شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الشرح : وردت أحاديث كثيرة تدل على ما أعد الله سبحانه من أجر عظيم للمتمسكين بسنّة نبيه المختار صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند فساد الزمان وانحلال عرى الدين. فروى أبو داود رحمه‌الله في سننه ، وروى أحمد بن حنبل الشيباني رضي الله عنه في مسنده أثرا تضمن أن للعامل من هذه الأمة عند فساد الزمان أجر خمسين رجلا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفظ الحديث عند أبي داود.

وعن أبي أمية الشعباني قال : «سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت : يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) [المائدة : ١٠٥]؟ قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك ـ يعني بنفسك ـ ودع عنك العوام ، فإن من ورائكم أيام الصبر فيها مثل قبض على الجمر ، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله ، وزاد في غيره ، قالوا يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال أجر خمسين منكم ، وله شاهد يقويه فيما رواه مسلم رحمه‌الله من أن العبادة في وقت الهرج ـ أي القتل والفتن ـ تعدل هجرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

هذا ولأهل السنة هجرات كثيرة لا بالأماني والأحلام ولكن بالتحقيق والتثبيت فلهم هجرة إلى الله عزوجل بالإخلاص والتوحيد ، ولهم هجرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء والاتباع ، ولهم هجرة من البدع إلى السنن ومن المعاصي إلى الطاعات ومن الأقوال والآراء إلى ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء في القرآن وله شاهد أيضا فيما رواه الترمذي من أن الذي يحيي سنة من سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ماتت يكون رفيقه في الجنة.

* * *

هذا ومصداق له أيضا أتى

في الترمذي لمن له عينان

تشبيه أمته بغيث أول

منه وآخره فمشتبهان

فلذاك لا يدري الذي هو منهما

قد خص بالتفضيل والرجحان

٣٢١

ولقد أتى أثر بأن الفضل

في الطرفين أعني أولا والثاني

والوسط ذو ثبج فاعوج هكذا

جاء الحديث وليس ذا نكران

ولقد أتى في الوحي مصداق له

في الثلتين وذاك في القرآن

أهل اليمين فثلة مع مثلها

والسابقون أقل في الحسبان

ما ذاك إلا أن تابعهم هم

الغرباء ليست غربة الأوطان

لكنها والله غربة قائم

بالدين بين عساكر الشيطان

فلذاك شبههم به متبوعهم

في الغربتين وذاك ذو تبيان

لم يشبهوهم في جميع أمورهم

من كل وجه ليس يستويان

فانظر إلى تفسيره الغرباء بالمحيين سنته بكل زمان الشرح : وروى كذلك الترمذي مصداقا لهذا الأثر الدال على فضل أهل الغربة العاملين بالسنّة عند فساد الأمة قوله عليه‌السلام فيما رواه عنه عمار بن ياسر رضي الله عنه «مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره».

قال ابن كثير رحمه‌الله بعد روايته لهذا الحديث :

(فهذا الحديث بعد الحكم بصحة إسناده محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه إلى من بعدهم ، كذلك هو محتاج إلى القائمين به في أواخرها ، وتثبيت للناس على السنّة وروايتها ، والفضل للمتقدم وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني ، ولكن العمدة الكبرى على الأول واحتياج الزرع إليه آكد فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه بها).

ولقد ورد أثر آخر يدل على أن الخير في طرفي هذه الأمة ، يعني في أولها وآخرها ، وأما وسطها فذو ثبج ، أي أحدب معوج.

ولقد أتى مصداق لهذه الآثار في القرآن عند قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ١٠ ، ١٤].

٣٢٢

وقوله من نفس السورة في شأن أصحاب اليمين (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ٣٩ ، ٤٠] فلما ذكر أصحاب اليمين جعلهم ثلتين ، ثلة من أول هذه الأمة وثلة من آخرها. وعند ما ذكر السابقين جعلهم ثلة من الأولين وقليلا من الآخرين. وليس ذلك إلا لأن التابع لهؤلاء السابقين في آخر الزمن يكونون أهل قلة وغربة كما قال صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه مسلم عن أبي هريرة «بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء».

