شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

تلتذ بالنظر الذي فازت به

دون الجوارح هذه العينان

والله ما في هذه الدنيا ألذ

من اشتياق العبد للرحمن

وكذاك رؤية وجهه سبحانه

هي أكمل اللذات للإنسان

لكنما الجهمي ينكر ذا وذا

والوجه أيضا خشية الحدثان

تبّا له المخدوع أنكر وجهه

ولقاءه ومحبة الديان

وكلامه وصفاته وعلوه

والعرش عطله من الرحمن

فتراه في واد ورسل الله في

واد وذا من أعظم الكفران

الشرح : وأشد شيء في عذاب أهل النار هو احتجاب الرب تبارك وتعالى عنهم وحرمانهم من النظر الى وجهه الكريم ، وإذا تجلى الرب لعباده المؤمنين في الجنة نسوا كل ما هم فيه من ألوان النعيم من أجل ما ظفرت به أعينهم من اللذة الكبرى بالنظر إلى وجه الله عزوجل ، فإذا ما احتجب عنهم عادوا إلى ما كانوا فيه من ألوان السرور والنعيم ، فلهم نعيمان في الجنة ، نعيم عند رؤيته سبحانه وهو أجلهما وأشرفهما ، ونعيم عند احتجابه بما هم فيه من ظلال وفواكه وحور وولدان إلى آخره ، فحبذا النعيمان.

ولقد روى الامام أحمد من حديث أبي مجلز قال : (صلى بنا عمارة صلاة فأوجز فيها فأنكروا ذلك ، فقال ألم أتمّ الركوع والسجود؟ قالوا بلى ، قال : أما اني قد دعوت فيها بدعاء كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يدعو به : «اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرا لي ، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وكلمة الحق في الغضب والرضا ، والقصد في الغنى والفقر ، ولذة النظر إلى وجهك الكريم ، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين» وأخرجه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما.

فالشوق إلى لقاء الله عزوجل هو لذة الروح في هذه الدنيا للمؤمن ، وفي يوم القيامة يلتذ بالنظر إلى وجه الله الكريم الذي هو حظ العين من دون الجوارح

٤٢١

كلها. وليس في هذه الدنيا لدى أهل المعرفة بالله لذة تعدل لذة الشوق إلى لقاء الله كما أنه ليس في الآخرة لذة تعدل لذة النظر إلى وجهه سبحانه.

لكن الجهمي المعطل لا يؤمن لا بلقاء ولا بنظر ولا بوجه ، لأنها عنده من مستلزمات الحوادث ، فهلاكا لهذا المغرور الذي استمسك بشبه واهية ظنها معقولات صحيحة ، فنفى من أجلها ما ثبت بالنصوص الصريحة القطعية من الوجه واللقاء والمحبة والكلام والعلو وسائر الصفات ، حتى عطل العرش عن أن يكون فوقه إله يعبد ورب يصلى له ويسجد ، فهو بإنكاره وتعطيله في واد ، ورسل الله وأتباعهم في إثباتهم لكمالات الرب كلها في واد ، ومخالفة الرسل عليهم‌السلام ومشاقتهم واتباع غير سبيلهم من أقبح أنواع الكفر الذي باء به هذا الجهمي العنيد.

* * *

فصل

في كلام الرب جل جلاله مع أهل الجنة

أو ما علمت بأنه سبحانه

حقّا يكلم حزبه بجنان

فيقول جل جلاله هل أنتم

راضون قالوا نحن ذو رضوان

أم كيف لا نرضى وقد أعطيتنا

ما لم ينله قط من انسان

هل ثمّ شيء غير ذا فيكون اف

ضل منه نسأله من المنان

فيقول أفضل منه رضواني فلا

يغشاكم سخط من الرحمن

ويذكر الرحمن واحدهم بما

قد كان منه سالف الأزمان

منه إليه ليس ثم وساطة

ما ذاك توبيخا من الرحمن

لكن يعرّفه الذي قد ناله

من فضله والعفو والاحسان

ويسلم الرحمن جل جلاله

حقا عليهم وهو في القرآن

وكذاك يسمعهم لذيذ خطابه

سبحانه بتلاوة الفرقان

٤٢٢

فكأنهم لم يسمعوه قبل ذا

هذا رواه الحافظ الطبراني

هذا سماع مطلق وسماعنا ال

قرآن في الدنيا فنوع ثان

والله يسمع قوله بوساطة

وبدونها نوعان معروفان

فسماع موسى لم يكن بوساطة

وسماعنا بتوسط الإنسان

من صير النوعين نوعا واحدا

فمخالف للعقل والقرآن

الشرح : اعلم أن تكليم الله لأوليائه في الجنة هو كرؤيته ، كل ذلك حق لا ريب فيه ، فإن الله عزوجل نفى تكليمه لأعدائه يوم القيامة كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ) [آل عمران : ٧٧] فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين في الجنة لكانوا هم وأعداؤه في ذلك سواء.

