شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

أكثر مما ذكرته لكم من أنواع الضلال والفتون ، ولكنكم عمي لا تبصرون.

* * *

فصل

في بهت أهل الشرك والتعطيل في رميهم

أهل التوحيد والاثبات بتنقيص الرسول

قالوا تنقصتم رسول الله وا

عجبا لهذا البغي والبهتان

عزلوه أن يحتج قط بقوله

في العلم بالله العظيم الشأن

عزلوا كلام الله ثم رسوله

عن ذاك عزلا ليس ذا كتمان

جعلوا حقيقته وظاهره هو ال

كفر الصريح البيّن البطلان

قالوا وظاهره هو التشبيه والت

جسيم حاشا ظاهر القرآن

من قال في الرحمن ما دلت علي

ه حقيقة الأخبار والفرقان

فهو المشبه والمثل والمج

سم عابد الأوثان لا الرحمن

تالله قد مسخت عقولكم فلي

س وراء هذا قط من نقصان

ومريتم حزب الرسول وجنده

بمصابكم يا فرقة البهتان

وجعلتم التنقيص عين وفاقه

إذ لم يوافق ذاك رأي فلان

الشرح : ومن العجب أن هؤلاء المعطلة المبطلين يرمون أهل الحق والسنة الموحدين بأنهم يتنقصون من قدر الرسول الأمين لأنهم ينهون عن شد الرحال إلى زيارة قبره فضلا عن قبور غيره ، عملا بقوله هو وأمره ، حيث قال في الصحيح : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» ونسي هؤلاء البغاة أنهم هم أولى وأحق بما رموا به خصومهم فقد عزلوا كلامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يحتج به في باب العلم بالله وأسمائه وصفاته. فإذا روي لهم حديث صحيح يتضمن شيئا من ذلك قالوا هذه أخبار آحاد لا يحتج بها في باب الاعتقاد ، بل عزلوا كلام الله ورسوله عن إفادة العلم واليقين عزلا لا

٢٠١

خفاء فيه حيث حكموا بأن حقيقته وظاهره كفر صريح ، وباطل بين لا شبهة فيه لأنه في زعمهم يفضي إلى التجسيم والتشبيه ، فمن قال عندهم بما دلت عليه حقيقة الأخبار النبوية وآيات الكتاب العزيز ، فهو المشبه الممثل المجسم عابد الأوثان لا عابد الرحمن.

فانظر إلى هذا المسخ والتشويه الذي أصاب عقول هؤلاء المماليك حتى وصلت إلى أحط الدركات حيث رموا حزب الرسول وجنده بدائهم وبهتوهم بما هو ألصق بهم ، فكانوا كما قال القائل : «رمتني بدائها وانسلت». وجعلوا الموافق لقول الرسول تنقيصا له ما دام لا يوافق رأي شياطينهم.

* * *

أنتم تنقصتم إله العرش

والقرآن والمبعوث بالقرآن

نزهتموه عن صفات كماله

وعن الكلام وفوق كل مكان

وجعلتم ذا كله التشبيه والت

مثيل والتجسيم ذا البطلان

وكلامكم فيه الشفاء وغاية ال

تحقيق يا عجبا لذا الخذلان

جعلوا عقولهم أحق بأخذ ما

فيها من الاخبار والقرآن

وكلامه لا يستفاد به اليقي

ن لأجل ذا لا يقبل الخصمان

تحكيمه عند اختلافهما بل ال

معقول ثم المنطق اليونان

أي التنقص بعد ذا لو لا الوقاء

حة والجراءة يا أولي العدوان

يا من له عقل ونور قد غدا

يمشي به في الناس كل زمان

الشرح : بل أنتم المتنقصون لا للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده بل لله ولكتابه ولرسوله ، حيث نفيتم صفات كماله سبحانه بحجة التنزيه ، ونفيتم كذلك كلامه وعلوه على خلقه ، وسميتم هذا كله تشبيها وتمثيلا وتجسيما تسمية من عند أنفسكم ما أنزل الله به من سلطان ، وزعمتم لأنفسكم أنكم أهل التحقيق والعرفان وأن كلامكم فيه غاية التدقيق وشفاء الحيران فما أشد ما أنتم فيه من ضلال وخذلان حيث تجعلون ما في عقولكم من زور وبهتان أحق بالتقديم والأخذ بما فيه من الأخبار

٢٠٢

والقرآن ، وأما كلامه فلا يستفاد منه اليقين والإيمان ، ومن أجل هذا لا تقبلون عند التنازع والاختلاف تحكيم السنة والقرآن ، بل تلجئون إلى مسلماتكم العقلية واصطلاحاتكم الكلامية وإلى أقيسة منطق اليونان.

فأي تنقص بعد هذا لله ولرسوله وللقرآن ، لو لا فقدانكم الحياء يا أولي الإثم والعدوان ، ولكن من رزقه الله عقلا يهديه ونورا يمشي به في الناس يدرك حقيقة ما أنتم عليه من زور وبهتان.

