شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

فالشيء ليس لنفسه ينفى لدى

عقل سليم يا ذوي العرفان

الشرح : فأنت إذا تأملت الوجود كله سماواته وأرضه ، ونظرت فيما اشتمل عليه من عجائب الخلق وأحكام الصنع ولطيف التدبير وكيف ربط الله بين أجزائه حتى غدت منسجمة متناغمة. وصار الوجود كله كأنه جسد واحد لرأيته (إن لم تكن ممن أعمى الله أبصارهم) خير شاهد بثبوت الصفات لله تعالى ، فإنه أثر لها دليل عليها إذ المفعولات دالة على الأفعال والأفعال دالة على الصفات ، فإن المفعول يدل على فاعل فعله وذلك يستلزم وجوده وقدرته ومشيئته وعلمه لاستحالة صدور الفعل الاختياري من معدوم أو موجود لا قدرة له ولا حياة ولا علم ولا إرادة.

ثم ما في المفعولات من التخصيصات المتنوعة دال على إرادة الفاعل ، وما فيها من المصالح والحكم والغايات المحمودة دال على حكمته تعالى وما فيها من النفع والإحسان والخير دال على رحمته ، وما فيها من البطش والعقوبة والانتقام دال على غضبه. وما فيها من الإكرام والتقريب والعناية دال على محبته إلخ.

وكذلك الرسل عليهم الصلاة والسلام قد شهدوا لربهم بثبوت صفات الكمال له وأثنوا عليه بها ، كما نطق بذلك محكم القرآن.

وكذلك شهدت له به الفطرة المستقيمة التي لم تفسدها العوامل الخارجية من تلقين الأبوين أو تأثير البيئة أو نحو ذلك ، قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم : ٣٠] وقال عليه الصلاة والسلام : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجسانه» كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ، وكذلك شهدت له به العقول المستنيرة التي انتفعت بما ألقى الله فيها من آيات الهدى ولم تزغ بتأثير الأهواء والأوهام المزلة.

أفتظنون أنا تاركو هذه الشهادات كلها وهي أقوم الشهادات وأعدلها من أجل شهادة جهمي مأفون لا يرجع في شهادته إلى صريح عقل ولا إلى صحيح

٤١

نقل ، بل يهرف بما يشاء له هواه ويقول على الله بغير علم. إذ من أجل شهادة فيلسوف مارق قد اتخذ من فلاسفة اليونان أساتذة له في الضلال. وقدم جهلياتهم التي يسميها معقولا على ما نطقت به صريح الآيات ، فأين شهادة هذين الأحمقين من شهادة الوجود والرسل والعقول والفطر وأيها أولى أن يقدر ويعتبر. فإن لم تكفكم هذه الشهود وطلبتم شاهدا غيرها ، فإنه سيأتكم حين ينكشف الغطاء ويظهر لكم الحق صريحا بلا خفاء وتشاهدون بأعينكم ما لا تملكون إلا التسليم والإذعان بلا جدال ولا مراء.

فإذا أصررتم بعد ذلك على نفي صفات الإثبات وقلتم إنها تستلزم التركيب في الذات فمن يلومنا إذا إذا نحن اتهمناكم بأنكم لا أسماع لكم ولا عقول ، وإذا نحن صرحنا فيكم بأنكم خرجتم على قوانين منطقكم حيث جعلتم الملزوم عين اللازم المنفى وهذا من أوضح الباطل. فإن الإثبات عندكم إن كان هو التركيب فكيف تنفون الاثبات من أجل التركيب الذي هو نفسه مع مما هو معروف لدى كل عاقل من أن الشيء لا ينفى من أجل نفسه مما يشهد بتخبطكم وحيرتكم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