ووردت روايات عدة في تفسير هؤلاء الغرباء ، ففي بعضها أنهم النزاع من القبائل. وفي أخرى أنهم الذين يصلحون إذا فسد الناس. وفي رواية أنهم الذين يفرون بدينهم من الفتن. وفي أخرى أنهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهذه الغربة المذكورة في هذا الحديث ليست غربة عن الأهل والأوطان ولكنها غربة المتمسك بدينه العاض عليه بناجذيه بين جنود الشيطان ، فلذلك شبههم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غربتيه الأولى والثانية في قلة الأعوان والأنصار. يقول العلامة ابن رجب الحنبلي في تفسيره لهذا الحديث :

قوله : «بدأ الإسلام غريبا» يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه على ضلالة عامة كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث عياض بن حمار الذي خرجه مسلم «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ـ عربهم وعجمهم ـ إلا بقايا من أهل الكتاب» ، فلما بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعا إلى الإسلام لم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة ، وكان المستجيب له خائفا من عشيرته وقبيلته يؤذى غاية الأذى وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عزوجل ، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين يشردون كل مشرد ويهربون بدينهم إلى البلاد النائية ، كما هاجروا إلى الحبشة مرتين ، ثم هاجروا إلى المدينة ، وكان منهم من يعذب في الله ومنهم من يقتل ، فكان الداخلون في الإسلام حينئذ غرباء ، ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إلى المدينة وعز وصار أهله ظاهرين كل الظهور ، ودخل الناس بعد ذلك

٣٢٣

في دين الله أفواجا ، وأكمل الله لهم الدين وأتم النعمة عليهم.

وتوفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر على ذلك وأهل الإسلام على غاية من الاستقامة في دينهم ، وهم متعاضدون متناصرون ، وكانوا على ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.

ثم عمل الشيطان مكايده على المسلمين ، وألقى بأسهم بينهم وأفشى فيهم فتنة الشبهات والشهوات ، ولم تزل هاتان الفتنتان تتزايدان شيئا فشيئا حتى استحكمت مكيدة الشيطان وأطاعه أكثر الخلق ، فمنهم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات ، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات ، ومنهم من جمع بينهما ، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوقوعه : إلى أن يقول :

(فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين بعد أن كانوا اخوانا متحابين متواصلين ، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق ففتنوا بالدنيا وزهرتها وصارت غاية قصدهم ، لها يطلبون وبها يرضون ولها يغضبون ولها يوالون وعليها يعادون فقطعوا لذلك أرحامهم وسفكوا دماءهم وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.

وأما فتنة الشبهات والأهواء المضلة ، فسببها تفرق أهل القبلة وصاروا شيعا وكفّر بعضهم بعضا ، وأصبحوا أعداء وفرقا وأحزابا ، بعد أن كانوا إخوانا قلوبهم على قلب رجل واحد ، فلم ينج من هذه الفرق كلها إلا الفرقة الواحدة الناجية ، وهم المذكورون في قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث الذين يصلحون إذا فسد الناس ، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة ، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن ، وهمّ النزاع من القبائل لأنهم قلوا ، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان ، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحد ، كما كان

٣٢٤

الداخلون في الإسلام في أول الأمر كذلك. وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث) أه.

* * *

طوبى لهم والشوق يحدوهم إلى

أخذ الحديث ومحكم القرآن

طوبى لهم لم يعبئوا بنحاتة الأ

فكار أو بزبالة الأذهان

طوبى لهم ركبوا على متن العزا

ئم قاصدين لمطلع الإيمان

طوبى لهم لم يعبئوا شيئا بذي الآ

راء إذ أغناهم الوحيان

طوبى لهم وامامهم دون الورى

من جاء بالإيمان والفرقان

والله ما ائتموا بشخص دونه

إلا إذا ما دلهم ببيان

الشرح : فالعاقبة الطيبة والنهاية الحميدة في جنة الخلد التي عرضها السموات والأرض لهؤلاء الغرباء الذين حدا بهم الشوق إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكبوا عليهما دراسة وفقها وتأملا ، وعولوا عليهما في كل أمورهم ، ولم يكترثوا لسواهما من هذه الآراء القذرة التي هي نحت أفكار معوجة ووساخة أذهان منحرفة ، فهؤلاء الغرباء لم يلتفتوا إلى شيء منها بل امتطوا صهوات العزائم إلى حيث مطلع الإيمان ومشرق النور ، فاستغنوا بالوحيين عن كل ما سواهما ، ولم يتخذوا إماما لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بعثه الله معلما للإيمان ومبيّنا للفرقان.

ووالله ما عرفوا لهم إماما غيره إلا رجلا يدلهم على ما قاله وجاء به من الهدى والعلم والإيمان.