* * *

لكننا قلنا مقالة صارخ

في كل وقت بينكم بأذان

الرب رب والرسول فعبده

حقا وليس لنا إله ثان

فلذاك لم نعبده مثل عبادة ال

رحمن فعل المشرك النصراني

كلا ولم نغل الغلو كما نهى

عنه الرسول مخافة الكفران

لله حق لا يكون لغيره

ولعبده حق هما حقان

لا تجعلوا الحقين حقا واحدا

من غير تمييز ولا فرقان

فالحج للرحمن دون رسوله

وكذا الصلاة وذبح ذا القربان

وكذا السجود ونذرنا ويميننا

وكذا متاب العبد من عصيان

وكذا التوكل والإنابة والتقى

وكذا الرجاء وخشية الرحمن

وكذا العبادة واستعانتنا به

إياك نعبد ذان توحيدان

وعليهما قام الوجود بأسره

دنيا وأخرى حبذا الركنان

وكذلك التسبيح والتكبير والتّ

هليل حق الهنا الديان

الشرح : لله در المؤلف فقد بين في هذه الأبيات حق الله الذي لا ينبغي لأحد سواه ، ونعى على هؤلاء القبوريون غلوهم في تعظيم المخلوقين ، حتى جعلوهم أندادا لله رب العالمين ، فهو يقول لهم : إننا ما زلنا نصرخ فيكم كل وقت وننادي بأعلى صوتنا أن لا تجعلوا لله شريكا في ربوبيته ، فإنه رب واحد سبحانه ، وأما الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو عبد الله حقا ، ولكنه خير عبد ، وليس هو إلها

٢٠٣

مع الله كما قال تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) [النحل : ٥١] ولذلك لم نعبده مثل عبادتنا لله ، كما فعل النصارى في نبيهم عيسى عليه‌السلام ، حيث جعلوه ابنا لله ، بل قال بعضهم أنه هو الله ، وكذلك لم نغل فيه كما غلا النصارى في عيسى وهو قد نهانا عن هذا الغلو خشية أن يفضي بنا إلى الكفر ، ففي الصحيح عنه عليه‌السلام أنه قال : «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، وإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله».

وحاصل هذا الباب إن لله عزوجل حقا ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حقا ، فأما حق الله فهو مختص به لا يجوز أن يشركه غيره فيه. وأما حق الرسول فهو ثابت له أيضا ، فلا يصح أن نخلط بين الحقين فنجعل ما هو مختص بأحدهما للآخر دون تفرقة أو تمييز ، فإن تلك هي الندية التي نهانا عنها الله ورسوله.

فأما حقوق الله التي لا تنبغي إلا له فمنها الحج ، وهو القصد إلى زيارة بيته الحرام لأداء المناسك المعروفة ، ومنها الصلاة ، فرضا كانت أو نفلا ، ومنها الذبح لقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ) [الأنعام : ١٦٢] والنسك هو الذبح ، ولقوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) [الكوثر : ٢] فكما أمره بالصلاة لربه أمره بالنحر له ، ومنها السجود وهو وضع الجبهة على الأرض على جهة الذل والخضوع لقوله عليه‌السلام لمعاذ حين سجد له : «لو كنت آمرا أحد أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولكن لا ينبغي السجود إلا لله».

ومنها النذر ، فإن النذر عبادة لا تنبغي إلا لله ، قال تعالى : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [الحج : ٢٩] ومدح الأبرار من عباده بأنهم (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) [الإنسان : ٧] وقال : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) [البقرة : ٢٧٠].

ومنها الحلف فإنه تعظيم للمحلوف به ، وذلك لا يكون إلا لله ، قال عليه

٢٠٤

الصلاة والسلام : «من حلف بغير الله فقد أشرك» وقال : «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر».

ومنها التوبة من المعاصي ، وهي الرجوع إلى الله عزوجل بالندم والاستغفار والعزم على عدم العود إلى المعصية ، قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [التحريم : ٨] وقال : (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ) [الرعد : ٣٠] وفي الحديث : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لرجل : ألا تتوب؟ فقال الرجل : اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمد ، فضحك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : عرف الحق لأهله».

ومنها التوكل ، قال تعالى : (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة : ٢٣] وقال : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم : ١٢] وفي الحديث «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا».

ومنها الإنابة لقوله تعالى : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ) [الروم : ٣١] وقوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر : ٥٤] وقوله : (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى) [الزمر : ١٧].

ومنها التقى لقوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) [النحل : ٥٢] وقوله : (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) [البقرة : ٤١] وقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) [النور : ٥٢] فجعل سبحانه الطاعة له ولرسوله ، وجعل الخشية والتقوى له وحده.

ومنها الرجاء والخشية لقوله تعالى : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) [الأنبياء : ٩٠] وقوله : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) [الإسراء : ٥٧] وقوله : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) [السجدة : ١٦].

٢٠٥

ومنها العبادة والاستعانة ، قال تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] أي لا نعبد إلا أنت ولا نستعين إلا بك ، فهما توحيدان ، توحيد في العبادة والإلهية ، وتوحيد في الاستعانة ، أي في طلب العون والتوكل عليه في كل أمر ، قال تعالى : (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود : ١٢٣].

