شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

وكذاك ظلم عباده وهو الغنى

فما له والظلم للانسان

وكذاك غفلته تعالى وهو علا

م الغيوب فظاهر البطلان

وكذاك النسيان جل الهنا

لا يعتريه قط من نسيان

وكذاك حاجته الى طعم ورز

ق وهو رازق بلا حسبان

الشرح : ومما يجب أن ينزه الله عنه أن يقع منه ظلم لعباده بزيادة في سيئاتهم أو نقص من حسناتهم أو عقوبتهم على ما لم يفعلوا من الذنوب أو أخذ أحد منهم بجريرة غيره الى غير ذلك من صور الظلم التي حرمها سبحانه على نفسه ، فان الظلم لا يفعله الا من هو محتاج إليه لعجزه وفقره أو من كان الجور وصفا له ، والله سبحانه هو الغنى عن خلقه من كل وجه ، وهو الموصوف بكمال الحكمة والعدل فما له اذا ولظلم العباد ، قال تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت : ٤٦] وقال (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) [النساء : ٤] وقال (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [ق : ٢٩].

وكذلك ينزه عن الغفلة التي هي الذهول عن الشيء وعن النسيان الذي هو ضد الذكر لان علمه محيط بالاشياء كلها من غيب أو شهادة ، فلا يطرأ عليه ما يطرأ على علوم المخلوقين من ذهول أو نسيان ، كما قال تعالى على لسان موسى عليه‌السلام في خطابه لفرعون حين قال له (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢].

وكذلك ينزه سبحانه عن احتياجه الى الطعام والرزق ، فانه هو الرازق لجميع الخلق يوصل إليهم أقواتهم ويطعمهم ويسقيهم مع غناه عنهم قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات : ٥٥ ، ٥٨].

وقال (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [الأنعام : ١٤].

* * *

٦١

هذا وثاني نوعي السلب الذي

هو أول الانواع في الاوزان

تنزيه أوصاف الكمال له عن التش

بيه والتمثيل والنكران

لسنا نشبه وصفه بصفاتنا

ان المشبه عابد الاوثان

كلا ولا نخليه من أوصافه

ان المعطل عابد البهتان

من مثل الله العظيم بخلقه

فهو النسيب لمشرك نصراني

أو عطل الرحمن من أوصافه

فهو الكفور وليس ذا ايمان

الشرح : بعد ان فرغ المؤلف من بيان النوع الاول من أنواع السلب الذي هو سلب النقائص والعيوب عن الله عزوجل وقسمه الى متصل ومنفصل شرع في بيان النوع الثاني من هذا السلب ، الذي هو أول أنواع التوحيد القولي في هذه القصيدة.

وهذا النوع يقوم على تنزيه أوصاف الكمال الثابتة له سبحانه عن مماثلة صفات المخلوقين لها ، فلا يقال علمه كعلمهم ولا قدرته كقدرتهم ولا رحمته كرحمتهم ونحو ذلك ، فمن شبه صفات الله بصفات خلقه لم يكن عابدا لله في الحقيقة ، وانما يعبد وحدثنا صوره له خياله ونحته فكره ، فهو من عباد الاوثان لا من عباد الرحمن ، فهو نسيب ، أي مشابه ومشاكل لهؤلاء النصارى الذين عبدوا المسيح ابن مريم وجعلوه إلههم. وأما رب العالمين فهو فوق ما يظنون وأعلى مما يتوهمون ، فانه كما أن ذاته لا تشبهها ذوات المخلوقين فصفاته لا تشبهها صفاتهم.

وكذلك يقوم هذا النوع على عدم التعطيل والجحد لصفات الكمال كما فعلت ذلك الجهمية ومن تبعهم من المتكلمين ، فان من نفى ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانه في الحقيقة لا يعبد شيئا موجودا ، وانما يعبد عدما مفقودا ، لما توهم أن ظاهر النصوص يدل على التشبيه أخذ ينفيها بوهمه الفاسد. فآل به النفى للصفات الى نفى حقيقة الذات اذ لا يعقل وجود ذات في الخارج مجردة عن الصفات ، فصار قلبه متعبدا للعدم المحض. وهذا كفر بآيات الله

٦٢

وتكذيب للرسل ، ورد لما جاءوا به من اثبات نعوت الكمال ، ولهذا قال المصنف (فهو الكفور وليس ذا ايمان).

يقول فضيلة الشيخ عبد الرحمن آل سعدي رحمه‌الله :

وبالجملة فالناس في هذا المقام ثلاثة أقسام : مؤمن موحد ومشبه ومعطل ، فالمؤمن الموحد يصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله من صفات الكمال على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته من غير تمثيل ولا تشبيه ، ومن غير تحريف ولا تعطيل لشيء من أوصاف الله.

والمشبه هو الذي يشبه صفات الخالق بصفات المخلوقين أو يتعرض لمعرفة كنهها وحقيقتها التي لا يعلمها غير الله.

والمعطل هو من نفى شيئا من صفات الله.

وكل من المعطل والمشبه قد حرم الوصول الى معرفة الله على وجهها وابتلى بالتكليف والتحريف لنصوص الوحى.