* * *

في الباب آثار عظيم شأنها

أعيت على العلماء في الأزمان

إذ أجمع العلماء أن صحابة ال

مختار خير طوائف الإنسان

ذا بالضرورة ليس فيه الخلف بي

ن اثنين ما حكيت به قولان

فلذاك ذي الآثار أعضل أمرها

وبغوا لها التفسير بالإحسان

٣٢٥

فاسمع إذا تأويلها وأفهمه لا

تعجل برد منك أو نكران

إن البدار برد شيء لم تحط

علما به سبب إلى الحرمان

الفضل منه مطلق ومقيد

وهما لأهل الفضل مرتبتان

والفضل ذو التقييد ليس بموجب

فضلا على الإطلاق من إنسان

لا يوجب التقييد أن يقضي له

بالاستواء فكيف بالرجحان

إذ كان ذو الإطلاق حاز من الفضا

ئل فوق ذي التقييد بالإحسان

فإذا فرضنا واحدا قد حاز نو

عا لم يحزه فاضل الإنسان

لم يوجب التخصيص من فضل علي

ه ولا مساواة ولا نقصان

ما خلق آدم باليدين بموجب

فضلا على المبعوث بالقرآن

وكذا خصائص من أتى من بعده

من كل رسل الله بالبرهان

فمحمد أعلاهم فوقا وما

حكمت لهم بمزية الرجحان

فالحائز الخمسين أجرا لم يحز

ها في جميع شرائع الإيمان

هل حازها في بدر أو أحد أو ال

فتح المبين وبيعة الرضوان

بل حازها إذ كان قد فقد المع

ين وهم فقد كانوا أولي أعوان

الشرح : وقد حار العلماء في كل عصر في تفسير هذه الآثار العظيمة التي دلت على زيادة أجر العاملين في آخر الزمان على الصحابة رضي الله عنهم ، إذ كانوا قد أجمعوا على أن الصحابة هم أفضل خلق الله بعد النبيين. وهذا أمر معلوم بالضرورة لم يختلف فيه اثنان ولا حكي فيه قولان ، فلذاك أشكل أمر هذه الآثار على العلماء ، وحاولوا التوفيق بينها وبين ما هو متفق عليه من ذلك ، فإذا أردت أن تعرف تأويل هذه الآثار وأن تقف على جلية الأمر فيها فاسمع لما يقال لك من ذلك وحاول أن تفهمه ولا تعجل برد هذه الآثار وإنكارها ، فإن من أسباب الخيبة والحرمان أن يتعجل الإنسان رد ما لم يحط به علما من الأمور. فالفضل قسمان : أحدهما مطلق غير مقيد بعمل أو صفة أو وقت أو نحوها. والثاني مقيد بشيء من ذلك.

فالفضل للقيد لا يوجب لصاحبه فضلا مطلقا ، فلا يصح أن يحكم له

٣٢٦

بالمساواة مع صاحب الفضل المطلق ، فضلا عن أن يكون راجحا عليه ، فإن ذا الفضل المطلق قد أحرز من الفضائل والمناقب ما لم يحرزه صاحب الفضل المقيد ، فإذا فرضنا واحدا من الناس قد حاز نوعا من الفضائل لم يحزه الذي هو أفضل منه لم يوجب تخصيصه بهذا النوع فضلا عليه ولا مساواة له.

فخلق الله آدم بيديه ميزة لآدم عليه‌السلام ، لم توجب له أن يكون أفضل من نبينا عليه‌السلام. وكذا خصائص الرسل بعد آدم ، كتخصيص موسى بالتكليم وعيسى بأنه روح الله وكلمته ، لم يوجب لهم أن يكونوا أفضل من محمد ، بل هو أعلاهم شرفا وأرفعهم عند الله درجات ، فكذلك الحائز لأجر خمسين رجلا من الصحابة لم يحزها في جميع الأعمال الإيمانية حتى يكون أفضل أو مساويا للصحابة فإنه لم يحزها في بدر ولا أحد ، ولا في فتح مكة ولا بيعة الرضوان تحت الشجرة ، وإنما حازها بسبب غربته وفقده للناصر المعين ، على حين كانوا هم يجدون على الحق أعوانا.