وتكليمه لأهل الجنة تكليم خاص للتحية والتكريم ، فهو لا ينافي أنه سيكلم عباده جميعا في عرصات القيامة. وقد جاء في حديث عدي بن حاتم (ما من عبد الا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان ، ولكن حين يدخل أهل النار النار يحتجب سبحانه وتعالى عنهم ولا يكلمهم ، بل حين يستغيثون به ويطلبون منه الخروج من النار يقول لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨].

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله عزوجل يقول لأهل الجنة يا أهل الجنة ، فيقولون لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ، فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك ، قالوا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا».

وقد سبق في حديث زيارة أهل الجنة لربهم أنه سبحانه يحاضر كل واحد منهم حتى يقول له يا فلان ألم تفعل كذا يوم كذا ، يذكره بغدراته لا على جهة

٤٢٣

التوبيخ والتقريع ، ولكن يذكر بفضله وإحسانه عليه في العفو والمغفرة. وفي الصحيح من حديث ابن عمر : «أن الله عزوجل يدني المؤمن ويضع عليه كنفه ثم يقرره بذنوبه فيقول : ألم تفعل كذا يوم كذا ، حتى إذا قرره بذنوبه وأيقن أنه قد هلك قال له سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم».

وقد ورد أيضا أن الله عزوجل يتجلى لأهل الجنة ويسلم عليهم ، كما قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] بل وقد ورد أنه سبحانه يقرأ القرآن لأهل الجنة بصوت نفسه يسمعهم لذيذ خطابه ، فإذا سمعوه منه فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك. روى أبو الشيخ عن صالح بن حبان عن عبد الله ابن بريدة قال : إن أهل الجنة يدخلون كل يوم مرتين على الجبار جل جلاله فيقرأ عليهم القرآن وقد جلس كل امرئ منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزبرجد والذهب والزمرد فلم تقرّ أعينهم بشيء ولم يسمعوا شيئا قط أعظم ولا أحسن منه.

وهذا سماع مطلق وهو أكمل السماع ، وأما سماعنا للقرآن في الدنيا فهو نوع آخر ، لأن سماع كلام الله نوعان : نوع بوساطة القارئين له المبلغين عن الله عزوجل. ونوع بالمباشرة بلا وساطة أحد ، كتكليمه لموسى عليه‌السلام ، فإنه كان كفاحا بلا واسطة. وأما سماعنا نحن لكلامه في الدنيا فهو بواسطة التالين له. فمن جعل النوعين نوعا واحدا وزعم أن الله لا يتكلم بكلام مسموع ، وأنه لا يمكن سماع كلامه إلا بواسطة من يقرؤه من الناس ، فهو مخالف للعقل الذي يقتضي بأنه لا يسمى متكلما إلا من قام به الكلام ، والكلام لا يكون إلا حروفا وألفاظا مسموعة. ومخالف للقرآن أيضا : فقد ذكر الله أنواع وحيه إلى رسله وجعل منها تكليمه لمن يشاء منهم من غير وساطة الملك. قال تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) [الشورى : ٥١].

* * *

٤٢٤

فصل

في يوم المزيد وما أعد لهم فيه من الكرامة

أو ما سمعت بشأنهم يوم المزي

د وأنه شأن عظيم الشأن

هو يوم جمعتنا ويوم زيارة ال

رحمن وقت صلاتنا وأذان

والسابقون إلى الصلاة هم الألى

فازوا بذاك السبق بالإحسان

سبق بسبق والمؤخر هاهنا

متأخر في ذلك الميدان

والأقربون إلى الامام فهم أولو

الزلفى هناك فههنا قربان

قرب بقرب والمباعد مثله

بعد ببعد حكمة الديان

ولهم منابر لؤلؤ وزبرجد

ومنابر الياقوت والعقيان

هذا وأدناهم وما فيهم دني

من فوق ذاك المسك كالكثبان

ما عندهم أهل المنابر فوقهم

مما يرون بهم من الإحسان

فيرون ربهم تعالى جهرة

نظر العيان كما يرى القمران

ويحاضر الرحمن واحدهم محا

نظر العيان كما يرى القمران

هل تذكر اليوم الذي قد كنت في

ه مبارزا بالذنب والعصيان

فيقول رب أما مننت بغفرة

قدما فانك واسع الغفران

فيجيبه الرحمن مغفرتي التي

قد أوصلتك إلى المحل الداني

الشرح : روى الإمام الشافعي في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : «أتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمرآة بيضاء فيها نكته ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما هذه؟ فقال هذه يوم الجمعة فضلت بها أنت وأمتك ، والناس لكم فيها تبع اليهود والنصارى ، ولكم فيها خير ، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجيب له ، وهو عندنا يوم المزيد ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما يوم المزيد يا جبريل؟ قال : إن ربك اتخذ في في الفردوس واديا أفيح فيه كثب من مسك ، فإذا كان يوم الجمعة أنزل الله سبحانه وتعالى ما شاء من ملائكته وحوله منابر من نور عليها مقاعد النبيين ، وحف تلك المنابر بمنابر من ذهب مكللة بالياقوت

٤٢٥

والزبرجد عليها الشهداء والصديقون ، فجلسوا من ورائهم على تلك الكثب ، فيقول الله عزوجل : أنا ربكم قد صدقتكم وعدي فسلوني أعطكم فيقولون ربنا نسألك رضوانك ، فيقول قد رضيت عنكم ولكم ما تمنيتم ولديّ مزيد ، فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير ، وهو اليوم الذي استوى فيه ربك على العرش وفيه خلق آدم وفيه تقوم الساعة».