وكما أنه مناقض للوحى فهو مناقض لما دلت عليه العقول والفطر التي لم يطرأ عليها التغير فلا معقول لديهم ولا منقول. وهدى الله أهل السنة والجماعة لاتباع الحق المنقول عن الله وعن رسله ، والمعقول لذوي الألباب ، وذلك يظهر بتدبر ما عليه هذه الطوائف في المسائل والدلائل وتحقيقها. ١ ه‍.

* * *

فصل

في النوع الثاني من النوع الأول وهو الثبوت

هذا ومن توحيدهم اثبات أو

صاف الكمال لربنا الرحمن

الشرح : سبق أن ذكر المصنف أن التوحيد القولي ينقسم الى ثبوت وسلب وبعد أن فرغ من ذكر السلب بجميع أقسامه شرع في بيان القسم الثبوتي الذي

٦٣

يقوم على اثبات كل صفة الله وردت في الكتب الالهية أو جاءت على السنة الرسل عليهم الصلاة والسلام.

فمن توحيد الأنبياء والمرسلين أنهم يثبتون أوصاف الكمال كلها لله عزوجل لا ينفون منها شيئا ولا يعطلون ربهم عن شيء من صفات كماله ، بل يؤمنون بها كلها ويتعرفون معناها ويتعبدون لله تعالى بعلمها واعتقادها ، ويعملون بما تقتضيه كل صفة من الاحوال القلبية والمعارف الالهية.

فأوصاف العظمة والكبرياء والمجد والجلال تملأ قلوبهم هيبة لله وتعظيما له وتقديسا ، وأوصاف العز والقهر والقدرة والجبروت تملأها ذلا وانكسارا وخضوعا بين يدي الرب جل شأنه ، وخوفا من بطشه وعذابه.

وأوصاف الرحمة والبر والجود والكرم تملأها أملا واستبشارا وطمعا في فضله واحسانه وجوده وامتنانه.

وأوصاف العلم والخبرة والاحاطة والشهود توجب للعبد مراقبة ربه في جميع حركاته وسكناته ، والاستحياء منه أن يراه حيث نهاه ، أو يفقده حيث أمره ، وأوصاف الجمال والقرب والود والاكرام تملأ القلوب محبة لله وشوقا إليه. وهكذا كل من تحقق بمعاني أسمائه سبحانه ووعاها بقلبه ووجدانه ، فانه يجد لها من التأثيرات المختلفة على قلبه وروحه ما يصير به كأنه في روضة من الجنة ، ويحق له أن يدخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام «ان لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة».

* * *

كعلوه سبحانه فوق السماوات

العلى بل فوق كل مكان

فهو العلي بذاته سبحانه

اذ يستحيل خلاف ذا ببيان

وهو الذي حقا على العرش استو

ى قد قام بالتدبير للأكوان

الشرح : فمما يثبته الرسل والأنبياء لربهم من صفات كماله علوه على جميع

٦٤

مخلوقاته ومباينته لها ، وهذا أمر تشهد له العقول والفطرة التي لم يفسدها التقليد الأعمى والعصبية لمذاهب الشيوخ والرؤساء. فضلا عما ورد من النصوص الكثيرة القاطعة التي لا يملك المبطلون لها إنكارا ولا تأويلا ، وقد أشبع المصنف رحمه‌الله الكلام في هذا الباب في الفصول السابقة من منظومته ، وأثبت صفة العلو من واحد وعشرين وجها ، وذكر تضافر العقل والنقل والفطرة على ذلك ، فليرجع إليها من يريد زيادة اطمئنان لقلبه.

وأعلم أن الثابت لله عزوجل من تلك الصفة هو العلو المطلق الذي يشمل علو الذات وعلو القهر وعلو القدر ، وإنما نص على علو الذات لوقوع النزاع فيه ، وقال يستحيل أن يكون خلاف ذلك ، أي أن لا يكون سبحانه عاليا على جميع خلقه ، فإنه لو لم يكن فوق المخلوقات مباينا لها لكان إما عينها كما يقوله أصحاب الوحدة ، أو حالا فيها كما يقوله الحلولية ، وكل منهما باطل بالضرورة فتعين علوه عليها ومباينته لها.

وأما استواؤه سبحانه على عرشه العظيم فيستفاد من النقل (الكتاب والسنة) قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] ذكر ذلك في سبعة مواضع من القرآن العظيم. وأعلم أن استواءه تعالى على العرش إنما هو على الكيفية التي يعلمها مما يليق بعظمته وجلاله. وهكذا يقال في جميع ما أخبر الله به عن نفسه ، نؤمن بها كما جاءت دون أن نبحث عن كنهها أو عن كيفية قيامها به مع اعتقاد تنزيهه عن مماثلة المخلوقين.

