شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

الشرح : يعني أن الرجل من أهل الجنة يعطى قوة مائة من أقوى أهل الدنيا في الجماع ، وليس المراد أن قوته هو تضاعف مائة ضعف ، إذ يكون هو ضعيف البنية في الدنيا ، ويكون هناك من هو أقوى منه ولكنه أنقص منه في الأعمال والإيمان والإحسان ، فيلزم أن يكون الأدنى أقدر على الجماع من الأعلى. ولقد روى الطبراني في معجمه من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : «قيل يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ فقال : إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء» قال محمد بن عبد الواحد المقدسي : ورجال هذا الحديث عندي على شرط الصحيح.

وقد حصل هنا اشكال ، وهو أنه لم يرد في الأحاديث الصحيحة زيادة على زوجتين لكل واحد ، فلو صح حديث الطبراني لتعين الجمع بينه وبين ما في هذه الأحاديث بأن يقال أن أهل الجنة متفاوتون في عدد نسائهم بتفاوت درجاتهم ، وبهذا يندفع الأشكال بفضل الله ومنته.

ويستطيع رجل الجنة بقوة المائة التي حصلت له أن يفضي إلى مائة امرأة بلا ضعف ولا فتور. وأقوى أهل الجنة وأقدرهم على الجماع هو أعفهم في هذه الدنيا لزهده في هذا المتاع الحقير والحطام الفاني.

فإذا أردت أن تحظى بتلك المزية فما عليك إلا أن تستعد لما هنالك بحفظ فرجك وغض بصرك وصبرك على مرارة الحرمان ، وهذا أمر جدير بالعاقل أن لا يقصر فيه إذا عرف مقدار التفاوت بين ما هنا وبين ما هناك ، فإن ما هنا من أجمل نساء الدنيا ، لا يعدل ولا قلامة ظفر واحدة من الحور العين. وما ذا هاهنا إلا العراك والشجار وسوء الخلق وفحش الكلام ، مع ما فيهن من النقائص والعيوب ، فالرجل معها في غم دائم وهم لازب لا ينتهي إلا بالطلاق أو الموت. ومن العجيب أن الحال قد تبدل وأصبح الرجال الذين جعلهم الله قوامين على النساء خاضعين لسلطان النساء ، فالله قد جعل النساء عوانيا في أيدي الرجال ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبته في حجة الوداع : «ألا فاستوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان

٤٠١

في أيديكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك» فأصبح الرجال الآن هم العوانى في أيدي النساء ، فلا تفضل أيها العاقل الناصح لنفسه هذا الأدنى الخسيس على الأعلى النفيس فتبوأ بكل خيبة وخسران.

ورحم الله المؤلف ، فهذا كلامه في نساء زمانه وما بلغن من قحة وسوء أدب وتسلط على الرجال ، فما ذا عسى أن يقول لو بعث فينا الآن ورأى نساءنا يخرجن كاسيات عاريات مائلات مميلات ، يجبن الشوارع ويملأن الطرقات ويغشين دور السينما والمتنزهات ، ويزاحمن الرجال بالمناكب في وظائف الحكومة وفي أعمال المصانع والشركات ، إذا الحمد لله عزوجل على أن تقدم به الزمان ولم يشهد هذا العصر المنكود الذي انقلبت فيه كل الأوضاع واختلت كل القيم وأصبح فيه المعروف منكرا والمنكر معروفا. فاللهم لك الحمد وإليك المشتكى وأنت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

