شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

ومنعه لله ، وفي الحديث الصحيح «من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان».

فهذا الإخلاص لله في السر والعلانية وتجريد القصد له من كل شائبة هو نصف الدين وجزؤه الباطن ، وأما نصفه الثاني فهو التحكيم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والرضا بحكمه وحسن متابعته وموافقته في كل ما شرعه بلا زيادة ولا نقص ، وكلا هذين الشطرين هو الإحسان الذي لن يتقبل الله عملا بدونه.

وأما الهجرة الثانية فهي الهجرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بعثه الله بالإسلام والإيمان والإحسان التي هي مراتب الدين كله ، وهي التي وقع السؤال عنها في حديث جبريل عليه‌السلام ، وليست هذه هجرة بالأبدان ، فقد مضى أوان هذه الهجرة ولكنها هجرة بالإيمان ، وهي السير إليه بالقلوب والأرواح ليأخذ عنه أصول الدين وفروعه جميعا ، فإن الحكم في كل منهما ليس إلا له وحده وليس لغيره أن يحكم في شيء من الدين لا أصلا ولا فرعا فالحكم هو ما ورد به النصان من السنة والقرآن.

* * *

يا هجرة طالت مسافتها على

من خص بالحرمان والخذلان

يا هجرة طالت مسافتها على

كسلان منخوب الفؤاد جبان

يا هجرة والعبد فوق فراشه

سبق السعاة لمنزل الرضوان

ساروا أحث السير وهو فسيره

سير الدلال وليس بالذملان

هذا وتنظره أمام الركب كالع

لم العظيم يشاف في القيعان

رفعت له أعلام هاتيك النصو

ص رءوسها شابت من النيران

نار هي النور المبين ولم يكن

ليراه إلا من له عينان

مكحولتان بمرود الوحيين لا

بمراود الآراء والهذيان

فلذاك شمر نحوها لم يلتفت

لا عن شمائله ولا أيمان

يا قوم لو هاجرتم لرأيتم

أعلام طيبة رؤية بعيان

٢٨١

ورأيتم ذاك اللواء وتحته الرس

ل الكرام وعسكر القرآن

أصحاب بدر والألى قد بايعوا

أزكى البرية بيعة الرضوان

وكذا المهاجرة الألى سبقوا كذا ال

أنصار أهل الدار والإيمان

والتابعون لهم بإحسان وسا

لك هديهم أبدا بكل زمان

الشرح : وهذه الهجرة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يستطيع قطع مسافتها وبلوغ غايتها إلا من جرد لها ركائب عزمه وتوجه إليها بكل همه ولم يلتفت إلى شيء مما يعوقه في سيره من تقليد لمذهب أو تعصب لرأي أو استحسان لبدعة ، ولكن مسافتها تطول وتطول جدا على من خصهم الله بالحرمان والخذلان ، فصرف قلوبهم عنها ، وكره انبعاثهم إليها ، فثبطهم وقال اقعدوا مع القاعدين ، فهي هجرة لا ينالها أبدا كسلان ، ولا يقوى عليها كل رعديد الفؤاد جبان ، وهي هجرة لا تحتاج أن تعد لها زادا وراحلة ، وتضرب في بيد الأرض وقفارها ، بل قد يقوم بها العبد وهو نائم على فراشه ، ويسبق في مضمارها الساعين إلى منازل الرحمة والرضوان ، الذين يغذون السير جاهدين ، تخب بهم مطاياهم ، وأما هو فيسير سيرا لينا رفيقا ، ولكنك تراه مع ذلك قد سبق الركب وسار أمامهم كأنه الجبل العظيم يراه من في القاع تحته ، وإنما هيأ له السبق في المضمار أنه نشرت له أعلام النصوص ، وفي رءوسها أوقدت نيران ، هي النور المبين لهداية السالك الحيران ، ولكن لا يراها إلا من كانت له عينان بمراود الوحي مكتحلتان ، لا بمراود أهل الفشر والهذيان ، فلما رآها هرع نحوها وجرد السعي إليها ، فلم يلتفت عنها يمينا ولا شمالا حتى بلغها وأدرك عندها بغيته وحقق أمله.

فيا أيها المخذولون المحرومون لو كنتم معنا في هذه الهجرة لرأيتم أعلام طيبة بأعينكم قائمة منصوبة تهدى الضال وترشد الحيران ، ولرأيتم ذاك اللواء العظيم بيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحته كل عبد لله صالح من الأنبياء والرسل الكرام ، وأصحاب محمد الذين هم عسكر القرآن وجند الإسلام من أصحاب بدر الكبرى وأهل بيعة الرضوان الذين بايعوا تحت الشجرة أزكى الخليقة وأطهرها عليه

٢٨٢

السلام ، ثم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، ثم التابعين لهم بإحسان ، ثم كل من سلك سبيلهم واقتفى أثرهم في كل عصر وزمان.

