شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

ابن القيّم الجوزيّة

شرح القصيدة النونيّة - ج ٢

المؤلف:

ابن القيّم الجوزيّة


المحقق: الدكتور محمّد خليل هراس
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٢
الجزء ١ الجزء ٢

لو لا تداركه الاله بلطفه

ولى على العقبين ذا نكصان

لكن توقف خاضعا متذللا

مستشعر الافلاس من أثمان

فأتاه جند حل عنه قيوده

فامتد حينئذ له الباعان

والله لو لا أن تحل قيوده

وتزول عنه ربقة الشيطان

كان الرقى الى الثريا مصعدا

من دون تلك النار في الامكان

فرأى بتلك النار آكام المدي

نة كالخيام تشوفها العينان

ورأى على طرقاتها الأعلام قد

نصبت لأجل السالك الحيران

ورأى هنالك كل هاد مهتد

يدعو الى الايمان والايقان

فهناك هنأ نفسه متذكرا

ما قاله المشتاق منذ زمان

والمستهام على المحبة لم يزل

حاشا لذكراكم من النسيان

الشرح : بعد أن ذكر المؤلف أن دراساته السابقة وما شحن به رأسه من الأفكار والآراء واصطلاحات العلماء ، وقفت حائلا بينه وبين الوصول الى نار الحق ونور الهدى التي بدت له من المدينة مطلع الايمان ومركز اليقين ، ذكر أن تلك الحوائل كادت تثنيه عن عزمه وتجعله يرتد ناكصا على عقبيه لو لا أن تداركه الله بفضله ورحمته ، فوقف مظهرا الخضوع والذلة مستشعرا افلاسه وعجزه حتى أرسل الله إليه من حل عنه قيوده وخلصه من ربقة أسره ، وهو شيخه وشيخ المفكرين الأحرار جميعا من بعده أحمد تقي الدين أبي العباس بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحراني رحمه‌الله وأجزل مثوبته ، فأصبح بعد اتصاله به وأخذه عنه حرا طليقا قد امتد منه الباعان ولم يعد يتقيد بقول فلان أو فلان ، وو الله لو لم تحل عنه هذه القيود وتزول عنه ربقة الشيطان لكان صعوده الى الثريا في السماء أهون من وصوله الى تلك النار في الامكان. ولما أتى تلك النار شاهد بها حصون المدينة العالية كأنها خيام منصوبة تراها العينان ، ورأى على دروبها أعلام الحق قد نصبت لهداية السالك الحيران ، ولقى فيها الغر الميامين من الصحابة الهداة المهتدين يدعون كل من أمهم الى الايمان واليقين ،

٢٤١

هنالك حمد السرى وهنأ نفسه بسلامة الوصول متذكرا ما كان قد قاله حين برح به الشوق وأضناه الجوى.

* * *

لو قيل ما تهوى؟ لقال مبادرا

أهوى زيارتكم على الأجفان

تالله ان سمح الزمان بقربكم

وحللت منكم بالمحل الداني

لأغفرن الخد شكرا في الثرى

ولأكحلن بتربكم أجفاني

ان رمت تبصر ما ذكرت فغض طر

فا عن سوى الآثار والقرآن

واترك رسوم الخلق لا تعبأ بها

في السعد ما يغنيك عن دبران

حذق لقلبك في النصوص كمثل ما

قد حذقوا في الرأي طول زمان

وأكحل جفون القلب بالوحيين واح

ذر كحلهم يا كثرة العميان

فالله بين فيهما طرق الهدى

لعباده في أحسن التبيان

لم يحوج الله الخلائق معهما

لخيال فلتان ورأي فلان

فالوحي كاف للذي يعنى به

شاف لداء جهالة الانسان

وتفاوت العلماء في أفهامهم

للوحي فوق تفاوت الأبدان

الشرح : فلو قيل لي ما الذي تحبه وتهواه لقلت لسائلي مبادرا اياه : ان الذي اهوى هو زيارتي لكم أيها الأحبة ولو أن أمشي إليكم على أجفاني. ولو أن الزمان جاد لي بوصلكم ونزلت منكم بمكان قريب لأسجدن لله شكرا ممرغا خدي في التراب ولأكحلن الأجفان من تراب الاحباب.