* * *

قلتم نفينا وصفه وعلوه

من خشية التركيب والإمكان

لو كان موصوفا لكان مركبا

فالوصف والتركيب متحدان

أو كان فوق العرش كان مركبا

فالفوق والتركيب متفقان

فنفيتم التركيب بالتركيب مع

تغيير إحدى اللفظتين بثان

بل صورة البرهان أصبح شكلها

شكلا عقيما ليس ذا برهان

لو كان موصوفا لكان كذاك مو

صوفا وهذا حاصل البرهان

فإذا جعلتم لفظة التركيب بال

معنى الصحيح أمارة البطلان

جئنا إلى المعنى فخلصناه من

ها واطّرحناها اطّراح مهان

هي لفظة مقبوحة بدعية

مذمومة منا بكل لسان

٤٢

واللفظ بالتوحيد نجعله مكا

ن اللفظ بالتركيب في التبيان

واللفظ بالتوحيد أولى بالصفا

ت وبالعلو لمن له أذنان

هذا هو التوحيد عند الرسل لا

أصحاب جهم شيعة الكفران

الشرح : فأنتم تقولون إنما نفينا الصفات ونفينا علوه على المخلوقات خوفا من التركيب المستلزم للافتقار الذي هو أمارة الامكان ، فتركيب الدليل عندكم هكذا (لو كان موصوفا لكان مركبا) مع أن الوصف والتركيب متحدان مفهوما أو هكذا (لو كان فوق العرش كان مركبا) مع أن الفوق والتركيب متحدان متفقان ، فيؤول دليلكم إلى نفي التركيب بالتركيب ، أي إلى نفي الشيء بنفسه مع تغيير إحدى اللفظتين بأخرى ، وبذلك يصبح برهانكم عقيما من حيث الشكل غير منتج ، لأن الملزوم فيه عين اللازم ، فكأنكم قلتم : لو كان موصوفا لكان موصوفا. هذا حاصل برهانكم ، وحينئذ نقول لكم : ما ذا تعنون بقولكم (لكان مركبا) فإن عنيتم به معنى صحيحا ، وهو أن يكون موصوفا ، وجعلتم ذلك دليلا على إبطال الصفات ، عمدنا إلى هذا المعنى الصحيح وخلصناه من هذه الكلمة ونبذناها نبذ النواة ، فهي لفظة بدعية قبيحة توسل بها إلى غرض فاسد وهو نفي صفات الحق تبارك وتعالى ، وأخذنا لفظة التوحيد وجعلناها مكان تلك اللفظة البدعية في الخطاب ولا شك أن لفظة التوحيد أولى من تلك الكلمة التي تموهون بها ، فإن لفظة التوحيد تتفق مع إثبات الصفات لله وإثبات علوه على خلقه عند من يسمع ويعقل. وهذا هو التوحيد الذي جاءت به رسل الله عليهم الصلاة والسلام لا توحيد الجهمية أهل التعطيل والكفران.

* * *

فصل

في أقسام التوحيد

والفرق بين توحيد المرسلين وتوحيد النفاة المعطلين

فاسمع إذا أنواعه هي خمسة

قد حصلت أقسامها ببيان

توحيد أتباع ابن سينا وهو من

سوب لأرسطو من اليونان

٤٣

ما للاله لديهم ماهية

غير الوجود المطلق الوحدان

مسلوب أوصاف الكمال جميعها

لكن وجود حسب ليس بفان

ما أن له ذات سوى نفس الوجو

د المطلق المسلوب كل معان

فلذاك لا سمع ولا بصر ولا

علم ولا قول من الرحمن

ولذاك قالوا ليس ثم مشيئة

وإرادة لوجود ذي الأكوان

بل تلك لازمة له بالذات لم

تنفك عنه قط في الأزمان

ما اختار شيئا قط يفعله ولا

هذا له أبدا بذي إمكان

وبنوا على هذا استحالة خر

ق ذي الأفلام يوم قيامة الأبدان

ولذاك قالوا ليس يعلم قط شي

ئا ما من الموجود في الأعيان

لا يعلم الأفلاك كم أعدادها

وكذا النجوم وذانك القمران

بل ليس يسمع صوت كل مصوت

كلا وليس يراه رأي عيان

بل ليس يعلم حالة الإنسان تف

صيلا من الطاعات والعصيان

كلا ولا علم له يتساقط ال

أوراق أو بمنابت الأغصان

علما على التفصيل هذا عندهم

عين المحال ولازم الإمكان

الشرح : يذكر المؤلف هنا أنواع التوحيد التي اصطلحت عليها الفرق المختلفة من فلاسفة ومتصوفة ومتكلمين ، تمهيدا لذكر التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام حتى يستبين الفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة.

وقد بدأ من هذه الأنواع بذكر توحيد ابن سينا وشيعته من المتفلسفة الذين يدينون بفلسفة أرسطو اليوناني وغيره من فلاسفة اليونان ، ويعتقدون فيها العصمة من الخطأ ، ويقومونها على الشريعة ، والمشهور عن أرسطو أنه كان يؤمن بإله وراء العالم ، ويسميه العلة الأولى أو المحرّك الأول ، ويصفه بأنه جوهر مجرد عن المادة بسيط ، وأنه صورة محضة وفعل محض ، ولكنه يرى أنه لا صلة له بهذا العالم ، فهو لم يخلقه ابتداء ، وليس له فيه فعل ولا تدبير ولا علم له بما يجري فيه

٤٤

من حركات وأحوال ، وكل ما بين الله وبين العالم من صلة أنه هو مبدأ حركته وحتى هذه الحركة ليست فعلا منه في العالم ، ولكنها حركة شوقية ، أي أنها من قبيل الدافع الذاتي الذي يحاول به العالم القرب من هذه الصورة المحضة ومحاذاتها بقدر الإمكان.

ولما كان مذهب أرسطو في الصورة المحضة المجردة عن المادة يجعلها أقرب إلى المعاني المعقولة منها إلى الذات الموجودة ، كان القول به مفضيا إلى نفي وجود الله عزوجل وجعله أمرا تقديريا صرفا.

ولما كان ابن سينا وأشياعه من متفلسفة الإسلام قد دانوا بمذهب أرسطو في بساطة المبدأ الأول وتجرده ، فقد نفوا عنه كل صفة وجودية ، ولم يثبتوا له إلا سلوبا وإضافات ، وانتهى بهم الأمر إلى أن جعلوه وجودا مطلقا لا تعين له إذ يستحيل عندهم أن يكون مركبا من ماهية وتعين ، لأن ذلك يقتضي تركبه من أمرين متباينين ، فلم يثبتوا له إلا ماهية مطلقة بشرط الإطلاق ، وإلا وجودا مطلقا غير فان ، كما يقول ابن سينا في كتابه النجاة (فإذا حققت تكون الصفة الأولى لواجب الوجود أنه أن وموجود) ومعلوم أن الوجود المطلق لا يمكن وجوده في الخارج ، فإن كل ما في الخارج لا بد أن يكون متعينا ، وأما الأمر المطلق أو الكلي فلا وجود له إلا في الأذهان.