وذكر أبو نعيم من حديث المسعودي عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : «سارعوا إلى الجمعة في الدنيا ، فإن الله تبارك وتعالى يبرز لأهل الجنة في كل جمعة على كثيب من كافور أبيض فيكونون منه سبحانه في القرب على قدر سرعتهم إلى الجمعة ، ويحدث لهم من الكرامة شيئا لم يكونوا رأوه قبل ذلك ، فيرجعون إلى أهليهم وقد أحدث لهم.

فالسابقون إلى الصلاة يوم الجمعة هم السابقون في الذهاب إلى الله عزوجل يوم المزيد الذي هو يوم زيارة الرب تعالى ، والمتأخرون هنا متأخرون هناك جزاء وفاقا.

وكذلك الأقربون إلى الامام في يوم الجمعة يكونون هم أهل الزلفى والقرب عند الله ، فقربهم هناك بحسب قربهم من الامام ، وبعدهم بحسب بعدهم كذلك.

ولهم هناك في هذا الوادي الذي يسمى وادي المزيد منابر من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد والذهب وأدناهم منزلة وليس فيهم دنيء ولا ناقص يجلسون على كثبان المسك ولا يجدون لأهل المنابر فضلا عليهم ، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى ويطلب إليهم أن يسألوه.

وقد ذكرنا فيما سبق محاضرة الرب جل شأنه لهم ، وأنه يسأل أحدهم فيقول يا فلان ابن فلان ألم تفعل كذا يوم كذا ـ من غدراته في الدنيا ـ فيقول يا رب ألم تغفره لي؟ فيقول بلى فمغفرتي لك التي أوصلتك إلى ما أنت فيه.

* * *

٤٢٦

فصل

في المطر الذي يصيبهم هناك

ويظلّهم إذ ذاك منه سحابة

تأتي بمثل الوابل الهتان

بينا هم في النور اذ غشيتهم

سبحان منشيها من الرضوان

فتظل تمطرهم بطيب ما رأوا

شبها له في سالف الأزمان

فيزيدهم هذا جمالا فوق ما

لهم وتلك مواهب المنان

الشرح : روى بقية بن الوليد عن كثير بن مرة قال : (ان من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول ما ذا تريدون أن أمطركم؟ فلا يتمنون شيئا إلا أمطروا).

وروى عبد الله بن المبارك من حديث شفي بن ماتع قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن من نعيم أهل الجنة أنهم يتزاورون على المطايا والنجب ، وأنهم يؤتون في الجنة بخيل مسرجة ملجمة لا تروث ولا تبول يركبونها حتى ينتهوا حيث شاء الله فيأتيهم مثل السحابة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، فيقولون أمطري علينا فما يزال المطر عليهم حتى ينتهي ذلك فوق أمانيهم».

ويزيدهم هذا حسنا فوق ما بهم حتى أن الرجل منهم ليرجع إلى أهله بعد الزيارة فتقول له : لقد خرجت من عندنا على صورة ورجعت على غيرها.

* * *

فصل

في سوق الجنة الذي ينصرفون إليه من ذلك المجلس

فيقول جل جلاله قوموا إلى

ما قد ذخرت لكم من الإحسان

يأتون سوقا لا يباع ويشترى

فيه فخذ منه بلا أثمان

قد أسلف التجار أثمان المبي

ع بعقدهم في بيعة الرضوان

٤٢٧

لله سوق قد أقامته الملا

ئكة الكرام بكل ما احسان

فيها الذي والله لا عين رأت

كلا ولا سمعت به اذنان

كلا ولم يخطر على قلب امرئ

فيكون عنه معبرا بلسان

فيرى امرأ من فوقه في هيئة

فيروعه ما تنظر العينان

فإذا عليه مثلها اذ ليس يل

حق أهلها شيء من الأحزان

واها لذا السوق الذي من حله

نال التهاني كلها بأمان

يدعى بسوق تعارف ما فيه من

صخب ولا غش ولا ايمان

وتجارة من ليس تلهيه تجا

رات ولا بيع عن الرحمن

أهل المروة والفتوة والتقى

والذكر للرحمن كل أوان

يا من تعوض عنه بالسوق الذي

ركزت لديه راية الشيطان

لو كنت تدري قدر ذاك السوق لم

تركن إلى سوق الكساد الفاني

الشرح : يعني أن أهل الجنة بعد انتهاء زيارتهم للرب جل شأنه يقول لهم قوموا إلى ما ذخرت لكم من الكرامة ، فينصرفون إلى سوق لا بيع فيه ولا شراء فتأخذ منها ما شئت بلا عوض ولا ثمن ، لأن التجار هناك قد دفعوا ثمن البيع مقدما عند مبايعتهم للرب جل شأنه ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة : ١١١] الآية.