* * *

والرب ليس يضيع ما يتحمل

المتحملون لأجله من شان

فتحمل العبد الوحيد رضاه مع

فيض العدو وقلة الأعوان

مما يدل على يقين صادق

ومحبة وحقيقة العرفان

يكفيه ذلا واغترابا قلة الأ

نصار بين عساكر الشيطان

في كل يوم فرقة تغزوه ان

ترجع يوافيه الفريق الثاني

فسل الغريم المستضام عن الذي

يلقاه بين عدا بلا حسبان

هذا وقد بعد المدى وتطاول ال

عهد الذي هو موجب الإحسان

ولذاك كان كقابض جمرا فسل

أحشاءه عن حرّ ذي النيران

والله أعلم بالذي في قلبه

يكفيه علم الواحد المنان

في القلب أمر ليس يقدر قدره

إلا الذي آتاه للإنسان

بر وتوحيد وصبر مع رضا

والشكر والتحكيم للقرآن

٣٢٧

سبحانه قاسم فضله بين العبا

د فذاك مولى الفضل والإحسان

فالفضل عند الله ليس بصورة الأ

عمال بل بحقائق الإيمان

وتفاضل الأعمال يتبع ما يقو

م بقلب صاحبها من البرهان

حتى يكون العاملان كلاهما

في رتبة تبدو لنا بعيان

هذا وبينهما كما بين السما

والأرض في فضل وفي رجحان

ويكون بين ثواب ذا وثواب ذا

رتب مضاعفة بلا حسبان

هذا عطاء الرب جل جلاله

وبذاك تعرف حكمة الرحمن

الشرح : والله سبحانه وتعالى أكرم من أن يضيع ما يتحمله عبده لأجله من شئون ، فتحمله مرارة الرضى والصبر مع كثرة الأعداء وقلة الأنصار مما يدل على صدق يقينه بالله عزوجل وقوة معرفته ومحبته له ، فبحسبه من الذل والغربة قلة أنصاره بين جحافل الشرك التي تغزوه فرقة بعد فرقة ، كلما رجعت عنه فرقة وأفته فرقة أخرى ، فسل هذا الكسير المهيض الجناح عما يلقاه من أعدائه الذين لا حصر لهم مع تطاول الأمد وبعد العهد بالقرون الفاضلة. ولذلك تراه في صبر على أذى أعدائه كالقابض على الجمر ، وترى في أحشائه نارا متقدة من الحزن والألم ، والله سبحانه هو الذي يعلم ما في قلبه من أمور عظيمة لا يقدر قدرها إلا هو سبحانه ، إذ هو موليها ومعطيها فيه بر ووفاء وتوحيد ، وإخلاص وصبر ورضا وشكر وعرفان وتحكيم للسنة والقرآن ، فسبحان مولى الفضل والإحسان الذي قسم الفضل بين عباده بالقسط والميزان والفضل عنده ليس بظواهر الأعمال بل بما تقوم عليه من حقائق الإيمان ، فهي تتفاوت في الفضل بقدر ما يكون في قلب صاحبها من الإخلاص واليقين والخوف والمحبة والتذلل والخضوع الخ. حتى أن الرجلين ليكونان في صلاة واحدة ركوعهما واحد وسجودهما واحد ، وأن بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض ، فإحداهما صاحبها في خشوع وخشية وحضور قلبه مع الله ، والأخرى أداها صاحبها وهو ساه غافل عن صلاته ، إنما يؤديها حركات بالجوارح وأقوالا باللسان دون أن يكون حاضر الجنان.

وبين هاتين الدرجتين من المراتب ما لا حصر له ، فيكون بين ثواب هذه

٣٢٨

وتلك من الدرجات ما لا يحصيه إلا الله ، فهذا عطاؤه وفضل الذي قسمه بين أهل الفضل من خلقه ، وهذه حكمته البالغة في تفاوت درجات الأعمال في الإحسان وتفاوتها تبعا لذلك في الجزاء. قال تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الأحقاف : ١٩].

وقال سبحانه : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [آل عمران : ١٦٣].

* * *

فصل

فيما أعد الله تعالى في الجنة لأوليائه المتمسكين بالكتاب والسنة

يا خاطب الحور الحسان وطالبا

لوصالهن بجنة الحيوان

لو كنت تدري من خطبت ومن طلب

ته بذلت ما تحوي من الأثمان

أو كنت تدري أين مسكنها جعل

ت السعي منك لها على الأجفان

ولقد وصفت طريق مسكنها فان

رمت الوصال فلا تكن بالواني

أسرع وحث السير جهدك إنما

مسراك هذا ساعة لزمان

فاعشق وحدّث بالوصال النفس واب

ذل مهرها ما دمت ذا إمكان

واجعل صيامك قبل لقياها ويو

م الوصل يوم الفطر من رمضان

واجعل نعوت جمالها الحادي وسر

تلقي المخاوف وهي ذات أمان

الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من بيان عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة التي تقوم على إثبات كل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعد أن دحض عقائد أهل الزيغ والتعطيل أخذ في بيان ما أعد الله من الجزاء العظيم في جنة النعيم للمتمسكين بكتابه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فهو ينادي من يريد التزوج بالحور الحسان وينشد الحظوة بوصالهن في جنة الحيوان التي هي الحياة الحقة ومنزل الكرامة والرضوان فيقول له : لو كنت تعلم

٣٢٩

قدر مخطوبتك ونفاستها لبذلت لها كل ما تقدر عليه من أثمان ، ولو كنت تعلم أي دار تسكنها ، وأنها الدار التي حوت من صنوف النعيم والسرور كل ما تشتهيه الأنفس وتلذه الأعين ، ومما لم يخطر على قلب إنسان لجعلت السعي منك إليها على الأرؤس إن لم تسعف القدمان.