ومعلوم أيضا أن المطلق لا يمكن أن يتّصف بالصفات الوجودية التي تقتضي تعيّنه وهويته ، فلهذا نفوا عنه سبحانه كل ما أثبته العقل والسمع من صفات الكمال ، فلا سمع له عندهم يسمع به ما يخلقه من الأصوات والألفاظ ، ولا بصر له يبصر به ما يخلقه من الأجسام والأكوان ، ولا علم له عندهم بالجزئيات المتغيرة ، ولا بما يجري في العالم من أحداث وحركات ، بل لا يعلم إلا ذاته ثم يلزم من علمه بذاته لذاته أن يعلم ما يصدر عنها من معلولات ، لكنه لا يعلمها عندهم إلا على وجه كلي غير متغير.

وكذلك لا قول له عندهم ولا كلام هو مؤلف من حروف وأصوات

٤٥

يسمعها من يشاء من خلقه ، بل كلامه في زعمهم هو ما سبقت الإشارة إليه من إفاضة المعاني على قلوب الأنبياء ، ثم تجسم تلك المعاني في نفوسهم بواسطة القوة المتخيلة حروفا وألفاظا.

وكذلك نفوا إرادته ومشيئته لإيجاد العالم لأنه عندهم علة ، والعلة يصدر عنها معلولها بطريق الإيجاب دون مشيئة أو اختيار ، فهو سبحانه عندهم لم يقصد إلى خلق شيء ولا اختاره ، ولكن الأشياء تصدر عنه كصدور الحرارة عن النار.

وبما أن العالم معلول له والمعلول لا ينفك عن علته ، فهو لازم له بالذات لا ينفك عنه في وقت من الأوقات ، فإن العلة ما دامت باقية فمعلولها باق ببقائها لا يجوز عليه العدم والفناء ، ومن هنا حكموا ببقاء الأفلاك بقاء سرمديا لا انتهاء له ، وأنكروا ما وردت به النصوص الصريحة من انشقاق السماء وتناثر الكواكب يوم القيامة ، لأنها عندهم غير قابلة للخرق والالتئام.

وكذلك قالوا أن الله عزوجل لا يعلم الأشياء الموجودة في هذا العالم بأعيانها ، ولا يعلم ما يطرأ عليها من أحوال وتغيرات ، فهو لا يعلم أعداد الأفلاك ولا مواقع النجوم ولا منازل الشمس والقمر ، ولا يسمع أصوات المصوتين ولا يرى أشخاصهم ، ولا يعلم أحوال الناس على التفصيل ولا سعيهم فيما يكسبونه من طاعات أو معاص ، وكذلك لا علم له عندهم بما يتساقط من أوراق الأشجار أو بما ينبت فيها من أغصان ، فعلم ذلك على التفصيل هو عندهم على الله مستحيل ، وحجتهم في ذلك قائمة على التشغيب والتضليل ، فإنهم قالوا كما قال أرسطو من قبل أن علمه بهذه الجزئيات المتغيرة المتكثرة يؤدي إلى التكثر والتغير في ذاته ، لان العلم عندهم هو حصول المعلومات في نفس العالم بوجود ظلي مطابق للوجود الخارجي ومعلوم أن التغير والتكثر إمارة الإمكان ، وهذا ينافي ما ثبت له من وجوب الوجود.

ولا شك أن إنكار الفلاسفة لعلم الله عزوجل بالجزئيات جحد صريح للنصوص القرآنية التي تخبر عن سعة علمه وشموله ، وأنه لا يعزب عنه مثقال ذرة

٤٦

في الأرض ولا في السماء ، وأنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. ولهذا كانت هذه المسألة إحدى المسائل التي كفرهم بها أبو حامد الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) كما كفرهم كذلك بقولهم بقدم العالم وإنكارهم لحشر الأجسام.

بل نفس آدم عندهم عين المحا

ل ولم يكن في سالف الأزمان

ما زال نوع الناس موجودا ولا

يفنى كذاك الدهر والملوان

هذا هو التوحيد عند فريقهم

مثل ابن سينا والنصير الثاني

قالوا وألجأنا إلى ذا خشية الت

ركيب والتجسيم ذي البطلان

ولذاك قلنا ما له سمع ولا

بصر ولا علم فكيف يدان

وكذاك قلنا ليس فوق العرش

إلا المستحيل وليس ذا إمكان

جسم على جسم كلا الجسمين

محدود يكون كلاهما صنوان

فبذاك حقا صرحوا في كتبهم

وهم الفحول ائمة الكفران

ليسوا مخانيث الوجود فلا إل

ى الكفران ينحازوا ولا الإيمان

والشرك عندهم ثبوت الذات والأ

وصاف إذ يبقى هناك اثنان

غير الوجود فصار ثم ثلاثة

فلذا نفينا اثنين بالبرهان

نفى الوجود فلا يضاف إليه شيء

غيره فيصير ذا إمكان

الشرح : يعني أن الفلاسفة كما قالوا بقدم العالم قدما زمانيا لأنه معلل لعلة قديمة ، وعندهم أن المعلول يجب أن يقارن علته في الوجود ، قالوا بقدم العقول والنفوس الناطقة والأفلاك وقدم العناصر الأصلية التي هي في زعمهم بسيطة ، وهي الماء والهواء والتراب والنار ، وكذا قدم الأنواع المركبة منها ، لأنها تنشأ عندهم من إفاضة العقل الفعال الذي هو عقل القمر بحسب الاستعداد ، الموجود في المادة ، ويسمون هذا العالم الأرضي عالم الكون والفساد ، لأنه هو الذي تجري فيه التغيرات من انعدام صور ووجود أخرى ، وانحلال مركب ونشوء آخر.