وقد غلا المؤلف رحمه‌الله في هذه الأبيات ، ونحن لا نقره على هذا الغلو ، وان كنا نعلم أنه لم يقصد بذلك شيئا مما يفعله القبوريون عند أضرحة شيوخهم من لثم العتبات واستمداد البركات ، وان أردت يا طالب الحق أن تبصر ما ذكرت لك وأن تصل الى مثل ما وصلت إليه ، فاغمض عينك عن كل ما سوى القرآن والآثار ، واهجر كل ما تواضع عليه القوم من رسوم واصطلاحات ، ولا تجعل لها قيمة ففي لجة البحر ما يغنيك عن الوشل ، وفي السعد ما يغنيك عن

٢٤٢

الدبران. واعمل بصيرة قلبك في فهم النصوص وتدبرها كما أعملوا هم عقولهم في فهم الآراء في كل زمان. واكحل بنور الوحيين جفون قلبك حتى تنفتح له وتنتفع بما فيه من جليل العلم وصالح المعرفة ، واحذر أن تكحلها بما عند القوم من ترهات وأوهام فيصيبك العمى كما أصاب كثيرا ممن اكتحلوا بهذا الرغام.

وكيف تلتمس الهدى في غيرهما والله بين فيهما طرق الهدى كلها لعباده أحسن بيان وأوضحه بحيث لم يحوج خلقه معهما الى شيء آخر غيرهما من خيال مرور فلتان ، أو رأى أحمق خرفان ، فالوحي في الكفاية كل الكفاية لم يتدبره ويتجه إليه بعقله وقلبه ويستشفي به من داء جهله ، وأن تفاوت العلماء في فهمهم للوحى واستمدادهم منه بحسب ما قدر لكل منهم من استعداد في الذكاء وقدرة في الاستخراج لأكثر مما بين الأبدان من تفاوت في القوة والضعف ، فان قياس أقوى بدن الى أضعفه أقل بكثير من قياس أكمل فهم الى أنقصه ، وكما يقول الشاعر :

ولم أر أمثال الرجال تفاوتا

الى المجد حتى عد ألف بواحد

* * *

والجهل داء قاتل وشفاؤه

امران في التركيب متفقان

نص من القرآن أو من سنة

وطبيب ذاك العالم الرباني

والعلم أقسام ثلاث ما لها

من رابع والحق ذو تبيان

علم بأوصاف الاله وفعله

وكذلك الأسماء للرحمن

والأمر والنهي الذي هو دينه

وجزاؤه يوم المعاد الثاني

والكل في القرآن والسنن التي

جاءت عن المبعوث بالفرقان

والله ما قال امرؤ متحذلق

بسواهما إلا من الهذيان

إن قلتم تقريره فمقرر

بأتم تقرير من الرحمن

أو قلتم إيضاحه فمبيّن

بأتمّ إيضاح وخير بيان

أو قلتم إيجازه فهو الذي

في غاية الإيجاز والتبيان

٢٤٣

أو قلتم معناه هذا فاقصدوا

معنى الخطاب بعينه وعيان

أو قلتم نحن التراجم فاقصدوا الم

عنى بلا شطط ولا نقصان

أو قلتم بخلافه فكلامكم

في غاية الإنكار والبطلان

الشرح : لا داء أدوأ من الجهل فهو قاتل لأصحابه شر قتل ، وشفاء هذا الداء العياء في دواء مركب من عقارين اثنين على سواهما هما نصوص الكتاب ونصوص السنة الغراء ولا بد في تحضير هذا الدواء من طبيب نطاسي وعالم رباني بصير بموطن الداء كي تحصل العافية ويضمن الشفاء.

