شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الحوادث به مستلزم لحدوثه ، فارتكبوا بهذه الأكذوبة أعظم جناية على الدين ، حيث نفوا كل الصفات الفعلية التي جاء بها الكتاب والسنة من الاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا وتكليمه لبعض عباده في بعض الأزمنة ، وحبه ورضاه وغضبه ومقته الخ. كما نفوا أفعاله التي يوجدها شيئا بعد شيء تبعا لحكمته وأقواله التي يتكلم بها شيئا بعد شيء كذلك. ولا شك أن هذا التعطيل لأفعاله لهو كتعطيل الجهمية والمعتزلة لصفات ذاته بلا فرق أصلا ، فإذا كان هذا التعطيل لصفاته الذاتية باطلا بإقرار هؤلاء أنفسهم ، فيجب أن يكون التعطيل لصفاته الفعلية باطلا كذلك.

* * *

فالحق أن الوصف ليس بمورد التق

سيم هذا مقتضى البرهان

بل مورد التقسيم ما قد قام

بالذات التي للواحد الرحمن

فهما إذا نوعان أوصاف وأفع

ال فهذي قسمة التبيان

فالوصف بالأفعال يستدعي قيا

م الفعل بالموصوف بالبرهان

كالوصف بالمعنى سوى الأفعال ما

أن بين ذينك قط من فرقان

الشرح : يعني أن هؤلاء النافين لصفات الأفعال ممن اعتبروها نسبا وإضافات لا تقوم بالذات ، جعلوا مورد التقسيم هو الوصف ، فقالوا أن الوصف إما وصف معنى قائم بالذات ، وإما وصف فعل لا يقوم بها ، وذلك ليتأتى لهم على هذا التقسيم اعتبار بعض الصفات قائما بالذات ، وبعضها غير قائم بها.

ولكن الحق أن مورد القسمة هو نفس ما يقوم بالذات ، فيقال أن ما يقوم بالذات ويكون وصفا لها ، إما أن يكون صفة معنى لازما للذات ، وإما أن يكون صفة فعل ، والوصف بالفعل يستدعي قيام الفعل بالموصوف ، كالوصف بالمعنى سواء بسواء ، فإذا كان وصفه سبحانه بأنه عليم قد يرحى الخ يقتضي قيام العلم والقدرة والحياة به ، فكذلك وصفه بأنه خالق أو رازق أو مقدم أو مؤخر يقتضي قيام هذه الأفعال من الخلق والرزق والتقديم والتأخير ونحوها به. وهذا

١٢١

ما لا ينبغي أن يشك فيه عاقل ، فإن إطلاق المشتق على شيء يؤذن بثبوت مأخذ الاشتقاق له.

ومن العجائب أنهم ردوا على

من أثبت الأسماء دون معان

قامت بمن هي وصفه هذا محا

ل غير معقول لذي الأذهان

وأتوا إلى الأوصاف باسم العقل قا

لوا لم تقم بالواحد الديان

فانظر إليهم أبطلوا الأصل الذي

ردوا به أقوالهم بوزان

إن كان هذا ممكنا فكذاك قو

ل خصومكم أيضا فذو إمكان

والوصف بالتقديم والتأخير كو

ني وديني هما نوعان

وكلاهما أمر حقيقي ونس

بي ولا يخفى على الأذهان

والله قدر ذاك أجمعه بإح

كام وإتقان من الرحمن

الشرح : يعجب المؤلف من هؤلاء الأشاعرة في تناقضهم واضطرابهم ، حيث يفرقون بين المتماثلين ويسوون بين المختلفين ، فهم ينكرون على المعتزلة في إثباتهم الأسماء دون الصفات ، ويقولون أن ثبوت الاسم لمن لم يقم به معناه محال عند العقل. ثم هم يعمدون إلى صفات الأفعال فينفونها عن الله عزوجل رغم أنهم يثبتون له الأسماء المأخوذة من هذه الأفعال ، وبذلك أبطلوا الأصل الذي ردوا به على المعتزلة بعينه وصحّ لخصومهم أن يقولوا لهم إن كان ممكنا عندكم أن يسمى الله خالقا ولا يكون الخلق وصفا له ، فلم أنكرتم علينا أن نسميه عالما بلا علم وقادرا بلا قدرة الخ ، مع أنه لا فرق أصلا بين ما أثبتموه وبين ما نفيتموه ، فأما أن تثبتوا في الكل كما ذهب إليه أهل السنة والجماعة ، وأما أن تنفوا في الكل كما هو مذهبنا ، أما أن تثبتوا في البعض وتنفوا في البعض فهذا تناقض لا يليق بالعقلاء.

* * *

هذا ومن أسمائه ما ليس يف

رد بل يقال إذا أتى بقران

١٢٢

وهي التي تدعى بمزدوجاتها

أفرادها خطر على الإنسان

إذ ذاك موهم نوع نقص جل رب

العرش عن عيب وعن نقصان

كالمانع المعطى وكالضار الذي

هو نافع وكماله الأمران

ونظير هذا القابض المقرون با

سم الباسط اللفظان مقترنان

وكذا المعز مع المذل وخافض

مع رافع لفظان مزدوجان

وحديث افراد اسم منتقم فمو

قوف كما قد قال ذو العرفان

ما جاء في القرآن غير مقيد

بالمجرمين وجا بذو نوعان

الشرح : سبق أن قلنا أن هذه الأسماء المزدوجة المتقابلة لا يجوز أن يفرد أحدها عن قرينه ، فإنها إذا أفردت أوهمت نقصا في حقه تعالى عن كل عيب ونقص ، بل الكمال في ذكرهما جميعا ، فيقال : يا معطى يا مانع ، يا ضار يا نافع ، يا مقدم يا مؤخر ، يا معز يا مذل ، يا خافض يا رافع الخ.