فلله در ذلك السوق الذي نصبته الملائكة لأولياء الله وحزبه ، كم فيه من تحف وهدايا مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

ويرى الرجل من هو أعلى منه منزلة في هيئة من الحلى والحلل تروعه وتدهشه ويتمنى لو كان له مثلها ، فإذا هو قد ألبس منها ، وذلك لأن الجنة ليست دار حزن بل يجد الإنسان فيها كل ما يشتهي. فوا لهفتا على هذه السوق التي من ظفر بها وصل إلى منتهى البغية وأطيب الأمل.

وهو سوق تعارف بين أهل الجنة ، فلا صخب ولا غش ولا أيمان فاجرة ولا غير ذلك مما يجري في أسواق الدنيا.

٤٢٨

روى الأوزاعي عن حسان بن عطية عن سعيد بن المسيب أنه لقى أبا هريرة فقال أبو هريرة : (أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة ، فقال سعيد أو فيها سوق؟ قال نعم ، أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم بمقدار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله تبارك وتعالى ، فيبرز لهم عرشه ويتبدى لهم في روضة من رياض الجنة ، فيوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من زبرجد ومنابر من ياقوت ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم ـ وما فيهم من دنيء ـ على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكراسي بافضل منهم مجلسا. قال أبو هريرة وهل نرى ربنا عزوجل؟ قال نعم ، هل تمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا لا ، قال فكذلك لا تمارون في رؤية ربكم ، ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله محاضرة ، حتى يقول يا فلان ابن فلان أتذكر يوم فعلت كذا وكذا فيذكره ببعض غدراته في الدنيا ، فيقول بلى ألم تغفر لي؟ فيقول بلى فبمغفرتي بلغت منزلتك هذه. قال فبينما هم على ذلك إذ غشيتهم سحابة من فوقهم فأمطرت عليهم طيبا لم يجدوا مثل ريحه شيئا قط.

قال ثم يقول ربنا تبارك وتعالى : قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم ، قال فيأتون سوقا قد حفت بها الملائكة ، فيها ما لم تنظر العيون إلى مثله ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب.

قال فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيه ولا يشترى ، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا. قال فيقبل ذو البزة المرتفعة فيلقى من هو دونه ، وما فيهم دني ، فيروعه ما يرى عليه من اللباس والهيئة ، فما ينقضي آخر حديثه حتى يتمثل عليه أحسن منه ، وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها.

قال ثم ننصرف إلى منازلنا فيلقانا أزواجنا فيقلن مرحبا وأهلا بحبنا ، لقد جئت وأن بك من الجمال والطيب افضل مما فارقتنا عليه ، فنقول أنا جالسنا اليوم ربنا الجبار عزوجل وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا).

* * *

٤٢٩

فصل

في حالهم عند رجوعهم إلى أهليهم ومنازلهم

فإذا هم رجعوا إلى أهليهم

بمواهب حصلت من الرحمن

قالوا لهم أهلا ورحبا ما الذي

أعطيتم من ذا الجمال الثاني

والله لازددتم جمالا فوق ما

كنتم عليه قبل هذا الآن

قالوا وأنتم والذي أنشأكم

قد زدتم حسنا على الاحسان

لكن يحق لنا وقد كنا اذا

جلساء رب العرش ذي الرضوان

فهم إلى يوم المزيد أشد شو

قا من محب للحبيب الداني

الشرح : يعني أن أهل الجنة حين يرجعون إلى أهليهم بعد زيارة الرب تبارك وتعالى يقولون لهم أهلا ومرحبا بحبنا ، ما هذا الجمال الذي أضفي عليكم فوق ما كنتم عليه قبل مفارقتنا ، لقد ازددتم في أعيننا جمالا وحسنا ، فيقولن لهم وأنتم كذلك والذي أنشأكم ، لقد ازددتم في أعيننا جمالا وملاحة ، لكننا يحق لنا أن نرجع إليكم بهذه الصور ، فقد كنا قبل قليل جلساء رب العرش ، فخلع علينا من نوره وجماله ما ملأ عيونكم وقلوبكم ، فأهل الجنة يشتاقون ليوم المزيد أشد مما يشتاق المحب لقرب حبيبه ، وذلك لما يخلع الله عليهم من كرامته.

روى مسلم في صحيحه من حديث ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ان في الجنة لسوقا يأتونها كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنا وجمالا ، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا ، فيقول لهم أهلوهم : والله لقد ازددتم حسنا وجمالا فيقولون والله وأنتم لقد ازددتم حسنا وجمالا».

