شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

لا تقطعوا رحما تولى وصلها

الرحمن تنسلخوا من الإيمان

ولقد شفانا قول شاعرنا الذي

قال الصواب وجاء بالإحسان

إن الذي هو في المصاحف مثبت

بأنامل الأشياخ والشبان

هو قول ربي آيه وحروفه

ومدادنا والرق مخلوقان

الشرح : وإذا ظهر أنكم أنتم المشبهة ، حيث شبهتم ربكم بالجامدات التي لا تتكلم ولا تبين ، فلا ترموا بدائكم هذا أنصار الرحمن من ذوي العلم والدين ، ولا تتهموهم بما أنتم به أولى من التجسيم والتشبيه ، وأما قولنا نحن معشر أهل السنة في القرآن أن الذي نزل به جبريل الأمين على قلب عبد الله ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من القرآن الواضح الحجة والبرهان ، هو قول الله وكلامه ، تكلم الله بحروفه وألفاظه بصوت وسمعه منه ملك الوحي ، فأداه إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما سمعه ، فلفظه ومعناه جميعا من عند الله ، إذ الألفاظ لا تنفك عن المعاني ، بل هما أمران متلازمان ، فإن الألفاظ قوالب المعاني ، ولا يعقل التكلم بالمعاني وحدها بدون ألفاظ تصب فيها ، ولا يقال لأحد أنه تكلم إلا نطق بحروف وألفاظ مسموعة.

فلا تقطعوا أيها المعطلة وشيجة تولى الله سبحانه ربطها بفضلكم الألفاظ عن المعاني فتنسلخوا بذلك عن الإيمان.

ولقد شفى صدور أهل السنة وأثلجها قول شاعرهم الذي جاء بالقول الفصل والمنطق الصواب : إن الذي هو مكتوب في المصاحف بأقلام الشيوخ والشبان هو قول الله وكلامه ، آيه وحروفه ، وأما الكتابة والخط والمداد والرق ، فكل ذلك مخلوق.

* * *

والله أكبر من على العرش استوى

لكنه استولى على الأكوان

والله أكبر ذو المعارج من الي

ه تعرج الأملاك كل أوان

والله أكبر من يخاف جلاله

أملاكه من فوقهم ببيان

والله أكبر من غدا لسريره

أط به كالرحل للركبان

٣٠١

والله أكبر من أتانا قوله

من عنده من فوق ست ثمان

نزل الأمين به بأمر الله من

رب على العرش استوى الرحمن

والله أكبر قاهر فوق العبا

د فلا تضع فوقية الرحمن

من كل وجه تلك ثابتة له

لا تهضموها يا أولي البهتان

قهرا وقدرا واستواء الذات فو

ق العرش بالبرهان

فبذاته خلق السموات العلى

ثم استوى بالذات فافهم ذان

فضمير فعل الاستواء يعود لل

ذات التي ذكرت بلا فرقان

هو ربنا هو خالق هو مستو

بالذات هذي كلها بوزان

الشرح : والله أكبر وأعظم ، فهو الذي استوى على عرشه بذاته ، بمعنى علا وارتفع ، ولكنه مستول على الأكوان كلها التي من جملتها العرش بقهره وقدرته.

والله أكبر فهو ذو المعارج ، أي المصاعد والمراقي التي هي السموات ، تعرج الملائكة فيها إلى الله صاعدة في كل وقت بأعمال العباد وأرواحهم لعرضها عليه.

والله أكبر فهو الذي يخاف عظمته وجلاله ملائكته من فوقهم ، كما نطقت بذلك الآية الكريمة : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) [النحل : ٥٠].

والله أكبر فهو الذي يئط به عرشه كأطيط الرحل الجديد براكبه ، كما ورد في الحديث.

والله أكبر فهو الذي أتانا وحيه وقرآنه من عنده من فوق ثمان سماوات بما فيها العرش ، حيث نزل به الأمن بأمر الله له من عند رب مستو على عرشه ، رحمن بخلقه. والله أكبر فهو القاهر فوق عباده فوقية ثابتة له من كل وجه قهرا وقدرا واستواء بذاته على عرشه ، فلا تهضموا هذه الفوقية يا أولي العدوان ، ولا تقيدوها ، وقد وردت مطلقة في القرآن.

ومما يدل على استوائه بذاته على عرشه قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ

٣٠٢

السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [يونس : ٣].

فإنه إذا كان بذاته خلق السموات والأرض ، فيجب أن يكون أيضا بذاته استوى ، فإن ضمير فعل الاستواء يعود للذات المذكورة ، كما يعود إليها ضمير فعل الخلق بلا فارق أصلا ، فهو ربنا ، هو خالق ، هو مستو ، كل ذلك بذاته ، فهي جميعا سواء.

* * *

والله أكبر ذو العلو المطلق ال

معلوم بالفطرات والإيمان

فعلوه من كل وجه ثابت

فالله أكبر جلّ ذو السلطان

والله أكبر من رقا فوق الطبا

ق رسوله فدنا من الديان

وإليه قد صعد الرسول حقيقة

لا تنكروا المعراج بالبهتان

ودنا من الجبار جل جلاله

ودنا إليه الرب ذو الإحسان

والله قد أحصى الذي قد قلتم

في ذلك المعراج بالميزان

قلتم خيالا أو أكاذيبا أو ال

معراج لم يحصل إلى الرحمن

إذا كان ما فوق السموات العلى

رب إليه منتهى الإنسان

الشرح : والله أكبر فهو صاحب العلو المطلق المعلوم ثبوته له بالفطرة ، فقد فطر عباده سبحانه على رفع الأيدي والأبصار إلى السماء عند الدعاء ، والمعلوم ثبوته له بالآيات والأحاديث الصحيحة ، قال تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١](وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [سبأ : ٢٣] فالثابت له سبحانه هو العلو المطلق من كل وجه ، علو الذات وعلو القدر وعلو القهر.