* * *

لكن رضيتم بالأماني وابتلي

تم بالحظوظ ونصرة الأخوان

بل غركم ذاك الغرور وسولت

لكم النفوس وساوس الشيطان

ونبذتم غسل النصوص وراءكم

وقنعتم بقطارة الأذهان

وتركتم الوحيين زهدا فيهما

ورغبتم في رأي كل فلان

وعزلتم النصين عما وليا

للحكم فيه عزل ذي عدوان

وزعمتم أن ليس يحكم بيننا

إلا العقول ومنطق اليونان

فهما بحكم الحق أولى منهما

سبحانك اللهم ذا السبحان

حتى إذا انكشف الغطاء وحصلت

أعمال هذا الخلق في الميزان

وإذا انجلى هذا الغبار وصار مي

دان السباق تناله العينان

وبدت على تلك الوجوه سماتها

وسم المليك القادر الديان

مبيضة مثل الرياض بجنة

والسود مثل الفحم للنيران

فهناك يعلم كل راكب ما تحته

وهناك يقرع ناجذ الندمان

وهناك تعلم كل نفس ما الذي

معها من الأرباح والخسران

وهناك يعلم مؤثر الآراء والش

طحات والهذيان والبطلان

أي البضائع قد أضاع وما الذي

منها تعوض في الزمان الفاني

الشرح : لكن قعدتم عن تلك الهجرة وبؤتم بالخسران والخيبة ، لأنكم رضيتم بالأماني الباطلة وابتليتم بحب الحظوظ العاجلة ، وشغلتم بنصرة الأخوان عن السير إلى الرحمن وغركم بالله الغرور ، وزينت لكم أنفسكم الامارة بالسوء الجري وراء ما وسوست لكم به الشياطين ، وطرحتم وراءكم غسل النصوص طاهرا نقيا ، ورحتم تلتمسون رذاذ الأذهان الكدر الذي لا يذهب درنا ولا يحدث ريا ، وهجرتم الوحيين رغبة عنهما واستثقالا لهما ، ثم رغبتم فيما أحدث الناس من مذاهب وآراء.

٢٨٣

وعزلتم النصين من الكتاب والسنة عما جعلت لهما الولاية عليه للحكم فيه عزل معتد ظالم سفيه ، وزعمتم أنها لا تصلح للحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وإنما يصلح للحكم بينهم مقررات العقول وأدلة منطق اليونان ، فهما أولى من النصين بالحكم في هذا الشأن ، فسبحانك اللهم ذا السبحان ونبرأ إليك من هذا الإفك والبهتان.

فهذا شأنكم في الدنيا ، غفلة وغرور وجرى وراء الأوهام ، وتسل بالأماني والأحلام ، حتى إذا انكشف عنكم الغطاء بالموت وعاينتم الحقائق ونصبت موازين الأعمال ، وانجلى الغبار عن المتسابقين ، وانكشف ميدان السباق للناظرين. وبدت على وجوه أهل الحق سماتها التي وسمها بها المليك المقتدر ، وجاءت مبيضة مسفرة ضاحكة مستبشرة ، كأنها أزاهير الرياض في الجنة ، وجاءت وجوه أخرى مسودة كالحة عليها غبرة ترهقها قترة ، فهناك يتميز الفريقان ويعلم كل راكب ما الذي تحته من اعمال تسعى به إلى ما أعد له من مآل. وهناك أيضا تعلم كل نفس مقدار الربح والخسارة في تجارتها ، ويعلم المعرض عن الوحيين المؤثر عليهما آراء الناس وباطلهم وشطحاتهم وهذيانهم ، أي البضائع النفيسة والجواهر الثمينة قد أضاع ، وما الذي استبدله بها وتعوض به عنها في حياته الأولى الفانية.

* * *

سبحان رب الخلق قاسم فضله

والعدل بين الناس بالميزان

لو شاء كان الناس شيئا واحدا

ما فيهم من تائه حيران

لكنه سبحانه يختص بالفض

ل العظيم خلاصة الإنسان

وسواهم لا يصلحون لصالح

كالشوك فهو عمارة النيران

وعمارة الجنات هم أهل الهدى

الله أكبر ليس يستويان

فسل الهداية من أزمة أمرنا

بيديه مسألة الذليل العاني

وسل العياذ من اثنتين هما اللتا

ن بهلك هذا الخلق كافلتان

شر النفوس وسيّئ الأعمال ما

والله أعظم منهما شران

٢٨٤

ولقد أتى هذا التعوذ منهما

في خطبة المبعوث بالقرآن

لو كان يدري العبد أن مصابه

في هذه الدنيا هما الشران

جعل التعوذ منهما ديدانه

حتى تراه داخل الأكفان

وسل العياذ من التكبر والهوى

فهما لكل الشر جامعتان

وهما يصدان الفتى عن كل طر

ق الخير إذ في قلبه يلجان

فتراه يمنعه هواه تارة

والكبر أخرى ثم يشتركان

والله ما في النار إلا تابع

هذين فاسأل ساكني النيران

والله لو جردت نفسك منهما

لأتت أليك وفود كل تهان

الشرح : فسبحان الله رب الخلق الحكم العدل الذي حكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون ، فجعلهم فريقين ، فريقا في الجنة بفضله ، وفريقا في السعير بعدله ، فهو قاسم فضله وعدله بين الناس بالميزان السوي الذي لا يضل ولا يجور ولو شاء لجعلهم جميعا أمة واحدة متفقة على الحق والإيمان ، وليس فيهم من ضال شقي ولا تائه حيران ، ولكنه سبحانه يختص بفضله العظيم من يشاء من خلقه ممن علم أنهم للخير أهل وللفضل محل. من خاصة الناس وخيارهم الذين حققوا انسانيتهم وأدركوا الغاية من وجودهم وقاموا لله بحقه عليهم في العبودية الكاملة واستجابوا له حين دعاهم على ألسنة رسله وعظموا أمره ونهيه وأخلصوا دينهم له ، وأما سواهم من الناس ممن عاشوا في هذه الدنيا هملا وعطلوا المواهب والملكات التي أودعها الله فيهم ، ولم يعرفوا لوجودهم غاية ، فهم لا يصلحون لشيء من الصالحات ، كمثل الشوك الذي لا يصلح إلا حطبا للنار ووقودا.