* * *

٤٣٠

فصل

في خلود أهل الجنة ودوام صحتهم ونعيمهم وشبابهم

واستحالة النوم والموت عليهم

هذا وخاتمة النعيم خلودهم

أبدا بدار الخلد والرضوان

أو ما سمعت منادي الإيمان يخ

بر عن مناديهم بحسن بيان

لكم حياة ما بها موت وعا

فيه بلا سقم ولا أحزان

ولكم نعيم ما به بؤس وما

لشبابكم هرم مدى الأزمان

كلا ولا نوم هناك يكون ذا

نوم وموت بيننا اخوان

هذا علمناه اضطرارا من كتا

ب الله فافهم مقتضى القرآن

والجهم أفناها وأفنى أهلها

تبا لذاك الجاهل الفتان

طردا لنفي دوام فعل الرب في ال

ماضي وفي مستقبل الأزمان

وأبو الهذيل يقول يفنى كلما

فيها من الحركات للسكان

وتصير دار الخلد مع سكانها

وثمارها كحجارة البنيان

قالوا ولو لا ذاك لم يثبت لنا

رب لأجل تسلسل الأعيان

فالقوم أما جاحدون لربهم

أو منكرون حقائق الإيمان

الشرح : هذا وتمام نعيم أهل الجنة خلودهم فيها وبقاؤهم أبد الآباد ولا يفنون ولا يخرجون ، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة ، فإن الآيات والأحاديث في هذا الباب من الكثرة والصراحة بحيث لا تقبل جدلا ولا تأويلا كقوله تعالى : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [النساء : ٥٧](لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) [التوبة : ٢١](وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) [الحجر : ٤٨](خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨](طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣](أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) [الرعد : ٣٥] إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يجاء

٤٣١

بالموت كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، ثم يقال يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، قال فيؤمر به فيذبح ، قال ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [مريم : ٣٩].

قال المؤلف في (حادي الأرواح) (وهذا الكبش والاضجاع والذبح ومعاينة الفريقين ذلك حقيقة لا خيال ولا تمثيل كما أخطأ فيه بعض الناس خطأ قبيحا ، وقال الموت عرض والعرض لا يتجسم ، فضلا عن أن يذبح وهذا لا يصح ، فإن الله ينشئ من الموت صورة كبش يذبح كما ينشئ من الأعمال صورا معاينة يثاب بها ويعاقب ، والله تعالى ينشئ من الأعراض أجساما تكون الأعراض مادة لها وينشئ من الأجسام أعراضا كما ينشئ سبحانه من الأعراض أعراضا ومن الأجسام أجساما ، فالأقسام الأربعة ممكنة مقدورة للرب تعالى) أه.

وأهل الجنة كذلك في عافية دائمة لا تصيبهم الآفات ولا الأمراض ولا الآلام والأوصاب ، كما قال تعالى : (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) [فاطر : ٣٥] ونعيمهم باق فلا يلحقهم بؤس ولا شقاء ، وشبابهم لا يفنى ولا يحول ولا تنسخه شيخوخة ولا فناء وهم كذلك لا ينامون ، فإن النوم والموت فيما بيننا أخوان.

روى ابن مردويه من حديث سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون».

وهذا الذي ذكرناه من دوام حياة أهل الجنة ونعيمهم وسرورهم وشبابهم وانتفاء الموت والنوم والأسقام والأحزان والتعب والنصب عنهم هو ما علم بالاضطرار من كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولكن جهما قبحه الله قضى بنفاء الجنة وأهلها محتجا بأن كل ما له ابتداء

٤٣٢

لا بد أن يكون له انتهاء ، وبأن التسلسل في الحوادث كما هو ممتنع في الماضي ، فكذلك في المستقبل فلا بد أن يأتي وقت لا يكون فيه إلا الله عزوجل وحده وتفنى الجنة والنار وأهلهما.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية (وهذا قاله جهم لأصله الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث ، وهو عمدة أهل الكلام التي استدلوا بها على حدوث الأجسام وحدوث ما لم يخل من الحوادث وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم فرأى الجهم ان ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنع في المستقبل ، فدوام الفعل عنده ممتنع على الرب تبارك وتعالى في المستقبل كما هو ممتنع عليه في الماضي ، وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل ، لكن قال أن هذا يقتضي فناء الحركات لكونها متعاقبة شيئا بعد شيء ، فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار حتى يصيروا في سكون دائم لا يقدر أحد منهم على حركة).

وقال الجهم وأبو الهذيل ومن وافقهما في امتناع دوام فاعلية الرب في الماضي والمستقبل جميعا أنه لو لا القول بحدوث العالم وامتناع التسلسل لما كان لنا طريق إلى إثبات وجود الله عزوجل ، فإن إثباته إنما هو من طريق حدوث العالم المحوج له إلى محدث يخرجه من العدم إلى الوجود ، فوقعوا بهذا بين أمرين أحلاهما مر فهم إما جاحدون منكرون لوجود الله تعالى ، وأما منكرون لحقائق لإيمان الثابتة المعلوم ثبوتها بالضرورة.