* * *

فصل

وإذا بدت في حلة من لبسها

وتمايلت كتمايل النشوان

تهتز كالغصن الرطيب وحمله

ورد وتفاح على رمان

وتبخترت في مشيها ويحق ذا

ك لمثلها في جنة الحيوان

ووصائف من خلفها وأمامها

وعلى شمائلها وعن ايمان

كالبدر ليلة تمه قد حف في

غسق الدجى بكواكب الميزان

فلسانه وفؤاده والطرف في

دهش وإعجاب وفي سبحان

فالقلب قبل زفافها في عرسه

والعرش أثر العرس متصلان

حتى إذا ما واجهته تقابلا

أرأيت إذ يتقابل القمران

فسل المتيم هل يحل الصبر عن

ضم وتقبيل وعن فلتان

وسل المتيم اين خلف صبره

في أي واد أم بأي مكان

٤٠٢

وسل المتيم كيف حالته وقد

ملئت له الأذنان والعينان

من منطق رقت حواشيه ووج

ه كم به للشمس من جريان

وسل المتيم كيف عيشته إذا

وهما على فرشيهما خلوان

يتساقطان لآلئا منثورة

من بين منظوم كنظم جمان

وسل المتيم كيف مجلسه مع ال

محبوب في روح وفي ريحان

وتدور كاسات الرحيق عليهما

بأكف أقمار من الولدان

يتنازعان الكأس هذا مرة

والخود أخرى ثم يتكئان

فيضمها وتضمه أرأيت مع

شوقين بعد البعد يلتقيان

الشرح : في هذه الأبيات يتخيل المؤلف حوراء الجنان وقد برزت في أبهى حللها ، وأخذت تختال في مشيتها وتتثنى بقدها الممشوق كما يتثنى العود الطري ، وقد حملت من ورد الخدود ورمان النهود ، ويحق لها أن تمشي تياهة بحسنها مزهوة بجمالها ، وهي في جنة الحيوان حولها كل ما يسر ويبهج ، وخوادمها يحطن بها من كل جانب وهي وسطهن كأنها البدر ليلة تمامه ، قد أحيط في ظلمة الليل بالنجوم المتلألئة. هنا تملك محبوبها الدهشة ويأخذه العجب من أقطاره ، فلسانه وقلبه وعينه كل ذلك في غاية الدهش والإعجاب ، والتسبيح لله الكريم الوهاب ، ولقد كان القلب منه قبل زفافها إليه في أعراس متصلة وأفراح مستمرة ، حتى إذا ما تقابلا وجها لوجه كما يتقابل القمران ، فسله وهو العاشق الولهان هل يملك الصبر حينئذ عن عناق وتقبيل وإسراع إلى المحبوب في لهفة وشوق ، بل سله أين خلف صبره وفي أي مكان تركه.

ثم سله كيف هو وقد امتلأت من الفتون والسحر الحلال عيناه وأذناه حين يسمع منطقها الرخيم وأنغامها الحلوة التي تزري بأجمل الألحان ، وحين توجه إليه ألفاظها العذاب وتبثه أشواقها وحبها ، وحين يرى وجهها المضيء كأن الشمس تجري في صفحته.

ثم سله كيف عيشته الهانئة الراضية وقد اتكأ هو وعروسه على فرشيهما

٤٠٣

منفردين يتناجيان بأعذب الألحان وينثران الدر من أفواههما كأنه عقود جمان.

ثم سله كيف مجلسه مع محبوبه تحمل إليهما النسائم الندية عبير الروض وشذاه ، تدور عليهما كئوس الرحيق المختوم على أيدي غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون ، فيتنازعان الكأس يرشفها هو مرة وترشفها خوده مرة ، ثم يتكئان على الأسرة فيتضامان ويتلاصقان فما ظنك بمحبوبين بعد البين يتلاقيان.

* * *

غاب الرقيب وغاب كل منكد

وهما بثوب الوصل مشتملان

أتراهما ضجرين من ذا العيش لا

وحياة ربك ما هما ضجران

ويزيد كل منهما حبا لصا

حبه جديدا سائر الأزمان

ووصاله يكسوه حبا بعده

متسلسلا لا ينتهي بزمان

فالوصل محفوف بحب سابق

وبلاحق وكلاهما صنوان

فرق لطيف بين ذاك وبين ذا

يدريه ذو شغل بهذا الشأن

ومزيدهم في كل وقت حاصل

سبحان ذي الملكوت والسلطان

يا غافلا عما خلقت له انتبه

جد الرحيل فلست باليقظان

سار الرفاق وخلفوك مع الألى

قنعوا بذا الحظ الخسيس الفاني

ورأيت أكثر من ترى متخلفا

فتبعتهم ورضيت بالحرمان

لكن أتيت بخطتي عجز وجه

ل بعد ذا وصحبت كل أمان

منتك نفسك باللحاق مع القعو

د عن المسير وراحة الأبدان

ولسوف تعلم حين ينكشف الغطا

ما ذا صنعت وكنت ذا امكان

الشرح : وغاب عنهما العاذل والرقيب وخلا وصالهما من كل تنكيد ، وقد لفهما ثوب الوصال وصفا لهما العيش وطاب ، فهل تحسبهما يملان هذا العيش أو يسأمانه؟ لا وحياة ربك لا يصيبهما منه ضجر ولا ملل ، بل يزيد كل منهما حبا لصاحبه ، حبا متجددا على الدوام لا يفتر ولا ينقطع ، فكلما حظى منها بوصال هفا قلبه الى وصال جديد ، ويظل هكذا ، فوصاله محفوف بحبين : حب سابق

