وبئس المصير ، وذقتم به لونين من الطعام. أحدهما لون الشك الذي أكل بمرارته قلوبكم. والثاني لدن التشكيك الذي تفسدون به غيركم.

وركبتم بسببه أمرين قد أهلكا الأمم الماضية قبلكم ، أولهما تقديم آراء الرجال على الوحى المنزل حيث تنصرفون في الوحي بالنفي والتأويل ، ولكنكم تأخذون كلام الناس قضايا مسلمة بلا دليل ، والثاني نسبتكم الرسل عليهم الصلاة والسلام

١٧٦

الى الألغاز والتعمية والتدليس أي إخفاء الحق والتلبيس الذي هو الكلام بخلافه والكتمان. ولا شك أن ضلال الأمم في الماضي انما كان من هذا الباب حيث كانوا يتركون النصوص المنزلة ويأخذون بما وضع لها الناس من شروح وتأويلات ، ولا يزال اليهود يقدمون (التلمود) على التوراة مع أنه شروح وتعليقات عليها من وضع كهنتهم وأحبارهم الذين حرفوا كلمها عن مواضعه وحملوا نصوصها على ما لا تدل عليه من المعاني كما فعل أهل التأويل في الاسلام ، وكذلك قادكم اصطلاحكم الفاسد الى أن مكرتم بأهل الحق مكرين لو أنهما نفذا كما أردتم لانحلت منا عقد الايمان وأواصره وهما محاولتكم اطفاء نور القرآن والسنة بما ابتدعتم من تحريف وهذيان ، لكنكم كلما أوقدتم للفتنة نارا أطفاها الله بألسنة أهل الحق والايمان.

على أن هؤلاء الذين تسمونهم مجسمة وتلمزونهم بهذا اللقب تحقيرا لهم وتنفيرا للناس منهم لو أنهم أوغلوا في هذا التجسيم الى أبعد مدى فهم على كل حال خيرا منكم لأنهم يحترمون النصوص ويجلونها وهي عندهم أرفع من أن تعارض بأقوال الرجال.

فصل

في كسر الطاغوت الذي نفوا به صفات ذي الملكوت

والجبروت

أهون بذا الطاغوت لا عز اسمه

طاغوت ذي التعطيل والكفران

كم من أسير بل جريح بل قتي

ل تحت ذا الطاغوت في الازمان

وترى الجبان يكاد يخلع قلبه

من لفظه تبا لكل جبان

وترى المخنث حين يقرع سمعه

تبدو عليه شمائل النسوان

ويظل منكوحا لكل معطل

ولكل زنديق أخي كفران

وترى الصبى العقل يفزعه اسمه

كالغول حين يقال للصبيان

١٧٧

كفران هذا الاسم لا سبحانه

أبدا وسبحان العظيم الشأن

كم ذا التترس بالمحال أما ترى

قد مزقته كثرة السهمان

جسم وتجسيم وتشبيه أما

تعيون من فشر ومن هذيان

أنتم وضعتم ذلك الطاغ

وت ثم به نفيتم موجب القرآن

جعلتموه شاهدا بل حاكما

هذا على من يا أولي العدوان

أعلى كتاب الله ثم رسوله

بالله فاستحيوا من الرحمن

فقضاؤه بالجور والعدوان مث

ل قيامه بالزور والعدوان

وقيامه بالزور مثل قضائه

بالجور والعدوان والبهتان

الشرح : يريد المؤلف بهذه الأبيات أن يحطم طاغوت الجسم الذي نصبه المعطلة ليصدوا به عن سبيل الحق في اثبات الصفات لله جل شأنه ، فيقول ما أهون وأحقر هذا الطاغوت الذي وضعه أئمة الكفر والتعطيل ، فهو لا عز اسمه ولا جل شأنه بل هو كعابديه مهين ذليل ، ولكنه مع هوانه وضعفه ، كم خلف في الأزمنة المتعاقبة من جريح وقتيل. وتراه اذا ذكر اسمه تطير شعاعا منه نفس الجبان. وترى المخنث الضعيف حين يسمع لفظه يولول ويصيح ويأتي بمثل حركات النسوان. ثم يرتمى في أحضان المعطلة والزنادقة أهل الكفران ، وترى الأحمق ضعيف العقل يرتاع حين يذكر عنده كما يرتاع الأطفال عند ما تحكى لهم قصص الغيلان ولكننا معشر أهل الحق كفرنا به فلا نسبح بحمده أبدا ، بل لا نسبح الا ربنا العظيم الشأن الذي هو أهل لكل سبحان.