وعلى هذين التوحيدين قام الوجود كله ، دنياه وآخرته ، فإن الأمر بين الرب وعبده دائر بين العبادة التي هي حقه وبين طلب العبد منه ما لا سبيل إلى تحصيله إلا بعونه ، فبهما ينتظم شئون المعاد والمعاش.

ومنها التسبيح والتهليل والتكبير ، أي قولنا باللسان مع مواطأة القلب : سبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر. ومثلها أيضا جميع العبادات القولية من السؤال والدعاء والذكر والاستغاثة والاستعاذة والاستخارة والتسمية وغيرها والله سبحانه أعلم.

* * *

لكنما التعزيز والتوقير حق

ق للرسول بمقتضى القرآن

والحب والإيمان والتصديق لا

يختص بل حقان مشتركان

هذي تفاصيل الحقوق ثلاثة

لا تجهلوها يا أولي العدوان

حق الإله عبادة بالأمر لا

بهوى النفوس فذاك للشيطان

من غير إشراك به شيئا هما

سببا النجاة فحبذا السببان

ورسوله فهو المطاع وقوله الم

قبول إذ هو صاحب البرهان

والأمر منه الحتم لا تخيير في

ه عند ذي عقل وذي إيمان

الشرح : وأما الحق الذي يختص به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو تعزيزه ، أي نصره وتوقيره. أي إجلاله واحترامه ، وقد أمرنا الله بذلك في القرآن العظيم ، قال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفتح : ٩] فبدأ بالحق المشترك وهو

٢٠٦

الإيمان ثم ثنى بحق الرسول الكريم في التعزيز والتوقير ، ثم ثلث بحقه هو سبحانه في التسبيح بالغدوة والعشي. ومن المفسرين من يجعل الضمائر الثلاثة راجعة إلى الله جل شأنه وهو وجه ضعيف.

وهناك حقوق مشتركة بين الله عزوجل وبين رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي المحبة والإيمان والتصديق.

أما المحبة فلقوله تعالى : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ٢٤].

وقوله عليه‌السلام «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما».

وأما الإيمان فلقوله تعالى : (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧].

وقوله : (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) [الفتح : ١٣].

وأما التصديق فلقوله تعالى : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) [الأحزاب : ٢٢].

فهذه هي تفاصيل الحقوق الثابتة لله ولرسوله حقان مختصان وحق مشترك ، فلا ينبغي لأحد أن يجهلها ، ولا أن يخلط بعضها ببعض ، وأن يجعل المختص منها مشتركا فحق الإله أن نعبده ، وشرط هذه العبادة أمران ، احدهما أن تكون بما شرعه الله عزوجل وأمر به أمر وجوب أو استحباب ، وأن لا تكون بما تزينه الأهواء من البدع والمحدثات ، فإن تلك عبادة الشيطان لا عبادة الرحمن.

والشرط الثاني أن تكون العبادة خالصة لله عزوجل ليس لأحد فيها شركة ، فهذان الشرطان أعني المتابعة والإخلاص لا بد منهما جميعا لكي تكون العبادة

٢٠٧

مقبولة منجية لصاحبها من عذاب الله ، قال تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] ، وأما حق الرسول فهو أن يطاع ويتبع ويقبل قوله ويرضى بحكمه.

قال تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) [النساء : ٨٠] وقال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [آل عمران : ٣١] وقال : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء : ٦٥].

ومن حقه أنه إذا أمر بأمر كان تنفيذه واجبا لا يجوز التخيير ولا التردد فيه قال تعالى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب : ٣٦] وقال سبحانه : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [النور : ٦٣].

* * *

من قال قولا غيره قمنا على

أقواله بالسبر والميزان

إن وافقت قول الرسول وحكمه

فعلى الرءوس تشال كالتيجان

أو خالفت هذا رددناها على

من قالها من كان من إنسان

أو أشكلت عنا توقفنا ولم

نجزم بلا علم ولا برهان

هذا الذي أدى إليه علمنا

وبه ندين الله كل أوان

فهو المطاع وأمره العالي على

أمر الورى وأوامر السلطان

وهو المقدم في محبتنا على ال

أهلين والأزواج والولدان

وعلى العباد جميعهم حتى على الن

فس التي قد ضمها الجنبان

* * *

٢٠٨

الشرح : فنحن لا نقدم بين يدي الله ورسوله ، ولا نقدم على قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم قول أحد من الناس ، بل قوله عندنا هو الميزان الذي توزن به سائر الاقوال فاذا قال غيره قولا لم نبادر الى قبوله أو رفضه حتى نرده الى قوله ونزنه به ، فاذا وافق قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكمه تلقيناه بالقبول والتقدير وشكرنا لقائله اصابته للسنة ، واذا خالف رددناه على صاحبه وضربنا به وجهه كائنا من كان ، وكانت مخالفته دليلا لنا على نقصه وفساد رأيه ، قال علي رضي الله عنه (أعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال ، اعرف الحق تعرف أهله).