ولقد دللتك على الطريق المؤدي إلى هذا المسكن الطيب ، وهو العمل بالسنة والقرآن ، فإن كنت طالبا للوصول حقا فإن الطريق لا يقطعه كسلان بل شمر عن ساعد جدك وأغذ السير على مطية عزمك ولا تستطل الطريق ، فما سيرك إلا ساعة من زمان فتذكر قدر مخطوبتك وعلق بها قلبك وحدث بطيب وصالها نفسك ولا تبخل عليها بغالي المهور والأثمان ما دمت ذا قدرة وإمكان ، ولا تبال بما تلقاه في هذه الدنيا من بؤس وحرمان ، بل قدر كأن عمرك هو شهر رمضان. فأنت تصومه لعدته وتجعل يوم فطرك هو يوم وصال الأحبة والخلان ، وتغن بأوصاف حسنها في سيرك ، وأتخذ منه حداء يلهب شوقك ويجدد نشاط عزمك ، وهناك تزايلك المخاوف كلها وتصبح في سكينة وأمان.

* * *

لا يلهينك منزل لعبت به

أيدي البلا من سالف الأزمان

فلقد ترحل عنه كل مسرة

وتبدلت بالهم والأحزان

سجن يضيق بصاحب الإيمان ل

كن جنّة المأوى لذي الكفران

سكانها أهل الجهالة والبطا

لة والسفاهة أنجس السكان

وألذهم عيشا فأجلهم

بحق الله ثم حقائق القرآن

عمرت بهم هذي الديار وأقفرت

منهم ربوع العلم والإيمان

قد آثروا الدنيا ولذة عيشها ال

فاني على الجنات والرضوان

صحبوا الأماني وابتلوا بحظوظهم

ورضوا بكل مذلة وهوان

كدحا وكذا لا يفتر عنهم

ما فيه من غم ومن أحزان

الشرح : فلا يشغلنك عن السير إلى غايتك والجد للقاء محبوبتك هذا المنزل

٣٣٠

الفاني الذي عصفت به ريح البلى من قديم الزمان ، وهو خلو من كل ما يسر القلب ويبهج النفس ، بل ليس حشوه إلا الهموم والأحزان ، وهو حبس للمؤمن يضيق به لأنه يلقى فيه المكاره ويصيم فيه النفس عن مراتع الشهوات ويثقلها بقيود الطاعات ، ولكنه جنة للكافرين يرتع فيها منطلقا من كل قيد متبعا للأهواء والشهوات وسكان هذا المنزل المحشو بالآفات هم أهل البطالة الذين لا يشعرون بالمسئوليات ولا يقدرون التبعات ، وأهل الجهالات الذين رضوا لأنفسهم أن يلتحقوا بغمار والعجماوات وأهل السفالة الذين هجروا معالي الأمور وأخلدوا إلى المحقرات والدناءات ، وبالجملة فهم أنجس الحيوان وأخبث البريات. وأطيبهم عيشا في هذه الدنيا هو أشدهم جهلا بحقوق الله العظيم وحقائق كتابه الكريم فهو كما يقول الشاعر :

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

ولقد عمروا هذه الدنيا وافتنوا في عمارتها ، حتى لم يتركوا بابا للرفاهة إلا ولجوه ولا طريقا للشهوة إلا سلكوه ، فقد يخيل لمن يراهم يلهثون وراءها ويمنعون في عمارتها وتزيينها أنهم يعملون في دار خلد ومنزل إقامة ، لا في دار بلى ومنزل نفاد وهم مع ذلك هجروا مجالس العلم وأقفرت منهم ربوع الإيمان ، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا ونعيمها الزائل على ما عند الله للمتقين من جنات ورضوان. وغرتهم الأماني الباطلة فعاشوا فيها سعيا وراء الحظوظ العاجلة ورضي بكل هوان ومذلة مع بذل غاية التعب والجهد في تحصيلها ، فإذا وقع بهم مكروه من مكارهها اغتموا لذلك أعظم الغم ، وإذا فاتهم شيء من محبوباتها حزنوا أشد الحزن ، فهم دائما يتقلبون في غموم وأحزان.