والله أكبر فهو الذي رقا إليه عبده ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوق السموات السبع حتى وصل إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام ، وكان من ربه قاب قوسين أو أدنى.

والمعراج ثابت بالأحاديث الصحيحة البالغة حد التواتر ، وهو عروج حقيقي

٣٠٣

بالجسد والروح ، في اليقظة لا في النوم ، وهو عروج إلى الله لا إلى غيره ، فلا تنكروا ذلك كله يا أمة البهتان.

وقد دنا الرسول من الجبار جل جلاله ، كما دنا إليه ربه ذو الفضل والإحسان ولكنكم لا تؤمنون بذلك كله ، وتقولون في المعراج أقوالا أحصاها الله عليكم ليوفيكم حسابها ، فمنكم من زعم أنها خيال ، ومنكم من كذب به وأنكره ، ومنكم من أثبته لكن قال : إن العروج لم يكن إلى الله ، بل إلى محل سلطانه ورحمته ، إذ ليس عنده فوق السماء رب ينتهي إليه الإنسان.

* * *

والله أكبر من أشار رسوله

حقا إليه بإصبع وبنان

في مجمع الحج العظيم بموقف

دون المعرف موقف الغفران

من قال منكم من أشار بإصبع

قطعت فعند الله يجتمعان

والله أكبر ظاهر ما فوقه

شيء وشأن الله أعظم شان

والله أكبر عرشه وسع السما

والأرض والكرسي ذا الأركان

وكذلك الكرسي قد وسع الطبا

ق السبع والأرضين بالبرهان

والرب فوق العرش والكرسي لا

يخفى عليه خواطر الإنسان

لا تحصروه في مكان إذ تقو

لوا ربنا حقا بكل مكان

نزهتموه بجهلكم عن عرشه

وحصرتموه في مكان ثان

لا تقدموه بقول داخل

فينا ولا هو خارج الأكوان

الله أكبر هتكت استاركم

وبدت لمن كانت له عينان

الشرح : والله أكبر فهو الذي أشار إليه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإصبعه في أعظم مشهد شهده المسلمون مع نبيهم في حجة الوداع بعرفة ، حيث خطبهم خطبته الجامعة المشهورة ، وكان أثناء الخطبة يقول لهم : ألا هل بلغت. ويشير بإصبعه إلى السماء ثم ينكتها إليهم قائلا : اللهم أشهد. فمن حكم منكم على من أشار بإصبعه إلى

٣٠٤

السماء أن تقطع إصبعه ، فهو خصم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسيجتمع معه بين يدي الله عزوجل يوم القيامة ليحكم بينهما.

والله أكبر فهو الظاهر العالي الذي لا شيء فوقه ، وشأنه سبحانه أعظم شأن والله أكبر وسع عرشه جميع كونه ، فالأرض والسموات السبع والكرسي كلها في جوفه كحلقة في فلاة وكذلك وسع كرسيه السموات والأرض ، فهي في جوفه كحلقة في فلاة ، والله عزوجل فوق عرشه وكرسيه ، ولا يخفى عليه شيء من أمور خلقه ، حتى أنه يعلم خواطر الإنسان وما توسوس به نفسه.

هذا هو مذهب أهل الحق الذي دلت عليه الآيات والآثار والفطر والعقول ، وأما أنتم فقد مرج أمركم واضطربت في الله أقوالكم ، فمرة تقولون أنه في كل مكان فحكمتم عليه بذلك الانحصار في المكان ، وجعلتموه في الحشوش والأخلية ومواضع النجاسة والقذر ، فقد نزهتموه بجهلكم عن الوجود فوق عرشه ثم حصرتموه داخل خلقه.

ومرة تصفونه بصفة المعدوم الذي لا وجود له ، فتقولون ليس داخل العالم ولا خارجه. فالله أكبر قد انكشفت فضائحكم وظهرت سوءاتكم ، ولم يعد أمركم يخفى على من كان له عينان ناظرتان.

* * *

والله أكبر جل عن شبه وعن

مثل وعن تعطيل ذي كفران

والله أكبر من له الأسماء وال

أوصاف كاملة بلا نقصان

والله أكبر جل عن ولد وصا

حبة وعن كفء وعن آخذان

والله أكبر جل عن شبه الجما

د كقول ذي التعطيل والكفران

هم شبهوه بالجماد وليتهم

قد شبهوه بكامل ذي شأن

الله أكبر جل عن شبه العبا

د فذان تشبيهان ممتنعان

والله أكبر واحد صمد فك

ل الشأن في صمدية الرحمن

نفت الولادة والأبوة عنه وال

كفء الذي هو لازم الإنسان

٣٠٥

وكذاك أثبتت الصفات جميعها

لله سالمة من النقصان

وإليه يصمد كل مخلوق فلا

صمد سواه عز ذو السلطان

لا شيء يشبهه تعالى كيف يش

به خلقه ما ذاك في إمكان

لكن ثبوت صفاته وكلامه

وعلوه حقا بلا نكران

لا تجعلوا الإثبات تشبيها له

يا فرقة التشبيه والطغيان

كم ترتقون بسلم التنزيه للت

عطيل ترويجا على العميان

فالله أكبر أن يكون صفاته

كصفاتنا جل العظيم الشأن

هذا هو التشبيه لا إثبات أو

صاف الكمال فما هما سيان

الشرح : والله أكبر جل عن التشبيه والمثيل ، كما جل عن الإنكار والتعطيل والله أكبر من له الأسماء الحسنى والصفات العليا التي بلغت غاية الكمال ، فلا يلحقها عيب ولا نقصان.