وأما إفراد اسمه (المنتقم) عن قرينه وهو (العفو) فلم يرد إلا في حديث موقوف ، ولم يستعمل في القرآن إلا على نوعين : أما أن يكون مقيدا بالمجرمين كقوله تعالى : (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) [الروم : ٤٧] وكقوله : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) [السجدة : ٢٢] وأما أن يكون مضافا إلى ذو كقوله : (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) [آل عمران : ٤] وكقوله : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) [المائدة : ٩٥] الخ.

* * *

فصل

ودلالة الأسماء أنواع ثلا

ث كلها معلومة ببيان

دلت مطابقة كذاك تضمنا

وكذا التزاما واضح البرهان

أما مطابقة الدلالة فهي أن

الاسم يفهم منه مفهومان

ذات الاله وذلك الوصف الذي

يشتق منه الاسم بالميزان

لكن دلالته على إحداهما

بتضمن فافهمه فهم بيان

لكن دلالته على الصفة التي

ما اشتق منها فالتزام دان

١٢٣

وإذا أردت لذا مثالا بينا

فمثال ذلك لفظة الرحمن

ذات الاله ورحمة مدلولها

فهما لهذا اللفظ مدلولان

احداهما بعض لذا الموضوع ف

هي تضمن ذا واضح التبيان

لكن وصف الحي لازم ذلك الم

عنى لزوم العلم للرحمن

فلذا دلالته عليه بالتزا

م بين الحق ذو تبيان

الشرح : يقسم المناطقة دلالة اللفظ الموضوع لمعنى إلى ثلاثة أقسام : مطابقة وتضمن والتزام ، وذلك لأنه إن قصد باللفظ الدلالة على تمام المعنى فمطابقة لتطابق اللفظ والمعنى ، أي توافقهما ، وإن قصد به الدلالة على جزء ذلك المعنى فتضمن ، لأن ذلك الجزء داخل في ضمن المعنى الموضوع له ، وإن قصد به الدلالة على لازم ذلك المعنى فالتزام. وهذا التقسيم جار في دلالة الأسماء الحسنى على معانيها ، فكل منها يدل بالمطابقة على مجموع الذات والصفة التي اشتق منها ، فعليم دال بالمطابقة على ذات ثبت لها العلم ، وحي دال بالمطابقة على ذات وحياة وهكذا.

وأما دلالته على الذات وحدها أو على الصفة وحدها فتضمن ، لأن كلا منهما جزء لمعنى الاسم داخل في ضمنه. وأما دلالته على صفة للذات غير الصفة التي اشتق هو منها فدلالة التزام دان ، أي قريب من متناول العقل ، وضرب المؤلف لذلك مثلا بلفظة الرحمن ، فإنها تدل مطابقة على الذات والرحمة ، وتدل على أحدهما بالتضمن ، وتدل على الحياة الكاملة والعلم المحيط والقدرة التامة ونحوها دلالة التزام ، لأنه لا توجد رحمة دون حياة الراحم وعلمه وقدرته الخ.

هذا وكثير من أسمائه الحسنى سبحانه يستلزم عدة أوصاف ، فالملك مثلا مستلزم لجميع صفات الملك ، والرب مستلزم لصفات الربوبية ، والله لصفات الألوهية ، وهي صفات الكمال كلها.

ومنها كذلك الكبير والعظيم والمجيد والحميد ، والواسع والصمد وغيرها فتحت كل منها الكثير من صفات الكمال.

١٢٤

فصل

في بيان حقيقة الإلحاد في أسماء

رب العالمين وذكر انقسام الملحدين

أسماؤه أوصاف مدح كلها

مشتقة قد حملت لمعان

إياك والإلحاد فيها أنه

كفر معاذ الله من كفران

وحقيقة الإلحاد فيها المي

ل بالإشراك والتعطيل والنكران

فالملحدون إذا ثلاث طوائف

فعليهم غضب من الرحمن

المشركون لأنهم سموا بها

أوثانهم قالوا إله ثان

هم شبهوا المخلوق بالخلاق عك

س مشبه الخلاق بالإنسان

الشرح : يعني أن أسماءه سبحانه كلها حسنى دالة على أوصاف الكمال التي يمدح بها ويثنى عليه بها ، وليست أعلاما جامدة خالية من المعاني ، كما يزعم ذلك ابن حزم فإنها لو كانت كذلك لم تكن حسنى ، بل هي أعلام وأوصاف معا ، وإذا كان الاسم محتملا للمدح وغيره ، كالمريد والصانع والفاعل ونحوها لم يدخل بمطلقه في أسماء الله عزوجل ، بل لا بد أن يقيد بما يجعله متمحضا للمدح والثناء ، إذ صفاته سبحانه كلها صفات كمال محض ، فهو موصوف بأكمل الصفات ، وله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه.

والواجب في أسمائه الحسنى. وصفاته العليا أن تثبت على ما جاء به الكتاب والسنة على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته ، فلا ينفى منها اسم ، ولا ينفى من معانيها صفة ولا تشبه بصفات المخلوقين ، فإن ذلك كله الحاد في أسمائه سبحانه وهو كفر نعوذ بالله منه ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف : ١٨٠].