وما أضل الناس في الماضي والحاضر الا اغترارهم بنسبة الأقوال والآراء الى من زعموا لهم إمامة في الدين أو مشيخة في العلم أو رئاسة في المذهب فأخذوا بأقوالهم من غير روية ولا تمحيص ، ومن غير أن يتبينوا ان كانت موافقة لقول المعصوم صلوات الله وسلامه عليه أو مخالفة له ، بل بلغ الأمر بالمتأخرين من أتباع المذاهب أن قدموا أقوال أئمتهم على الأحاديث الصحيحة ، فلو جئتهم بألف دليل بأن كلام امامهم في خلاف الحق ما قبلوه منك ، نعوذ بالله من الخذلان. وأما ان أشكل علينا الأمر ولم ندر ان كانت أقوال الناس موافقة لقوله عليه الصلاة والسلام أو مخالفة توقفنا فيها ، فلا نقبلها ولا نرفضها ، ولا نجزم بصحتها ولا بخطئها حيث أعوزنا الدليل.

هذا هو المنهج المستقيم الذي يجب أن يسير عليه كل طالب للحق ، وهو الذي ندين الله به في كل وقت وحين ، فهو صلوات الله عليه وسلامه المطاع الذي فرض الله علينا طاعته ، وأمره عندنا مقدم على كل أمر ، حتى على أمر الحكام والسلاطين.

وهو كذلك المقدم عندنا في المحبة على كل ما تحبه النفس من الأهلين والأزواج والأولاد ، فلا يكمل ايمان أحد حتى يكون هو أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين.

بل لا يكمل ايمان أحد حتى يكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه ، كما

٢٠٩

روى (أن عمر رضي الله عنه قال له يا رسول الله والله انك لأحب الى من كل أحد الا من نفسي ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا ، حتى أكون أحب أليك من نفسك ، فقال عمر : والذي بعثك بالحق انك لأحب إليّ من نفسي ، فقال الآن يا عمر) اي كمل ايمانك.

* * *

ونظير هذا قول أعداء المس

يح من النصارى عابدي الصلبان

انا تنقصنا المسيح بقولنا

عبد وذلك غاية النقصان

لو قلتم ولد إله خالق

وفيتموه حقه بوزان

وكذاك أشباه النصارى قد غلوا

في دينهم بالجهل والطغيان

صاروا معادين الرسول وديننا

في صورة الأحباب والاخوان

فانظر الى تبديلهم توحيده

بالشرك والايمان بالكفران

وانظر الى تجريده التوحيد من

أسباب كل الشرك بالرحمن

راجع مقالتهم وما قد قاله

واستدع بالنقاد والوزان

عقل وفطرتك السليمة ثم زن

هذا وذا لا تطغ في الميزان

فهناك تعلم أي حزبينا هو ال

منتقص المنقوص ذو العدوان

* * *

الشرح : يعني أن هؤلاء المبتدعة الضلال من عباد القبور في اتهامهم لنا بالتنقيص من قدر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأننا ننهى عن قصد قبره الشريف بالزيارة ، ونحرم دعاءه والاستغاثة به والغلو في تعظيمه الى الحد الذي يخرجه عن دائرة البشرية ونطاق العبودية ، قد أشبهوا النصارى عباد الصليب في اتهامهم للمسلمين بأنهم يتنقصون من قدر المسيح عليه‌السلام حين قالوا انه عبد الله ، وذلك في زعمهم غاية ما يمكن أن يلحقه من النقص ، ولكننا لو قلنا كما يقولون انه ولد الله وانه إله مع الله ، وانه خالق لكل شيء ، كنا في رأيهم قد وفيناه حقه من المديح. وبذلك صاروا أعداء المسيح ، وهم يزعمون أنهم أحبابه وأولياؤه.

٢١٠

وكذلك أشباه هؤلاء النصارى من المسلمين من يوم أن غلوا في تعظيم المخلوقين وذلك بتأثير الجهل والطغيان المشين قد صاروا أعداء للرسول الأمين ولدينه القويم المتين ، فانهم بهذا الغلو الممقوت قد بدلوا ما جاء به من محض التوحيد شركا ووثنية ، وبدلوا ما جاء به من الايمان كفرا واباحية.

وان شئت أن تعرف مدى عداوتهم للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومخالفتهم عن امره ، فانظر الى أقواله التي جرد بها التوحيد من كل أسباب الشرك وخلصه من شوائب الوثنية ، والتي سد بها منافذ الاشراك كلها حياطة للتوحيد وحماية لبيضته.

وذلك كنهيه عن اتخاذ القبور مساجد ونهيه عن رفعها وتشييدها وايقاد السرج عليها ، ونهيه عن اتخاذ قبره عيدا ، ونهيه عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ، ونهيه أمته عن اطرائه والغلو في مدحه ، ونهيه الرجل الذي قال له (ما شاء الله وشئت) بقوله «أجعلتني لله ندا ، بل ما شاء الله وحده» الى غير ذلك مما لا يحصى كثرة من صحيح السنة المطهرة.