وأما عمار الجنة وسكانها فهم أهل الهدى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم أدخلوا الجنة بما كنتم تعلمون.

فالله أكبر لا يستوي الفريقان أبدا ، أصحاب النار وأصحاب الجنة ، أصحاب الجنة هم الفائزون (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ

٢٨٥

فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها ، وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) [السجدة : ١٨ ، ٢٠].

فاطلب الهدى ممن بيده مقاليد الأمور وأزمة القلوب سبحانه واسأله سؤال الخاشع الذليل المسكين الفقير أن يفتح قلبك على الهدى ويثبته على دينه. واستعذ به من خصلتين اثنتين بهما هلك اكثر الخلق ، وهما شر النفوس وسيئات الأعمال ، فلا شر أعظم منهما ، ولهذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستعيذ منهما في خطبه حيث كان يفتتح خطبه بقوله :

«إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، انه من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له».

فلو كان يعرف العبد أن بلاءه ومصيبته في هذه الدنيا ينبع من هذين الشرين لجعل التعوذ منهما شغله الشاغل وورده الدائم حتى يدرج في أكفانه.

وسل الله كذلك أن يعيذك من أمرين قد صدا أعظم الخلق عن اتباع الحق ، وهما الكبر والهوى ، فهما جامعان لكل شر ، وإذا ولجا قلب العبد سدا عنه كل مسالك الخير وطرقه ، فالكبر حجاب مانع من قبول الحق قد صد عنه ما لا يحصى من الخلق كما نطقت بذلك آيات الكتاب.

قال تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) [النحل : ٢٨ ، ٢٩].

وقال : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) [الأعراف : ١٤٦] وقال : (الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر : ٣٥]. وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر : ٥٦].

وقال : (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ

٢٨٦

الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ) [الأحقاف : ٢٠] إلى غير ذلك من الآيات التي تدل أوضح دلالة على أن الذي صد هؤلاء المجرمين عن قبول الحق والانقياد له هو كبرهم ، وهو الذي أدخلهم النار ، وفي الحديث الصحيح : «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، فقال رجل يا رسول الله ان أحدنا يجب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة ، فهل ذلك من الكبر ، قال لا أن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس».

وأما الهوى فقد ذكر القرآن أنه إله يعبد من دون الله ، قال تعالى : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) [الفرقان : ٤٣]. وقال : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ) [الجاثية : ٢٣] فترى العبد يمنعه هواه تارة ويمنعه كبره تارة ، ثم قد يجتمعان ويشتركان فيه فيصدر ما يصدر عن كبره وهواه فيكون قد بلغ من السوء والشر غايته ومنتهاه والعياذ بالله.

ولو أنك سألت كل واحد من أهل النار عما سلكه في سقر وارداه في جهنم لم تجده إلا تابعا لواحد من هذين أو لهما جميعا. ولو أنك اجتهدت في تجريد نفسك منهما فنفيت عن قلبك الكبر ولم تتبع في دينك الهوى لبلغت كل ما تؤمل من خير وجاءتك وفود التهنئة تترى تزف أليك البشرى بما ظفرت به من فوز ورضوان.

* * *

فصل

(في ظهور الفرق المبين بين دعوة الرسل ودعوة المعطلين)

والفرق بين الدعوتين فظاهر

جدا لمن كانت له أذنان

فرق مبين ظاهر لا يختفي

إيضاحه إلا على العميان

فالرسل جاءونا بإثبات العلو

لربنا من فوق كل مكان

٢٨٧

وكذا أتونا بالصفات لربنا

الرحمن تفصيلا بكل بيان

وكذاك قالوا أنه متكلم

وكلامه المسموع بالآذان

وكذاك قالوا انه سبحانه

المرئي يوم لقائه بعيان

وكذاك قالوا أنه الفعال حق

ا كل يوم ربنا في شان

وأتيتمونا أنتم بالنفي والت

عطيل بل بشهادة الكفران

للمثبتين صفاته وعلوه

ونداءه في عرف كل لسان

شهدوا بإيمان المقر بأنه

فوق السماء مباين الأكوان

وشهدتم أنتم بتكفير الذي

قد قال ذلك يا أولى العدوان

الشرح : والفرق بين ما تدعون إليه من النفي والتعطيل وبين دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام ظاهر جد الظهور لمن ألقى سمعه وكان له أذنان واعيتان وهو من الوضوح والظهور بحيث لا يخفى ولا يلتبس إلا على العميان ، فالرسل عليهم‌السلام قد اتفقت كلمتهم بأن الله سبحانه فوق عرشه بائن من خلقه ، وأن الوحي ينزل عليهم من عنده.

وكذلك جاءوا بإثبات صفات الكمال لله سبحانه على جهة التفصيل وبينوها أوضح بيان ، وما منهم من أحد إلا عرف أمته بما يجب أن تعرفه من صفات الله عزوجل.

وكذلك أثبتوا أنه متكلم بكلام هو حروف وأصوات مسموعة بالآذان ، وأن الذي يتلونه على الناس هو كلام الله تعالى لا كلام غيره ، تكلم به بصوت نفسه. وكذلك أخبروا أنه سبحانه سيرى يوم القيامة رؤية حقيقية بالأبصار ، وبشر كل رسول المؤمنين من أمته بأنهم سيرون ربهم في الجنة كما يرى الشمس والقمر ليس دونهما سحاب ولا ضباب.