والملحدون في أسمائه سبحانه ثلاث طوائف عليهم غضب الله ومقته.

الأولى : من يجعل لله شريكا في أسمائه فيسمي بها بعض المخلوقات ، وذلك كتسمية المشركين آلهتهم اللات من الإله والعزى من العزيز ومناة من المنان.

١٢٥

والثانية : من يمثل صفاته سبحانه بصفات المخلوقين فيعتقد أن علمه كعلمهم وقدرته كقدرتهم ، وحياته كحياتهم الخ.

والثالثة : من ينفي معاني أسمائه الحسنى ، أو ينفي الأسماء والمعاني جميعا كما يفعل الجهمية ومن تبعهم من كل معطل جاحد لصفات الله كلها أو بعضها.

* * *

وكذلك أهل الاتّحاد فإنّهم

إخوانهم من أقرب الأخوان

أعطوا الوجود جميعه أسماءه

إذ كان عين الله ذي السلطان

والمشركون أقل شركا منهم

هم خصصوا ذا الاسم بالأوثان

ولذاك كانوا أهل شرك عندهم

لو عمموا ما كان من كفران

الشرح : ومن أعظم الملحدين في أسمائه سبحانه أصحاب مذهب الاتحاد القائلين بوحدة الوجود ، كابن عربي وابن سبعين وأضرابهما. وهم أخوان لأهل الشرك يشبهونهم في تسمية المخلوق باسم الخالق إلا أن الفرق أن هؤلاء الاتحادية يعطون أسماءه سبحانه لكل شيء في الوجود إذ كان وجود الأشياء عندهم هو عين وجوده ما ثمة فرق إلا بالإطلاق والتقييد ، ولهذا كانوا أعظم شركا من المشركين لأن المشركين خصصوا أسماءه سبحانه بآلهتهم ، ولم يجعلوها أسماء لكل شيء كما فعل هؤلاء الملاحدة وهم يعيبون المشركين على هذا التخصيص ويرونه سبب إشراكهم فلو أنهم عمموا وعبدوا كل مظاهر الوجود وسموها بأسماء الحق سبحانه ما كانوا في نظرهم كفارا ولا مشركين.

* * *

والملحد الثاني فذو التعطيل اذ

ينفى حقائقها بلا برهان

ما ثم غير الاسم أوله بما

ينفي الحقيقة نفي ذي بطلان

فالقصد دفع النص عن معنى

الحقيقة فاجتهد فيه بلفظ بيان

عطل وحرف ثم أول وأنفها

واقذف بتجسيم وبالكفران

١٢٦

للمثبتين حقائق الأسماء والأ

وصاف بالأخبار والقرآن

فإذا هم احتجوا عليك فقل لهم

هذا مجاز وهو وضع ثان

فإذا غلبت على المجاز فقل لهم

لا يستفاد حقيقة الايقان

أنى وتلك أدلة لفظية

عزلت عن الايقان منذ زمان

الشرح : ومن أهل الإلحاد في أسمائه سبحانه طوائف التعطيل من معتزلة وفلاسفة وأشعرية فإنهم ينفون حقائق الأسماء ودلالتها على معانيها الحقة التي تفهم منها بوضع اللغة نفيا بلا حجة ولا دليل ويقولون أن هذه الأسماء لم يقصد منها هذه المعاني المتبادرة عند إطلاقها ، فإنها في نظرهم مستحيلة على الله لإفضائها إلى التشبيه والتجسيم فالواجب في زعمهم هو تأويلها بما ينفي حقائقها ويقول بعضهم لبعض متواصين بهذا النفي والتعطيل أن مقصودنا الأول هو دفع النصوص عن إفادة الحقيقة فالواجب الاجتهاد في ذلك بكل فنون القول وأساليب البيان بأن نعطل هذه النصوص ونحرفها عن مواضعها ونؤولها بما يصرفها عن معانيها الحقة إلى ما يتفق مع مناهجنا في التعطيل أو نفيها وننكر ورودها إن كانت نصوص آحاد ليست من التنزيل ، ثم نرمي المثبتين لحقائق هذه الأسماء والصفات بأدلة الكتاب والسنة بالتجسيم والتشبيه ، فإذا هم احتجوا علينا بهذه الأدلة قلنا أنه لم يرد منها حقائقها ، بل مجاز واللفظ يفيده بالوضع الثاني. فإذا غلبنا على دعوى المجاز ولم نستطع إثباتها حيث لا قرينة تدل عليه ، قلنا لهم أن هذه النصوص لا تفيد اليقين لأنها أدلة لفظية ، ولا يستفاد اليقين إلا من البرهان العقلي.