والله أكبر تنزه عن أن يكون له ولد أو صاحبة أو كفء مساو أو معين أو ظهير. والله أكبر جل عن المشابهة للجمادات التي يشبهه بها أهل الإنكار والتعطيل فقد شبهوه بالجمادات الناقصة حين نفوا عنه صفات الكمال من الكلام والفعل والرضى والغضب ، والمحبة والكراهية وغيرها ، فليتهم إذ وقعوا في التشبيه كانوا قد شبهوه بشيء كامل ذي قدر وشأن كالإنسان مثلا. ومع ذلك فهو أكبر تنزه عن مشابهة العباد الأحياء العالمين القادرين ، فكلاهما تشبيه ممنوع ، تشبيهه بالجمادات الميتة الناقصة ، وتشبيهه بذوي الحياة والعلم من خلقه.

والله أكبر فهو واحد لا شريك له ، متفرد بما له من ذات وصفات وأفعال وهو صمد غني واسع الغنى ، تصمد الخلائق كلها إليه ، ولهذه الصمدية شأن أي شأن ، فإن صفات الكمال كلها راجعة إليها ، فهي تنفي عنه الولادة التي تقتضي تفرع شيء عنه وخروجه منه ، وتنفي عنه الأبوة التي هي تفرعه عن أصل سابق عليه ، وتنفي عنه الكفء وهو النظير الذي يساويه ، وهذا من لوازم الإنسان. وهي تثبت له جميع صفات الكمال بريئة من كل عيب ونقصان.

٣٠٦

وهي تثبت فقر العباد جميعهم إليه ، فاليه يصمد كل مخلوق ، لا صمد لهم غيره عزوجل شأنه.

وهو سبحانه لا يشبهه شيء من خلقه ، ولا يشبه هو شيئا ، فتلك مشابهة مستحيلة لكنها لا تقتضي نفي شيء من صفاته الثابتة له ، ولا نفي علوه وكلامه ، فإن إثبات الصفات لا يستلزم المشابهة إلا عند هؤلاء الذين أشربوا التشبيه في قلوبهم ، فهم لا يفرون منه إلا ليقعوا فيه.

ومن العجيب أنهم يموهون على البسطاء ، فيسمون نفيهم للصفات تنزيها ، فيجعلون التنزيه مرقاة يصعدون منها إلى الإنكار والتعطيل.

فليس التشبيه هو إثبات الصفات ، فإن الإثبات حق لا شك فيه ، وإنما التشبيه هو اعتقاد أن صفاته مثل صفات المخلوقين ، بأن يقال له علم كعلمنا وقدرة كقدرتنا ويد كيدنا الخ ، فأين هذا من إثبات الكمال له حتى تجعلوهما شيئا واحدا؟ إنهما شيئان مختلفان ، وما هما عند العاقل المنصف سيان.

* * *

فصل

في تلازم التعطيل والشرك

واعلم بأن الشرك والتعطيل مذ

كانا هما لا شك مصطحبان

أبدا فكل معطل هو مشرك

حتما وهذا واضح التبيان

فالعبد مضطر إلى من يكشف الب

لوى ويغني فاقة الإنسان

وإليه يصمد في الحوائج كلها

وإليه يفزع طالب لأمان

فإذا انتفت أوصافه وفعاله

وعلوه من فوق كل مكان

فزع العباد إلى سواه وكان ذا

من جانب التعطيل والنكران

فمعطل الأوصاف ذاك معطل الت

وحيد حقا ذان تعطيلان

قد عطلا بلسان كل الرسل من

نوح إلى المبعوث بالقرآن

والناس في هذا ثلاث طوائف

ما رابع أبدا بذي امكان

٣٠٧

احدى الطوائف مشرك بإلهه

فإذا دعاه إلها ثان

هذا وثاني هذه الأقسام ذا

لك جاحد يدعو سوى الرحمن

هو جاحد للرب يدعو غيره

شركا وتعطيلا له قدمان

الشرح : يثبت المؤلف في هذه الآيات أن التعطيل ونفي الصفات أخو الإشراك وعبادة الأوثان ، وأنهما مذ وجدا أخوان لا يفترقان. وأن أولهما وهو التعطيل مفض إلى الشرك ومقتض له ، كما تقتضي العلة معلولها ، فكل معطل وجاحد للصفات فهو مشرك عابد للطاغوت.

وذلك لأن العبد في هذه الحياة الدنيا عرضة لنوائب الخير والشر وهو لا يستطيع أن يستقل بتحصيل الخير لنفسه ولا بدفع الشر عنها ، فهو محتاج إلى من يدفع عنه ضره ويغنيه من عيله ، وإليه يقصد في كل حوائجه ليقضيها له ، ويفزع من مخاوفه ليوفر له الأمان ، فإذا نفينا صفات هذا الإله المقصود وأفعاله ، ونفينا وجوده فوق عرشه لم يجده العباد أهلا لأن يفزعوا إليه ، بل لم يجدوه شيئا ، فيفزعون حينئذ إلى غيره ، والذي جرهم إلى هذا الشرك هو التعطيل والإنكار.

فمن عطل أوصافه سبحانه فقد عطل توحيده ، فهما تعطيلان قد بعث جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام من أولهم نوح إلى خاتمهم محمد لإنكارهما وإبطالهما والناس بالنسبة لهذا الأمر ثلاث فرق لا رابع لها.