والعلم النافع يرجع إلى أمور ثلاثة ليس لها رابع أولها العلم بأسماء الله عزوجل وصفاته وأفعاله ، فلذلك هو أصل كل علم وأساسه وهو علم الأصول والفقه الأكبر ، والثاني : العلم بأحكامه سبحانه وشرائع دينه من كل ما أمر به ، أو نهى عنه وذلك هو علم الفروع.

والثالث : العلم بشئون المعاد التي أخبر عنها الله ورسوله من البعث والنشور ، والحساب والجزاء ، والصراط والميزان ، والجنة والنار ، وغير ذلك مما ورد الكتاب والسنة بتفصيله.

وهذه العلوم الثلاثة موجودة كلها في القرآن والسنة بأتم بيان وأوضح برهان ، فكل ما يقوله المتحذلقون في هذه الأبواب من العلم مما ليس في كتاب ولا سنة ، فكله فشر وهذيان ، فإن قلتم أن كلامنا هذا هو تقرير لما في الكتاب والسنة فهو لا يحتاج إلى تقريركم فقد قرره الله ورسوله أعظم تقرير.

وإن قلتم أن كلامنا إيضاح له وبيان قلنا بل هو مبين بأتم إيضاح وخير بيان وإن قلتم أنه تلخيص له وإيجاز فهو في إيجازه وقوة عبارته في الدرجة القصوى البالغة حد الإعجاز.

وإن قلتم أنه كشف عن معناه وتوضيح لمقاصده ، فلما ذا لم تقصدوا المعنى المفهوم من الخطاب وذهبتم إلى معان أخر ليست هي التي تتبادر إلى الذهن عند

٢٤٤

ذكر العبارة. فإذا كنتم صادقين في دعواكم ترجمته وتفسيره فاقصدوا إلى معناه الذي يدل عليه اللفظ بلا زيادة ولا نقصان. وإن صرحتم بأن كلامكم هذا بخلاف ما في الكتاب والسنة فقد أقررتم على أنفسكم بأن كلامكم في غاية الإنكار والبطلان ، فإن كلام الله ورسوله هو حق كله ، وليس بعد الحق إلا الضلال.

* * *

أو قلتم قسنا عليه نظيره

فقياسكم نوعان مختلفان

نوع يخالف نصه فهو المحا

ل وذاك عند الله ذو بطلان

وكلامنا فيه وليس كلامنا

في غيره أعني القياس الثاني

ما لا يخالف نصه فالناس قد

عملوا به في سائر الأزمان

لكنه عند الضرورة لا يصار

إليه إلا بعد ذا الفقدان

هذا جواب الشافعي لأحمد

لله درك من إمام زمان

والله ما اضطر العباد إليه في

ما بينهم من حادث بزمان

فإذا رأيت النص عنه ساكتا

فسكوته عفو من الرحمن

وهو المباح إباحة العفو الذي

ما فيه من حرج ولا نكران

فأضف إلى هذا عموما للفظ وال

معنى وحسن الفهم في القرآن

فهناك تصبح في غنى وكفاية

عن كل ذي رأي وذي حسبان

الشرح : وإن قلتم أننا نقيس على المنصوص نظيره ، والقياس أحد الأدلة المعتبرة عند كثير من الفقهاء ، قلنا لكم إن القياس نوعان متباينان : أحدهما نوع مخالف لفهم النص وذلك باطل محال ، وكلامنا معكم إنما هو في هذا النوع ، لأن معظم أقيستكم ترجع إليه ، وليس كلامنا في النوع الثاني من القياس ، وهو ما لا يكون مخالفا للنص ، فإن جمهور الفقهاء قد اعتبروه وعملوا بمقتضاه في جميع العصور. وهذا هو الذي يذكره علماء الأصول في كتبهم كأحد الأدلة الفقهية ، ويقسمونه إلى ثلاثة أقسام : الأول : قياس علة ، وهو ما كانت العلة فيه موجبة

٢٤٥

للحكم ومقتضية له ، وذلك كقياس تحريم ضرب الوالدين على التأفيف.

الثاني : قياس دلالة ، وهو الاستدلال بأحد النظيرين على الآخر ، وهو أن تكون العلة دالة فقط على الحكم ، وليست موجبة له كقياس مال الصبي على مال البالغ في وجوب الزكاة فيه.