* * *

فاذا تضافرت الأدلة كثرة

وغلبت عن تقرير ذا ببيان

فعليك حينئذ بقانون وض

عناه لدفع أدلة القرآن

ولكل نص ليس يقبل أن يؤو

ل بالمجاز ولا بمعنى ثان

قل عارض المنقول معقول وما الأ

مران عند العقل يتفقان

١٢٧

ما ثم الا واحد من أربع

متقابلات كلها بوزان

أعمال ذين وعكسه أو تلغى المعق

ول ما هذا بذي إمكان

العقل أصل النقل وهو أبوه أن

تبطله يبطل فرعه التحتاني

فتعين الاعمال للمعقول والا

لغاء للمنقول بالبرهان

أعماله يفضى الى الغائه

فاهجره هجر الترك والنسيان

الشرح : فاذا تظاهرت أدلة الأثبات ، وكانت من الكثرة بحيث تعجز أيها المعطل عن ردها بكل أساليب البيان ، وكان منها نصوص لا تقبل التأويل ولا ينفع معها دعوى المجاز فما عليك الا أن تلجأ الى هذا القانون الذي وضعناه لك لتدفع به في صدر هذه النصوص ، وهو أنه اذا تعارض العقل والنقل واستحال التوفيق بينهما عند العقل وجب اعمال دليل العقل وإهمال دليل النقل ، لأن الامر لا يخرج عن واحد من أربع أمور متقابلة ، فاما أن نعمل الدليلين معا فنقع في التناقض أو نلغيهما معا ، وهذا أيضا باطل لأنه رفع للنقيضين أو نلغى المعقول ، وهذا مستحيل لأنه يؤدي الى ابطال الشرع ، فان الشرع لم يثبت الا بالعقل ، فالعقل هو أصله وأبوه والغاء الاصل مستلزم لالغاء الفرع فلم يبق الا الأمر الرابع وهو اعمال المعقول والغاء المنقول الذي يقضي اعماله الى الغائه فالواجب حينئذ هجره هجر ترك ونسيان والايمان به ألفاظا مجردة بدون معان.

* * *

والله لم نكذب عليهم أننا

وهم لدى الرحمن مختصمان

وهناك يجزى الملحدون ومن نفى الا

لحاد يجزى ثم بالغفران

فاصبر قليلا انما هي ساعة

يا مثبت الاوصاف للرحمن

فلسوف تجنى أجر صبرك ح

ين يجنى الغير وزر الاثم والعدوان

فالله سائلنا وسائلهم عن الا

ثبات والتعطيل بعد زمان

فأعد حينئذ جوابا كافيا

عند السؤال يكون ذا تبيان

الشرح : يقسم المؤلف بالله أنه لم يتجن على القوم فيما رواه عنهم من التلاعب

١٢٨

بالنصوص بالتحريف والتأويل والدفع في صدورها بأدلة العقول ، فان كتبهم مملوءة من هذه الاباطيل وهم يذكرونها بلا خجل ولا حياء ، بل أن هذا عندهم هو مسلك المحققين من العلماء.

ويذكر المصنف أن الفريقين من أهل الاثبات والتعطيل سيختصمان يوم القيامة بين يدي الملك الجليل ، وهناك يلقى الملحدون المعطلون جزاء هذا الالحاد والتعطيل وأما المثبتة للصفات النافون عنها تشغيب أهل التعطيل والالحاد فسيجزيهم ربهم بمغفرة لذنوبهم ، فما عليك أيها المثبت للصفات الا أن تعتصم بالصبر ، فانما هي ساعة تعيشها في هذه الدنيا ، ثم ينقضى العمر حتى اذا لقيت ربك وفاك أجر صبرك مغفرة منه ورضوانا على حين يجنى غيرك من أهل الزور والبهتان جزاء ما قدموا لانفسهم من اثم وعدوان.

واعلم أن الله سائلك عن اثباتك ، كما هو سائلهم عن تعطيلهم ، فأعد لذلك السؤال جوابا كافيا يكون ذا وضوح وتبيان تنجو به من النيران وتنال به المغفرة والرضوان.

* * *

هذا وثالثهم فنافيها ونا

فى ما تدل عليه بالبهتان

ذا جاحد الرحمن رأسا لم يقر

بخالق أبدا ولا رحمن

هذا هو الالحاد فاحذره لع

ل الله أن ينجيك من نيران

وتفوز بالزلفى لديه وجنة الم

أوى مع الغفران والرضوان

لا توحشنك غربة بين الورى

فالناس كالأموات في الحسبان

أو ما علمت بأن أهل السنة

الغرباء حقا عند كل زمان

قل لي متى سلم الرسول وصحبه

والتابعون لهم على الاحسان

من جاهل ومعاند ومنافق

ومحارب بالبغى والطغيان

وتظن أنك وارث لهم وما

ذقت الأذى في نصرة الرحمن

كلا ولا جاهدت حق جهاده

في الله لا بيد ولا بلسان

١٢٩

منّتك والله المحال النفس فاس

تحدث سوى ذا الرأى والحسبان

لو كنت وارثه لآذاك الألى

ورثوا عداه بسائر الألوان

الشرح : وأما ثالث الطوائف من أهل التعطيل والالحاد فهو الذي ينفى الأسماء وينفى ما تدل عليه من المعاني بالكذب والبهتان ، وذلك مثل الجهمية أتباع الجهم بن صفوان ، والفلاسفة أشياع مذهب أرسطو ، وغيره من حكماء اليونان. وهؤلاء في الحقيقة جاحدون لوجود الخالق الرحمن ، فانه لا يعقل وجود ذات في الخارج بلا اسم ولا صفة ، وانما يقدر وجودها في الأذهان.

وبعد أن فرغ المؤلف من ذكر معاني الالحاد الثلاثة في أسماء الرب التي هي تسمية المخلوق بها ، أو نفى ما دلت عليه من المعاني ، أو نفيها ونفي المعاني جميعا. حذر من الوقوع في بوائق هذا الالحاد اخوانه من أهل السنة لكي ينجوا بذلك من النيران ويفوزوا بالقرب من الله في جنة المأوى التي أعدها لأوليائه ويظفروا بمغفرته ورضوانه.