وكذلك قالوا إنه حي فعال ، وأن الفعل من صفات الكمال التي لا يصح تعطيله عنها في حال من الأحوال ، فهو لم يزل سبحانه فعالا كما قال : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن : ٢٩].

٢٨٨

هذه هي دعوة الرسل كلهم وهي صريحة في إثبات الصفات ، وأما أنتم فعلى النقيض من ذلك ، جئتمونا بالنفي والتعطيل ، والإلحاد والتأويل ، بل وزدتم على ذلك أنكم تشهدون بالكفر على من يثبت الصفات ويثبت لله العلو فوق جميع المخلوقات ، ويثبت له النداء بحروف وأصوات ، فالرسل يشهدون بالإيمان لمن أقرّ بعلوه سبحانه فوق جميع الأكوان ، ولكنكم أنتم تشهدون عليه بالكفران يا أمة الظلم والعدوان.

* * *

وأتى بأين الله اقرارا ونط

قا قلتم هذا من البهتان

فسلوا لنا بالأين مثل سؤالنا

ما الكون عندكم هما شيئان

وكذا أتونا بالبيان فقلتم

باللغز أين اللغز من تبيان

إذ كان مدلول الكلام ووضعه

لم يقصدوه بنطقهم بلسان

والقصد منه غير مفهوم به

ما اللغز عند الناس إلا ذان

يا قوم رسل الله أعرف منكم

وأتم نصحا في كمال بيان

أترونهم قد ألغزوا التوحيد إذ

بينتموه يا أولي العرفان

أترونهم قد أظهروا التشبيه وه

ولديكم كعبادة الأوثان

ولأي شيء صرحوا بخلافه

تصريح تفصيل بلا كتمان

ولأي شيء بالغوا في الوصف با

لإثبات دون النفي كل زمان

الشرح : وأتى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلفظ الأين الذي يسأل به عن المكان مرة إقرارا حيث أقر السائل الذي قال له (أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض)؟ ومرة نطقا حيث سأل الجارية التي أراد سيدها أن يعتقها بقوله «أين الله؟». ولكنكم أنتم تجعلون السؤال بالأين كذب وبهتان ، لأنه إثبات للمكان ، وتقولون أن معنى قوله «أين الله» في الحديث (ما الله) فتجعلون السؤال بالأين

٢٨٩

مثل السؤال بما ، مع أنهما شيئان مختلفان ، فا «ما» يسأل بها عن الحقيقة ، وأما أين فيسأل بها عن المكان.

وكذلك أتى الرسل عليهم‌السلام بالبيان الواضح الصريح ، ولكنكم تقولون أنهم عمدوا إلى الألغاز والتعمية ولم يبينوا الحق الذي يجب على الناس اعتقاده. فأين يا قوم الألغاز من البيان ، وهل هما إلا ضدان لا يجتمعان. إن الألغاز في الكلام لا يتم إلا بأمرين : أحدهما أن لا يقصد من اللفظ معناه الذي يدل عليه بوضع اللغة ، وثانيهما أن يكون المقصود من اللفظ مما لا يفهم من اللفظ عند إطلاقه ، فهذا هو الألغاز الذي يعرفه الناس ، فهل كلام الرسل كذلك؟

يا قوم ألا تستحيون من وصف كلام الرسل الذين بعثوا للبيان بالأحاجي والألغاز ، وهم أعرف منكم بالحق الذي يدعون إليه ، وأتم نصحا للخلق وإرشادا لهم وشفقة عليهم ، وأقدر منكم على البيان والأداء لما يريدونه من معان ، فهل ترونهم قد ألغزوا في التوحيد وقصروا في بيانه حتى جئتم أنتم فبينتموه؟

أم ترونهم قد أظهروا التشبيه الذي هو عندكم قرين عبادة الأوثان ، حتى جئتم أنتم فدللتم الناس على التنزيه.

فإذا كان الحق هو ما قلتم أنتم ، فلأي شيء لم يقولوا هم بمثل ما قلتم في حق اللهعزوجل.

ولأي شيء صرحوا هم بخلاف ما قلتم تصريحا مفصلا لا كتمان فيه ولا إجمال ولا اشتباه.

بل ولأي شيء بالغوا في الإثبات الذي هو عندكم تجسيم وتشبيه ، كما بالغتم أنتم في النفي والتعطيل بحجة التنزيه.