فأما إحداها فهو من يشرك بالهه في العبادة فيدعو معه إلها آخر ، وهذا شرك أكثر المشركين ، فإنهم يقرون بوجود الله وبأنه المنفرد بالربوبية في الخلق والرزق والتدبير والملك ، ولكنهم يعبدون معه غيره. وأما ثانيتهما فهو من يجحد الرب جل شأنه فينكر وجوده وصفات كماله ، فهذا لا يدعوه وإنما يدعو غيره ، فهو قد جمع بين الشرك والتعطيل ، واتخذ منهما قدمين يقوم عليهما كفره والحاده. وهذا شر الفريقين ، فإن من يدعو مع الله غيره مع دعائه إياه أهون ممن لا يدعوه ، بل يدعو سواه.

* * *

٣٠٨

هذا وثالث هذه الأقسام خير ال

خلق ذاك خلاصة الإنسان

يدعو الإله الحق لا يدعو سوا

ه قط في الأشياء والأكوان

يدعوه في الرغبات والرهبان وال

حالات من سر ومن إعلان

توحيده نوعان علمي وقص

دي كما قد جرد النوعان

في سورة الإخلاص مع تال لنص

ر الله قل يا أيها ببيان

ولذاك قد شرعا بسنة فجرنا

وكذاك سنة مغرب طرفان

ليكون مفتتح النهار وختمه

تجريدك التوحيد للديان

وكذاك قد شرعا بخاتم وترنا

ختما لسعي الليل بالآذان

وكذاك قد شرعا بركعتي الطوا

ف وذاك تحقيق لهذا الشأن

فهما إذا أخوان مصطحبان لا

يتفارقان وليس ينفصلان

فمعطل الأوصاف ذو شرك كذا

ذو الشرك فهو معطل الرحمن

أو بضع أوصاف الكمال له فحق

ق ذا ولا تسرع إلى نكران

الشرح : وأما ثالث هذه الأقسام فهم خيرة الله من خلقه والخلاصة المصطفاة من عباده ، الذين أخلصوا توحيدهم لله ، فهم يدعون إلههم الحق وحده ولا يدعون سواه ، ولا يشركون به شيئا من خلقه في شيء من عبادتهم ، فهم يدعونه رغبا وطمعا في فضله ، ورهبا وخوفا من عقوبته وأخذه ، ويدعونه في جميع أحوالهم ، في سرهم وعلانيتهم ، وفي ظعنهم وإقامتهم ، لا ملجأ لهم منه إلا إليه.

وتوحيده سبحانه على نوعين : أحدهما علمي خبري ، وهو توحيد الأسماء والصفات ، والثاني توحيد قصدي طلبي ، وهو توحيد الإلهية والعبادة ، وقد جرد النوعان من كل ما يشوبهما من أنواع الشرك في سورتي : الإخلاص ، وقل يا أيها الكافرون. فالأولى فيها تجريد لتوحيد الأسماء والصفات. والثانية فيها تجريد لتوحيد العبادة ، ولهذا شرعت القراءة بهما في ركعتي الفجر والمغرب لوقوعهما في طرفي النهار ، ليكون مفتتحة ومختتمة تجريد التوحيد بنوعية الله. وكذلك شرعا في ختام الوتر ، أي في الركعتين الأخيرتين ، لأنه آخر عمل الليل ، فيكون بذلك

٣٠٩

قد ختم عمله بتجريد التوحيد وإخلاصه لله. وكذلك شرعا في ركعتي الطواف تحقيقا لهذا الغرض نفسه.

فهما إذا ـ أعني التوحيد العلمي الخبري والتوحيد القصدي الطلبي ـ أخوان متلازمان لا يفترقان ولا ينفصلان ، فمن أخل بأحدهما أخل بالآخر ، ولا يتم توحيد أحد إلا إذا حققهما جميعا.

فمعطل الأوصاف كلها أو بعضها فهو مشرك ، وكذلك المشرك هو معطل ، فتأمل هذا الأمر جيدا وتدبره ولا تسرع إلى إنكاره لعدم فهمك له.

* * *

فصل

في بيان أن المعطل شر من المشرك

لكن أخو التعطيل شر من أخي ال

إشراك بالمعقول والبرهان

 ـ ٥٤٥ ـ ١ إن المعطل جاحد للذات أو

لكمالها هذان تعطيلان

متضمنان القدح في نفس الألو

هة كم بذاك القدح من نقصان

والشرك فهو توسل مقصوده الز

لفى من الرب العظيم الشأن

بعبادة المخلوق من حجر ومن

بشر ومن قبر ومن أوثان

فالشرك تعظيم بجهل من قيا

س الرب بالأمران والسلطان

ظنوا بأن الباب لا يغشى بدو

ن توسط الشفعاء والأعوان

ودهاهم ذاك القياس المستبين

فساده ببداهة الإنسان

الشرح : وإذا كان التعطيل كما بينا أخا للشرك وملازما له ، فإن المعطل شر من المشرك وأسوأ منه عقيدة في ربه عزوجل. وليست هذه دعوى تقال باللسان ولكنها مدعمة بالدليل والبرهان ، إن التعطيل نوعان أحدهما جحد الذات وعدم الإقرار بوجودها ، وهو تعطيل الدهرية الذين ينكرون الصانع ويقولون ما حكاه

٣١٠

القرآن عنهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [المؤمنون : ٣٧].