ثم أوصاهم أن لا يستوحشوا من قلتهم وكثرة أعدائهم ، فان الناس كلهم موتى وأهل السنة وحدهم الأحياء ، وقد وردت الآثار بأن أهل السنة يكونون آخر الزمان غرباء. قالعليه‌السلام «بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ، فقيل من هم يا رسول الله؟ قال الذين يصلحون اذا فسد الناس ، وفي رواية الذين يحيون ما أمات الناس من سنتي».

ثم يسائل اخوانه من أهل السنة الذين يضيقون ذرعا بما يلقون من أذى اعدائهم فيقول : متى سلم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه والتابعون لهم باحسان من أهل الجهل والعناد والنفاق حتى تطمعوا أنتم في السلامة منهم ، وكيف تطمعون أن تكونوا وراثا لهم دون أن تذوقوا ما ذاقوه من الأذى في نصرة الرحمن وان تجاهدوا في سبيله حق الجهاد باليد واللسان ، فهذه أماني كواذب تخدعكم بها أنفسكم ، فاستحدثوا لكم رأيا غير هذا ، واعلموا أن هذه الوراثة الكريمة لهؤلاء

١٣٠

الأخيار لا تكون الا لمن وطن النفس على احتمال كل ما يلقاه من أذى هؤلاء المجرمين الأشرار.

* * *

فصل

في النوع الثاني من نوعي توحيد الأنبياء والمرسلين المخالف

لتوحيد المشركين والمعطلين

هذا وثاني نوعي التوحيد تو

حيد العبادة منك للرحمن

أن لا تكون لغيره عبدا ولا

تعبد بغير شريعة الايمان

فتقوم بالإسلام والإيمان وال

إحسان في سرّ وفي إعلان

والصدق والإخلاص ركنا ذلك الت

وحيد كالركنين للبنيان

وحقيقة الاخلاص توحيد المرا

د فلا يزاحمه مراد ثان

لكن مراد العبد يبقى واحدا

ما فيه تفريق لدى الانسان

ان كان ربك واحدا سبحانه

فاخصصه بالتوحيد مع احسان

أو كان ربك واحدا أنشأك لم

يشركه اذ أنشأك رب ثان

فكذاك أيضا وحده فاعبده لا

تعبد سواه يا أخا العرفان

الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من بيان توحيد الأسماء والصفات الذي يقوم على تنزيه الله سبحانه عن كل ما لا يليق بجلاله من النقائص والعيوب ، متصلة أو منفصلة ، واثبات أوصاف الكمال كلها له ، من غير تحريف ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تمثيل ، شرع في بيان النوع الثاني من نوعي التوحيد ، وهو توحيد الالهية أو العبادة الذي يقوم على أن الله هو وحده الاله المألوه الذي ينبغي أن يألهه الخلق ، أي يعبدوه ، تعظيما ومحبة وذلا ، ومخافة ، وتوكلا ، واستعانة وتوبة وإنابة الى آخره.

وهذا النوع من التوحيد هو المقصود الأعظم من بعثة الرسل عليهم الصلاة

١٣١

والسلام ، بل كان هو خلاصة رسالاتهم ومفتتح دعواتهم ، فما منهم من رسول الا كان التوحيد أول ما يدعو إليه قومه ، كما دل على ذلك القرآن الكريم ، قال تعالى : (وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل : ٣٦] وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥].

بل هذا التوحيد هو الذي خلق الله الخلق لأجله وشرع الجهاد لاقامته وجعل الثواب في الدنيا والآخرة لمن قام به وحققه ، وجعل العقاب على من كفر به وتركه ، وجعله الفيصل بين أهل السعادة القائمين به وأهل الشقاوة التاركين له.

وقد فسر المؤلف هذا التوحيد بأن لا يجعل العبد لغير الله شركة مع الله في شيء من عبادته ، بل يصرف عبادته كلها لله ، سواء كانت عبادة بالقلب ، كالحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والانابة ، أو كانت عبادة باللسان ، كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والتمجيد وكل أنواع الثناء التي لا تنبغي الا لله.

وكذلك السؤال والدعاء والاستعاذة والاستغاثة والحلف والتسمية وغير ذلك أو كانت عبادة بالأبدان ، كالصلاة والصيام والحج والجهاد ، أو عبادة بالمال كالصدقات والنذور والذبائح والحبوس وجميع أبواب البر التي تنفق فيها الأموال. وان لا يعبد الله الا بما شرعه هو على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا يزيد عليه شيئا ولا ينقص منه شيئا ، ولا يغير فيه ولا يبدل ، فان كل ذلك بدعة ضلالة لا يقبلها الله عزوجل ، بل يردها على صاحبها ويمقته عليها. قالصلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» أي مردود على صاحبه لا ثواب له عليه ، لأنه عبادة بالهوى وتشريع ما لم يأذن به الله ، وانما يعبد الله بما شرع لا بالأهواء والبدع.

فاذا عرف العبد ذلك معرفة حقة أفرد الله بالعبادة كلها ، الظاهرة منها والباطنة فيقوم بشرائع الاسلام الظاهرة ، كالصلاة والزكاة والصوم والحج

١٣٢

والجهاد والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وبر الوالدين وصلة الأرحام والاحسان الى الجار وأداء الأمانات والوفاء بالعهود والقيام بحقوق الله وحقوق خلقه.