* * *

ولأي شيء أنتم بالغتم

في النفي والتعطيل بالقفزان

فجعلتم نفي الصفات مفصلا

تفصيل نفي العيب والنقصان

٢٩٠

وجعلتم الإثبات أمرا مجملا

عكس الذي قالوه بالبرهان

أتراهم عجزوا عن التبيان واس

توليتم أنتم على التبيان

أترون أفراخ اليهود وأم

ة التعطيل والعبّاد للنيران

ووقاح أرباب الكلام الباطل الم

ذموم عند أئمة الإيمان

من كل جهمي ومعتزل ومن

والاهما من حزب جنكسخان

بالله أعلم من جميع الرسل والت

وراة والإنجيل والقرآن

فسلوهم بسؤال كتبهم التي

جاءوا بها عن علم هذا الشأن

وسلوهم هل ربكم في أرضه

أو في السماء وفوق كل مكان

أم ليس من ذا كله شيء فلا

هو داخل أو خارج الأكوان

فالعلم والتبيان والنصح الذي

فيهم يبين الحق كل بيان

لكنما الألغاز والتلبيس وال

كتمان فعل معلم الشيطان

الشرح : ولأي شيء بالغتم أنتم في النفي والتعطيل ووفيتموه كيلا وتقصيتم فيه تقصيا ، فجعلتم نفي الصفات مفصلا ، فقلتم ليس بكذا ولا كذا ولا كذا إلى آخر ما أوردتموه من صفات السلوب التي فصلتم فيها القول ، كالتفصيل في نفي النقائص والعيوب ، ثم جعلتم الإثبات أمرا مجملا عكس ما قاله الرسل عليهم الصلاة والسلام ، فهل عجز الرسل عن بيان هذه السلوب وتفصيلها ، وقدرتم أنتم على هذا البيان. أم تظنون أن هؤلاء الحيارى المنهوكين من أفراخ اليهود الضالين وأمة التعطيل من الزنادقة الملحدين والمجوس عباد النار الثنويين وأراذل أهل الكلام الباطل الذي ذمه كل امام فاضل من أئمة الإيمان والدين ، من هؤلاء الجهمية والمعتزلة وكل من شايعهما في التجهم والنفي والإلحاد والتعطيل.

هل تظنون أن هؤلاء جميعا أعلم بالله سبحانه من جميع رسله الذين بعثهم بالبينات والهدى ، ومن جميع كتبه التي أنزلها للناس شفاء ورحمة من التوراة والإنجيل والزبور والفرقان وغيرها.

فسلوا هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام بسؤال كتبهم التي جاءوا بها من

٢٩١

عند الله عن علم هذه الأمور حتى تعرفوا إن كان كلامهم في جانب النفي أم في جانب الإثبات.

وسلوهم عن ربهم أين هو ، هل هو في أرضه أم في السماء فوق جميع خلقه ، أم ليس هو في أرضه ولا سمائه ، ولا هو داخل هذه الأكوان ولا خارجها ، فالعلم والبيان والنصح الذي اشتملت عليه كتب الله وجاءت به رسله يوضح الحق أكمل إيضاح.

أما الألغاز والتلبيس والكتمان فهو دأبكم أنتم يا أساتذة الشيطان.

* * *

فصل

في شكوى أهل السنة والقرآن أهل التعطيل والآراء المخالفين

للرحمن

يا رب هم يشكوننا أبدا

ببغيهم وظلمهم إلى السلطان

ويلبسون عليه حتى أنه

ليظنهم هم ناصرو الإيمان

فيرونه البدع المضلة في قوا

لب سنة نبوية وقران

ويرونه الإثبات للأوصاف في

أمر شنيع ظاهر النكران

فيلبسون عليه تلبيسين لو

كشفا له باداهم بطعان

يا فرقة التلبيس لا حييتم

أبدا وحييتم بكل هوان

لكننا نشكوهم وصنيعهم

أبدا أليك فأنت ذو السلطان

فاسمع شكايتنا وأشك محقّتنا

والمبطل اردده عن البطلان

راجع به سبل الهدى والطف به

حتى تريه الحق ذا تبيان

وارحمه وارحم سعيه المسكين قد

ضل الطريق وتاه في القيعان

الشرح : يتوجه المؤلف إلى ربه بهذا الدعاء الضارع الذليل يشكو إليه ظلم

٢٩٢

أهل النفي والتعطيل ، فيقول انهم يشكوننا ببغيهم وظلمهم إلى السلطان ويغرونه بنا بالإثم والعدوان ، ويلبسون عليه الأمر ويصورون له باطلهم في صورة الحق حتى يظنهم هم فئة الإيمان ، ويزينون له البدع ، فيضعونها في قوالب السنة النبوية والقرآن ، ويهولون عليه الأمر في إثبات الصفات ، ويسوقونه إليه في عبارات شنيعة ظاهرة النكران ، وبذلك يلبسون عليه تلبيسين ، لو أنهما ظهرا له على حقيقتهما لبدأهم هو بالحرب والطعان وأنزلهم من نفسه بمنزل هوان.

فيا أمّة التمويه والتلبيس لا حياكم الله تحية الرحمن والرضوان ، بل حياكم تحية غضب وهوان ، إننا نشكوكم كما تشكوننا أبدا إلى السلطان ، وإنما نشكوكم ونشكو فعالكم القبيحة وعدوانكم علينا إلى الله وحده ، فهو ذو السلطان الذي لا يدانيه سلطان.

فاسمع يا رب شكايتنا فيهم وأنصفنا منهم وردهم عن غيهم وباطلهم ، واسلك بهم سبل الهدى والطف بهم حتى يروا كما رأينا الحق ذا تبيان ، وارحمهم وانقذهم مما هم فيه من ضلال السعي وشتات الأمر ، فإنهم قد ضلوا طريق الحق وتاهوا في بيداء الضلال.