ثم أنظر في مقالة هؤلاء الضلال التي تفيض بألوان الشرك من دعائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستغاثته والعكوف على قبره واعتقاد حياته في القبر وسؤاله ما لا يطلب الا من الله ، والغلو في مدحه الى حد اعتقاد أنه أول خلق الله وأنه نور عرش الله ، وأنه الذي خلقت الأشياء جميعا من أجله ، بل الى حد اعتقاد أن الوجود كله بعض فيضه ، وأن علم اللوح والقلم قبس من علمه ، كما يقول شاعرهم المسمى بالبوصيري :

فان من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

ثم اجمع مقالة هؤلاء المفتونين الى مقالته ووازن بينهما وائت بجميع النقاد والوزان من العقول الصحيحة والفطرة السليمة وتحر العدل في الميزان ، فحينئذ يظهر لك بأجلى بيان أي الحزبين منا ومنهم هو المنتقص المغبون ذو الجهل والعدوان.

* * *

٢١١

رامي البريء بدائه ومصابه

فعل المباهت أوقح الحيوان

كمعير للناس بالزغل الذي

هو ضربه فاعجب لذي البهتان

يا فرقة التنقيص بل يا أمة الدع

وى بلا علم ولا عرفان

والله ما قدمتم يوما مقا

لته على التقليد للانسان

والله ما قال الشيوخ وقال الا

كنتم معهم بلا كتمان

والله أغلاط الشيوخ لديكم

أولى من المعصوم بالبرهان

وكذا قضيتم بالذي حكمت به

جهلا على الأخبار والقرآن

والله انهم لديكم مثل مع

صوم وهذا غاية الطغيان

تبا لكم ما ذا التنقص بعد ذا

لو تعرفون العدل من نقصان

والله ما يرضيه جعلكم له

ترسا لشرككم وللعدوان

وكذاك جعلكم المشايخ جنة

بخلافة والقصد ذو تبيان

والله يشهد ذا بحذر قلوبكم

وكذاك يشهده أولو الايمان

* * *

الشرح : يعني أن هؤلاء المتجنين السفهاء حين رمونا بما فيهم من داء وبهتونا بما نحن منه براء ، وكانوا بذلك في غاية الوقاحة والاجتراء ، أشبهوا في ذلك الغاش الذي يعير الناس بما فيه من الزغل الذي هو ضربه ، أي مثله وشكله ، أو سجيته وطبعه. فوا عجبا لصاحب البهتان يرمي به البرآء ليخفى عن الناس داءه العياء فيا من ترموننا بتنقيص الرسول بهتا ومكابرة ، ودعوى مجردة من كل علم ومعرفة أنتم أولى وأحق أن ترموا بهذا التنقيص والاتهام ، فانكم لم تقدموا يوما من الأيام قول الرسول عليه الصلاة والسلام على قول من تقلدونه من شيخ أو أمام ولا قال شيوخكم قولا الا وانحزتم إليهم جهرة بلا كتمان ، بل ان أغلاط هؤلاء الشيوخ آثر لديكم من قول المعصوم عليه الصلاة والسلام ، ولهذا تجعلون أقوالهم أصلا تحكمون به على الأخبار والقرآن ، وتدعون لهم من العصمة مثل ما له ، وهذا غاية الافتراء والبهتان ، فهلاكا لكم ، ما ذا عسى أن يكون التنقيص بعد فعلكم هذا لو كنتم تميزون العدل من النقصان ، واعلموا والله أن الرسول لا

٢١٢

يرضيه منكم أن تجعلوه ترسا تحتمون وراءه من رميكم بما هو فيكم من شرك وعدوان ، فان دعواكم محبة الرسول وتعظيمه لا تجعل قبيح أعمالكم حسنا ، ولا تشفع لكم ما تقعون فيه من سوء ونكران ولا يغنى عنكم كذلك أن تجعلوا من اتباعكم للشيوخ جنة تتقون بها سوء مخالفتكم للرسول ، مع أن قصدكم واضح وهو تعمد المخالفة له والاستهانة بأقواله ، والله يشهد هذا في أعماق قلوبكم ، ويشهد به أهل الايمان الذين بلوا أخباركم وفساد سرائركم ، فمهما اتخذتم من جنة فأمركم مفضوح ، فلا تحاولوا التستر والكتمان.