* * *

والله لو شاهدت هاتيك الصدو

ر رأيتها كمراجل النيران

ووقودها الشهوات والحسرات والآ

لام لا تخبو مدى الأزمان

أبدانهم أجداث هاتيك النفو

س اللائي قد قبرت مع الأبدان

أرواحهم في وحشة وجسومهم

في كدحها لا في رضا الرحمن

٣٣١

هربوا من الرق الذي خلقوا له

فبلوا برق النفس والشيطان

لا ترض ما اختاروه هم لنفوسهم

فقد ارتضوا بالذل والحرمان

لو ساوت الدنيا جناح بعوضة

لم يسق منها الرب ذا الكفران

لكنها والله أحقر عنده

من ذا الجناح القاصر الطيران

ولقد تولت بعد عن أصحابها

فالسعد منها حل بالدبران

لا يرتجى منها الوفاء لصبها

أين الوفاء من غادر خوان

طبعت على كدر فكيف ينالها

صفو أهذا قط في الامكان

يا عاشق الدنيا تأهّب للذي

قد ناله العشاق كل زمان

أو ما سمعت بل رأيت مصارع ال

عشاق من شيب ومن شبان

الشرح : ووالله لو كشف لك ما في صدور أهل الدنيا من شهوات وأحقاد لرأيتها تغلي كغلي المراجل ، تحتها نار شديدة الإيقاد ، لأنها تمد دائما بحطب من الشهوات المستعرة والحسرات المضطرمة والآلام الموجعة ، فهي لا تنطفئ أبدا ولا يخمد لها رماد : وهم قد حبسوا أنفسهم في سجن أبدانهم حتى صارت هذه الأبدان قبورا لهذه النفوس التي قبرت مع الأبدان ، وأرواحهم تعيش في غربة معهم لأنهم عزلوها عن عالمها الأصيل وحرموها غذاءها من الإيمان والمعرفة ، وعاشوا لهذه الأجسام يتعبون في تحصيل ما تتطلبه من متع وشهوات ، فكدحهم دائما في صيانة هذه الأبدان لا في رضى الرحمن.

والعجيب أنهم هربوا من العبودية التي خلقوا لها ، وهي العبودية لله التي تورث صاحبها العز والشرف ، فرماهم الله بالعبودية للنفس والشيطان فلا ترض أيها العاقل اللبيب أن تسلك سبيل هؤلاء ولا تختر لنفسك ما اختاروه لأنفسهم من ذل وحرمان ، ومن إيثار هذه الدنيا الفانية التي يقول فيها الرسول عليه‌السلام «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء» فدل هذا على أنها أهون على الله من ذلك الجناح الضعيف الذي لا يقوى على الطيران.

٣٣٢

وهي غرارة خداعة تتزين لخطابها حتى إذا أنسوا إليها وظنوا أن قد طاب لهم وصالها كشّرت عن أنيابها وقلبت لهم ظهر المجن وأدبرت عنهم مولية ، فهي لا تقبل إلا لتدبر ولا تبتسم إلا للتجهم ، ولا تعد إلا لتخلف ، وهي دار لا يؤمل منها الوفاء لعشاقها الذين أغرموا صبابة بها ، وكيف ينتظر الوفاء ممن طبيعته الغدر والاخلاف ، أي كيف يرجى الصفو ممن هو ممتزج بالأقذاء والأكدار.

فيا عشاق الدنيا وخطابها انتظروا غدرتها بكم ووثبتها عليكم كما فعلت بعشاقها قبلكم ، فلقد سمعتم من أخبار صرعاها الغابرين ، ورأيتم من مصائر قتلاها الكثيرين ما فيه عبرة لكم إن كنتم من المستبصرين.

* * *

فصل

في صفة الجنة التي أعدها الله ذو الفضل والمنة

لأوليائه المتمسكين بالكتاب والسنة

فاسمع إذا أوصافها وصفات ها

تيك المنازل ربة الإحسان

هي جنة طابت وطاب نعيمها

فنعيمها باق وليس بفان

دار السلام وجنة المأوى ومن

زل عسكر الإيمان والقرآن

فالدار دار سلامة وخطابهم

فيها سلام واسم ذي الغفران

الشرح : فإذا كنت مشوقا إلى معرفة أوصاف تلك الدار التي هي مسكن الحور الحسان ومستقر الرحمة والرضوان ، وأوصاف منازلها وغرفها صاحبة الجمال والإحسان ، فأعلم أنها جنة طيبة قد تمحض طيبها ، فلا يلحقها خبث ولا أذى ، وطاب نعيمها فهو باق لا يبيد ولا يفنى ، وهو صاف من كل شوب فلا يمازجه كدر ولا يعرض له عطب ولا عفن ، ولا تبلى جدته ولا تذبل نضارته.

ومن أجل أن الجنة طيبة كانت دار الطيبين ، فلا يدخلها إلا من صلح وطاب

٣٣٣

كما قال تعالى : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) [الرعد : ٢٣] وكما قال : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل : ٣١ ، ٣٢].

وكقوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) [الزمر : ٧٣] وهي تسمى دار السلام لأن أهلها سالمون من كل مكروه لا يمسهم فيها نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ، ولأن تحيتهم فيها السلام ، يسلم عليهم ربهم ، كما قال تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨].

وتسلم عليهم الملائكة كما قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) [الرعد : ٢٣ ، ٢٤].

وتسمى أيضا جنة المأوى كقوله تعالى : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة : ١٩] ومعنى المأوى المستقر والمسكن ، فهي مأوى الأبرار من عباد الله ومسكن جنده الذين هم عساكر القرآن والإيمان.