٤٠٤

وحب لاحق ، وهما صنوان متشابهان الا أن بينهما فرقا لطيفا يعرفه كل من له خبرة بهذا الشأن ، فإن الحب السابق حب اللهفة والشوق ، والحب اللاحق هو حب أعقبه الوصال من النشوة والذكريات الحلوة. ويحصل لهم في كل وقت مزيد من الشوق والرغبة ، ومن السرور والبهجة ، فلا يفنى ما هم فيه ولا يبيد ، بل هو دائما في استمرار وتجديد. فيا أيها الغر الأحمق السادر في غيه الغافل عما خلق من أجله من هذه الحياة الناعمة في جوار المليك المقتدر ، انتبه من غفلتك وانفض عنك ثوب الكسل ورداء الخمول ، فقد جد الرحيل وشد القوم ركائبهم وأنت لا تزال تتمطى وتتثاءب ، وقد سار الرفاق وأدلجوا ، يحدوهم الشوق إلى ديار الحبيب وتركوك مع المخلفين الذين رضوا بالقعود ، وقنعوا بهذا العرض الحقير. ورأيت أكثر الناس قد أخلدوا إلى الأرض ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وتخلفوا عن الركب السائر إلى الله ، فتبعتهم في تخلفهم ورضيت لنفسك ما رضوا لأنفسهم من الخيبة والحرمان ، وسلكت أشنع خطتين يمكن أن يسلكهما إنسان ، وهما خطتا العجر والجهل ، فبئس الخطتان ، ومع ذلك تمنّيك نفسك باللحاق مع هذا القعود والتخلف عن السباق ، ومع إيثار الراحة والسلامة على مشقة السعي والانطلاق ، ولسوف تعلم عاقبة تخلفك حين ينكشف لك الغطاء وتعض بنان الندم على ما ضيعت من فرص كنت عندها ذا قدرة وإمكان.

* * *

فصل

في ذكر الخلاف بين الناس هل تحبل نساء أهل الجنة أم لا

والناس بينهم خلاف هل بها

حبل وفي هذا لهم قولان

فنفاه طاوس وابراهيم ثم

مجاهد هم أولو العرفان

وروى العقيلي الصدوق أبو رزي

ن صاحب المبعوث بالقرآن

أن لا توالد في الجنان رواه تع

ليقا محمد عظيم الشأن

وحكاه عنه الترمذي وقال اس

حاق بن ابراهيم ذو الإتقان

٤٠٥

لا يشتهي ولدا بها ولو اشتهى

ه لكان ذاك محقق الامكان

وروى هشام لابنه عن عامر

عن ناجي عن سعد بن سنان

ان المنعم بالجنان إذا اشتهى ال

ولد الذي هو نسخة الإنسان

فالحمل ثم الوضع ثم السن في

فرد من الساعات في الأزمان

اسناده عندي صحيح قد روا

ه الترمذي وأحمد الشيباني

ورجال ذا الإسناد محتج بهم

في مسلم وهم أولو اتقان

لكن غريب ما له من شاهد

فرد بذا الاسناد ليس بثان

لو لا حديث أبي رزين كان ذا

كالنص يقرب منه في التبيان

ولذاك أوله ابن ابراهيم بال

شرط الذي هو منتفى الوجدان

وبذاك رام الجمع بين حديثه

وأبي رزين وهو ذو إمكان

هذا وفي تأويله نظر ف

ان اذا لتحقيق وذي اتقان

ولربما جاءت لغير تحقق

والعكس في أن ذاك وضع لسان

الشرح : يعني أن العلماء قد اختلفوا هل سيكون بالجنة حمل وولادة أم لا ، فنفاه طاوس وابراهيم النخعي ومجاهد من أئمة العلم والحديث. وروى أبو رزين العقيلي : الصحابي المشهور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ان أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد» رواه عنه البخاري تعليقا ، وحكى عنه الترمذي ، وقال اسحاق بن ابراهيم في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة كما يشتهي» أن ذلك على سبيل الفرض والتقدير ، فإن اشتهاء الولد في الجنة غير ممكن.

وقد روى أبو نعيم من حديث سفيان الثوري عن أبان عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : (قيل يا رسول الله أيولد لأهل الجنة؟ فإن الولد من تمام السرور ، فقال : «نعم والذي نفسي بيده وما هو إلا كقدر ما يتمنى أحدكم فيكون حمله ورضاعه وشبابه».

قال المؤلف : (إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله محتج بهم

٤٠٦

فيه ولكنه غريب جدا ، وتأويل إسحاق فيه نظر فإنه قال : «إذا اشتهى المؤمن الولد» وإذا للمتحقق الوقوع ، ولو أريد ما ذكر من المعنى لقال : «لو اشتهى المؤمن الولد لكان حمله في ساعة» فإن ما لا يكون أحق بأداة (لو) كما أن المتحقق الوقوع أحق بأداة إذا) أه.

وأقول أن هذا غير لازم ، فإن أدوات الشرط قد تتعاور ، وهذه قاعدة أغلبية وليست مطردة ، والأخذ بتأويل إسحاق متعين إذا فرض أن كلا من حديث أبي رزين وحديث أبي سعيد صحيح ، فإن حديث أبي رزين نفي الولادة صريحا وحديث أبي سعيد علقها بشرط الاشتهاء ، وقد يكون الاشتهاء غير واقع والله أعلم.