وإذا كانت الأنواع الأرضية من حيوانات ونباتات قديمة عندهم فهم لا يثبتون إنسانا يكون أول البشر بل ذلك عندهم عين المحال ، فما من إنسان إلا

٤٧

وقبله إنسان لا إلى أول. وكما أن النوع الإنساني قديم لا أول له ، فهو كذلك باق أبد الآباد بلا فناء ولا انقطاع بل يظل يتسلسل في الوجود شيئا بعد شيء إلى غير نهاية ، وهذا هو توحيد ابن سينا وأشياعه مثل الخواجة نصير الدين الطوسي شارح الإشارات ، قالوا وإنما ألجأنا إلى نفي الصفات الوجودية عن الله عزوجل والحكم عليه فقط بالسلوب والإضافات هو الخوف من الإفضاء إلى التركيب والتجسيم المستلزم للإمكان ، ولذلك نفينا عنه السمع والبصر والعلم ، وأولى من ذلك نفي اليدين اللتين هما جارحتان وكذلك نفينا استواءه على العرش وحكمنا باستحالته لأن الاستواء من خواص الأجسام ، فلو كان مستويا على العرش لكان جسما ولكان محدودا على محدود فيكون هو والعرش سواء.

هذا هو ما صرح به هؤلاء الفلاسفة الذين هم أساطين الكفر في كتبهم فلم يفعلوا كما فعل مخانيثهم من المعتزلة ومتأخري الأشعرية الذين لم يعرف اتجاههم ، فلا هم صرّحوا بالكفر وانحازوا إلى أهله كما فعل هؤلاء الفلاسفة ولا هم اتبعوا سبيل المؤمنين ، وإذا كان توحيد هؤلاء الفلاسفة يقوم على الاعتقاد ببساطة الذات وتجردها ونفي كل صفة عنها ، فالشرك عندهم هو إثبات الصفات للذات فإن ذلك يقتضي وجود ثلاثة أشياء متغايرة هي الذات والصفات والوجود ، وذلك يفضي إلى الكثرة وينافي البساطة. ولهذا نفوا اثنين منهما وهما الذات والصفات ولم يبقوا إلا الوجود من غير إضافة شيء إليه حتى لا يصير وجودا ممكنا فآل بهم الأمر كما قدمنا الى القول بوجود مطلق بشرط الإطلاق ، وهذا معناه أنه ليس هناك إله موجود في الخارج وإنما هو فكرة منحوتة في الأذهان.

* * *

فصل

في النوع الثاني من أنواع التوحيد لأهل الإلحاد

هذا وثانيها فتوحيد ابن سبـ

ـعين وشيعته أولي البهتان

كل اتحادي خبيث عنده

معبوده موطوؤه الحقاني

٤٨

توحيدهم أن الإله هو الوجو

د المطلق المبثوث في الأعيان

هو عينها لا غيرها ما هاهنا

رب وعبد كيف يفترقان

لكن وهم العبد ثم خياله

في ذي المظاهر دائما يلجان

فلذاك حكمهما عليه نافذ

فابن الطبيعة ظاهر النقصان

فإذا تجرد علمه عن حسه

وخياله بل ثم تجريدان

تجريده عن عقله أيضا فإن ال

ـعقل لا يدنيه من ذا الشأن

بل يخرق الحجب الكثيفة كلها

وهما وحسا ثم عقل وإن

فالوهم منه وحسه وخياله

والعلم والمعقول في الأذهان

حجب على ذا الشأن فاخرقها وإل

لا كنت محجوبا عن العرفان

هذا وأكثفها حجاج الحس والـ

ـعقول ذانك صاحب الفرقان

فهناك صرت موحدا حقا ترى

هذا الوجود حقيقة الديان

والشرك عندهم فتنويع الوجو

د وقولنا أن الوجود اثنان

واحتج يوما بالكتاب عليهم

شخص فقالوا الشرك في القرآن

لكنما التوحيد عند القائلين

بالاتحاد فهم أولو العرفان

رب وعبد كيف ذاك وإنما الـ

ـموجود فرد ماله من ثان

الشرح : والثاني من أنواع التوحيد هو توحيد أصحاب مذهب وحدة الوجود كابن سبعين وأضرابه من الاتحاديين الخبثاء الذين يعبدون ما ينكحون من النساء ويقوم مذهبهم في التوحيد على أن الإله سبحانه هو الوجود المطلق المنبث في هذه الأعيان الخارجية ، وأنه هو عينها لا غيرها ، فليس هناك رب وعبد ولا خالق ومخلوق ، فإن ذلك يقتضي اثنينية الوجود ، والوجود كله عندهم شيء واحد في إطلاقه أو في تعينه.

قالوا والسبب في رؤية هذا الوجود الواحد أشياء كثيرة هو ما ركب في خلقه الإنسان من الوهم والخيال ، فإنهما قوتان ضاربتان في المحسوسات ، فالوهم يحكم على ما ليس بمحسوس حكمه على المحسوس ، والخيال هو قوة التركيب والتحليل