* * *

حي مريد قادر متكلم

ذو رحمة وإرادة وحنان

هو أول هو آخر هو ظاهر

هو باطن هي أربع بوزان

ما قبله شيء كذا ما بعده

شيء تعالى الله ذو السلطان

ما فوقه شيء كذا ما دونه

شيء وذا تفسير ذي البرهان

فانظر إلى تفسيره بتدبر

وتبصر وتعقل لمعان

٦٥

وأنظر إلى ما فيه من أنواع مع

رفة لخالقنا العظيم الشأن

الشرح : تضمنت هذه الأبيات جملة من الأسماء الحسنى الدالة على ما اشتملت عليه من صفات الكمال ، فهو حي متصف بالحياة الكاملة اللازمة لذاته أزلا وأبدا فلم يسبقها عدم ولا يلحقها فناء ، وقد سبق أن قلنا أن جميع صفات الكمال الذاتية ترجع إلى صفة الحياة التي تعتبر شرطا فيها كلها ، فإنه لا يصح اتصافه بشيء منها إلا كان حيا ، ويكون كمال حياته مستوجبا لكمال هذه الصفات وهو مريد بإرادة قائمة بذاته تتعلق بكل ما أراد إيجاده واحداثه ، فلا يشذ عنها شيء من المكونات ، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وليس معنى ذلك أن له إرادة واحدة قديمة تعلقت بجميع المرادات في الأزل ، كما يقول بذلك من لا عقل له ، وإنما تنشأ في ذاته سبحانه إرادات جزئية على وفق علمه وحكمته ، فحدث عنها المرادات بلا مهلة ولا توان ، كما قال سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] أي فيحدث عقب إرادته وتكوينه له ، لا مع الإرادة ولا متراخيا عنها.

وهو كذلك قادر بقدرة تامة لا يعجزها شيء. فمهما أراد شيئا من الممكنات أبرزه بقدرته لا يلحقه من ذلك تعب ولا اعياء ، قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٤].

وهو أيضا متكلم بكلام هو صفة له قائمة بذاته ، فإنه لا معنى للمتكلم إلا من قام به الكلام. وكلامه تعالى من صفات الفعل التابعة لمشيئته وقدرته ، فهو يتكلم متى شاء وكيف شاء بكلام هو حروف وأصوات ، يسمعها من يختصه من خلقه بتكليمه.

وهو ذو رحمة وسعت كل شيء في الدنيا ، وبلغت حيث بلغ علمه ، واختص بها عباده المؤمنين في الآخرة ، كما قال تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [الأعراف : ١٥٦] الآية.

ورحمته سبحانه صفة له على ما يليق به ، تقتضي إحسانه إلى خلقه وإيصال

٦٦

النفع إليهم. وهو ذو إرادة عامة شاملة يخصص بها كل ممكن ببعض ما يجوز عليه من الأوصاف والأحوال ، وهو ذو حنان ، بمعنى شفقة عظيمة على خلقه ، ورأفة بالغة بهم تقتضي كمال بره وجوده.

وأما قوله : هو أول هو آخر الخ الأبيات ، فهو بيان لمعنى أسمائه الأربعة الواردة في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣].

وقد التزم المصنف في تفسيرها ما ورد به الحديث الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام «أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء» ولذا قال : (وذا تفسير ذي البرهان).

وقد سبق أن بينا ضرورة الأخذ بهذا التفسير لهذه الأسماء الأربعة حيث أنه ورد على لسان المعصوم صلوات الله وسلامه عليه ، وهو أعلم الخلق بربه وبمعاني أسمائه. يقول العلامة الشيخ عبد الرحمن آل سعدى غفر الله له : (فتدبر هذه المعاني الجليلة الدالة على تفرد الرب العظيم بالكمال المطلق والإحاطة المطلقة الزمانية في قوله : (الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) والمكانية في (الظَّاهِرُ وَالْباطِنُ).

فالأول يدل على أن كل ما سواه حادث كائن بعد أن لم يكن ، ويوجب للعبد أن يلحظ فضل ربه في كل نعمة دينية أو دنيوية ، إذ السبب والمسبب منه تعالى.

والآخر يدل على أنه هو الغاية ، والصمد الذي تصمد إليه المخلوقات بتألهها ورغبتها ورهبتها وجميع مطالبها.

والظاهر يدل على عظمة صفاته واضمحلال كل شيء عند عظمته من ذوات وصفات وعلى علوه. والباطن يدل على اطلاعه على السرائر والضمائر والخبايا والخفايا ودقائق الاشياء ، كما يدل على قربه ودنوه ، ولا يتنافى الظاهر والباطن ، لأن الله ليس كمثله شيء في كل النعوت ا ه.

* * *

٦٧

وهو العلي فكل أنواع العل

وله فثابتة بلا نكران

وهو العظيم بكل معنى يوجب الت

عظيم لا يحصيه من انسان

الشرح : ومن أسمائه الحسنى سبحانه (العليّ والعظيم) وقد ختم الله بهما آية الكرسي التي هي سيدة أي القرآن قال تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة : ٢٥٥] وقد ذكرا كذلك معا مقترنين في قوله تعالى : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [الشورى : ٤].

أما العلى فهو دال على وصف العلو الثابت له بالعقل والنقل والفطرة ، وقد ذكرنا أن الثابت له سبحانه من ذلك الوصف هو العلو المطلق الذي يشمل علو الذات فهو موجود بذاته فوق جميع خلقه. وعلو القهر فالمخلوقات جميعا في قبضة قهره ، وعلو القدر فليس يدانيه أحد في نفاسة قدره ، وأما العظيم فهو دال على وصف العظمة التي هي الكبر والاتساع.