* * *

واحتج من نصر الولادة أن في الج

نات سائر شهوة الإنسان

والله قد جعل البنين مع النسا

من أعظم الشهوات في القرآن

فأجيب عنه بأنه لا يشتهي

ولدا ولا حبلا من النسوان

واحتج من منع الولادة أنها

ملزومة أمرين ممتنعان

حيض وإنزال المنى وذانك ال

أمران في الجنات مفقودان

وروى صدى عن رسول الله

أن منيهم إذ ذاك ذو فقدان

بل لا مني ولا منية هكذا

يروي سليمان هو الطبراني

وأجيب عنه بأنه نوع سوى ال

معهود في الدنيا من النسوان

فالنفي للمعهود في الدنيا من ال

إيلاد والإثبات نوع ثان

والله خالق نوعنا من أربع

متقابلات كلها بوزان

ذكر وأنثى والذي هو ضده

وكذاك من أنثى بلا نكران

والعكس أيضا مثل حوا أمنا

هي أربع معلومة التبيان

وكذاك مولود الجنان يجوز أن

يأتي بلا حيض ولا فيضان

والأمر في ذا ممكن في نفسه

والقطع ممتنع بلا برهان

٤٠٧

الشرح : وأما الذين قالوا بالتوالد في الجنة فاحتجوا بأن في الجنة كل ما يشتهيه الإنسان لقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ) [فصلت : ٣١] ومعلوم أن البنين من أعظم الشهوات للإنسان ، كما قال تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ) [آل عمران : ١٤].

وأجيب عن هذا بأنه ليس كل ما يشتهى في الدنيا يشتهى في الآخرة ، بل أهل الجنة لا يشتهون فيها ولدا ولا حبلا. وأما المانعون للولادة فاحتجوا بأمور كثيرة منها : حديث أبي رزين أن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد ، وأن الحمل لا يكون إلا مع الحيض وإنزال المنيّ ، ونساء الجنة مطهرات من الحيض والنفاس وكل قدر. والجماع في الجنة يكون بغير إنزال ، كما جاء ذلك في حديث صدى ابن عجلان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفي معجم الطبراني من حديث أبي أمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل : (أيجامع أهل الجنة؟ قال : دحا دحا ولكن لا منى ولا منية).

وأجيب عن هذا بأن نفي الولادة في حديث أبي رزين واشتراط الحيض والإنزال فيها ، إنما هو بالنسبة للولادة المعهودة في هذه النشأة ، فنفيها لا يستلزم أن لا يكون هناك ولادة أصلا ، لجواز أن يكون هناك ولادة من نوع آخر لا يشترط فيها ذلك.

روى الحاكم عن أبي سهل قال : (أهل الزيغ ينكرون هذا الحديث ـ يعني حديث الولادة في الجنة ـ وقد روى فيه غير إسناد. وسئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فقال : يكون ذلك على نحو مما روينا. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ١٧] وليس بالمستحيل أن يشتهي المؤمن الممكن من شهواته المصفى المقرب المسلط على لذاته قرة عين وثمرة فؤاد من الذين أنعم الله عليهم بأزواج مطهرة ، فإن قيل ففي الحديث أنهن لا يحضن ولا ينفسن فأين يكون الولد؟ قلت : (الحيض سبب الولادة الممتد مدة بالحمل

٤٠٨

على الكثرة والوضع عليه كما أن جميع ملاذ الدنيا من المشارب والمطاعم والملابس على ما عرف من التعب والنصب وما يعقبه كل منهما مما يحذر منه ويخاف من عواقبه ، وهذه خمرة الدنيا المحرمة المستولية على كل بلية قد أعدها الله تعالى لأهل الجنة منزوعة البلية موفرة اللذة ، فلم لا يجوز أن يكون على مثله الولد) انتهى كلامه.

ويؤيد كلام هؤلاء أن الله خلق هذا النوع الانساني على أربعة انحاء : نوع خلق من بين ذكر وأنثى وهو أكثر الخلق. ونوع خلق بلا ذكر ولا أنثى وهو آدم عليه‌السلام ونوع خلق من أنثى بلا ذكر وهو عيسى روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم. ونوع خلق من ذكر بلا أنثى وهي أمنا حواء خلقها الله من ضلع آدم.

وعلى هذا يجوز أن تكون الولادة في الجنة على نوع غير المعهود في الدنيا لا يحتاج إلى حيض ولا إنزال. والذي نرجحه في هذا الباب والله أعلم بالصواب هو ما دل عليه حديث أبي رزين ، فإنه صريح في نفي الولادة. وأما حديث أبي سعيد فهو كما عرفت قد علقها بشرط الاشتهاء ، وهو لا يستلزم وقوع المعلق ولا المعلق عليه ، وإسناده ليس بذاك ، فإن أجود أسانيده ما رواه الترمذي وقد حكم بغرابته ، وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق الناجي ، وهو كذلك قد اضطرب لفظه ، فتارة يروى بلفظ إذا اشتهى الولد ، وتارة أنه ليشتهي الولد ، وتارة أن الرجل من أهل الجنة ليولد له الخ.