٤٩

في تلك الصور الخارجية. فلذلك كان حكمهما على الإنسان نافذا وكان نقص الإنسان بسبب سيطرة هاتين القوتين عليه ظاهرا ، فإذا استطاع ان يجرد علمه عن تأثير الحس والخيال بل وعن عقله أيضا ، فإن العقل لا يقر به من شهود الحقيقة لأنه لا يحكم إلا في نطاق المحسوسات ، وإذا استطاع ان يمزق كل هذه الحجب الغليظة التي تمنعه من إدراك الحقيقة من الوهم والحس والخيال ، وما في ذهنه من علوم ومعقولات فهنالك يصير موحّدا التوحيد الحق حيث يشهد أن هذا الوجود كله بشتى مظاهره وصنوف تعيناته هو حقيقة الديان ، سبحانه وتعالى عن هذا الهذيان ، والشرك عندهم هو ضد هذا الشهود من تنويع الموجودات واعتقاد كثرتها جريا مع الوهم والخيال ، وقد خاصمهم في هذا بعض العلماء واحتج عليهم بما في القرآن من التفرقة بين وجود الخالق ووجود المخلوق فردوا عليه بأن القرآن كتاب شرك وأما التوحيد الحق فهو ما نحن عليه من نفي كل فرق وكل اثنينية في الوجود ، فليس هناك رب وعبد ، وإنما هناك موجود واحد فرد لا ثاني له. ومن العجب أنهم مع هذا الخلط والبهتان يزعمون لأنفسهم أنهم هم أولو التحقيق والعرفان فلله في خلقه شئون.

* * *

فصل

في النوع الثالث من التوحيد لأهل الإلحاد

هذا وثالثها هو التوحيد عن

د الجهم تعطيل بلا إيمان

نفي الصفات مع العلو كذاك نف

س كلامه بالوحي والقرآن

فالعرش ليس عليه شيء بتة

لكنه خلو من الرحمن

ما فرقة رب يطاع ولا علي

ه للورى من خالق رحمن

بل حظ عرش الرب عند فريقهم

منه كحظ الأسفل التحتاني

فهو المعطل عن نعوت كماله

وعن الكلام وعن جميع معان

وانظر إلى ما قد حكينا عنه في

مبدأ القصيد حكاية التبيان

٥٠

هذا هو التوحيد عند فريقهم

تلك الفحول مقدمي البهتان

والشرك عندهم فإثبات الصفا

ت لربنا ونهاية الكفران

إن كان شرك ذا وكل الرسل قد

جاءوا به يا خيبة الإنسان

الشرح : والثالث من أنواع التوحيد الباطل هو توحيد الجهم بن صفوان وشيعته ، وهو يقوم على التعطيل المحض وعدم الإيمان بثبوت شيء من الصفات لله عزوجل لأن ذلك يقتضي في زعمهم مشابهة الله لخلقه فهو عندهم ليس حيا ولا عالما ولا مريدا ولا سميعا ولا بصيرا الخ ، وهم كذلك ينفون علوّه تعالى على خلقه واستواءه على عرشه ، كما أخبر بذلك نفسه وينفون حقيقة كلامه بالوحي والقرآن ويقولون أن معنى كونه متكلما أنه خالق للكلام. وبناء على زعمهم الفاسد يكون العرش خاليا ليس عليه شيء فليس فوقه رب يقصد ولا إله خالق يعبد ، بل يكون حظ العرش منه الذي هو أعلى الموجودات كحظ الحضيض الذي هو أسفل الأمكنة عند مركز الأرض.

وبالجملة فهم يعطلون الرب سبحانه عن جميع ما يجب له من نعوت الكمال من كلام وغيره ، ومن أراد أن يعرف مذهبهم على التفصيل فليرجع إلى ما حكى عنهم في صدر هذه القصيدة ، فقد أشبع المؤلف رحمه‌الله الكلام في هذا الباب بما لا مزيد عليه.

هذا هو توحيد هؤلاء الجهمية أئمة الكفر والضلال ومؤسسو البهتان لمن جاء بعدهم وقلدهم فيه من العميان.

والشرك عندهم بل ونهاية الكفر هو ما يضاد مذهبهم وينافيه من إثبات الصفات لله ، وقد رد المؤلف عليهم بأن هذا الإثبات إن كان شركا ، ومعلوم أن جميع الرسل والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه قد جاءوا به وصرحوا في غير خفاء ولا كتمان فقد باء الناس بالخيبة والحرمان حيث لم يتعلموا من معلمي الإنسانية وأساتذة العرفان والإيمان إلا ما هو ضلال وبهتان.

* * *

٥١

فصل

في النوع الرابع من أنواعه

هذا ورابعها فتوحيد لدى

جبريهم هو غاية العرفان

العبد ميت ما له فعل ولكن ما

ترى هو فعل ذي السلطان

والله فاعل فعلنا من طاعة

ومن الفسوق وسائر العصيان

هي فعل رب العالمين حقيقة

ليست بفعل قط للإنسان

فالعبد ميت وهو مجبور على

أفعاله كالميت في الأكفان

وهو الملوم على فعال إلهه

فيه وداخل جاحم النيران

يا ويحه المسكين مظلوم يرى

في صورة العبد الظلوم الجاني

لكن نقول بأنه هو ظالم

في نفسه أدبا مع الرحمن

هذا هو التوحيد عند فريقهم

من كل جبري خبيث جنان

الكل عند غلاتهم طاعات

ما ثم في التحقيق من عصيان

والشرك عندهم اعتقادك فاعلا

غير الإله المالك الديان

فانظر إلى التوحيد عند القوم ما

فيه من الإشراك والكفران

ما عندهم والله شيء غيره

هاتيك كتبهم بكل مكان

أترى أبا جهل وشيعته رأوا

من خالق ثان لذي الأكوان

أم كلهم جمعا أقروا أنه

هو وحده الخلاق للإنسان

فإذا ادّعيتم أن هذا غاية التوحيد

صار الشرك ذا بطلان

فالناس كلهم أقروا أنه

هو وحده الخلاق ليس اثنان

إلا المجوس فإنّهم قالوا

بأن الشر خالقه إله ثان

الشرح : والرابع من أنواع التوحيد المخالف لتوحيد الرسل عليهم الصلاة والسلام هو توحيد أصحاب مذهب الجبر الذين يزعمون أنه نهاية التحقيق وغاية المعرفة وهو يقوم على أن العبد في حقيقته ميت أو جماد لا حس فيه ولا حركة ولا فعل له ، بل كل ما يصدر عنه من أفعال هو فعل الله الذي هو القادر وحده