* * *

يا رب قد عم المصاب بهذه الآ

راء والشطحات والبهتان

هجروا لها الوحيين والفطرات

والآثار لم يعبوا بذا الهجران

قالوا وتلك ظواهر لفظية

لم تغن شيئا طالب البرهان

فالعقل أولى أن يصار إليه من

هذه الظواهر عند ذي العرفان

ثم ادعى كل بأن العقل ما

قد قلته دون الفريق الثاني

يا رب قد حار العباد بعقل من

يزنون وحيك فائت بالميزان

وبعقل من يقضى عليك فكلهم

قد جاء بالمعقول والبرهان

يا رب ارشدنا إلى معقول من

يقع التحاكم اننا خصمان

جاءوا بشبهات وقالوا أنها

معقولة ببدائه الأذهان

٢٩٣

كل يناقض بعضه بعضا وما

في الحق معقولان مختلفان

وقضوا بها كذبا علي وجرأة

منهم وما التفتوا إلى القرآن

الشرح : يشكو المؤلف إلى ربه ما وصلت إليه الحال في عصره من فوضى اعتقادية لا ضابط لها ، ففي محيط الكلام والفلسفة والتصوف وجدت مذاهب وآراء تثير العجب وتحمل على التساؤل : هل يمكن أن يكون أصحاب هذه الأقوال مسلمين؟ فهي مذاهب وآراء دخيلة كلها على الإسلام ، ليست مستمدة من مصادره الأولى ، وإنما وردت عليه من ثقافات أجنبية وأولع بها القوم وافتتنوا بها افتتان بني اسرائيل بعجل السامري ، وهجروا من أجلها كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخالفوا بها حكم الفطرة الهادي وآثار السلف الصالح ، ولم يكترثوا لهذا الهجران ولقد أمعنوا في الضلال والغي حين صرحوا بتقديمها على الوحي بحجة أن الوحي ظواهر لفظية لا تفيد اليقين ، فلا تغني شيئا عن طالب البرهان وأما العقل فحكمه قطعي ، فهو أولى أن يذهب إليه من تلك الظواهر.

ومن العجيب أن هؤلاء الذين اتفقوا على تقديم حكم العقل قد اختلفوا وتناقضت أقوالهم ، ثم ادعت كل فرقة منهم أن الحق ما قالته هي دون غيرها وأنه هو الموافق لحكم العقل ، فبأي عقل من هذه العقول المختلفة توزن اذا نصوص الكتاب والسنة؟ وبأي عقل منها يحكم على الله سبحانه؟ فإن كلا منهم يدّعي أنه قد جاء بالمعقول الصريح والبرهان القاطع ، فنحن في حيرة من أمر هؤلاء لا ندري يا رب إلى معقول من منهم نتحاكم عند الخصومة. ومن العجيب أنهم يجيئون بشبهات واهية ليست بنبع إذا عدت ولا غرب ولا تؤول إلى أي معقول ، وإنما هي من بنات الوهم ونسيج الخيال ، ثم يدعون أنها معقولة ببدائه العقول ، وأن العلم بها ضروري وأنها مكتسبة بالبرهان ، وكيف يتأتى أن تكون آراؤهم هذه أحكاما عقلية صحيحة مع تناقضها واختلافها ، وهل يمكن أن يكون في الحق معقولان مختلفان؟

ثم هم يقضون بأقوالهم هذه على الله كذبا عليه سبحانه وإمعانا في الجرأة

٢٩٤

والوقاحة معرضين عن حكم القرآن غير ملتفتين إلى ما فيه من هدى وبيان.

يا رب قد أوهى النفاة حبائل

القرآن والآثار والإيمان

يا رب قد قلب النفاة الدين والإ

يمان ظهر منه فوق بطان

يا رب قد بغت النفاة وأجلبوا

بالخيل والرجل الحقير الشأن

نصبوا الحبائل والغوائل للآلئ

أخذوا بوحيك دون قول فلان

ودعوا عبادك أن يطيعوهم فمن

يعصيهم ساموه شر هوان

وقضوا على من لم يقل بضلالهم

باللعن والتضليل والكفران

وقضوا على أتباع وحيك بالذي

هم أهله لا عسكر الفرقان

وقضوا بعزلهم وقتلهم وحب

سهم ونفيهم عن الأوطان

وتلاعبوا بالدين مثل تلاعب ال

حمر التي نفرت بلا أرسان

حتى كأنهم تواصوا بينهم

يوصي بذلك أول للثاني

الشرح : يشكو المؤلف إلى ربه أن هؤلاء النفاة المعطلة قد أوهنوا وشائج القرآن وعقد الآثار والإيمان ، وأنهم قلبوا الدين والإيمان ظهرا منه لبطن ، فصيروا أعلاه أسفله وأسفله أعلاه ، وأنهم بغوا على أهل الحق وجمعوا لهم فرسانهم ورجالتهم ذوي الحقارة ، وأنهم نصبوا حبائل كيدهم ومؤامرات اغتيالهم لمن أخذ بالوحيين ولم يأخذ بقول شيوخهم ، وأنهم دعوا أهل الحق أن يطيعوهم في باطلهم ، فمن لم يستجب منهم لدعوتهم ورفض الدخول في طاعتهم ساموه سوء العذاب ، وحكموا على كل من لم يأخذ برأيهم ويقل بضلالهم بأنه مستحق للعنة ، وأنه ضال وكافر ، وقضوا على أتباع وحي الله بما هم به أولى وأحق دون خصومهم من جند الإيمان وعسكر الفرقان ، قضوا عليهم بالعزل والحرمان من جميع الوظائف في الفتيا والتدريس والقضاء ، بل وقضوا بقتلهم واستحلال دمائهم ، وبسجنهم ونفيهم عن الأوطان. وكتب التراجم حافلة بما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله من هذه الألوان.