على أن الأمر في حد ذاته ممكن وقدرة الله صالحة ، والقطع بواحد من هذين القولين لا يمكن إلا ببرهان ، فالأولى هو التفويض فيها إلى الله مع ترجيح النفي والله أعلم.

* * *

٤٠٩

فصل

في رؤية أهل الجنة ربهم تبارك وتعالى ونظرهم إلى وجهه الكريم

ويرونه سبحانه من فوقهم

نظر العيان كما يرى القمران

هذا تواتر عن رسول الله لم

ينكره إلا فاسد الإيمان

وأتى به القرآن تصريحا وتع

ريضا هما بسياقه نوعان

وهي الزيادة قد أتت في يونس

تفسير من قد جاء بالقرآن

ورواه عنه مسلم بصحيحه

يروى صهيب ذا بلا كتمان

وهو المزيد كذاك فسره أبو

بكر هو الصديق ذو الايقان

وعليه أصحاب الرسول وتابعو

هم بعدهم تبعية الإحسان

ولقد أتى ذكر اللقاء لربنا ال

رحمن في سور من الفرقان

ولقاؤه إذ ذاك رؤيته حكى ال

إجماع فيه جماعة ببيان

وعليه أصحاب الحديث جميعهم

لغة وعرفا ليس يختلفان

الشرح : والمؤمنون في الجنة يرون ربهم سبحانه من فوقهم رؤية حقيقية بأبصارهم كما يرى الشمس والقمر صحوا ليس دونهما سحاب ولا ضباب ، وقد تواتر النقل بذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلا ينكره إلا مدخول في دينه وإيمانه ، روى ذلك عنه جماعة كبيرة من أصحابه ، منهم أبو بكر الصديق وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وجرير بن عبد الله البجلي وصهيب بن سنان الرومي وعبد الله بن مسعود الهذلي وعلي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري وعدي بن حاتم الطائي وأنس بن مالك وأبو رزين وجابر الخ.

فأما حديث أبي هريرة وأبي سعيد ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة «أن ناسا قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر. قالوا لا يا رسول الله ، قال هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا لا ، قال فانكم ترونه كذلك» الحديث.

٤١٠

وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد الخدري «أن أناسا في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس دونها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوا ليس فيها سحاب؟ قالوا لا يا رسول الله ، قال ما تضارون في رؤيته تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما».

وأما حديث جرير ففي الصحيحين من حديث اسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه قال : «كنا جلوسا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال انكم سترون ربكم عيانا كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا ، ثم قرأ قوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) [ق : ٣٩].

وأما حديث صهيب فرواه مسلم في صحيحه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عزوجل : تريدون شيئا أزيدكم؟ يقولون : ألم تبيض وجوهنا ، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم ثم تلا هذه الآية : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦].

وأما حديث أبي موسى ففي الصحيحين عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن».

ويطول بنا القول لو ذكرنا بقية الأحاديث ، وفيما ذكرنا غنية وشفاء للقلوب المؤمنة المستنيرة ، والقرآن كذلك أتى بإثبات الرؤية تصريحا تارة وتلميحا تارة أخرى ، فقد قال تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) [يونس : ٢٦] وقد

٤١١

فسر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الزيادة بأنها النظر إلى وجه الله كما جاء في حديث صهيب المتقدم الذي رواه مسلم.

وقال تعالى : (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) [ق : ٣٥] وقد فسر علي رضي الله عنه وغيره هذا المزيد بأنه النظر إلى وجه الله ، روى ذلك عنه ابن جرير كما روى البزار وابن أبي حاتم عن أنس في تفسير هذه الآية أنه قال : (يظهر لهم الرب كل يوم جمعة).

ولقد ورد ذكر لقاء العبد لربه في كثير من آيات القرآن الكريم كقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [البقرة : ٢٢٣] وكقوله : (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) [يونس : ٧ ، ٨] وكقوله : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : ١١٠] وكقوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) [العنكبوت : ٥].

وقد حكى بعضهم الإجماع على أن هذا اللقاء هو رؤيته سبحانه وتعالى ، وهو الذي جزم به أهل الحديث جميعا ، وتفسير اللقاء بالرؤية هو المطابق للغة والعرف وقد روى امام الأئمة ابن خزيمة من حديث بريدة بن الحصيب قال ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان».