٥٢

وغيره لا قدرة له على شيء فهو الذي يخلق في العبد الطاعات من صلاة وصيام وحج وجهاد الخ ، ويخلق فيه الفسوق وجميع المعاصي من شرك وزنى وقتل وسرقة الخ ، فهذه كلها أفعال الله على الحقيقة لا يصح نسبتها إلى العبد إلا على وجه من المجاز ، كما يقال هبت الريح وجرى النهر وطلعت الشمس ، فالعبد لا قدرة له على فعل شيء ولا اختيار له ، بل هو مجبور على أفعال كالميت أدرج في أكفانه.

ومع ذلك فهو يلام على ما يخلقه الله فيه من ذنوب ويدخل بسببها نار الجحيم وهو في الحقيقة مظلوم لا ذنب له وإن بدا في صورة الظلوم الجاني ، ولكنا مع ذلك نقول أنه ظالم لنفسه على جهة التأدب فقط مع الله عزوجل حتى لا ننسب إليه الظلم هذا هو التوحيد عند عامة هؤلاء الجبرية الذين خبثت طويتهم وساءت بالله ظنونهم وأما من غلا منهم وزعم شهود الحقيقة الكونية من زنادقة الصوفية ، فيرى أن أعمال العباد كلها طاعات لا معصية فيها ، لأنها تنفيذ للإرادة الإلهية الشاملة ، كما يقول في ذلك شاعرهم :

أصبحت منفعلا لما يختاره

مني ففعلي كله طاعات

فانظر إلى هذا التوحيد عند هؤلاء القوم وما فيه من أنواع الشرك والكفر بل هو في حقيقته يبطل كل شرك وكفر ، فإن الناس كلهم إلا قليلا منهم يقرون بأن الله هو خالق كل شيء ، وإن شئت دليلا على ذلك فاسأل أبا جهل وشيعته في الشرك والضلال ، هل يعتقدون بوجود خالق مع الله لهذه الأكوان؟ فستجدهم جميعا مقرين بأن الله هو وحده الخلاق للإنسان وغيره من الموجودات.

فإذا ادعيتم أيها الجبرية الضلال أن الاعتقاد بانفراد الله بالخلق هو غاية التوحيد فقد أبطلتم وجود الشرك في العالم ، لأن الناس كلهم يقرون بأن الله هو وحده الخلاق لا خالق غيره ، اللهم إلا المجوس الثنوية الذين قالوا بإلهين ، إله للخير وهو النور ، وإله للشر وهو الظلمة.

* * *

٥٣

فصل

في بيان توحيد الأنبياء والمرسلين

ومخالفته لتوحيد الملاحدة والمعطلين

فاسمع إذا توحيد رسل الله ثم اج

عله داخل كفة الميزان

مع هذه الأنواع وانظر أيها

أولى لدى الميزان بالرجحان

توحيدهم نوعان قولي وفع

لي كلا نوعيه ذو برهان

فالأول القولي ذو نوعين أي

ضا في كتاب الله موجودان

إحداهما سلب وذا نوعان أي

ضا فيه حقّا فيه مذكوران

سلب النقائص والعيون جميعها

عنه هما نوعان معقولان

الشرح : بعد أن فرغ المؤلف من بيان أنواع التوحيد المبتدعة التي اصطلحت عليها فرق الزيغ والضلال من فلاسفة وصوفية وجهمية وجبرية وغيرها ، شرع في بيان التوحيد الحق الذي لا يستحق هذا الاسم غيره ، وهو التوحيد الذي بعث الله به جميع رسله ، وأنزل لأجله كتبه ، وخلق الخلق وشرع الشرائع لإقامته ، وأقام الأدلة العقلية والنقلية على وجوبه وصحته ، وهو كذلك التوحيد الذي آمن به ودعا إليه خيار خلق الله من الأنبياء والمرسلين الذين هم أكمل الناس عقولا وأزكاهم نفوسا.

فتوحيد الأنبياء مشتمل على الحق والصدق المزكي للنفوس المطهر للأخلاق ، وهو مؤيد بصريح العقل الموافق لصحيح النقل. وأما توحيد الملاحدة والمعطلة فمشتمل على أكذب الكذب ، وقائم على شبه وخيالات تدل على جهل أصحابها وفساد عقولهم ، وإنما ذكر هذا النوع بعد ما سبقه ، لأن الشيء يتميز بضده ، فمن عرف هذا التوحيد ووقف على حقيقته تبين له فساد تلك المقالات ، وظهر له شناعتها وقبحها ، فيتمسك به أعظم التمسك ، قال تعالى (وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) [الأنعام : ٥٥] وفي الأثر «من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام».

٥٤

فمن جعل هذا التوحيد في كفة ميزان وجعل هذه الأنواع الأخرى في الكفة الأخرى ظهر له أيها أرجح وزنا وأعظم شأنا وأحق بالعناية والاتباع.