والثاني : تعطيل الذات عن صفات الكمال الثابتة لها ، فهذان تعطيلان يتضمنا الطعن في حقيقة الألوهية والتنقيص من شأنها.

وأما الشرك فليس فيه طعن في ذات الألوهية ، فالمشرك مقر بإلهية الرب سبحانه ، ولكنه يظن أنه لا يستطيع أن يبلغ منه مكان الرضى إلا إذا توسل إليه بما يعبده من حجر أو بشر أو قبر أو وثن أو كوكب أو ملك أو غير ذلك مما يتخذه المشركون وسائط فيما بينهم وبين الله ، يزعمون أنها تقربهم إليه زلفى.

فالشرك تعظيم للمشرك به ، ولكنه تعظيم بجهل ، نشأ من قياس فاسد ، وهو قياس الرب سبحانه بالملوك والأمراء والسلاطين ، فلما رأى المشركون أنه لا يمكن الدخول على أحد من هؤلاء ولا الاتصال به والحظوة لديه إلا بواسطة بطانته ورجال حاشيته من الحجاب والوزراء أو أهل بيته من الزوجات والأولاد ، ظنوا الله سبحانه كواحد من هؤلاء ، فاتخذوا له الوسائط والشفعاء ، وكان الذي جر عليهم تلك الداهية الدهياء هو ذلك القياس الذي فساده من الظهور والبيان بحيث تدركه بداهة الإنسان.

* * *

الفرق بين الله والسلطان من

كل الوجوه لمن له أذنان

إن الملوك لعاجزون وما لهم

علم باحوال الدعاء بأذان

كلا ولا هم قادرون على الذي

يحتاجه الإنسان كل زمان

كلا وما تلك الإرادة فيهم

لقضا حوائج كل ما انسان

كلا ولا وسعوا الخليقة رحمة

من كل وجه هم أولو النقصان

فلذلك احتاجوا إلى تلك الوسا

ئط حاجة منهم مدى الأزمان

أما الذي هو عالم للغيب مق

تدر على ما شاء ذو إحسان

وتخافه الشفعاء ليس يريد من

هم حاجة جل العظيم الشأن

٣١١

بل كل حاجات لهم فاليه لا

لسواه من ملك ولا انسان

الشرح : ومما يدل على فساد قياسهم أن هناك فرقا بين المقيس والمقيس عليه من كل وجه ، فكل ما يدعوهم لالتماس الزلفى إلى الملوك والأمراء باتخاذ الوسائط والشفعاء ليس موجودا في حق الله عزوجل. وكل ما يحتاج الملوك من أجله إلى اتخاذ الأعوان والظهراء فإن الله غني عنه ، فالملوك عاجزون عن تدبير شئون مملكتهم بأنفسهم ، فلا بد لهم ممن يعينهم على ذلك ويرفع إليهم حوائج الناس الذين لا يستطيعون الوقوف على حاجاتهم بأنفسهم ، وليس لهم قدرة كذلك على توفير ما يحتاجون إليه في كل وقت إلا بمعونة هؤلاء. فهم يقبلون شفاعتهم ووساطتهم بسبب حاجتهم إليهم ، وهم كذلك يخشون منازعتهم إياهم على الملك فيقبلون شفاعتهم خوفا منهم. وليس للملوك إرادة لقضاء حوائج كل الناس ، فهم يحتاجون إلى من يرغبهم في ذلك ويغير ارادتهم ، ويحولهم من الغضب إلى الرضى ، وكذلك هم لا يجدون عندهم الرحمة التي يمكن أن يبسطوها على الناس ، فيحتاجون إلى من يعطفهم ويرقق قلوبهم ويملأها بالرحمة والحنان والرغبة في الإحسان.

فمن أجل ذلك كله احتاجوا إلى تلك الوسائط حاجة لا ينفكون عنها في وقت من الأوقات. أما الله سبحانه فهو بعكس هؤلاء الملوك العاجزين الجاهلين ، فهو عالم الغيب كله ، يعلم أحوال جميع خلقه ، لا يحتاجون إلى من يرفع إليه حوائجهم ، وهو سبحانه ذو القدرة التامة على فعل كل ما يشاء ، لا يحتاج إلى معونة أحد في تنفيذ ما يريد.

وهو ذو فضل وإحسان ، ورحمته وسعت كل شيء من خلقه ، وهو سبحانه مريد لنفعهم والإحسان إليهم ، بل هو أرحم بعباده من الأم بولدها.

وهو لا يقبل شفاعة الشفعاء خوفا منهم ولا رغبة فيما عندهم ، فليس له إلى أحد حاجة ، ولن يبلغ أحد ضره أو نفعه ، تعالى الله عن ذلك كله جل شأنه ، بل

٣١٢

كل حاجات هؤلاء الشفعاء إنما هي إليه لا إلى غيره من ملك أو إنسان.

* * *

وله الشفاعة كلها وهو الذي

في ذاك يأذن للشفيع الداني

لمن ارتضى ممن يوحده ولم

يشرك به شيئا لما قد جاء في القرآن

سبقت شفاعته إليه فهو مش

فوع إليه وشافع ذو شان

فلذا أقام الشافعين كرامة

لهم ورحمة صاحب العصيان

فالكل منه بدا ومرجعه إلي

ه وحده ما من إله ثان

غلط الألى جعلوا الشفاعة من سوا

ه إليه دون الاذن من رحمن

هذي شفاعة كل ذي شرك فلا

تعقد عليها يا أخا الإيمان

والله في القرآن أبطلها فلا

تعدل عن الآثار والقرآن

الشرح : والشفاعة كلها لله كما قال سبحانه : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) [الزمر : ٤٤] فهو سبحانه الذي يأذن في الشفاعة لمن يشاء من خيار خلقه من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء ، فلا يشفع من هؤلاء أحد عنده إلا بإذنه ولا يشفعون إلا لمن ارتضاه من خلقه ممن مات على التوحيد فلم يشرك بالله شيئا ، فالشفاعة التي أثبتها الله في كتابه هي تلك الشفاعة المقيدة بالاذن من المشفوع عنده سبحانه والرضى منه عن المشفوع فيه واختاره لمن يكرمه بمنصب الشفاعة ، فهو سبحانه يقيم الشافعين تكريما لهم ورحمة بأصحاب الذنوب ، فالشفاعة مرجعها إليه سبحانه أولا وآخر ، ليس لأحد شركة معه في شيء منها ، إذ ليس معه إله غيره.