* * *

هذا ويكفي أنه سبحانه

وصف الوجوه بنظرة بجنان

وأعاد أيضا وصفها نظرا وذا

لا شك يفهم رؤية بعيان

وأتت أداة إليّ لرفع الوهم من

فكر كذاك ترقب الإنسان

واضافة لمحل رؤيتهم بذك

ر الوجه إذ قامت به العينان

تالله ما هذا بفكر وانتظا

ر مغيب أو رؤية لجنان

٤١٢

ما في الجنان من انتظار مؤلم

واللفظ يأباه لذي العرفان

لا تفسدوا لفظ الكتاب فليس في

ه حيلة يا فرقة الروغان

ما فوق ذا التصريح شيء ما الذي

يأتي به من بعد ذا التبيان

لو قال أبين ما يقال لقلتم

هو مجمل ما فيه من تبيان

الشرح : قال الله تبارك وتعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٢] فوصف الوجوه أولا بالنضرة ، كما في قوله تعالى : (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) [المطففين : ٢٤] ثم أعاد وصفها بالنظر في الآية الثانية ، وهذا يفهم من غير شك أنه النظر إلى وجه الله سبحانه ، ولكي يرفع توهم أن المراد بالنظر الانتظار كما يدعيه المعطلة نفاة الرؤية ، أتى بالحرف إلى فقال : إلى ربها ناظره ، والذي يتعدى بإلى هو النظر بمعنى الابصار ، يقال نظرت إليه بمعنى أبصرته وأما النظر بمعنى الانتظار فإنه يتعدى بنفسه ، كما في قوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [الحديد : ١٣].

كذلك أضاف الرؤية إلى الوجه الذي هو محل الرؤية ، إذ هو مشتمل على العينين اللتين تقع بهما ، مما ينفي كل توهم ويزيل كل لبس ، فلا تحتمل الآية أبدا ما تأولها به المعطلة من قولهم أن معناها إلى ثواب ربها منتظرة ، فإن الانتظار آلم شيء للنفس ، والله قد وعد أهل الجنة بأنهم : لا يمسهم فيها نصب ولا يمسهم فيها لغوب هذا وليس هناك أفسد للنصوص وأكبر جناية عليها من مثل هذه التأويلات السخيفة التي يعمد إليها هؤلاء المعطلة الزائفون ليروغوا بها عن الحق روغان الثعالب ، مع أن الآية بلغت الغاية من الصراحة في الأفهام والدلالة على المعنى المراد ، وليس بعد هذا البيان بيان أبدا ، ولكن هؤلاء دأبهم مع هذه النصوص التي هي أبين وأصرح ما يكون أن يدعوا فيها الاجمال والاشتباه ما دامت لم توافق ما قضت به عقولهم المريضة بداء الإنكار والتعطيل ، ومن يضلل الله فما له من سبيل.

* * *

٤١٣

ولقد أتى في سورة التطفيف أن

القوم قد حجبوا عن الرحمن

فيدل بالمفهوم أن المؤمني

ن يرونه في جنة الحيوان

وبذا استدل الشافعي واحمد

وسواهما من عالمي الأزمان

وأتى بذا المفهوم تصريحا بآ

خرها فلا تخدع عن القرآن

وأتى بذاك مكذبا للكافري

ن الساخرين بشيعة الرحمن

ضحكوا من الكفار يومئذ كما

ضحكوا هم منهم على الإيمان

وأثابهم نظرا إليه ضد ما

قد قاله فيهم أولو الكفران

فلذاك فسرها الأئمة أنه

نظر إلى الرب العظيم الشأن

لله ذاك الفهم يؤتيه الذي

هو أهله من جاد بالإحسان

الشرح : قال الله تعالى في سورة المطففين في شأن الفجار والمكذبين : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] فهذا يدل بمفهومه على أن المؤمنين لا يحجبون عنه سبحانه ، بل يرونه في جنة الخلد التي وعدها عباده المتقين ، وبهذا احتج الشافعي وأحمد رحمهما‌الله وغيرهما من علماء أهل السنة.

روى الحاكم قال : حدثنا الأصم أنبأنا الربيع بن سليمان قال : حضرت محمد بن ادريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها (ما تقول في قول الله عزوجل : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين : ١٥] فقال الشافعي : لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضى قال الربيع فقلت يا أبا عبد الله وبه تقول؟ قال نعم وبه أدين لله ، ولو لم يوقن محمد بن ادريس أنه يرى الله لما عبد الله عزوجل).

ولقد ورد التصريح بهذا المفهوم في آخر السورة حيث يقول سبحانه : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) [المطففين : ٣٤ ، ٣٦].

فقد جاءت هذه الآيات تكذب الكفار في سخريتهم من المؤمنين ورميهم إياهم بالضلال ، فهم يضحكون يومئذ من الكفار ، كما كان الكفار يضحكون

٤١٤

منهم ، ويتغامزون عليهم في الدنيا ، ولما صبروا في الدنيا على ما كانوا يسمعونه من الأذى وسوء القالة والغمز واللمز ، جزاهم الله على ذلك بالنظر إلى وجهه الكريم فلهذا ذهب أئمة العلم إلى أن المراد بقوله تعالى : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) [المطففين : ٣٥] أنه النظر إلى وجه الله سبحانه ، فلله ما أحسن هذا الفهم لآيات الكتاب وإشاراته الذي يؤتيه الله من هو أهل له من ذوي الفضل والإحسان.