ويقوم كذلك بأصول الايمان ، فيؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، ويقوم بحقائق الاحسان الذي هو أعلى مقامات الدين فيعبد الله كأنه يراه ، فان لم يكن يراه فأنه يراه ، كما فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك في حديث جبريل ، ويقوم بهذه المقامات الثلاثة مخلصا في كلها لله لا يقصد به غرضا من الأغراض غير رضا ربه وثوابه ، ومتابعا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقف عند ما حده له.

ولهذا التوحيد أيضا ركنان هما له كالأساس للبنيان ، وهما الصدق والاخلاص أما الاخلاص فهو توحيد الله بقصده وارادته بأن يعمل العمل لا ينبغي به الا وجه الله والا طلب ثوابه ورضاه ، بحيث لا يزاحمه مراد ثان من حب محمدة أو رغبة في شهرة أو غير ذلك من حظوظ النفس العاجلة ، وكذلك لا يريد به التقرب الى غير الله عزوجل ، فانه اذا كان رب العبد الذي خلقه وصوره ، وشق سمعه وبصره ، وأجرى عليه رزقه ، وأسبغ عليه نعمه ، ظاهرة وباطنة ، واحدا ، وهو الله عزوجل ، ولم يشركه في خلقه ولا في رزقه ولا في تدبير شئونه أحد ، فيجب أن يخصه بالتوحيد والعبادة ، وأن لا يشرك بعبادة ربه أحدا.

* * *

والصدق توحيد الإرادة وهو بذ

ل الجهد لا كسلا ولا متوان

والسنة المثلى لسالكها فتو

حيد الطريق الأعظم السلطاني

فلواحد كن واحدا في واحد

أعنى سبيل الحق والايمان

هذي ثلاث مسعدات للذي

قد نالها والفضل للمنان

فاذا هي اجتمعت لنفس حرة

بلغت من العلياء كل مكان

١٣٣

الشرح : فاذا كان الاخلاص هو توحيد المراد بالعبادة وهو الله عزوجل بحيث لا يبقى في القلب مراد آخر يزاحمه ، فالصدق هو توحيد الإرادة وهو بذل الجهد في طلب المراد والتفاني في خدمته سبحانه بلا كسل ولا فتور ، وتوحيد الطريق وهو المتابعة للسنة القويمة بلا تزيد ولا ابتداع.

وهذا معنى قول المصنف (فلواحد كن واحدا في واحد) أي فلواحد وهو الله عزوجل ، وهذا هو توحيد المراد «كن واحدا» في عزمك وصدقك وارادتك وهذا هو توحيد الإرادة في واحد ، وهو متابعة الرسول الذي هو طريق الحق والايمان. فمن اجتمعت له هذه الثلاثة نال كل كمال وسعادة وفلاح ، ولا ينقص من كماله وسعادته الا بقدر نقصه من واحد منها.

وهذا النوع من التوحيد وهو توحيد الالهية متضمن للنوع الأول الذي هو توحيد الأسماء والصفات الداخل فيه توحيد الربوبية ، لأن الله هو الذي له صفة الالهية ، وهي صفات الكمال كلها ، ولهذا كلما قوى ايمان العبد ومعرفته بأسماء الله وصفاته قوى توحيده وتم ايمانه.

ثم أخذ بعد ذلك في بيان ما يناقض هذا التوحيد وينافيه فقال :

* * *

فصل

والشرك فاحذره فشرك ظاهر

ذا القسم ليس بقابل الغفران

وهو اتخاذ الند للرحم

ن أيا كان من حجر ومن انسان

يدعوه أو يرجوه ثم يخافه

ويحبه كمحبة الديان

والله ما ساووهم بالله في

خلق ولا رزق ولا احسان

فالله عندهم هو الخلاق والر

زّاق مولى الفضل والإحسان

لكنهم ساووهم بالله في

حب وتعظيم وفي إيمان

الشرح : بعد أن بين المؤلف توحيد العبادة وأركانه التي يقوم عليها من

١٣٤

الاخلاص والصدق والمتابعة للسنة ، شرع في بيان ما ينافيه من الشرك ، فقسمه الى ظاهر جلى ، وهو ما يسمى بالشرك الأكبر ، وهذا النوع لا يغفره الله عزوجل ، كما أخبر بذلك في قوله في موضعين من سورة النساء (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦].

وقد فسر المؤلف هذا الشرك بأنه اتخاذ ند للرحمن من أي شيء كان من خلقه بأن يجعله مساويا لله في ما يستحقه ، ولا ينبغي الاله من أنواع العبادة والتعظيم فيدعوه كما يدعو الله عزوجل ، سواء كان دعاء عبادة أو دعاء مسألة ، أو يرجوه كما يرجو الله ، بأن يتوقع عنده من النفع والخير ما لا يملكه الا الله ، أو يخافه كذلك كما يخاف الله ، بأن يعتقد أنه يملك من أنواع العذاب والبطش ما لا يملكه الا الله أو يحبه كما يحب الله عزوجل.

فهذه هي الندية التي كان يؤمن بها العرب وسموا بسببها مشركين ، وهي التي أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقتالهم عليها ، لأنها منافية لكلمة التوحيد (لا إله الا الله).

وأما ندية الخلق والرزق والتدبير والملك وغير ذلك من شئون الربوبية ، فإنهم لم يساووا آلهتهم بالله في شيء منها ، بل ولا جعلوا لهم شركة مع الله فيها ، كما قال تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ، فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) [يونس : ٣١] وكقوله : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) [المؤمنون : ٨٤ ، ٨٩].