وأما الشفاعة التي يدعيها المشركون لآلهتهم والنصارى لقسيسيهم ورهبانهم ، وهي التي تقع بغير إذن منه سبحانه ، وتنال كل أحد رضيه أم لم يرضه. فلا يجوز لمؤمن ان يعتقدها ولا ان يعول عليها ، فهي الشفاعة التي أبطلها القرآن الكريم ، كما في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [البقرة : ٤٨] وقوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ

٣١٣

نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) [البقرة : ١٢٣] [البقرة : ١٢٣] وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا) [الأعراف : ٥٣] وقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨] وقوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] إلى غير ذلك من الآيات التي لا يراد بها نفي مطلق الشفاعة ، وإنما يراد بها نفي الشفاعة المطلقة.

* * *

وكذا الولاية كلها لله لا

لسواه من ملك ولا إنسان

والله لم يفهم أولو الاشراك ذا

ورآه تنقيصا أولو النقصان

إذ قد تضمن عزل من يدّعي س

وى الرحمن بل أحدية الرحمن

بل كل مدعو سواه من لدن

عرش الإله إلى الحضيض الداني

هو باطل في نفسه ودعاه عا

بده له من أبطل البطلان

فله الولاية والولاية ما لنا

من دونه وال من الأكوان

فإذا تولاه امرؤ دون الورى

طرا تولاه العظيم الشأن

وإذا تولى غيره من دونه

ولاه ما يرضى به لهوان

في هذه الدنيا وبعد مماته

وكذاك عند قيامة الأبدان

حقا يناديهم ندا سبحانه

يوم المعاد فيسمع الثقلان

الشرح : وكما أن الشفاعة كلها لله فهو الذي يختار الشفعاء ويأذن لهم في الشفاعة ويحدد لهم من يشفعون فيه ممن رضي دينهم وقولهم ، فكذلك الولاية كلها له وحده ، فلا يجوز لأحد أن يتولى غيره من ملك ولا إنس ولا غيرهما.

ولكن أهل الشرك لم يفهموا ذلك ، بل ينكرونه ويرونه تنقيصا من قدر أوليائهم ، إذ هو يتضمن عزلها عن ان تدعي مع الله ، بل يتضمن إخلاص الدعاء

٣١٤

له واعتقاد أحديته ، وكل من يدعي من دون الله من لدن عرشه إلى فرشه فهو باطل في نفسه ، لأنه قد جعل إلها معه وهو لا يستحق من الإلهية شيئا. وكذلك دعاء عابديه له من أبطل الباطل وأضل الضلالة.

فثبت أنه سبحانه له وحده الولاية كلها ، ولاية الذل والضراعة ، فليس لنا من وال يلي أمورنا غيره في الوجود كله ، بل هو وحده الولي الذي نتولاه عبادة وذلا ، فإذا تولاه عبده من دون جميع خلقه تولاه الله سبحانه وكان له نعم المولى ونعم النصير ، أما إذا تولى غيره ورضي بتلك الولاية للمخلوق ، ولاه الله ما تولى لهوانه عليه في هذه الحياة الدنيا وبعد مماته ، وكذلك في معاده عند قيامة الأبدان ، حيث ينادي سبحانه عباده بنداء يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب يقول : «من كان يعبد إلها فليتبع» كما ورد في الحديث.

* * *

يا من يريد ولاية الرحمن دو

ن ولاية الشيطان والأوثان

فارق جميع الناس في إشراكهم

حتى تنال ولاية الرحمن

يكفيك من وسع الخلائق رحمة

وكفاية ذو الفضل والإحسان

يكفيك من لم تخل من إحسانه

في طرفة تتقلب الأجفان

يكفيك رب لم تزل ألطافه

تأتي أليك برحمة وحنان

يكفيك رب لم تزل في ستره

ويراك حين تجيء بالعصيان

يكفيك رب لم تزل في حفظه

ووقاية منه مدى الأزمان

يكفيك رب لم تزل في فضله

متقلبا في السر والإعلان

الشرح : يوصي المؤلف من يريد ان يظفر بولاية الرحمن سبحانه وينجو من ولاية الشيطان والأوثان أن يفارق جميع الناس فيما يقعون فيه من ألوان الشرك وصوره ، من تعظيم غير الله ومحبته واتخاذه ندا مع الله يدعوه ويرغب إليه ويتقرب إليه بأنواع القربات ، فإن ولاية الله لا تنال إلا بتوحيده وإخلاص الدين له ، والله سبحانه فيه كل الكفاية لعبده ، بحيث لا يحتاج معه إلى غيره ، فهو الذي

٣١٥

شمل الخلائق كلهم برحمته ووسعهم فضله وإحسانه ، وهو الذي لم ينقطع إحسانه عن عبده طرفة عين ، بل هو دائم الإحسان وقديمه ، وهو الذي لم تزل ألطافه تتوارد على عبده رحمة وحنانا ، وهو الذي لم يزل يضع ستره على عبده وهو مقيم على معصيته ، وهو الذي لم يزل عبده في حفظه وكلاءته ووقايته طول عمره وهو لم يزل عبده متقلبا في فضله في سره وعلانيته.