* * *

وروى ابن ماجة مسندا عن جابر

خبرا وشاهده ففي القرآن

بينا هم في عيشهم وسرورهم

ونعيمهم في لذة وتهان

واذا بنور ساطع قد اشرقت

منه الجنان قصيها والداني

رفعوا إليه رءوسهم فرأوه نور

الرب لا يخفى على انسان

واذا بربهم تعالى فوقهم

قد جاء للتسليم بالإحسان

قال السلام عليكم فيرونه

جهرا تعالى الرب ذو السلطان

مصداق ذا يس قد ضمنته عن

د القول من رب بهم رحمن

من ردّ ذا فعلى رسول الله رد

وسوف عند الله يلتقيان

في ذا الحديث علوه ومجيئه

وكلامه حتى يرى بعيان

هذى أصول الدين في مضمونه

لا قول جهم صاحب البهتان

الشرح : روى ابن ماجة في سننه من حديث محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة ، وهو قول الله عزوجل : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) [يس : ٥٨] فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم وتبقى فيهم بركته ونوره» ومصداق هذا الحديث في سورة يس عند قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ).

٤١٥

فمن ردّ هذا الحديث فقد ردّ على رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودفع كلامه وسوف يكون خصمه يوم القيامة ، وقد تضمن هذا الحديث أصولا عظيمة من عقائد الدين ، فأثبت علوه سبحانه على خلقه ومجيئه وتكليمه ورؤية عباده المؤمنين له بأبصارهم. وهذه هي أصول الدين التي تضمنتها الآيات والأحاديث لا قول المعطلة قبحهم الله الذين ينفون علوه سبحانه وكلامه ورؤيته.

* * *

وكذا حديث أبي هريرة ذلك ال

خبر الطويل أتى به الشيخان

فيه تجلى الرب جل جلاله

ومجيئه وكلامه ببيان

وكذاك رؤيته وتكليم لمن

يختاره من أمة الإنسان

فيه أصول الدين أجمعها فلا

تخدعك عنه شيعة الشيطان

وحكى رسول الله فيه تجدد ال

غضب الذي للرب ذي السلطان

إجماع أهل العزم من رسل ال

إله وذاك إجماع على البرهان

لا تخدعنّ عن الحديث بهذه ال

آراء فهي كثيرة الهذيان

أصحابها أهل التخرص والتنا

قض والتهاتر قائلو البهتان

يكفيك انك لو حرصت فلن ترى

فئتين منهم قط يتفقان

إلا إذا ما قلدا لسواهما

فتراهم جيلا من العميان

ويقودهم أعمى يظن كمبصر

يا محنة العميان خلف فلان

هل يستوي هذا ومبصر رشده

الله اكبر كيف يستويان

الشرح : روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهش منها نهشة ثم قال : «أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس عليكم بآدم

٤١٦

فيأتون آدم عليه‌السلام ، فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأمر الملائكة فسجدوا لك ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، وأنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحا ، فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبدا شكورا اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، وأنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى ابراهيم فيأتون ابراهيم فيقولون : يا ابراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول أن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، فذكر كذباته ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى ، فيأتون موسى عليه‌السلام فيقولون يا موسى أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، وإني قد قتلت نفسا لم أؤمر بقتلها ، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى ، فيأتون عيسى فيقولون يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيا فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ولم يذكر ذنبا ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيأتون محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتى تحت العرش فأقع ساجدا لربي عزوجل ، ثم يفتح الله

٤١٧

علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا ما لم يفتحه على أحد قبلي ، فيقال يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأقول : أمتي يا رب أمتي يا رب ، فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ثم قال : والذي نفس محمد بيده أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى» أخرجاه في الصحيحين.

فهذا الحديث قد تضمن أصولا كبيرة من وجود الله فوق عرشه وتجليه وتكليمه لخير خلقه وأشرف رسله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد أخبر الرسول فيه عن إخوانه من أولي العزم أنهم يخشون غضب الرب الذي بلغ من الشدة مبلغا لم يبلغه من قبل ولن يبلغه من بعد ، فلا تخدع أيها السني عن هذه الأحاديث العظيمة التي تملأ القلب نورا وبصيرة ، ولا تنصرف عنها إلى هذه الآراء الضالة الكثيرة السقط والهواء ، وهي لم تصدر عن أحد ممن يعتد بهم في العلم والمعرفة ، ولكن عن قوم كثر تخرصهم في دين الله وعظم تناقضهم واضطرابهم أنك لن تجد طائفتين منهم تلتقيان عند رأي واحد إلا إذا كانا قد قلدا غيرهما فيه بلا بينة ولا دليل ، فهم كجماعة من العميان يقودهم أعمى مثلهم يحسب أنه بصير ، فيا محنة هؤلاء مما يقودهم إليه هذا الأحمق الغرير ، فهل يستوي هذا الضال المضل : ومن ألهمه الله رشده ، فهو يمشي على هدى من الله ونور ، كلا لا يستويان أبدا في عقل المتأمل البصير.