* * *

فصل

في عدد درجات الجنة وما بين كل درجتين

درجاتها مائة وما بين اثنتي

ن فذاك في التحقيق للحسبان

مثل الذي بين السماء وبين هذي

الأرض قول الصادق والبرهان

لكن عاليها هو الفردوس مس

قوف بعرش الخالق الرحمن

وسط الجنان وعلوها فلذاك كا

نت قبة من أحسن البنيان

٣٣٤

منه تفجر سائر الأنهار فال

ينبوع منه نازل بجنان

الشرح : هذا بيان لدرجات الجنة ومنازلها ، وهي من الكثرة والتفاوت بحيث لا يعلم عظمها وتباهيها إلا الله عزوجل قال تعالى : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) [آل عمران : ١٦٣] وقال : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٥ ، ٩٦].

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم ، قالوا يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين» ولهما أيضا من حديث سهل بن سعد : «أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرفة في الجنة كما ترون الكوكب في أفق السماء».

وفي المسند من حديث أبي سعيد يرفعه : «أن في الجنة مائة درجة ، ولو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن وسعتهم».

وفي المسند عنه أيضا مرفوعا : «يقال لصاحب القرآن إذا دخل الجنة اقرأ واصعد ، فيقرأ ويصعد بكل آية درجة حتى يقرأ آخر شيء معه».

وهذا صريح في أن درجات الجنة أزيد من مائة ، وأما تحديدها بمائة كما في الحديث الذي قبله وفي غيره فلعل المراد به كما قال المؤلف في كتابه (حادي الأرواح) أن هذه المائة هي نهاية الدرجات ، وفي ضمن كل درجة درجة دونها ، أو المراد بها الدرجات الكبار التي تتخللها درج صغار.

وورد أن بين كل درجتين مسيرة مائة عام ، وورد خمسمائة عام ولا تناقض بينهما ، فإن ذلك محمول على اختلاف السير في السرعة والبطء قاله المؤلف وأعلى

٣٣٥

درجات الجنة هو الفردوس ، فهو وسط الجنة وأعلاها ، وسقفه عرش الرحمن ، كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة».

وأعلى درجات الفردوس هي الوسيلة التي خص بها نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسميت وسيلة لأنها أقرب الدرجات الى العرش ، فهي أقرب الدرجات إلى الله عزوجل روى مسلم في صحيحه من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي ، فإنه من صلى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو ان أكون هو ، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي».

* * *

فصل

في أبواب الجنة

أبوابها حق ثمانية أتت

في النص وهي لصاحب الإحسان

باب الجهاد وذاك أعلاها وبا

ب الصوم يدعي الباب بالريان

ولكل سعي صالح باب ورب

السعي منه داخل بأمان

ولسوف يدعى المرء من أبوابها

جمعا إذا وفى حلى الإيمان

منهم أبو بكر هو الصديق ذا

ك خليفة المبعوث بالقرآن

الشرح : ورد في القرآن ذكر أبواب الجنة من غير نص على عددها. قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ) [الرعد : ٢٣].

٣٣٦

وقال سبحانه : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) [ص : ٥٠].

وقال : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) [الزمر : ٧١].

ولكن السنة المطهرة بينت أن عددها ثمانية أبواب ، وأن أعلاها هو باب الجهاد ، ولها باب يقال له الريّان لا يدخل منه إلا الصائمون ، فإذا دخلوا أغلق ، فلا يدخل منه أحد غيرهم. ولكل نوع من الأعمال الصالحة باب يدخل منه أهله المبرزون فيه ، وقد يدعى المرء من الأبواب كلها إذا وفى بجميع شعب الإيمان. ومن هؤلاء صديق هذه الأمة وأفضل الناس جميعا بعد النبيين أبو بكر خليفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «في الجنة ثمانية أبواب ، باب منها يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون».

وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من أنفق زوجين في شيء من الأشياء في سبيل الله دعي من أبواب الجنة ، يا عبد الله هذا خير ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام ، فقال أبو بكر بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة؟ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ، فقال نعم وأرجو ان تكون منهم».

وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما منكم من أحد يتوضأ فيبالغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء».

* * *

٣٣٧

فصل

في مقدار ما بين الباب والباب منها

سبعون عاما بين كل اثنين من

ها قدّرت بالعد والحسبان

هذا حديث لقيط المعروف بال

خبر الطويل وذا عظيم الشأن

وعليه كل جلالة ومهابة

ولكم حواه بعد من عرفان

الشرح : يعني أن المسافة التي تفصل بين كل بابين من أبواب الجنة هي مسيرة سبعين عاما مقدرة بالعد والحساب كما ورد في حديث لقيط بن عامر الذي رواه الطبراني في معجمه أنه خرج وافدا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال قلت يا رسول الله فما الجنة والنار ، قال : «لعمر إلهك أن للنار سبعة أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما ، وأن للجنة ثمانية أبواب ما منهن بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاما».