* * *

٢٩٥

هجروا كلامك مبتدع لمن

قد دان بالآثار والقرآن

فكأنه فيما لديهم مصحف

في بيت زنديق أخي كفران

أو مسجد بجوار قوم همهم

في الفسق لا في طاعة الرحمن

وخواصهم لم يقرءوه تدبرا

بل للتبرك لا لفهم معان

وعوامهم في الشبع أو في ختمة

أو تربة عوضا لذي الأثمان

هذا وهم حرفية التجويد أو

صوتية الأنغام والألحان

يا رب قد قالوا بأن مصاحف الإ

سلام ما فيها من القرآن

إلا المداد وهذه الأوراق والجلد

الذي قد سل من حيوان

والكل مخلوق ولست بقائل

أصلا ولا حرفا من القرآن

إن ذاك إلا قول مخلوق وهل

هو جبرئيل أو الرسول فذان

قولان مشهوران قد قالتهما

أشياخهم يا محنة القرآن

لو داسه رجل لقالوا لم يطأ

إلا المداد وكاغد الإنسان

الشرح : يبين المؤلف في هذه الأبيات موقف هؤلاء المعطلة النفاة من كلام الله ، فهم قد هجروه وجفوا عنه كما يجفو المبتدعة الضلال عن أنصار السنة المستمسكين بالآثار والقرآن ، فأصبح من هجرهم له كأنه مصحف وضع في بيت ملحد زنديق ، متحلل من ربقة الدين والإيمان ، أو كأنه مسجد في محله قوم لا هم لهم إلا ارتكاب المعاصي والفسوق وإذا قرأه خواصهم فإنهم لم يقرءوه تدبرا لآياته ، وتفهما لمعانيه ، وإنما يقرءونه لتحصل لهم بركته في الأولاد والأرزاق.

وأما عوامهم فإنهم يأكلون به ويتخذون منه حرفة لشبع بطونهم ، فيقرءونه في الختمات أو على القبور ليشتروا به ثمنا قليلا ، فبئس ما يشترون ، وكل حظهم منه أنهم يهتمون بتجويد حرفة وتحسين الصوت بقراءته ، فيقرءونه بأنواع من القراءات مع التطريب والإيقاع وحسن النغمات ، وهم يا رب لا يعظمون حرمة هذه المصاحف لأنهم يعتقدون أنها ليس فيها شيء من القرآن ، لأن القرآن عندهم هو معان قائمة بذاته تعالى ، يسمونها الكلام النفسي ، وأما هذه المصاحف فليس فيها إلا المداد الذي كتبت به ، والأوراق الذي كتب عليها والجلد الذي

٢٩٦

أخذ من اهاب الحيوان ، وكل هذه عندهم مخلوقة ، والله ليس بمتكلم أصلا ولا بحرف واحد من القرآن ، بل ألفاظ القرآن وحروفه عندهم حادثة مخلوقة ، أنشأها جبريل الرسول الملكي أو أنشأها محمد الرسول البشري ، فهذان عندهم قولان مشهوران ، قالت بكل منهما فرقة من أشياخهم في قديم الزمان. فيا لها من محنة أصيب بها كتاب الله على يد من يزعمونهم أهل التحقيق والعرفان.

فلو داسه رجل بنعله لما أنكروا عليه ولما غاروا لحرمة القرآن ، لأنه في نظرهم لم يطأ إلا المداد والورق وكاغد الإنسان.

ولو بعث المؤلف في هذه الأيام ورأى ما بلغه كتاب الله عزوجل من الهوان على أهله ، وكيف عطلوا حدوده وأحكامه واتخذوه مهجورا لا يستمدون منه نظام حياتهم ولا يعرفونه إلا في الحفلات والمآتم وإلا في اتخاذ الأحجبة والتمائم لوجد أن ما يشكوه من أهل زمانه من امتهان القرآن لا يعد شيئا إذا قيس بما أحدثه أهل هذا الزمان ، فإلى الله المشتكى وهو المستعان.

* * *

يا رب زالت حرمة القرآن من

تلك القلوب وحرمة الإيمان

وجرى على الأفواه منهم قولهم

ما بيننا لله من قرآن

منا بيننا إلا الحكاية عن

ه والتعبير ذاك عبارة بلسان

هذا وما التالون عمالا به

إذ هم قد استغنوا بقول فلان

إن كان قد جاز الحناجر منهم

فبقدر ما عقلوا من القرآن

والباحثون فقدموا رأي الرجا

ل عليه تصريحا بلا كتمان

عزلوه إذ ولوا سواه وكان ذا

ك العزل قائدهم إلى الخذلان

قالوا ولم يحصل لنا منه يقي

ن فهو معزول عن الإيقان

إن اليقين قواطع عقلية

ميزانها هو منطق اليونان

هذا دليل الرفع منه وهذه

أعلامه في آخر الأزمان

يا رب من أهلوه حقا كي يرى

إقدامهم منا على الأذقان

٢٩٧

أهلوه من لا يرتضي منه بدي

لا فهو كافيهم بلا نقصان

وهو الدليل لهم وهاديهم إلى ال

إيمان والإيقان والعرفان

هو موصل لهم إلى درك اليقي

ن حقيقة وقواطع البرهان

يا رب نحن العاجزون بحبهم

يا قلة الأنصار والأعوان

الشرح : يا رب زالت عظمة القرآن من قلوب هؤلاء كما زالت منها حرمة الإيمان ، وجرى على ألسنتهم من منكر القول وزوره ما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدّا ، حيث زعموا أن ليس لله بيننا قرآن ولا كلام ، وليس في المصاحف إلا حروف وألفاظ ، هي حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه تتلى باللسان هذا وهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، فلا يقيمونه عملا واتباعا ، لأنهم قد استغنوا عنه بما ورثوا من أقوال شيوخهم ، وإن كان قد جاوز حناجر بعضهم ، فبقدر ما عقلوا من معانيه وتفهموا من مقاصده ومراميه وأما الباحثون منهم فقد قدموا عليه آراء الرجال ، وصرحوا بذلك بلا خجل ولا حياء ، فعزلوه عن ولايته في إفادة العلم واليقين حين ولوا غيره من نفايات العقول وزبالات الأذهان ، وكان هذا العزل مما جرهم إلى كل خيبة وخذلان.