وهذا النوع من التوحيد ينقسم إلى قسمين : أولهما توحيد قولي اعتقادي ، لأنه متعلق بأقوال القلوب الذي هو اقرارها واعتقادها ، وأقوال اللسان من الثناء على الله وتمجيده ، ويسمى أيضا بالتوحيد العلمي الخبري ، لأن المقصود منه مجرد العلم والمعرفة ، وتوحيد الأسماء والصفات ، لأن مداره على إثباتها لله ، ويدخل فيه توحيد الربوبية.

والثاني : توحيد فعلي لأنه متعلق بأفعال القلوب والجوارح ، ويسمى أيضا بالتوحيد الإرادي الطلبي ، لأن المقصود منه إرادة الله بأنواع العبادة والإخلاص له فيها. ويسمى كذلك بتوحيد الإلهية والعبادة ، لأنه توحيد الله بأفعال العبيد ، وأن لا يتّخذ من دونه شريك ولا نديد.

وكلا نوعي هذا التوحيد من القولي والعملي ثابت بالأدلة والبراهين النقلية والعقلية ، فآيات القرآن الكريم وسوره كلها متضمنة لهذين النوعين من التوحيد لأنها إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته ، وهذا هو التوحيد العلمي الخبري ، وإما أمر بعبادته وحده وإخلاص الدين له سبحانه ، وهذا هو التوحيد الإرادي الطلبي.

والتوحيد القولي ينقسم أيضا الى قسمين كل منهما وردت به آيات الكتاب العزيز ، القسم الأول منها سلب أي نفي للنقائص والعيوب عن الله تعالى ، والثاني إثبات صفات الكمال له سبحانه وسيأتي ، وإنما بدأ بالسلب لأنه وسيلة ومقصود لغيره ، فإن السلب لا يراد لذاته ، وإنما يقصد لما يتضمنه من إثبات الكمال ، فكل ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من صفات النقص فإنه متضمن للمدح والثناء على الله بضد ذلك النقص من الأوصاف الحميدة والأفعال الرشيدة. وهذا السلب على قسمين ذكرهما المصنف بقوله :

* * *

٥٥

سلب لمتصل ومنفصل هما

نوعان معروفان أما الثاني

وكذاك سلب الزوج والولد الذي

نسبوا إليه عابدو الصلبان

سلب الشريك مع الظهير مع الش

فيع بدون اذن الخالق الديان

وكذاك نفى الكفو أيضا والولي

لنا سوى الرحمن ذي الغفران

الشرح : يعني أن التوحيد القولي الذي يرجع الى سلب النقائص والعيوب نوعان :

١ ـ سلب لمتصل وضابطه نفى كل ما يناقض صفة من صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كنفى الموت المنافي للحياة ، والعجز المنافي للقدرة ، والسنة والنوم المنافي لكمال القيومية ، والاكراه المنافي للاختيار ، والذل المنافي للعزة ، والسفه المنافي للحكمة الخ.

٢ ـ وسلب لمنفصل وضابطه تنزيه الله سبحانه عن أن يشاركه أحد من الخلق في شيء من خصائصه التي لا تنبغي الا له ، وذلك كنفى الشريك له في ربوبيته ، فانه متفرد بتمام الملك والقوة والتدبير ، وفي إلهيته ، فهو وحده الذي يجب أن يألهه الخلق ويفردوه بكل أنواع العبادة والتعظيم ، وفي اسمائه الحسنى وصفاته العليا ، فليس لغيره من المخلوقين شركة معه سبحانه في شيء منها.

وكذلك نفى الظهير الذي يظاهره ، أي يعاونه على خلق شيء أو تدبيره ، وذلك لكمال قدرته وسعة علمه ونفوذ مشيئته ، وغيره من المخلوقين عاجز فقير لا حول له ولا قوة الا بالله ، فالشريك والظهير منفيان عنه بإطلاق ، وأما الشفيع فانه لكمال عظمته وتمام غناه وسعة ملكه منزه أن يشفع عنده أحد الا بإذنه ، فالمنفى عنه سبحانه هو تلك الشفاعة المطلقة التي كان يزعمها المشركون وأشباههم من أهل الكتاب لآلهتهم وأنبيائهم وقد يسيهم.

وأما الشفاعة عنده بإذنه فانها ثابتة بالنصوص الكثيرة من الكتاب والسنة وذلك لأنها دالة على سعة رحمته وكمال احسانه ، فانها من رحمته بالشافع والمشفوع له ، فالشافع ينال بها الأجر والثناء من الله ومن خلقه ، والمشفوع له يرحمه‌الله على

٥٦

يد من أذن له بالشفاعة ، ومع هذا فلا يأذن سبحانه لأحد أن يشفع الا فيمن رضي قوله وعمله من أهل الاخلاص والمتابعة ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة «اسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله الا الله خالصة من قلبه».

وقد نزه الله سبحانه نفسه عن مشاركة أحد له في واحد من هذه الأمور الثلاثة التي هي الملك والشركة معه فيه والمعاونة له والشفاعة عنده بغير اذنه ، في قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) [سبأ : ٢٢ ، ٢٣] فقطع بهذه الآية كل سبب يتوسل به المشركون لدعوة غيره.

وكذلك ينفى عنه سبحانه اتخاذ الصاحبة والولد الذي نسبه إليه النصارى عابدو الصلبان والصابئة الذين يقولون ان الملائكة بنات الله. وقد رد الله عزوجل على كل من زعم أن له ولدا في غير آية من كتابه ، فقال في سورة (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) التي تعدل ثلث القرآن : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الاخلاص : ٣ ، ٤].

وقال في آخر سورة بني اسرائيل : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) [الإسراء : ١١١].