* * *

أوما سمعت منادي الإيمان يخ

بر عن منادي جنة الحيوان

يا أهلها لكم لدى الرحمن وع

د وهو منجزه لكم بضمان

قالوا أما بيضت أوجهنا كذا

أعمالنا أثقلت في الميزان

وكذاك قد ادخلتنا الجنات حي

ن أجرتنا من مدخل النيران

فيقول عندي موعد قد آن أن

أعطيكموه برحمتي وحناني

٤١٨

فيرونه من بعد كشف حجابه

جهرا روى ذا مسلم ببيان

ولقد أتانا في الصحيحين اللذي

ن هما أصح الكتب بعد قران

برواية الثقة الصدوق جري

ر البجلي عمن جاء بالقرآن

ان العباد يرونه سبحانه

رؤيا العيان كما يرى القمران

فإن استطعتم كل وقت فاحفظوا ال

بردين ما عشتم مدى الأزمان

ولقد روى بضع وعشرون امرأ

من صحب أحمد خيرة الرحمن

أخبار هذا الباب عمن قد اتى

بالوحي تفصيلا بلا كتمان

وألذ شيء للقلوب فهذه الأخبار مع أمثالها هي بهجة الايمان الشرح : أو ما سمعت منادي الإيمان وهو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يخبر عن ذلك المنادي الذي ينادي أهل الجنة : «يا أهل الجنة إن ربكم تبارك وتعالى يستزيركم فحيّ على زيارته ، فيقولون سمعا وطاعة وينهضون إلى الزيارة مبادرين ، فإذا بالنجائب قد أعدت لهم فيستوون على ظهورها مسرعين حتى إذا انتهوا إلى الوادي الأفيح الذي جعل لهم موعدا وجمعوا هناك فلم يغادر الداعي منهم أحدا أمر الرب تبارك وتعالى بكرسيه فنصب هناك ثم نصبت لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة وجلس أدناهم ـ وحاشاهم أن يكون فيهم دنيء ـ على كثبان المسك ما يرون أن أصحاب الكراسي فوقهم في العطايا ، حتى إذا استقرت بهم مجالسهم واطمأنت بهم أماكنهم نادى المنادي : يا أهل الجنة أن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو؟ ألم يبيّض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار ، فبينما هم كذلك إذ سطع لهم نور أشرقت له الجنة ، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جلا جلاله وتقدست أسماؤه قد أشرف عليهم من فوقهم وقال : يا أهل الجنة سلام عليكم ، فلا ترد هذه التحية بأحسن من قولهم : اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ، فيتجلى لهم الرب تبارك وتعالى يضحك إليهم ويقول : يا أهل الجنة ، فيكون أول ما يسمعون منه تعالى : أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد ،

٤١٩

فيجتمعون على كلمة واحدة أن قد رضينا فارض عنا ، فيقول : يا أهل الجنة لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي هذا يوم المزيد فاسألوني ، فيجتمعون على كلمة واحدة : أرنا وجهك ننظر إليه ، فيكشف لهم الرب جل جلاله الحجب ويتجلى لهم ، فيغشاهم من نوره ما لو لا أن الله تعالى قضى أن لا يحترقوا لاحترقوا ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره ربه تعالى محاضرة حتى أنه ليقول له يا فلان : أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟ يذكره ببعض عداوته في الدنيا ، فيقول يا رب ألم تغفر لي؟ فيقول بمغفرتي بلغت منزلتك هذه» الحديث. ولقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم اللذين هما أصح الكتب على الإطلاق بعد كتاب الله عزوجل من رواية الصحابي الجليل جرير بن عبد الله البجلي (أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم يوم القيامة عيانا) وقد تقدمت رواية الحديث. وبالجملة فأحاديث الرؤية متواترة في المعنى رواها أكثر من عشرين صحابيا قد ذكرنا أسماء بعضهم وأحاديثهم فيما سبق ، ولا شيء ألذ للقلوب ولا أبهج للنفوس من رواية مثل هذه الأحاديث التي تحرك شوق المؤمن الى شهود ذلك الجناب الأقدس التي تتضاءل دونه أنواع المتع واللذات.

* * *

والله لو لا رؤية الرحمن في ال

جنات ما طابت لذي العرفان

أعلى النعيم نعيم رؤية وجهه

وخطابه في جنة الحيوان

وأشد شيء في العذاب حجابه

سبحانه عن ساكني النيران

وإذا رآه المؤمنون نسوا الذي

هم فيه مما نالت العينان

فإذا توارى عنهم عادوا إلى

لذاتهم من سائر الألوان

فلهم نعيم عند رؤيته سوى

هذا النعيم فحبذا الأمران

أو ما سمعت سؤال أعرف خلقه

بجلاله المبعوث بالقرآن

شوقا إليه ولذة النظر التي

بجلال وجه الرب ذي السلطان

فالشوق لذة روحه في هذه ال

دنيا ويوم قيامة الأبدان

٤٢٠