فرب هذا شأنه أليس يكفي عبده حتى يدعو معه غيره وينزل حاجاته بباب من سواه.

* * *

يدعوه أهل الأرض مع أهل السما

ء فكل يوم ربنا في شان

وهو الكفيل بكل ما يدعونه

لا يعتري جدواه من نقصان

فتوسط الشفعاء والشركاء والظ

هراء أمر بيّن البطلان

ما فيه إلا محض تشبيه لهم

بالله وهو فأقبح البهتان

مع قصدهم تعظيمه سبحانه

ما عطلوا الأوصاف للرحمن

لكن أخو التعطيل ليس لديه

إلا النفي أين النفي من إيمان

والقلب ليس يقرّ إلا بالتعب

د فهو يدعوه إلى الأكوان

فترى المعطل دائما في حيرة

متنقلا في هذه الأعيان

يدعو إلها ثم يدعو غيره

ذا شأنه أبدا مدى الأزمان

ونرى الموحد دائما متنقلا

بمنازل الطاعات والإحسان

ما زال ينزل في الوفاء منازلا

وهي الطريق له إلى الرحمن

لكنما معبوده هو واحد

ما عنده ربان معبودان

الشرح : فهو سبحانه يدعوه أهل سمائه وأهل أرضه ، لا تغلطه المسائل ولا يشغله شأن عن شأن ولا يتبرم بإلحاح السائلين ، وهو الضامن لعباده بإعطائهم كل ما يسألونه إياه من غير ان ينقص ما عنده ، بل يمينه سبحانه ملأى لا تغيضها نفقة ، ولو أن عباده كلهم قاموا في صعيد واحد فسألوه فأعطى كل واحد

٣١٦

مسألته ما نقص ذلك من ملكه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.

وإذا كان الأمر كذلك فاتخاذ العبد وسائط فيما بينه وبين الله من الشفعاء والشركاء والظهراء أمر في غاية البطلان ، لأنه سوء ظن بالرب جل شأنه واتهام له بالحاجة إلى من يعلمه بأحوال خلقه أو يغير إرادته أو يستخرج لهم إحسانه ورحمته ، وفيه أيضا تشبيه لهم بالله في استحقاق العبادة والتعظيم ، وهو من أقبح البهتان.

والمشرك مع تشبيه غير الله به فهو يقصد تعظيمه سبحانه ولا يجحد صفاته ولا يعطلها ، ولكن المعطل ليس عنده إلا النفي والنكران ، وأين النكران من الإيمان؟

وإذا كان القلب لا بد له ان يتعبد لشيء ، فإذا لم يعبد الله اتجه إلى عبادة غيره كان المعطل في حيرة من أمره ، لأنه لما نفى الذات أو عطلها عن صفاتها لم يجد ما يعبده من الإله الحق ، فينتقل بعبادته بين هذه الأعيان المخلوقة ، فهو يدعو إلها اليوم ثم يدعو غيره غدا ، ويظل هذا شأنه طول عمره يتعبد لآلهة شتى لا يكاد يثبت على عبادة واحد منها أبدا. وأما الموحد فلا ينتقل من إله إلى إله ، فحاشاه من هذا الإشراك حاشاه ، ولكنه يتنقل في منازل الطاعات ومراتب الإحسان ، مرتقيا فيها من درجة إلى درجة وهو سائر إلى ربه ، ولكن معبوده في كل هذه المنازل هو الله عزوجل وحده ليس له ربان معبودان.

* * *

فصل

في مثل المشرك والمعطل

أين الذي قد قال في ملك عظي

م لست فينا قط ذا سلطان

ما في صفاتك من صفات

الملك شيء كلها مساوية الوجدان

فهل استويت على سرير الملك أو

دبرت أمر الملك والسلطان

٣١٧

أو قلت مرسوما تنفذه الرعا

يا أو نطقت بلفظة ببيان

أو كنت ذا أمر وذا نهي وتك

ليم لمن وافى من البلدان

أو كنت ذا سمع وذا بصر وذا

علم وذا سخط وذا رضوان

أو كنت قط مكلما متكلما

متصرفا بالفعل كل زمان

أو كنت تفعل ما تشاء حقيقة ال

فعل الذي قد قام بالأذهان

أو كنت حيا فاعلا بمشيئة

وبقدرة أفعال ذي السلطان

فعل يقوم بغير فاعله محا

ل غير معقول لذي الإنسان

بل حالة الفعال قبل ومع وبع

د هي التي كانت بلا فرقان

والله لست بفاعل شيئا إذا

ما كان شأنك منك هذا الشأن

لا داخلا فينا ولست بخارج

عنا خيالا درت في الأذهان

فبأي شيء كنت فينا مالكا

ملكا مطاعا قاهر السلطان

اسما ورسما لا حقيقة تحته

شأن الملوك أجل من ذا الشأن

الشرح : يضرب المؤلف في هذه الأبيات والتي بعدها مثلين ، مثلا للمعطل الذي ينفي صفات الكمال عن الله عزوجل ويجحدها ، ومثلا للمشرك الذي يقر بها ولكنه يتخذ بينه وبين الله وسطاء يرفعون دعاءه إليه ويقضون حوائجه ، ومنهما يتبين أن المشرك أحسن حالا من المعطل.