* * *

فصل

في ذبح الموت بين الجنة والنار والرد على من قال

إن الذبح لملك الموت وإن ذلك مجاز لا حقيقة له

أو ما سمعت بذبحه للموت بي

ن المنزلين كذبح كبش الضان

حاشا لذا الملك الكريم وإنما

هو موتنا المحتوم للإنسان

٤٣٣

والله ينشئ منه كبشا أملحا

يوم المعاد يرى لنا بعيان

ينشئ من الأعراض أجساما كذا

بالعكس كل قابل الامكان

أفما تصدق أن أعمال العبا

د تحط يوم العرض في الميزان

وكذاك تثقل تارة وتخف أخ

رى ذاك في القرآن ذو تبيان

وله لسان كفتاه تقيمه

والكفتان إليه ناظرتان

ما ذاك أمرا معنويا بل هو ال

محسوس حقا عند ذي الإيمان

أو ما سمعت بأن تسبيح العبا

د وذكرهم وقراءة القرآن

ينشيه رب العرش في صور يجا

دل عنه يوم قيامة الأبدان

أو ما سمعت بأن ذلك حول عر

ش الرب ذو صوت وذو دوران

يشفعن عند الرب جل جلاله

ويذكرون بصاحب الاحسان

أو ما سمعت بأن ذلك مؤنس

في القبر للملفوف في الأكفان

في صورة الرجل الجميل الوجه في

سن الشباب كأجمل الشباب

يأتي يجادل عنك يوم الحشر للر

حمن كي ينجيك من نيران

في صورة الرجل الذي هو شا

حب يا حبذا ذاك الشفيع الداني

الشرح : تقدم حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في أنه (يجاء بالموت على هيئة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ، ويقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت).

وقد ذكرنا كلام المؤلف رحمه‌الله في أن الذي يذبح هو الموت حقيقة ، بأن ينشئ الله منه صورة كبش. وليس هذا بممتنع على قدرة الله ، فهي صالحة لأن تنشئ من الأعراض أجساما وبالعكس ، لأن ذلك كله ممكن مقدور ، وقد وردت النصوص الكثيرة بانقلاب بعض الأعراض أجساما. فمن ذلك أعمال العباد التي عملوها في الدنيا من خير وشر توضع يوم القيامة في ميزان حقيقي له لسان وكفتان وتوصف حينئذ بالخفة أو الرجحان قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا

٤٣٤

بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) [الأنبياء : ٤٧] ومعلوم أن الأعمال أعراض لا تقبل الوزن ، ولكن الله سبحانه يحولها يوم القيامة أعيانا محسوسة.

ومن ذلك أيضا أن ما يقع من العبد من تسبيح وذكر لله وقراءة للقرآن ينشئه الله في صور طير لها دويّ ودوران حول العرش تجادل عن صاحبها يوم القيامة.

ومن ذلك ما تقدم في حديث البراء بن عازب من أن عمل المؤمن يجيئه في قبره في صورة رجل حسن الوجه حسن الثياب ويقول له : أبشر بالذي يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له من أنت فوجهك الذي يأتي بالخير؟ فيقول أنا عملك الصالح ، ويكون مؤنسا له في قبره ، وعمل الكافر بعكس ذلك.

ومن ذلك أن ما نتلوه من القرآن في الدنيا يأتي يوم القيامة في صورة رجل شاحب اللون يجادل عن صاحبه لكي ينجيه من النار ، فيا حبذا القرآن من شفيع مقرب نسأل الله عزوجل أن يجعلنا من أهل شفاعته.

* * *

أو ما سمعت حديث صدق قد

أتى في سورتين من أول القرآن

فرقان من طير صواف بينها

شرق ومنه الضوء ذو تبيان

شبههما بغمامتين وإن تشأ

بغياتين هما لذا مثلان

هذا مثال الأجر وهو فعالنا

كتلاوة القرآن بالإحسان

فالموت ينشيه لنا في صورة

خلاقه حتى يرى بعيان

والموت مخلوق بنص الوحي وال

مخلوق يقبل سائر الألوان

في نفسه وبنشأة أخرى بقد

رة قالب الأعراض والألوان

أو ما سمعت بقلبه سبحانه ال

أعيان من لون إلى ألوان

وكذلك الأعراض يقلب ربها

أعيانها والكل ذو إمكان

لم يفهم الجهال هذا كله

فأتوا بتأويلات ذي البطلان

٤٣٥

فمكذب ومؤول ومحير

ما ذاق طعم حلاوة الإيمان

لما فسى الجهال في آذانه

أعموه دون تدبر القرآن

فثنى لنا العطفين منه تكبرا

وتبخترا في حلة الهذيان

ان قلت قال الله قال رسوله

فيقول جهلا أين قول فلان

الشرح : جاء في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن البقرة وآل عمران تجيئان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف تحاجّان عن قارئهما يوم القيامة ، وأو هنا ليست للشك من الراوي ولكنها من كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتخيير ، والمعنى ان شئت شبهتهما بهذه أو تلك ، فهما مثلان لا مثل واحد وقوله : أو فرقان من طير صواف مثل ثالث.