ومعاني التعظيم الثابتة له سبحانه نوعان :

أحدهما : أنه موصوف بكل صفة كمال ، وله من ذلك الكمال أكمله وأعظمه وأوسعه بحيث لا يكون وراءه كمال أصلا ، فله العلم الواسع المحيط والقدرة التامة والإرادة الشاملة والحكمة البالغة ، وله الكبرياء والعظمة اللذان لا يقدر أحد قدرهما ولا يبلغ كنههما ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل «الكبرياء ردائي والعظمة أزاري فمن نازعني واحدا منهما عذبته».

والنوع الثاني من معانى عظمته : أنه المستحق لكل أنواع التعظيم التي يعظم بها عباده ، فهو يستحق منهم أن يعظموه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم ، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبته والذل والانكسار له والخضوع لكبريائه وأعمال اللسان في الثناء عليه ، وقيام الجوارح بشكره وعبوديته. ومن تعظيمه أن يتقى حق تقاته فيطاع ولا يعصى. ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر.

ومن تعظيمه تعظيم امره ونهيه وكل ما شرعه من زمان ومكان وأعمال.

٦٨

ومن تعظيمه أن لا يعترض على شيء مما خلقه أو شرعه.

* * *

وهو الجليل فكل أوصاف الجلا

ل له محققة بلا بطلان

وهو الجميل على الحقيقة كيف لا

وجمال سائر هذه الأكوان

من بعض آثار الجميل فربها

أولى وأجدر عند ذي العرفان

فجماله بالذات والأوصاف وال

افعال والأسماء بالبرهان

لا شيء يشبه ذاته وصفاته

سبحانه عن افك ذي بهتان

الشرح : قال الراغب في مفرداته : (الجلالة عظم القدر والجلال بغير الهاء التناهي في ذلك وخص بوصف الله تعالى فقيل ذو الجلال والاكرام ، ولم يستعمل في غيره والجليل العظيم القدر ، ووصفه تعالى بذلك ، أما لخلقه الأشياء العظيمة والمستدل بها عليه أو لأنه يجل عن الاحاطة به أو لأنه يجل عن أن يدرك بالحواس).

وفي النهاية لابن الأثير (ومن أسماء الله تعالى : الجليل ، وهو الموصوف بنعوت الجلال والحاوي جميعها هو الجليل المطلق ، وهو راجع إلى كمال الصفات ، كما أن الكبير راجع إلى كمال الذات ، والعظيم راجع إلى كمال الذات والصفات) أه.

وأوصاف الجلال الثابتة له سبحانه مثل العزة والقهر والكبرياء والعظمة والسعة والمجد كلها ثابتة له على التحقيق لا يفوته منها شيء.

وأما الجميل فهو اسم له سبحانه من الجمال وهو الحسن الكثير ، والثابت له سبحانه من هذا الوصف هو الجمال المطلق الذي هو الجمال على الحقيقة ، فإن جمال هذه الموجودات على كثرة ألوانه وتعدد فنونه ، هو من بعض آثار جماله فيكون هو سبحانه أولى بذلك الوصف من كل جميل ، فإن واهب الجمال للموجودات لا بد أن يكون بالغا من هذا الوصف أعلى الغايات ، وهو سبحانه الجميل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله.

٦٩

أما جمال الذات فهو ما لا يمكن لمخلوق أن يعبر عن شيء منه أو يبلغ بعض كنهه وحسبك أن أهل الجنة مع ما هم فيه من النعيم المقيم وأفانين اللذات والسرور التي لا يقادر قدرها إذا رأوا ربهم وتمتعوا بجماله نسوا كل ما هم فيه ، واضمحل عندهم هذا النعيم وودوا لو تدوم لهم هذه الحال ولم يكن شيء أحب إليهم من الاستغراق في شهود هذا الجمال ، واكتسبوا من جماله ونوره سبحانه جمالا إلى جمالهم وبقوا في شوق دائم إلى رؤيته حتى أنهم يفرحون بيوم المزيد فرحا تكاد تطير له القلوب.

وأما جمال الاسماء فإنها كلها حسنى بل هي أحسن الاسماء وأجملها على الاطلاق فكلها دالة على كمال الحمد والمجد والجمال والجلال ليس فيها أبدا ما ليس بحسن ولا جميل ، وأما جمال الصفات فإن صفاته كلها صفات كمال ومجد ونعوت ثناء وحمد ، بل هي أوسع الصفات وأعمها وأكملها آثارا وتعلقات ، لا سيما صفات الرحمة والبر والكرم والجود والإحسان والإنعام.

وأما جمال الأفعال فإنها دائرة بين أفعال البر والإحسان التي يحمد عليها ويشكر وبين أفعال العدل التي يحمد عليها لموافقتها للحكمة والحمد فليس في أفعاله عبث ولا سفه ولا جور ولا ظلم ، بل كلها خير ورحمة ورشد وهدى وعدل وحكمة ، قال تعالى : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود : ٥٦].