* * *

والله ما عظمتموه طاعة

ومحبة يا فرقة العصيان

أني وجهلكم به وبدينه

وخلافكم للوحى معلومان

أوصاكم أشياخكم بخلافهم

لوفاقه في سالف الأزمان

خالفتم قول الشيوخ وقوله

فغدا لكم خلفان متفقان

والله أمركم عجب معجب

ضدان فيكم ليس يتفقان

تقديم آراء الرجال عليه مع

هذا الغلو فكيف يجتمعان

كفرتم من جرد التوحيد جه

لا منكم بحقائق الإيمان

لكن تجردتم لنصر الشرك وال

بدع المضلّة في رضا الشيطان

والله لم نقصد سوى التجريد للت

وحيد ذاك وصية الرحمن

ورضا رسول الله منا لا غلو

الشرك أصل عبادة الأوثان

الشرح : وأنتم والله ما عظمتم رسول الله التعظيم اللائق به والذي يقوم على طاعته واتباعه وقبول حكمه ومحبته ، بل دأبكم العصيان والمخالفة لأمره. وكيف يتاح لكم ان تعظموه هذا التعظيم وأنتم أجهل الناس بحقائق دينه وأشدهم خلافا للوحى المنزل عليه ، ولقد أوصاكم أشياخكم من أئمة الهدى رحمهم‌الله في الماضي أن تتركوا أقوالهم اذا وجدتموها مخالفة لقول الرسول وأخبروكم أن مذاهبهم حيث يصح الحديث ، فاذا صح الحديث فلا تلتفتوا الى قول أحد كائنا من

٢١٣

كان ، ولكن تمكن التقليد منكم فأنساكم وصية الشيوخ فخالفتموها مع مخالفتكم لقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحكمه ، فصار لكم بذلك خلافان متفقان.

ووالله أن أمركم لجد عجيب ، فقد اجتمع فيكم ضدان لا يمكن أن يتفقا في الوجود أبدا ، وهما تقديمكم آراء الناس على قوله وحكمه مع غلوكم فيه ، هذا الغلو الذي خرج بكم عن حظيرة التوحيد. فكيف أتيح لكم أن يجتمع فيكم هذان الضدان؟

ثم أنتم كذلك تكفرون في جرأة وقحة من يجرد التوحيد لله عزوجل ، فلا يدعو مع الله أحد ، ولا يجعل له ندا ، ولا يجعل لغيره شركة معه في شيء من عبادته ، وذلك لجهلكم بحقيقة هذا التوحيد ، في الوقت الذي تتجردون فيه لنصرة الشرك والترويج للبدع ، طاعة منكم للشيطان واجتهادا في ارضائه وموافقته فأنتم حزبه وأولياؤه.

ونحن حين نهينا الناس عن الغلو في نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمرناهم أن يعرفوا له حقه في الطاعة والاتباع والتعزيز والتوقير دون أن يجعلوا له شيئا من حقوق الالهية لم نقصد والله سوى تخليص التوحيد من كل شوائب الوثنية ، وتلك هي وصية الله لنا حيث قال (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] وذلك هو ما يرضاه منا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي كان أعظم داع الى التوحيد والقيام بحقه في الاخلاص والتجريد. وأما هذا الغلو في تعظيم المخلوقين والعكوف على أضرحة الموتى المقبورين الذي كان أصل الشرك وعبادة الأوثان في جميع الأديان ، فذلك ما لا يرضيه.

* * *

والله لو يرضى الرسول دعاءنا

اياه بادرنا الى الاذعان

والله لو يرضى الرسول سجودنا

كنا نخر له الى الأذقان

والله ما يرضيه منا غير

اخلاص وتحكيم لذا القرآن

ولقد نهى ذا الخلق عن اطرائه

فعل النصارى عابدي الصلبان

٢١٤

ولقد نهانا أن نصير قبره

عيدا حذار الشرك بالرحمن

ودعا بأن لا يجعل القبر الذي

قد ضمه وثنا من الأوثان

فأجاب رب العالمين دعاءه

واحاطه بثلاثة الجدران

حتى اغتدت أرجاؤه بدعائه

في عزة وحماية وصيان

ولقد غدا عند الوفاة مصرحا

باللعن يصرخ فيهم بأذان

وعنى الألى جعلوا القبور مساجدا

وهم اليهود وعابدو الصلبان

والله لو لا ذاك أبرز قبره

لكنهم حجبوه بالحيطان

قصدوا إلى تسنيم حجرته ليم

تنع السجود له على الأذقان

قصدوا موافقة الرسول وقص

ده التجريد للتوحيد للرحمن

* * *

الشرح : فلو كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرضى أن ندعوه مع الله عزوجل لم يكن منا الا المبادرة الى الإذعان والموافقة ، ولو كان يرضى منا أن نسجد له لوقعنا على الاذقان سجدا بلا مهلة ، ولكنه عليه الصلاة والسلام لا يرضيه منا الا أن نجرد التوحيد لله فنجعل عبادتنا كلها له وحده ، محبة وتعظيما وخوفا ورجاء ، وذلا واستكانة وسؤالا ودعاء ، وتوكلا واستعانه وتوبة وإنابة ، ورغبة ورهبة وصلاة وسجودا ، وذبحا ونذرا وحجا واعتمادا ، الى غير ذلك من أنواع العبادات التي لا تنبغي الا له وحده ، ولا يرضيه منا كذلك الا أن نحكم القرآن العظيم في كل شئوننا ، وان نرد إليه كل ما تنازعنا فيه من أحكام ديننا.

ولقد نهى أمته أن تغلو فيه كما غلت النصارى في نبيهم فقال «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم».

ونهاهم كذلك أن يتخذوا من قبره عيدا يحجون إليه ويجتمعون عنده فقال فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه «لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا عليّ فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم» رواه أبو داود.