وإذا ثبت أن الأعمال والقراءة وغيرهما من الأعراض يقلبها الله أعيانا توزن وتجيء وتتكلم فلا مانع أبدا أن ينشئ الله الموت الذي هو عرض في صورة كبش حتى يراه أهل الجنة والنار ليزداد أهل الجنة فرحا وليزداد أهل النار غما وبأسا. فالموت مخلوق بنص القرآن ، قال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ولا شك أن المخلوق قابل في نفسه لكل أنحاء الوجود ، وقابل أيضا لأن ينشئه الله نشأة أخرى ، فيحيله من عرض إلى جسم ومن جسم إلى عرض ، بل قد قال بعض المتكلمين كالنظام : إن الجسم مجموعة من الأعراض ومنهم من رأى أن الأعراض من اللون والطعم والرائحة أجسام ، فلا يمتنع على قدرة الخالق جل شأنه التصرف في عالم الإمكان بما يشاؤه من الصور والألوان ، ولكن الجهلة الأغبياء لم يقدروا الله حق قدره ، وظنوا أن قلب الأعيان محال فأتوا بتأويلات باطلة متكلفة لكل ما قدمنا من النصوص ، فمنهم من كذب بها ، ومنهم من اشتغل بتأويلها ، ومنهم من بقي متحيرا لا يدري ما يقول ، لأن ترهات الجهال ملأت أذنه فأعمته عن تفهم القرآن وتدبره ، وهو مع ذلك يظن أنه على شيء من العلم فيمشي تياها متكبرا يختال في حلل جهله وهذيانه ، وإذا احتج له بما قال الله عزوجل في كتابه وبما قاله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم

٤٣٦

يقنعه هذا وراح يسأل عما قاله فلان وفلان ، لأن آراء الناس عنده مقدمة على ما جاء به الوحيان ، فما أقبح الجهل والغرور بالإنسان.

* * *

فصل

في أن الجنة قيعان وأن غراسها الكلام الطيب والعمل الصالح

أو ما سمعت بأنها القيعان فاغ

رس ما تشاء بذا الزمان الفاني

وغراسها التسبيح والتكبير والت

حميد والتوحيد للرحمن

تبا لتارك غرسه ما ذا الذي

قد فاته من مدة الإمكان

يا من يقر بذا ولا يسعى له

بالله قل لي كيف يجتمعان

أرأيت لو عطلت أرضك من غرا

س ما الذي تجني من البستان

وكذاك لو عطلتها من بذرها

ترجو المغل يكون كالكيمان

ما قال رب العالمين وعبده

هذا فراجع مقتضى القرآن

وتأمل الباء التي قد عينت

سبب الفلاح لحكمة الفرقان

وأظن باء النفي قد غرتك في

ذاك الحديث أتى به الشيخان

لن يدخل الجنات أصلا كادح

بالسعي منه ولو على الأجفان

والله ما بين النصوص تعارض

والكل مصدرها عن الرحمن

لكنّ بالإثبات للتسبيب وال

باء التي للنفي بالأثمان

والفرق بينهما ففرق ظاهر

يدريه ذو حظ من العرفان

الشرح : يعني أن الجنة أرض مستوية ليس فيها غراس ، وأن الإنسان بسعيه وعمله في أيام عمره يغرس لنفسه ما يشاء ، وقد ورد أن غراسها : «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» فهذه الكلمات الأربع ورد الحديث الصحيح بأنها أفضل الكلام بعد القرآن ، وهن من القرآن ، وصح أيضا أنها الباقيات الصالحات التي يقول الله عزوجل في شأنها : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ

٤٣٧

عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف : ٤٦].

فالويل لمن أهمل أن يغرس لنفسه في أيام قدرته وإمكانه ، لقد ضيع على نفسه أعظم فرصة.

فيا من يؤمن إيمانا جازما بأنه سيجني هناك ما قدم لنفسه هنا ثم لا يسعى لذلك سعيه ولا يهتم له اهتمامه بأمره دنياه ، قل لي بربك كيف يجتمع إيمان وإهمال أرأيت لو كان لك بستان فعطلته من الغراس هل كنت تجني منه شيئا ، وكذلك لو كان لك أرض فعطلتها من البذر ، فهل كنت ترجو أن تغل لك غلة كثيرة؟ ما قال الله هذا ولا قاله رسوله عليه الصلاة والسلام ، بل جعل الله الأعمال سببا للجزاء ، وجعل الجزاء من جنس العمل وعلى وفاقه وقدره ، قال تعالى : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) [النساء : ١٢٣ ، ١٢٤] ولا تعارض بين هذا وبين ما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه الشيخان «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ، فقيل له : ولا أنت يا رسول الله؟ فقال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل».

فإن باء الإثبات في مثل الآية السابقة هي باء السبب ، فالأعمال أسباب فقط في دخول الجنة ، وباء النفي التي في الحديث للمقابلة ، يعني أن الأعمال لا تصلح أن تكون ثمنا للجنة ولا سببا لدخولها لو لا فضل الله ورحمته.