ولأن كمال الأفعال تابع لكمال الذات والصفات ، فإن الأفعال أثر الصفات ، وصفاته كما قلنا أكمل الصفات ، فلا غرو أن تكون أفعاله أكمل الأفعال.

قال العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه‌الله :

(وجمع المؤلف بين الجليل والجميل ، لأن تمام التعبد لله هو التعبد بهذين الاسمين الكريمين ، فالتعبد بالجليل يقتضي تعظيمه وخوفه وهيبته وإجلاله ، والتعبد باسمه الجميل يقتضي محبته والتأله له ، وأن يبذل العبد له خالص المحبة وصفو الوداد ، بحيث يسبح القلب في رياض معرفته وميادين جماله ويبتهج بما

٧٠

يحصل له من آثار جماله وكماله ، فإن الله ذو الجلال والاكرام).

* * *

وهو المجيد صفاته أوصاف تع

ظيم فشأن الوصف أعظم شان

الشرح : قال صاحب النهاية :

(المجد في كلام العرب الشرف الواسع ، ورجل ماجد مفضال كثير الخير شريف ، والمجيد فعيل منه للمبالغة ، وقيل هو الكريم الفعال ، وقيل إذا قارن شرف الذات حسن الفعال سمى مجدا ، وفعيل ابلغ من فاعل ، فكأنه يجمع معنى الجليل والوهاب والكريم) ا ه.

وقد فسر المؤلف هذا الاسم الكريم بما ينبئ عن عظمة الصفات وسعتها ، وأن كل وصف من أوصافه سبحانه عظيم شأنه متناه في كماله ، فهو العليم الكامل في علمه ، والرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ، والقدير الذي لا يعجزه شيء ، والحليم الكامل في حلمه ، والحكيم الكامل في حكمه ، إلى آخر ما له سبحانه من الأسماء والصفات ، بلغت غاية المجد والعظمة فليس في شيء منها قصور أو نقصان.

* * *

وهو السميع يرى ويسمع كل ما

في الكون من سر ومن إعلان

ولكل صوت منه سمع حاضر

فالسر والإعلان مستويان

والسمع منه واسع الأصوات لا

يخفى عليه بعيدها والداني

وهو البصير يرى دبيب النملة الس

وداء تحت الصخر والصوان

ويرى مجاري القوت في أعضائها

ويرى نياط عروقها بعيان

ويرى خيانات العيون بلحظة

ويرى كذاك تقلب الأجفان

الشرح : في هذه الأبيات يشرح المؤلف معنى هذين الاسمين الكريمين (السميع والبصير) ويجيء ذكرهما في القرآن كثيرا مقترنين ، لأن كلا منهما صفة

٧١

إدراك فمعنى السميع المدرك لجميع الأصوات ، سرها وعلنها ، فلا يخفى عليه شيء منها مهما خفت ، بل جميع الأصوات بالنسبة إلى سمعه سواء ، كما أن بعيدها والداني ، أي القريب سواء ، فسمعه سبحانه حاضر عند كل صوت منها ، لا تشتبه عليه ولا يختلط بعضها ببعض ، ولا يتميز بعضها عن بعض بوضوح أو خفاء.

ومعنى البصير المدرك لجميع المرئيات من الأشخاص والألوان مهما لطفت أو بعدت ، فلا يؤثر على رؤيته بعد المسافات والأقطار ، ولا تحول دونها الحواجز والاستار ، فهو يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، بل ويرى مسالك الغذاء من أمعائها وأربطة مفاصلها وعروقها بعينه التي لا تنام ، ويرى خيانات الأعين ، وهي اختلاس النظر إلى محاسن النساء.

قال ابن عباس رضى الله عنهما (هو الرجل يدخل على أهل البيت وفيهم المرأة الحسناء ، أو تمر به وبهم المرأة الحسناء ، فإذا غفلوا لحظ إليها ، فإذا فطنوا غض بصره عنها ، فإذا غفلوا لحظ ، فإذا فطنوا غض).

وقال الضحاك (خائنة الأعين) هي الغمز وقول الرجل رأيت ولم ير أو لم أر وقد رأى.

ويرى سبحانه كذلك تقلب الأجفان ، أي حركتها بين الإطباق والتفتيح والمقصود أن بصره سبحانه محيط بجميع الأشياء ، جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها ، كثيفها ولطيفها ، لا يستتر عنه شيء منها.

روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية (إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) [النساء : ٥٨] فوضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه.

ومعنى الحديث أنه سبحانه يسمع بسمع ويرى بعين ، فهو حجة على المعتزلة وبعض الأشاعرة الذين يجعلون سمعه علمه بالمسموعات ، وبصره علمه بالمبصرات

٧٢

ولا شك أنه تفسير خاطئ ، فإن كلا من السمع والبصر معنى زائد على العلم قد يوجد العلم بدونه ، فإن الأعمى يعلم بوجود السماء ولا يراها ، وكذلك الأصم يعلم بوجود الأصوات ولا يسمعها.

وأعجب من هذا قول الأشاعرة أن كلا من السمع والبصر متعلق بجميع الموجودات ، فكيف تعلق السمع بما لا يسمع من الأشخاص والألوان ، وكيف تعلق البصر بما لا يرى من الأصوات المسموعة بالآذان.