وقالوا أنه ظواهر لفظية لا يحصل منها يقين ولا يقوم عليها برهان ، لأن اليقين لا يحصل إلا بقواطع عقلية ، وهي لا تستفاد إلا بمنطق اليونان ، إذ هو عندهم لكل العلوم معيار وميزان ، ولقد قال كبير من أئمتهم ، وهو أبو حامد الغزالي (من لا معرفة له بعلم المنطق لا يوثق بعلمه).

وهذه الاستهانة منهم بالقرآن في التلاوة والعمل والاستدلال علامات تدل على قرب رفعه الذي صح الخبر بحصوله في آخر الزمان.

فيا رب من أهل القرآن حقا حتى نعرف لهم أقدارهم ونقبل بأذقاننا أقدامهم إن أهله الحقيقيين بالنسبة إليه هم الذين لا يرتضون به بديلا من الأقوال والآراء بل يرون فيه الكفاية والشفاء ، ويستمدون منه كل دينهم ، أصوله وفروعه على

٢٩٨

السواء ، ويتخذون منه دليلا هاديا لهم إلى كل إيمان ويقين وعرفان ، وموصلا لهم إلى درك قواطع البرهان.

وما أجمل اعتذار المؤلف في البيت الأخير إلى ربه بعجزه عن القيام بحق القرآن مع حبه ومع قلة الأنصار والأعوان له على ذلك.

* * *

فصل

في أذان أهل السنة الاعلام بصريحها جهرا

على رءوس منابر الإسلام

يا قوم قد حانت صلاة الفجر

فانتبهوا فإني معلن بأذان

لا بالملحن والمبدل ذاك بل

تأذين حق واضح التبيان

وهو الذي حقا إجابته على

كل امرئ فرض على الأعيان

الله أكبر ان يكون كلامه ال

عربي مخلوقا من الأكوان

والله أكبر أن يكون رسوله ال

ملكي أنشأه عن الرحمن

والله أكبر أن يكون رسوله الب

شري أنشأه لنا بلسان

هذي مقالات لكم يا أمة الت

شبيه ما أنتم على إيمان

شبهتم الرحمن بالأوثان في

عدم الكلام وذاك للأوثان

مما يدل بأنها ليست بآ

لهة وذا البرهان في الفرقان

في سورة الأعراف مع طه وثا

لثها فلا تعدل عن القرآن

أفصح أن الجاحدين لكونه

متكلما بحقيقة وبيان

هم أهل تعطيل وتشبيه معا

بالجامدات عظيمة النقصان

الشرح : ينادي المؤلف هؤلاء التائهين في ليل جهلهم وضلالهم ، الغافلين عن حقائق العلم الصحيح بربهم ودينهم بأن ينتبهوا ويستيقظوا من نومهم ، فقد وافت صلاة الفجر ، وانشق ظلام الليل عن نور الصبح ، وأنه مؤذن فيهم بأذان لا

٢٩٩

تبديل فيه ولا ألحان ، ولكنه تأذين بحق واضح التبيان ، يجب على كل من سمعه أن يبادر إلى إجابته بلا كسل ولا توان. وهذه هي ألفاظ الأذان : الله أكبر وأجل من أن يكون قرآنه الذي أنزله بلسان عربي مبين مخلوقا من جملة المخلوقات ، بل هو صفته القائمة به كغيرها من سائر الصفات ، والله أكبر وأجل من أن يكون قرآنه الذي بين أيدينا من اختراع رسوله الملكي وأمين وحيه جبريل عليه‌السلام ، عبر به عما تلقاه من معاني القرآن.

والله أكبر وأجل من أن يكون رسوله البشرى محمدا عليه الصلاة والسلام قد أحدثه لنا بلسان.

فهذه مقالات لكم قلتموها في القرآن يا أمة التشبيه والكفران. لقد شبهتم ربكم بالأصنام والأوثان في عدم القدرة على الكلام والبيان ، فقد استدل القرآن على بطلان إلهية هذه الأصنام بعدم قدرتها على الكلام والإفهام ، قال تعالى : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) [الأعراف : ١٤٨]. وقال سبحانه : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) [طه : ٨٩].

وبعد : فهل ظهر أن المنكرين لكونه تعالى متكلما على الحقيقة بكلام بين مسموع بالآذان هم أهل تعطيل وتشبيه معا.

أما تعطيلهم فلنفيهم عن الله صفة من أعظم صفات كماله ، وهي الكلام. وأما تشبيههم فلأنهم شبهوه بالجامدات الناقصة التي لا تقدر على البيان والإفهام.

* * *

لا تقذفوا بالداء منكم شيعة الر

حمن أهل العلم والعرفان

إن الذي نزل الأمين به على

قلب الرسول الواضح البرهان

هو قول ربي اللفظ والمعنى جمي

عا إذ هما أخوان مصطحبان

٣٠٠