ثم يقول لعابدي هذا الطاغوت وناصبيه الى متى تترسون بالمحال : وأنتم ترون ما صوب إليه من سهام أهل الحق التي مزقت لحمه وتركته ممزع الاشلاء. والى متى كلما سمعتم صفة أثبتت للرحمن من سنة أو قرآن قلتم جسم وتجسيم وتشبيه ، أما تكلون من هذا الكذب والهذيان فأنتم بأنفسكم الذين نحتم هذا الصنم ثم نفيتم به ما يقتضيه القرآن من اثبات الصفات للرحمن. وجعلتموه شاهدا على هذا النفى بل حاكما له النفوذ والسلطان ، ولكن على من يحكم يا أولى الظلم

١٧٨

والعدوان؟ أيحكم على كتاب الله أم على سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فهلا استحييتم من الرحيم الرحمن. فحاكمكم هذا لا يقضي الا بجور وعدوان كما كان قيامه بالزور والبهتان.

* * *

كم ذي الجعاجع ليس شيء تحتها

الا الصدى كالبوم في الخربان

ونظير هذا قول ملحدكم وقد

جحد الصفات لفاطر الاكوان

لو كان موصوفا لكان مركبا

فالوصف والتركيب متحدان

ذا المنجنيق وذلك الطاغوت قد

هدما دياركم الى الأركان

والله ربي قد أعان بكسر ذا

وبقطع ذا سبحان ذي الاحسان

فلئن زعمتم أن هذا لازم

لمقالكم حقا لزوم بيان

فلنا جوابات ثلاث كلها

معلومة الايضاح والتبيان

منع اللزوم وما بأيديكم سوى

دعوة مجردة عن البرهان

لا يرتضيها عالم أو عاقل

بل تلك حيلة مفلس فتان

الشرح : فكم تطلقون من هذه الجعاجع التي لا محصول لها ، بل ليس وراءها الا أصداء تتردد كما تصفر البوم في الخربات. ومثل تشبثكم بطاغوت الجسم قول اخوانكم الملاحدة من المتفلسفة الذين جحدوا صفات الرب كما جحدتموها ، لو كان موصوفا لكان مركبا ، فان الوصف والتركيب متحدان مفهوما ، فهذا المنجنيق الذي نصبوه وسموه التركيب ، وذلك الطاغوت الذي وضعتموه وسميتموه التجسيم قد اقتلعا دياركم من أساسها حتى صارت خاوية على عروشها ، والله ربنا سبحانه قد أعاننا على كسر منجنيقكم وقطع طاغوتكم بمنه وكرمه.

فنقول لكم : ان زعمتم أن الجسم أو التجسيم لازم للقول بالعلو والفوقية لزوما بينا ، وهو ما يسميه المناطقة باللازم الذهني ، وهو الذي يكفي فيه تصور الملزوم للجزم باللزوم ، قلنا على دعواكم هذه ثلاثة أجوبة ، كلها في غاية الوضوح والبيان :

١٧٩

أولها : أن نمنع هذا اللزوم الذي لا دليل لكم عليه ، وانما هو مجرد دعوى لا يقبل عاقل أن يتمسك بها ، ولكنها بضاعة المفلس الذي يريد أن يموه بها ليفتن بها الناس عن الحق الواضح الصريح.

* * *

فلئن زعمتم أن منع لزومه

منكم مكابرة على البطلان

فجوابنا الثاني امتناع النفى في

ما تدعون لزومه ببيان

أن كان ذلك لازما للنص والمل

زوم حق وهو ذو برهان

والحق لازمه فحق مثله

أنى يكون الشيء ذا بطلان

ويكون ملزوما به حقا فذا

عين المحال وليس في الامكان

فتعين الالزام حينئذ على

قول الرسول ومحكم القرآن

وجعلتم أتباعه ما نسترا

خوفا من التصريح بالكفران

والله ما قلنا سوى ما قاله

هذي مقالتنا بلا كتمان

فجعلتموها جنة والقصد مفه

وم فنحن وقاية القرآن

الشرح : يعني أن زعمتم أن منع لزوم الجسمية لاثبات الصفات مكابرة على المحال ، لأن التلازم واضح بين ثبوتها الشيء وبين كونه جسما اذ لا نرى متصفا بها الا ما هو جسم ، فجوابنا الثاني اننا نسلم هذه الملازمة ونمنع بطلان اللازم ، وهو كونه تعالى جسم ما دام ذلك لازما للنص ، وما دام ملزومه وهو النص حق ثابت بالبراهين الصحيحة من العقل والنقل ، فان لازم الحق لا بد أن يكون حقا مثله ، اذ من المعروف في المنطق أنه كلما ثبت الملزوم ثبت اللازم ، فكيف يكون الشيء وهو اللازم باطل مع كون ملزومه حقا ، هذا غير ممكن ، بل هو عين المحال. فالالزام الذي أردتموه على الاثبات ، وهو أنه يقتضي كون الموصوف بها جسما متوجه على كلام الله ورسوله ، فانه صريح في الاثبات ، ولكنكم بدلا من توجيهكم هذا الالزام الى النصوص ذاتها توجهتم به إلينا جبنا منكم وخشية ان تصرحوا بما تضمرون من الكفر ، ونحن ما قلنا الا بما نطقت به النصوص ، وهذه

١٨٠