وأعلم أن سمعه تعالى نوعان : أحدهما عام ، وهو سمعه لجميع الأصوات الظاهرة والباطنة الخفية والجلية وإحاطته التامة بها ، والثاني خاص وهو سمع الإجابة منه للسائلين والداعين والعابدين ، فيجيبهم ويثيبهم ، ومنه قوله تعالى على لسان أم مريم عليها‌السلام : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران : ٣٥] وقوله على لسان ابراهيم خليله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) [ابراهيم : ٣٩] ومنه قول المصلي (سمع الله لمن حمده) أي استجاب له وقبل منه.

* * *

وهو العليم أحاط علما بالذي

في الكون من سر ومن إعلان

وبكل شيء علمه سبحانه

فهو المحيط وليس ذا نسيان

وكذاك يعلم ما يكون غدا وما

قد كان والموجود في ذا الآن

وكذاك أمر لم يكن لو

كان كيف يكون ذا إمكان

الشرح : هذا تفسير لاسمه العليم بأحسن وجه وأجمعه ، فقد ذكر إحاطة علمه تعالى بجميع المعلومات من الواجبات والممتنعات والممكنات ، أما الواجبات فإنه سبحانه يعلم ذاته الكريمة ونعوته المقدسة التي لا يجوز في العقل انتفاؤها بل يجب عنده ثبوتها ووجودها ، وأما الممتنعات فإنه يعلمها حال امتناعها ، ويعلم ما يترتب على وجودها لو وجدت كما أخبر عن الآثار المترتبة على وجود آلهة معه في قوله

٧٣

تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] فهذا فساد لم يقع لأنه مترتب على ممتنع وهو وجود إله مع الله ، فلو وقع هذا الممتنع لوقع هذا الفساد ، كقوله سبحانه : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] فذهاب كل بما خلق وعلو بعضهم على بعض كان يترتب على وجود إله مع الله الذي هو ممتنع بحيث لو حصل لحصل.

فهذا إخبار منه سبحانه بما ينشأ عنها لو وجدت على سبيل الفرض والتقدير ، وأما الممكنات وهي التي يجوز في العقل وجودها وعدمها ، فهو يعلم ما وجد منها وما لم يوجد مما لم تقتض الحكمة إيجاده ، وعلمه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي لا يخلو عن علمه مكان ولا زمان ، فهو يعلم الغيب والشهادة ، والظاهر والباطن ، والجلي والخفي ، ولا يطرأ على علمه غفلة ولا نسيان ، كما قال تعالى على لسان موسى عليه‌السلام : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) [طه : ٥٢].

وكما أن علمه محيط بجميع العالم العلوي والسفلي وما فيه من المخلوقات بذواتها وأوصافها وأفعالها وجميع أمورها ، فهو يعلم أيضا ما كان في الماضي وما يكون في المستقبل الذي لا نهاية له ، ويعلم ما لم يكن لو كان ، أي لو قدر كونه كيف وعلى أي حال يكون.

ويعلم أحوال المكلفين منذ أنشأهم وبعد ما يميتهم وبعد ما يحييهم ، قد أحاط علمه بأعمالهم كلها ، خيرها وشرها ، وجزاء تلك الأعمال وتفاصيل ذلك في دار القرار.

والدليل العقلي على علمه تعالى أمور.

أولها : أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل ، لأن إيجاده الأشياء بإرادته ، والإرادة تستلزم العلم بالمراد ، كما قال سبحانه : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الملك : ١٤]. وثانيهما : ما في المخلوقات من الأحكام والإتقان

٧٤

وعجيب الصنعة ودقيق الخلقة ، يشهد بعلم الفاعل لها لامتناع صدور ذلك في العادة عن غير ذي علم. وثالثها : في المخلوقات من هو عالم ، والعلم صفة كمال ، فلو لم يكن سبحانه عالما لكان في مخلوقاته من هو أكمل منه. ورابعها : كل علم في المخلوق إنما استفادة من خالقه ، وواهب الكمال أحق به ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

* * *

فصل

وهو الحميد فكل حمد واقع

أو كان مفروضا مدى الأزمان

ملأ الوجود جميعه ونظيره

من غير ما عد ولا حسبان

هو أهله سبحانه وبحمده

كل المحامد وصف ذي الاحسان

الشرح : قال الراغب (الحمد لله تعالى : الثناء عليه بالفضيلة وهو أخص من المدح وأعم من الشكر ، فإن المدح يقال فيما يكون من الإنسان باختياره ، ومما يكون منه وفيه بالتسخير ، فقد يمدح الإنسان بطول قامته وصباحة وجهه ، كما يمدح ببذل ماله وسخائه وعمله ، والحمد يكون في الثاني دون الأول ، والشكر لا يقال إلا في مقابلة نعمة ، فكل شكر حمد ، وليس كل حمد شكرا ، وكل حمد مدح وليس كل مدح حمدا ويقال : فلان محمود إذا حمد ، ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة ، ومحمد إذا وجد محمودا ، وقوله عزوجل : إنه حميد مجيد ، يصح أن يكون في معنى المحمود وأن يكون في معنى الحامد).