فالقوم لم ينددوا في هذه الناحية ، وانما كانت نديتهم أنهم ساووا آلهتهم بالله في الحب والتعظيم وفي الايمان بإلهيتهم واستحقاقهم للعبادة مع الله ، فكان هو مناط شركهم. قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ

١٣٥

مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢].

وقال في نفس السورة : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) [البقرة : ١٦٥].

ولهذا كانت كلمة التوحيد التي يدخل بها في الإسلام هي (لا إله إلا الله) لأنها هي التي تنفي الشرك في الألوهية وتثبت استحقاقه سبحانه للعبادة وحده. وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أي الذنب أعظم؟ قال : «أن تجعل لله ندا وهو خلقك». الحديث.

وفي الحديث القدسي الصحيح يقول الله تعالى : «إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري».

* * *

جعلوا محبتهم مع الرحمن ما

جعلوا المحبة قط للرحمن

لو كان حبهم لأجل الله ما

عادوا أحبته على الإيمان

ولما أحبوا سخطه وتجنبوا

محبوبه ومواقع الرضوان

شرط المحبة أن توافق من

تحب على محبته بلا عصيان

فإذا ادعيت له المحبة مع خلا

فك ما يحب فأنت ذو بهتان

أتحب أعداء الحبيب وتدعي

حبا له ما ذاك في إمكان

وكذا تعادي جاهدا أحبابه

أين المحبة يا أخا الشيطان

الشرح : يعني أن هؤلاء المتخذين للأنداد أشركوا أندادهم مع الله في المحبة فأحبوهم مع الله ، أي ساووهم بالله في المحبة ، فإن هذا مقتضى المعية ، ولكنهم لم يحبوهم قط لله وفي الله ، إذ لو كان حبهم لأجل الله ما امتلأت قلوبهم بالعداوة لأهل محبته المؤمنين به ، فإن من أحب أحدا أحب من يحبه ، فكراهيتهم لأحباب

١٣٦

الله دليل على بغضهم له ، وفي الحديث الصحيح : «صريح الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله» وفي الحديث الآخر : «من أحب لله وأبغض لله ، وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان» وكان من دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يقرب إليك».

وكذلك لو كان حبهم أندادهم لأجل الله لما أحبوا مساخطه ومكروهاته وتجنبوا مراضيه ومحبوباته ، فإن شرط المحبة أن يوافق المحب محبوبه فيما يحبه ويبغضه ، فيحب ما يحبه ويبغض ما يبغضه ، وأن لا يتوخى عصيانه ومخالفته ، فإن هو أبغض ما يحبه محبوبه أو أحب ما يبغضه وعصاه ولم يطعه ، فهو كاذب في دعوى المحبة كما يقول الشاعر :

تعصى الإله وأنت تظهر حبه

هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحب لمن يحب مطيع

فلا يمكن أن يستقيم ادعاء المحبة لأحد مع حبه لأعداء محبوبه وما يبغضه من الأشخاص والأفعال والأقوال ، ومع بذله الجهد في عداوة أحبابه كذلك ، فأين هو دليل المحبة إذا؟ إن هو إلا تلبيس الشيطان ومحض الكذب والبهتان.

والخلاصة أنه لا يجوز لأحد أن يحب مع الله أحدا ، فإن تلك هي الندية التي حكاها القرآن عن المشركين ، ولكنه يحب في الله ولله ، فيكون حبه لغير الله تابعا لحبه له ، كما في الحديث : «وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله».

وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : «ورجلان تحابّا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه».

* * *

ليس العبادة غير توحيد المحب

ة مع خضوع القلب والأركان

والحب نفس وفاقه فيما يحب

ب وبغض ما لا يرتضي بجنان

ووفاقه نفس اتباعك أمره

والقصد وجه الله ذي الإحسان

١٣٧

هذا هو الإحسان شرط في قبو

ل السعي فافهمه من القرآن

والاتباع بدون شرح رسوله

عين المحال وأبطل البطلان

فإذا نبذت كتابه ورسوله

وتبعت أمر النفس والشيطان

واتخذت أندادا تحبهم كح

ب الله كنت مجانب الإيمان

الشرح : يعني أن ركني العبادة التي لا قوام لها إلا بهما ، هما كمال الحب لله ، بأن لا تشرك في محبته أحدا ، بل تحب فيه وله كما قدمنا ، وكمال الذل والخضوع له بالقلب والأركان ، أي الجوارح ، فمن لم يجتمع له هذان الأمران لا يسمى عابدا فالإنسان يحب زوجته وأولاده ولكنه لا يذل لهم ، فلا يكون هذا الحب بمجرده عبادة ، وكذلك قد يذل لغيره مع بغضه وكراهته له ، فلا يكون ذله عبادة.

ومعنى حبك لله أن توافقه فيما يحبه ويرضاه ، وتبغض بقلبك كل ما لا يحبه ولا يرضاه ، وهذه الموافقة هي نفس اتباعك لأمره ، سواء كان أمر إيجاب أو ندب فإنه ما أمر إلا بما يحب ، وأن تكون مخلصا له في الاتباع ، بحيث لا تقصد به إلا وجهه ، فهذا هو الإحسان الذي جعله الله شرطا لقبول العمل ، كما دل على ذلك القرآن ، قال تعالى : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ١١٢] ، فالمراد من إسلام الوجه لله الانقياد لأمره وقوله : (وَهُوَ مُحْسِنٌ) جملة حالية تفيد أنه لا بد أن يكون هذا الانقياد مع الإحسان الذي هو إخلاص القصد لله بحيث لا يبتغى إلا وجهه.