والحديث طويل وهو عظيم القدر جدا وفيه من أنواع المعرفة ما ينبغي ان يجد كل أحد في تحصيله ، فليرجع إليه من أراد.

* * *

فصل

في مقدار ما بين مصراعي الباب

لكن بينهما مسيرة أربعي

ن رواه حبر الأمة الشيباني

في مسند بالرفع وهو لمسلم

وقف كمرفوع بوجه ثان

ولقد روى تقديره بثلاثة ال

أيام لكن عند ذي العرفان

أعني البخاري الرضي هو منكر

وحديث راويه فذو نكران

الشرح : أما المسافة بين مصراعي باب الجنة وهما عضادتاه ، فقد قدرت بمسيرة أربعين سنة في عدة أحاديث بعضها مرفوع وبعضها موقوف ، أما المرفوع

٣٣٨

فروي الإمام أحمد في مسنده من طريق حماد بن سلمة قال : سمعت الجريري يحدث عن حكيم بن معاوية عن أبيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ، وما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين عاما ، وليأتين عليه يوم وله كظيظ».

وأما الموقف فما رواه مسلم عن خالد بن عمير العدوي قال (خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يصبها صاحبها ، وأنكم منقلبون عنها إلى دار لا زوال لها فانقلبوا بخير ما بحضرتكم ، ولقد ذكر لنا أن مصراعين من مصاريع الجنة بينهما مسيرة أربعين سنة وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام وقد روي تقدير المسافة بثلاثة أيام ، فعن سالم بن عبد الله عن أبيه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الباب الذي يدخل منه أهل الجنة مسيرة الراكب المجد ثلاثا ، ثم إنهم ليضغطون عليه حتى تكاد مناكبهم تزول» رواه عنه أبو نعيم.

وقد اختار المصنف رحمه‌الله هذا الرأي لأنه مطابق لما جاء في حديث الشفاعة المتفق على صحته عن أبي هريرة من قوله عليه‌السلام «والذي نفسي بيده أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى».

قال المصنف : (فإن الراكب المجد غاية الإجادة على أسرع هجين لا يفتر ليلا ولا نهارا يقطع هذه المسافة في هذا القدر أو قريبا منه) لكن هذا الحديث رغم ذلك أنكره البخاري رحمه‌الله وقال عن رواية أن أحاديثه مناكير فالله أعلم.

* * *

فصل

في مفتاح باب الجنة

هذا وفتح الباب ليس بممكن

إلا بمفتاح على أسنان

مفتاحه بشهادة الإخلاص والتو

حيد تلك شهادة الإيمان

أسنانه الأعمال وهي شرائع ال

إسلام والمفتاح بالأسنان

٣٣٩

لا تلغين هذا المثال فكم به

من حل اشكال لذي العرفان

الشرح : لكن هذه الأبواب لا تفتح إلا لمن يملك مفتاحها ، ولا بد لهذا المفتاح من أسنان حتى يصلح للفتح ، فمفتاح هذه الأبواب هي كلمة التوحيد وشهادة الإخلاص التي هي لا إله إلا الله.

وأما أسنان هذا المفتاح فهي شرائع الإسلام كلها ، من الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة والجهاد وبر الوالدين وأداء الأمانة والإحسان إلى الجار الخ. والمفتاح يكون بأسنانه ، فقد ذكر البخاري في صحيحه عن وهب بن منبه أنه قيل له : أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال بلى ولكن ليس من مفتاح إلا وله أسنان ، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.

وهذا المثال الذي ضربه وهب يجب اعتباره لأن فيه حلا لمشاكل كثيرة وردت في بعض الأحاديث ، حيث علق دخول الجنة فيها على قول لا إله إلا الله أو الموت على التوحيد ، فيجب أن لا يفهم منها أن لا إله إلا الله بمجردها كافية في دخول الجنة والنجاة من النار ، بل لا بد معها من حقوقها التي هي أسنان المفتاح.

* * *

فصل

في منشور الجنة الذي يوقع به لصاحبها

هذا ومن يدخل فليس بداخل

إلا بتوقيع من الرحمن

وكذاك يكتب للفتى لدخوله

من قبل توقيعان مشهوران

إحداهما بعد الممات وعرض أر

واح العباد به على الديان

فيقول رب العرش جل جلاله

للكاتبين وهم أولو الديوان

ذا الاسم في الديوان يكتب ذاك دي

وان الجنان مجاور المنان

ديوان عليين أصحاب القرا

ن وسنة المبعوث بالقرآن

فإذا انتهى للجسر يوم الحشر يع

طى للدخول اذا كتاب ثان

٣٤٠