فالمعطل إذا خاطب ربه يقول له إنك فينا لست ذا تسلط وقدرة وليس لك من صفات الملك شيء بل أنت مسلوب هذه الصفات فاقدها فإنك لم تستو على سرير ملكك تدبر من هناك أمور خلقك. ولم تخاطب عبادك بخطاب يفهمونه عنك ولم تعهد إليهم بمرسوم ينفذونه كما هو شأن الملوك فلا أمر لك فيهم ولا نهي ولا خطاب ولا تكليم لمن وافوا أليك ليسمعوا منك ولست كذلك ذا سمع تسمع به أصواب خلقك وشكاياتهم التي يجأرون أليك ولست ذا بصر تبصر به أشخاصهم وأحوالهم وما يتصرفون فيه من أعمالهم ولست ذا علم بما يجري في مملكتك من شئون وأحداث ، بل كلها تتم من وراء ظهرك ولا تملك ان تسخط وتغضب على من خالفك وعصى أمرك ولا أن ترضى عمن أطاعك واتبع

٣١٨

رسلك. ولست قط مكلما بالفعل أحدا من خلقك ولا لك قدرة على التكلم والتكليم. وليس لك في مملكتك فعل قط ولا تصرف فلست تفعل ما تشاء كما يفعل الملوك ما يشاءون بل أنت لا حياة لك ولا مشيئة ولا قدرة على فعل مما يفعله أصحاب السلطان وكيف يتأتى أن يكون لك فعل والفعل إنما قام بغيرك وهل يقوم الفعل بغير فاعله بل حالك قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل هي هي لم يعرض لك حال صرت فيها فاعلا ولا خالقا ولا رازقا ولا مدبرا فما دام هذا شأنك ولم تتصف بصفة الفعل فلست في ملكك فاعلا لشيء ولا مدبرا لأمر كما أنك لا مكان لك ولا جهة يتجه أليك عبادك نحوها فلست داخل مملكتك ولا خارجها بل أنت إن حقق الأمر عليك لم تزد ان تكون صورة في الخيال لا حقيقة لها في عالم الواقع.

فبأي شيء إذا تكون ملكا علينا واجب الطاعة قاهر السلطان ، وما أنت إلا اسم ورسم لا حقيقة تحتهما ، بل شأن الملوك أجلّ من هذا وأعظم.

* * *

هذا وثان قال أنت مليكنا

وسواك لا نرضاه من سلطان

إذ حزت أوصاف الكمال جميعها

ولأجل ذا دانت لك الثقلان

وقد استويت على سرير الملك واس

توليت مع هذا على البلدان

لكن بابك ليس يغشاه امرؤ

إن لم يجيء بالشافع المعوان

ويذلّ للبواب والحجاب والش

فعاء أهل القرب والإحسان

أفيستوي هذا وهذا عندكم

والله ما استويا لدى إنسان

والمشركون أخف في كفرانهم

وكلاهما من شيعة الشيطان

إن المعطل بالعداوة قائم

في قالب التنزيه للرحمن

الشرح : وأما الثاني وهو المشرك فإنه أقر لله بتمام الربوبية والانفراد بالملك والسلطان لأنه حائز لجميع صفات الكمال التي لا بد منها في تمام الملك ومن أجلها خضع له جميع الخلق ودان له الثقلان من الجن والإنس فهو ملك مستو على

٣١٩

سرير ملكه عال على جميع خلقه قاهر لهم مستول عليهم ، بيده أزمة أمورهم ولا يخرج شيء منهم عن قهره وسلطانه ، وهو عظيم في سلطانه لا يستطيع أحد من خلقه ان يصل إليه ولا ان يغشى بابه إلا إذا التمس إليه الشفعاء والوسطاء فيذل لهم ويتملقهم ويقوم لهم بأنواع العبادة حتى يدخلوه على الملك فهل يستوي هذا الذي أقر لله بتمام الربوبية وأثبت له ما أثبت لنفسه من صفات الكمال ولم يجحد منها شيئا لكنه جعل له أندادا من خلقه. ومن عطله عن صفات كماله فلم يثبت علوه على خلقه ولا كلامه لأحد من خلقه ولا رحمته ولا غضبه ولا حكمته ولا أمره ولا نهيه ، لا شك أن المشركين أهون في كفرانهم من هؤلاء المعطلة وإن كان الفريقان من أحزاب الشيطان فالمعطل عدو لله قد ناصب ربه العداوة ولكنه يتظاهر بأنه يقصد تنزيهه عما لا يليق به من التشبيه والتجسيم.

* * *

فصل

فيما أعد الله تعالى من الإحسان للمتمسكين بكتابه

وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند فساد الزمان

هذا وللمتمسكين بسنة المختار

عند فساد ذي الأزمان

أجر عظيم ليس يقدر قدره

إلا الذي أعطاه للإنسان

فروى أبو داود في سنن له

ورواه أيضا أحمد الشيباني

أثرا تضمن أجر خمسين امرأ

من صحب أحمد خيرة الرحمن

اسناده حسن ومصداق له

في مسلم فافهمه بالإحسان

إن العبادة وقت هرج هجرة

حقا إلي وذاك ذو برهان

هذا فكم من هجرة لك أيها الس

ني بالتحقيق لا بأماني

هذا وكم من هجرة لهم بما

قال الرسول وجاء في القرآن

ولقد أتى مصداقه في الترمذي

لمن له أذنان واعيتان

في أجر محيي سنة ماتت فذا

ك مع الرسول رفيقه بجنان

٣٢٠