والتحقيق أن الحمد وإن كان أعم من الشكر متعلقا ، فإن الشكر أعم منه من جهة الآلة ، فإن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري نعمة كان أو غيرها ، وأما الشكر فيكون بالقلب واليد واللسان ، ويكون على النعمة خاصة ، والحميد اسم من أسمائه الحسنى ، وهو فعيل بمعنى مفعول ، ومعناه المستحق لجميع المحامد ما كان واقعا منها أو كان مقدر الوقوع ، فجميع أفراد الحمد المحققة

٧٥

والمقدرة ثابتة له سبحانه ، يستحقها بما له من نعوت الكمال وصفات الجلال والجمال ، ومن هنا كان الأرجح في (ال) من قولنا الحمد لله إنها لاستغراق الأفراد.

وقد ذكر المؤلف أن اسمه (الحميد) يأتي على وجهين :

أحدهما : أن جميع المخلوقات ناطقة بحمده ، فكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة ، بل وكل حمد لم يقع وإنما كان مفروضا مقدرا في آنات الزمان المتتابعة بحيث يملأ الوجود كله علويه وسفليه ، بل ويملأ مثله من غير عد ولا إحصاء فإنه سبحانه يستحقه على خلقه حيث كان هو خلقهم ورزقهم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة دينية ودنيوية ودفع عنهم النقم والمكاره ، فليس بالعباد من نعمة إلا وهو موليها ولا يدفع الشر عنهم سواه فيستحق منهم أن يثنوا عليه بما هو أهله ثناء لا فتور له ولا انقطاع.

والثاني : أنه يحمد على ما له من الأسماء الحسنى والصفات العليا التي لا تنبغي إلا له فله كما قدمنا صفات الكمال كلها بحيث لا يجوز خلوه عن أي كمال ممكن له ، وله من كل صفة غاية كمالها الذي لا ينتظر كمال بعده ، فكل صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد والثناء فكيف بجميع صفاته المقدسة.

فله الحمد لذاته وله الحمد لصفاته وله الحمد لأفعاله لأنها دائرة بين أفعال الفضل والإحسان ، وبين أفعال العدل والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد وله الحمد على خلقه ، وعلى شرعه ، وعلى أحكامه القدرية الكونية ، وعلى أحكامه القدرية الكونية ، وعلى أحكامه الشرعية التكليفية. وعلى أحكامه الجزائية في الأولى والآخرة.

وتفاصيل حمده وما يحمد هو عليه سبحانه لا تحيط بها الأفكار ولا تحصيها الأقلام.

* * *

٧٦

فصل

وهو المكلم عبده موسى بتك

ليم الخطاب وقبله الأبوان

كلماته جلت عن الإحصاء والتعداد

بل عن حصر ذي الحسبان

لو أن أشجار البلاد جميعها ال

أقلام تكتبها بكل بنان

والبحر تلقى فيه سبعة أبحر

لكتابة الكلمات كل زمان

نفدت ولم تنفد بها كلماته

ليس الكلام من الإله بفان

الشرح : سبق الكلام على صفة الكلام بما يغني هنا عن إعادته ، ولكن وفاء بحق الشرح نجمل ذلك في أن الله تبارك وتعالى متكلم متى شاء وكيف شاء ، لم يزل ولا يزال موصوفا بصفة الكلام ، وأن كلامه من صفاته الذاتية الفعلية غير مخلوق كسائر صفات أفعاله المتعلقة بمشيئته وقدرته ، وأنه كلم عبده موسى بن عمران كفاحا من غير واسطة بكلام سمعه موسى وناداه وقربه نجيا ، كما ورد بكل ذلك آيات الكتاب العزيز. وأنه كلم من قبله الأبوان آدم وحواء حين أزلهما الشيطان بالأكل من الشجرة فقال سبحانه معاتبا لهما : (أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ) [الأعراف : ٢٢] وأن كلماته لا حصر لها ولا عد إذ كان ما تعلقت به لا يدخل تحت حصر وعد.

فهو يتكلم بما يتعلق بذاته وصفاته وأفعاله ، وبما يتعلق بجميع مخلوقاته وأحكامه القدرية والشرعية والجزائية وكلماته كلها صدق وعدل صدق في الاخبار وعدل في الأوامر والنواهي والأحكام ، كما قال سبحانه : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنعام : ١١٥].

وأما قوله (لو أن أشجار البلاد جميعها) إلخ الأبيات فهو إشارة إلى قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧].

يقول العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه‌الله :

٧٧

(واعلم أن صفة الكلام من صفاته الذاتية من حيث تعلقها وقيامها بذاته واتصافه بها ، ومن صفاته الفعلية من حيث تعلقها بقدرته ومشيئته. فإذا كان من المعلوم أن الله لم يزل ولا يزال كامل القدرة نافذ المشيئة علم أنه لم يزل ولا يزال متكلما إذا شاء لأن الكلام من أعظم صفات الكمال التي يستحيل نفيها عن الله تعالى وكلماته غير متناهية فلا تفنى ولا تبيد.

ولم يقدر الله حق قدره من زعم أن كلامه مخلوق في جملة المخلوقات التي تنتهي وتصور هذا القول كاف في رده) أه.