وفي أول سورة الكهف : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) [٤ ، ٥].

وفي آخر سورة مريم عليها‌السلام (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [٨٨ ، ٩٣] الى غير ذلك من

٥٧

الآيات التي تنفى عن الله ما لا يليق به من اتخاذ الصاحبة والولد والشريك ، لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد ، الغني الذي لا يحتاج الى أحد من خلقه بوجه من الوجوه ، وكل الخلق مملوكون له وفقراء إليه.

وكذلك يجب أن ينفى عنه أن يكون أحد مكافئا ، أي مساويا له في كماله وفيما يجب له من حقوق ، كما قال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم : ٦٥](فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢] فليس لأحد صفات تقارب صفات الله سبحانه ولا افعال تشبه أفعاله ، بل ليس لأحد من خلقه استقلال بفعل شيء أصلا حتى يعينه الله عليه. ولهذا كانت أفعال العباد تابعة لمشيئة الله تعالى مع وقوعها منهم بقدرهم وارادتهم ، فان خالق القدرة والإرادة خالق ما يكون بهما كما قال تعالى (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [التكوير : ٢٨ ، ٢٩].

ومما ينفى عن الله وينزه عنه أيضا أنه ليس لنا ولى سواه يلي أمورنا ، فهو وحده المتولي لأمور خلقه في الخلق والرزق والتدبير وأنواع التربية العامة والخاصة ، وولايته تعالى نوعان :

ولاية عامة شاملة للبر والفاجر ، وهي ولاية الخلق والتدبير ، كما قال تعالى (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) [السجدة : ٤](فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) [الشورى : ٤٤].

وولاية خاصة ، وهي ولايته تعالى للمؤمنين المتقين يخرجهم بها من ظلمات الكفر والجهل والمعصية الى نور العلم والايمان والطاعة ، قال تعالى (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] وقال (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) [يونس : ٦٤].

وكذلك لم يتخذ سبحانه من خلقه وليا من الذل لكمال اقتداره وغناه وعظمته وانما يتخذ منهم أولياء رحمة بهم واحسانا إليهم ، يحبهم ويحبونه.

٥٨

وبالجملة فليس أحد مساويا لله تعالى أو مماثلا أو معينا أو مشيرا أو محتاجا إليه بوجه من الوجوه.

والأول التنزيه للرحمن عن

وصف العيوب وكل ذي نقصان

كالموت والاعياء والتعب الذي

ينفى اقتدار الخالق الديان

والنوم والسنة التي هي أصله

وعزوب شيء عنه في الأكوان

الشرح : هذا هو القسم الأول من قسمي السلب المنفى عن الله ، وهو السلب المتصل الذي يقوم على تنزيهه سبحانه عن الاتصاف بكل ما يضاد كماله من النقائص والعيوب ، والغرض من هذا السلب كما قدمنا انما هو ثبوت صفات الكمال له على أكمل وجه وأتمه ، فسلب الموت والاعياء عنه مستلزم لثبوت كمال حياته وقدرته ، قال تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان : ٥٨] وقال (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) [ق : ٣٨] فانه لو اتصف بشيء من هذا النقص لكان ناقص القدرة ، وكذلك سلب النوم والسنة التي هي النعاس عنه يستلزم اثبات كمال حياته وقيوميته ، قال الله تعالى (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [البقرة : ٢٥٥].

وفي الحديث الذي رواه أبو موسى الاشعري رضي الله عنه «ان الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» وكذلك سلب الجهل ، والنسيان عنه يقتضي اتصافه بالعلم الكامل المحيط بكل ما في السموات والأرض وبما يسر العباد ويعلنون فلا يعزب عنه مثقال ذرة من ذلك ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) [آل عمران : ٥].

وكما قال : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [سبأ : ٣].

* * *

٥٩

وكذلك العبث الذي تنفيه حكمت

ه وحمد الله ذي الاتقان

وكذاك ترك الخلق اهمالا سدى

لا يبعثون الى معاد ثان

كلا ولا أمر ولا نهى

عليهم من إله قادر ديان

الشرح : يعني كما يجب تنزيهه عما ذكر من الموت والاعياء والنوم والسنة والجهل يجب تنزيهه عن العبث في خلقه وأمره المنافي لكمال حكمته وحمده ، فلم يخلق شيئا عبثا ولا باطلا ولا شرع لعباده الا ما فيه حكمة ومصلحة لأنه حكيم حميد ، فمن تمام حكمته وحمده أنه أحسن كل شيء خلقه وأحكم وأتقن صنعه ، فلا يرى فيه خلل ولا فطور. وكذلك أحكم شرائعه التي شرعها لعباده فجعلها في غاية العدل والمصلحة وضمنها كل ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.

ومن تمام حكمته كذلك أنه لم يترك خلقه هملا بلا أمر ولا نهى ولا ثواب ولا عقاب بل حكمته وحمده دالان اعظم الدلالة على أنه خلق المكلفين لينفذ فيهم أحكامه الشرعية ويبتليهم بالأوامر والنواهي. ثم بعد ذلك يبعثهم الى الدار الآخرة التي تجري عليهم فيها أحكامه الجزائية من الثواب والعقاب.

والآيات الدالة على تمام حكمته سبحانه في خلق المكلفين للابتلاء بأنواع التكاليف ليبلوهم أيهم أحسن عملا كثيرة منها قوله في آخر سورة (المؤمنون) :

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) [١١٥ ، ١١٦] وقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) [ص : ٢٧ ، ٢٨].

وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية : ٢١].

* * *

٦٠