ودعا الله عزوجل أن لا يجعل قبره الذي ضم جسده الشريف وحدثنا يسجد له

٢١٥

ويطاف به ويصلى عنده فقال «اللهم لا تجعل قبري وحدثنا يعبد ، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» رواه مالك في الموطأ.

فأجاب الله عزوجل دعاء نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأحاط قبره بثلاثة جدران حتى لا يكون بارزا في المسجد ، فأصبحت أنحاء القبر ببركة دعائه في منعة وصيانة أن يرتكب عندها شيء من أعمال الوثنية. ولقد صرح صلوات الله وسلامه عليه عند موته بلعن من اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ، من اليهود والنصارى.

روى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرضه الذي لم يقم منه «لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» قالت فلو لا ذاك أبرز قبره ، غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا. فلما مات صلوات الله عليه وسلامه بنى أصحابه على القبر حيطانا مرتفعة مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد فيصلى إليه العوام ويقع المحذور ، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين ، وحرفوهما حتى التقيا ، حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر ، وكان قصدهم من تسنيم حجرته وبناء الحيطان عليها أن لا يتمكن أحد من الصلاة عنده ، وذلك موافقة منهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي ما قصد بالنهى عن اتخاذ القبور مساجد الا تجريد التوحيد لله عزوجل.

يقول القرطبي صاحب التفسير رحمه‌الله (ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأعلوا حيطان تربته وسدوا المدخل إليها وجعلوها محدقة بقبره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة اذا كان مستقبل المصلين ، فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة ، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره).

* * *

يا فرقة جهلت نصوص نبيهم

وقصوده وحقيقة الايمان

فسطوا على أتباعه وجنوده

بالبغي والعدوان والبهتان

٢١٦

لا تعجلوا وتبينوا وتثبتوا

فمصابكم ما فيه من حيران

قلنا الذي قال الأئمة قبلنا

وبه النصوص أتت على التبيان

القصد حج البيت وهو فريضة الر

حمن واجبة على الأعيان

ورحالنا شدت إليه من بقا

ع الأرض قاصيها كذاك الداني

من لم يزر بيت الإله فما له

من حجة سهم ولا سهمان

وكذا نشد رحالنا للمسجد الن

بوي خير مساجد البلدان

من بعد مكة أو على الاطلاق في

ه الخلف بين القوم منذ زمان

ونراه عند النذر فرضا لك

ن النعمان يأبى ذا وللنعمان

أصل هو النافي الوجوب فانه

ما جنسه فرضا على الانسان

ولنا براهين تدل بأنه

بالنذر مفترض على الانسان

أمر الرسول لكل نادر طاعة

بوفائه بالنذر بالاحسان

الشرح : ينادي المؤلف هذه الطائفة الضالة عن سواء السبيل فيصفها بالجهل بالآثار النبوية وقلة البضاعة منها ، ثم بالجهل بمقصود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومراده من هذه الأحاديث ، ثم بالجهل بحقائق الإيمان من توحيد الله تعالى ومعرفته بأسمائه وصفاته ووجوب تنزيه عما لا يليق به ، ومن أجل جهلهم هذا يستطيلون على ذوي العلم والإيمان من أتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجنده بالظلم والعدوان والبهتان.

والمؤلف يناديهم أن يتريثوا في الحكم على كلام أهل السنة والتوحيد حتى يتبينوا ويتثبتوا من قصدهم وإلا وقعوا في الخطأ والضلال البعيد ، فإنهم لم يقولوا إلا ما قالته الأئمة قبلهم ووردت به النصوص على الإيضاح والتأكيد ، وهو أن المسلم يجب أن ينوي بخروجه حج بيت الله الحرام الذي هو أحد أركان الإسلام ، والذي هو فرض عين على كل قادر مستطيع ، كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧] فهو البيت الذي تشد إليه رجال المسلمين من جميع أقطار الأرض ، قريبها والبعيد ، والذي تعتبر زيارته ركنا من أركان الحج فمن لم يزره فليس له من حجه نصيب.

٢١٧

وكذلك نشدّ رحالنا إلى المسجد النبوي في المدينة لا إلى القبر الشريف ، فإن شد الرحل لا يجوز إلا لأحد المساجد الثلاثة التي هي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى لصحة الحديث بذلك ، ويصبح شد الرحل إليه عندنا فرضا بالنذر ، لأنه نذر طاعة ، ونذر الطاعة يجب الوفاء به ، فلو نذر أحد أن يصلي في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة لزمه الوفاء بذلك ، خلافا لأبي حنيفة فإنه لا يرى وجوب شيء بالنذر إلا لما كان جنسه فرضا ، كالصلاة والصيام والحج ونحوها. ولنا نحن براهين تدل على فريضته بالنذر ، وهو قولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصى الله فلا يعصيه».

فقوله (فليطعه) أمر والأمر يقتضي الوجوب ، والرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يفرق بين طاعة وطاعة ، فسواء كان جنسها فرضا أم غير فرض تصبح واجبة بالنذر والله أعلم.