قال المؤلف رحمه‌الله في حادي الأرواح :

(وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه ، وهو أن الجنة إنما تدخل برحمة الله تعالى ، وليس عمل العبد مستقلا بدخولها وإن كان سببا ، ولهذا أثبت الله دخولها بالأعمال في قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الأعراف : ٤٣] ونفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخولها بالأعمال بقوله : «لن يدخل أحدكم الجنة بعمله» ولا تنافي بين الأمرين لوجهين : أحدهما ما ذكره سفيان وغيره قال : كانوا يقولون النجاة من

٤٣٨

النار بعفو الله ودخول الجنة برحمته واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال.

والثاني أن الباء التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلا للآخر ، والباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره وإن لم يكن مستقلا بحصوله ، وقد جمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين الأمرين بقوله : «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أن أحدا منكم لن ينجو بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا الا أن يتغمدني الله برحمته».

ومن عرف الله تعالى وشهد مشهد حقه عليه ومشهد تقصيره وذنوبه وأبصر هذين المشهدين بقلبه عرف ذلك وجزم به ، والله سبحانه وتعالى المستعان).

* * *

فصل

في إقامة المأتم على المتخلفين عن رفقة السابقين

بالله ما عذر امرئ هو مؤمن

حقا بهذا ليس باليقظان

بل قلبه في رقدة فإذا استفا

ق فلبسه هو حلة الكسلان

تالله لو شاقتك جنات النعي

م طلبتها بنفائس الأثمان

وسعيت جهدك في وصال نواعم

وكواعب بيض الوجوه حسان

جليت عليك عرائس والله لو

تجلى على صخر من الصوان

رقّت حواشيه وعاد لوقته

ينهال مثل نقى من الكثبان

لكن قلبك في القساوة جاز حد

الصخر والحصباء في أشجان

لو هزك الشوق المقيم وكنت ذا

حس لما استبدلت بالأهوان

أو صادفت منك الصفات حياة قل

ب كنت ذا طلب لهذا الشأن

خود تزفّ إلى ضرير مقعد

يا محنة الحسناء بالعميان

شمس لعنين تزف إليه ما

ذا حلية العنين في الغشيان

الشرح : بعد أن أفاض المؤلف في وصف الجنان وعرائسها من الحور العين

٤٣٩

وأتى في ذلك بما يهز الشوق ويثير الأشجان ويطير بالأرواح إلى بلاد الأفراح التي صاغها ربنا جل وعلا لأوليائه فأحسن صوغها ، ونقاها من كل دنس وصفاها من كل كدر ، ووفر لهم فيها كل رفاهية ومتعة لأبدانهم ، في المطاعم والمشارب والمناكح والملابس والمناظر البهيجة والملك الكبير وكل سرور ولذة لأرواحهم وقلوبهم برضوانه والنظر إلى وجهه.

وما أروع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وصف الجنة فيما رواه عنه أسامة رضي الله عنه : «ألا هل من مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها ، وهي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز وقصر مشيد ونهر مطرد وثمرة نضيجة وزوجة حسناء جميلة وحلل كثيرة ومقام في أبد في دار سليمة ، وفاكهة وخضر ، وحبرة ونعمة في محلة عالية بهية».

أقول : بعد أن صاغ المؤلف هذه الأبيات من أشواق قلبه ونظمها من فيض عواطفه وآهات وجده قال : أي عذر لمن صدق بهذا النعيم والبهجة والعاقبة الحميدة الحسنة ، ثم ظل قلبه فيما هو فيه من رقدة وغفلة ، فإذا أفاق وصحا لم يصح إلى جدّ وتشمير وعمل ، بل إلى خمود وبلادة وكسل. أليس هذا دليلا على جمود قلبه ويبسه وأنه لم يتحرك فيه الشوق إلى بلوغ هاتيك المنازل الرفيعة والجنات الناعمة إذ لو شاقته لبذل في سبيلها كل غال ونفيس ، وسعى جهده في وصال عرائسها المجلوة الناعمات وكواعبها البيض الفاتنات اللائي يتفجرن شبابا ويتألقن جمالا ويفضن رقة وعذوبة ، واللائي لو جليت صفاتها ومحاسنها لجلمود صخر لرقت جوانبه وعاد من فوره كثيبا مهيلا ، لكن القلوب أصبحت في قساوتها وجمودها ويبسها أشد من الصخر ، فلا تهتز بشوق ولا تتحرك بعاطفة ، إذ لو هزك الشوق وكنت ذا حس مرهف لما تعوضت عن هذا النعيم الأعلى بالحقير الدون من متاع هذه العاجلة ولو صادفت منك هذه الصفات قلبا ينبض بالحياة والحركة ويدرك مقدار هذا المطلوب الأعظم لجد غاية الجد في طلبه وسعى الى تحصيله بكل ممكن وإلا فهل يليق بتلك الخود أن تزف إلى ضرير مقعد ، فما أشد حينئذ محنتها به وما أنكد عيشها معه ، وهل يليق بشمس تتفجر

٤٤٠