* * *

وهو القدير وليس يعجزه إذا

ما رام شيئا قط ذو سلطان

وهو القوي له القوى جمعا تعا

لى الله ذو الأكوان والسلطان

وهو الغني بذاته فغناه ذا

تي له كالجود والإحسان

وهو العزيز فلن يرام جنابه

أنى يرام جناب ذي السلطان

وهو العزيز القاهر الغلاب لم

يغلبه شيء هذه صفتان

وهو العزيز بقوة هي وصفه

فالعز حينئذ ثلاث معان

وهي التي كملت له سبحانه

من كل وجه عادم النقصان

الشرح : ومن أسمائه الحسنى سبحانه (القوي والعزيز) وقد وردا كذلك مقترنين في غير موضع من القرآن ، كقوله تعالى : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج : ٤٠](كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة : ٢١](وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحديد : ٢٥](إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ) [هود : ٦٦].

أما القوي فهو ذو القوة وقوته سبحانه لا يطرأ عليها ما يطرأ على القوى المخلوقة من وهن وفتور أو تلاش وزوال ، فهو لا يعيا بخلق شيء ولا يمسه من ذلك نصب ولا لغوب. وجميع القوى المخلوقة هي له سبحانه فهو الذي أودع

٧٨

المخلوقات ما فيها من قوة ولو شاء لسلبها ، ولهذا جاء في الحديث أن «لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة».

وفي قصة صاحب الجنتين المذكورة في سورة الكهف يقول له أخوه وهو يعظه : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ) [الكهف : ٣٩] وفي سورة البقرة (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) [١٦٥].

وأما العزيز : فهو الموصوف بالعزة وقد ذكر المؤلف لها ثلاث معان :

١ ـ العزة : بمعنى الامتناع على من يرومه من أعدائه فلن يصل إليه كيدهم ولن يبلغ أحد منهم ضره وأذاه ، كما في الحديث القدسي : «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني» وإلى هذا المعنى أشار بقوله (فلن يرام جنابه) أي لن يقصد أحد حماه الأقدس فيقهره أو يغلبه ، والعزة بهذا المعنى من عز يعز بكسر العين في المضارع ، قال الشاعر :

لنا جبل يحتله من نجيره

يعز على من رامه ويطول

٢ ـ والثاني العزة : بمعنى القهر والغلبة وهي من عز يعز بضم العين في المضارع يقال : عزه إذا غلبه ، فهو سبحانه القاهر لأعدائه الغالب لهم ، ولكنهم لا يقهرونه ولا يغلبونه ، وهذا المعنى هو أكثر معاني العزة استعمالا.

٣ ـ والثالث العزة بمعنى القوة والصلابة من عز يعز بفتحها ، ومنه قولهم أرض عزاز للصلبة الشديدة ، وهذه المعاني الثلاثة للعزة ثابتة كلها لله عزوجل على أتم وجه وأكمله وأبعده عن العدم والنقصان.

* * *

وهو الغني بذاته فغناه ذا

تي له كالجود والإحسان

الشرح : ومن أسمائه الحسنى (الغني) فله سبحانه الغنى التام المطلق من كل وجه ، بحيث لا تشوبه شائبة فقر وحاجة أصلا ، وذلك لأن غناه وصف لازم له لا

٧٩

ينفك عنه لأنه مقتضى ذاته ، وما بالذات لا يمكن أن يزول ، فيمتنع أن يكون إلا غنيا كما يمتنع أن يكون إلا جوادا محسنا برا رحيما كريما.

وكما أن غناه ذاتي له لا يمكن أن يطرأ عليه ما ينافيه من ذل واحتياج ، فكذلك فقر المخلوقات إليه هو فقر ذاتي بحيث لا يمكنها أن تستغني عنه لحظة من اللحظات ، فهي مفتقرة إليه في إيجادها وفي استمرار وجودها ، وفي كل ما تحتاجه أو تضطر إليه.

ومن سعة غناه أن خزائن السموات والأرض كلها بيده ينفق منها ما يشاء ، وأن إنعامه على عباده متصل دائم الفيض لا ينقطع في لحظة من اللحظات ، كما في الحديث «إن يمين الله ملآى سحاء الليل والنهار لا تغيضها نفقة ألا ترون إلى ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يغض مما بيده».

ومن كمال غناه وكرمه أنه يبسط يده بالإجابة لمن سأله فيقضي حاجته ويكشف ضره ، ولا يتبرم بإلحاح السائلين ، بل يغضب على من لم يسأله ، ويؤتي عباده من فضله ما سألوه وما لم يسألوه. وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني ، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك من ملكي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر».

ومن تمام غناه عن خلقه أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأنه لم يكن له شريك في الملك ولا ولي من الذل ، فهو الغني الذي كمل بنعوته وأوصافه ، وهو المغني لجميع مخلوقاته.

* * *

وهو الحكيم وذاك من أوصافه

نوعان أيضا ما هما عدمان

حكم وأحكام فكل منهما

نوعان أيضا ثابتا البرهان

والحكم شرعي وكوني ولا

يتلازمان وما هما سيان

٨٠