* * *

وصلاتنا فيه بألف من سوا

ه ما خلا ذا الحجر والأركان

وكذا صلاة في قبا فكعمرة

في أجرها والفضل للمنان

فإذا أتينا المسجد النبوي

صلينا التحية أولا ثنتان

بتمام أركان لها وخشوعها

وحضور قلب فعل ذي الإحسان

ثم انثنينا للزيارة نقصد القب

ر الشريف ولو على الأجفان

فنقوم دون القبر وقفة خاضع

متذلل في السر والإعلان

فكأنه في القبر حي ناطق

فالواقفون نواكس الأذقان

ملكتهم تلك المهابة فاعترت

تلك القوائم كثرة الرجفان

وتفجّرت تلك العيون بمائها

ولطالما غاضت على الأزمان

وأتى المسلم بالسلام بهيبة

ووقار ذي علم وذي إيمان

لم يرفع الأصوات حول ضريحه

كلا ولم يسجد على الأذقان

كلا ولم ير طائفا بالقبر أس

بوعا كأن القبر بيت ثان

٢١٨

ثم انثنى بدعائه متوجها

لله نحو البيت ذي الأركان

هذي زيارة من غدا متمسكا

لشريعة الإسلام والإيمان

من أفضل الأعمال هاتيك الزيا

رة وهي يوم الحشر في الميزان

لا تلبسوا الحق الذي جاءت به

سنن الرسول بأعظم البرهان

هذي زيارتنا ولم ننكر س

وى البدع المضلة يا أولي العدوان

وحديث شد الرحل نص ثابت

يجب المصير إليه بالبرهان

الشرح : في هذه الأبيات يبين المؤلف آداب الزيارة للمسجد النبوي وللقبر الشريف على ساكنه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، فيقول : أن صلاة في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة تعدل ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام فإن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة لصحة الأحاديث بذلك.

وكذلك صلاة في مسجد قباء الذي أنزل فيه قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ، فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة : ١٠٨] تعدل ثواب عمرة ، ولا حرج على فضل الله ، والله يضاعف لمن يشاء.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخرج إليه كل يوم سبت ويصلي فيه ، فإذا دخلنا المسجد النبوي الكريم بدأنا بتحية المسجد فصليناها ركعتين في الروضة المطهرة ، لقوله عليه‌السلام : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» مطمئنين في الأركان خاشعين حاضري القلب بين يدي الرحمن ، كما هو مقتضى الإحسان الذي فسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه».

ثم بعد الفراغ من الصلاة نميل إلى القبر الشريف للزيارة ولو نمشي على رءوسنا ، فنقف قريبا من القبر في ذلة وخضوع وأدب واحتشام ، فإن حرمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ميتا كحرمته حيا ، فكأنه حي يأمر وينهى ويتكلم بالوحي ، فيجب السكون وإطراق الرأس مع استشعار الهيبة والاحترام ومع استدرار الدمع من عيون طالما غاص ماؤها وتجمد في مآقيه ، ثم نسلم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سكينة ووقار

٢١٩

لا نرفع الصوت عاليا كفعل الجاهلين ، فقد أمرنا الله بغض الصوت عنده ، وجعل ذلك علامة على كمال التقوى ، ولا نخر عند القبر سجدا كفعل المشركين ، فقد نهىصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته عن السجود له ، وسأل الله عزوجل أن لا يجعل قبره وثنا يعبد ، وقال لمعاذ حين دخل عليه فسجد «ما هذا يا معاذ؟ لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ، ولكن لا ينبغي السجود إلا الله ، أرأيت يا معاذ لو مررت على قبري أكنت ساجدا له؟ قال : لا يا رسول الله قال لا تفعل».

ولا نطوف بالقبر سبعا كفعل الحمقى الغالين ، فإن ذلك الطواف مخصوص بالبيت العتيق ، ولا ندعو الله مستقبلين القبر ، بل نتحول عنه ونستقبل القبلة وندعو كما كان يفعل الصحابة رضي الله عنهم. هذه هي الزيارة الشرعية الصحيحة التي يفعلها المتمسكون بشرائع دينهم وهدى نبيهم ، لا زيارة هؤلاء السفهاء من أهل البدع والأهواء الذين يرتكبون عند القبر من الأعمال الشركية والعادات الجاهلية ما يبرأ منه الله ورسوله والمؤمنون.

والزيارة حين تؤدى على هذا الوجه الصحيح تكون من أفضل القربات وأثقلها في الميزان يوم القيامة ، فيا قوم لا تخلطوا الحق الذي وردت به السنة المطهرة بما تخترعونه من بدع شركية منكرة ، واعلموا انا برآء من بهتكم لنا بأنا نحرم زيارة القبر الشريف ، فما أنكرنا سوى البدع المضلة التي يرتكبها أهل الجهل والضلال ، وأما نهينا عن شد الرحال لزيارة قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره من القبور فالحديث ثابت فيه ، وهو قوله عليه‌السلام : «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» وإذا صح الحديث فالواجب هو المصير إليه.

* * *

٢٢٠