ومثل ذلك قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) [النساء : ١٢٥].

وقوله : (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) [لقمان : ٢٢] ولا يتحقق الاتباع لأمر الله إلا بالتزام الشريعة التي جاء بها رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنها هي المتضمنة لكل ما أمر الله عزوجل به ، وكل ما

١٣٨

خالفها فليس مما أمر الله به ، فمن أمحل المحال وأبطل الباطل أن يدعي أحد أنه متبع لأمر الله وهو محاد لله ورسوله ومتبع غير سبيل المؤمنين ، فمن نبذ كتاب الله وسنة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وراءه ظهريا ، وجرى مع أهواء نفسه ووساوس شيطانه واتخذ له من دون الله أندادا يحبهم كحب الله ويعطيهم في معصية الله ، فإنه يكون مجانبا للإيمان قد باء بالخيبة والخسران ، نعوذ بالله من الخذلان.

* * *

ولقد رأينا من فريق يدعي الا

سلام شركا ظاهر التبيان

جعلوا له شركاء والوهم وسو

وهم به في الحب لا السلطان

والله ما ساووهم بالله بل

زادوا لهم حبا بلا كتمان

والله ما غضبوا إذا انتهكت محا

رم ربهم في السر والإعلان

حتى إذا ما قيل في الوثن الذي

يدعونه ما فيه من نقصان

فأجارك الرحمن من غضب ومن

حرب ومن شتم ومن عدوان

وأجارك الرحمن من ضرب وتع

زير ومن سب ومن تسجان

الشرح : يقصد المؤلف بهذا الفريق طوائف القبوريين عباد الأضرحة ، الذين يدّعون الإسلام كذبا وزورا ، مع أن شركهم ظاهر مفضوح لا يستطيعون ستره ولا كتمانه ، وإن شئت دليلا على ذلك فاذهب إلى أحد هذه الأضرحة لترى العجب ، ترى أسرابا من الناس ، رجالا ونساء يطيفون به كما يطوف الحجاج ببيت الله ، وتراهم قد تعلقوا بالمقصورة يوسعونها تقبيلا ولثما وينتزعون من بين فراغها البركة انتزاعا ، وتتمتم شفاههم بكلمات الاستغاثة والدعاء ذلة وتضرعا وكم جادت منهم الجيوب ببدر الأموال توضع في صناديق النذور ، وكم سيقت الذبائح وحملت الأطعمة وشدت الرحال ، يتسابق في ذلك النساء والرجال ، والشيوخ والأطفال ، ليشهدوا ما يقام عند هذه الأضرحة من مهرجانات وأحفال ، وكم خرت أذقان على العتبات ، وكم ضجت بالبكاء والدعاء أصوات ، هذا بطلب النظرة والمدد ، وهذا يستمنح النسل والولد ، وهذا يطلب النصر على الخصم الألد ،

١٣٩

وهذه عانس طال على تعنيسها الأمد ، فجاءت للشيخ مفرج الكروب وحلال العقد. وكم وكم مما لا أستطيع حصره ومما يذيب القلوب أسى وحسرة على ما أصاب الإسلام ممن يدعي محبته ونصره ، وهو لم يترك له منجنيقا إلا كسره ، فلا حول ولا قوة إلا بالله إليه المشتكى وهو المستعان وبه المستغاث وعليه التكلان.

فهؤلاء القبوريون قد جعلوا أصحاب هذه الأضرحة شركاء لله يوالونهم ويتقربون إليهم بأنواع القرابين من الذبائح والنذور ويسوونهم بالله عزوجل في المحبة بل هم لهم أشد حبا ، وبهم أكثر تعلقا ، كما تدل على ذلك أحوالهم وتنبئ عنه فعالهم ، فإن أحدهم لا يغار ولا يغضب إذا انتهكت حرمات الله وعمل بمعصيته في السر والعلانية ، ولكنه إذا سمع من أحد الموحدين أنه يتعرض لوثنه الذي يدعوه ويعكف عليه ، وأنه يصفه بما هو فيه من عجز ونقص حتى ولو كان هذا الوصف مأخوذا من القرآن ، استشاط لذلك غضبا وأخذته حمية الجاهلية وهبّ للانتقام والأخذ بالثأر ، ولم يرع في هذا الموحد إلا ولا ذمة بل ولا حسن جوار ، فلا تسل عما يناله من هذا المجرم الأثيم من أنواع الأذى ، والكيد والعدوان اللئيم حيث تنهال عليه الأيدي باللكز والضرب ، وتنثال عليه الألسنة بالشتم والسب ولا سيما إذا كان هذا المجرم من أصحاب النفوذ والسلطان ، فإنه يمعن في التنكيل ويسرف في العدوان ويلقى بذلك الموحد في غيابات السجون.

وبعد فما أشبه الليلة بالبارحة ، فإن ما يحدثنا عنه هذه الإمام الجليل مما كان يقع به وبأمثاله من العذاب والتنكيل حين يقومون بالدعوة لتجريد التوحيد وإخلاص العبادة للملك الجليل لا يزال يقع مثله وأشد منه بالدعاة إلى الحق في هذا الزمان ولكن لا نقول إلا كما قال القرآن : (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) [الذاريات : ٥٣]. فنسأل الله النجاة من كيد اللئام وفتنة الطغام.

* * *

والله لو عطلت كل صفاته

ما قابلوك ببعض ذا العدوان

١٤٠