الثالث : قياس الشبه ، وهو أن يتردد الفرع بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبها كالعبد المقتول ، فإنه متردد في الضمان بين الإنسان الحر من حيث أنه آدمي وبين البهيمة من حيث أنه مال ، وهو بالثاني أكثر شبها. وهذا القياس وإن كان جائزا لا يصار إليه إلا عند الضرورة بأن يكون النص مفقودا.

وبهذا أجاب الإمام الشافعي أخاه الإمام أحمد رحمهما‌الله تعالى ، فلله در الشافعي من إمام عصره ، ومع ذلك فإن العباد لم يضطروا إليه فيما يجري عليهم من الحوادث في الأزمنة المختلفة ، فإن ما يحدث لهم مما سكت عنه النص ولم يبين حكمه فهو مما عفا الله عزوجل عنه ، فهو مباح إباحة العفو الذي لا حرج عليهم فيه ولا إنكار ، وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها».

فإذا أضفت إلى نصوص الوحيين من الكتاب والسنة عموم ألفاظها ومعانيها وحسن الفهم لدلالات الكتاب وجودة الاستنباط منه أصبحت بالوحيين في غنى تام عن كل ما عداهما ولم تحتج معها إلى رأي أحد ولا حسبانه.

* * *

ومقدرات الذهن لم يضمن لنا

تبيانها بالنص والقرآن

وهي التي فيها اعتراك الرأي من

تحت العجاج وجولة الأذهان

لكن هنا أمران لو تمّا لما

احتجنا إليه فحبذا الأمران

جمع النصوص وفهم معناها المرا

د بلفظها والفهم مرتبتان

إحداهما مدلول ذاك اللفظ وض

عا أو لزوما ثم هذا الثاني

٢٤٦

فيه تفاوتت الفهوم تفاوتا

لم ينضبط أبدا له طرفان

فالشيء يلزمه لوازم جمة

عند الخبير به وذي العرفان

فبقدر ذاك الخبر يحصي من لوا

زمه وهذا واضح التبيان

الشرح : وأما ما تقدره الأذهان وتجول فيه من وجوه الاحتمال والإمكان فهذه لم يضمن لنا أن يقع في النصوص لها بيان ، وهي موضع اعتراك الآراء وتشاجر الأذهان ، لكن هنا أمران اثنان لو أنهما حصلا على التمام من غير نقصان لما احتجنا إلى شيء مما تجول فيه الأذهان. أحدهما استيعاب النصوص من السنة والقرآن ، والثاني فهم معناها المراد بلفظها ، ولهذا الفهم درجتان ، إحداهما فهم ما يدل عليه اللفظ بطريق الوضع ، وهذا لا تختلف فيه الأذهان ، فإنه لا يحتاج إلا إلى العلم بأن هذه الألفاظ موضوعة لتلك المعاني ، وثانيتهما فهم ما يدل عليه اللفظ بطريق اللزوم ، بأن يكون المراد لازما للمعنى الموضوع له اللفظ. ولما كان لكل من اللوازم ما لا حصر له ، فإن الأفهام تتفاوت في هذا النوع من الدلالة تفاوتا لا ينضبط ، ويكون ذلك بحسب الخبرة وطول المراس لهذا الشأن ، فكلما كان الإنسان أكثر خبرا وأوسع معرفة كان أكثر إدراكا لتلك اللوازم والعكس بالعكس. وهذا أمر واضح لا يفتقر إلى بيان.

* * *

ولذلك عرف الكتاب حقيقة

عرف الوجود جميعه ببيان

وكذاك يعرف جملة الشرع الذي

يحتاجه الإنسان كل زمان

علما بتفصيل وعلما مجملا

تفصيله أيضا بوحي ثان

وكلاهما وحيان قد ضمنا لنا

أعلى العلوم بغاية التبيان

ولذاك يعرف من صفات الله وال

أفعال والأسماء ذي الإحسان

ما ليس يعرف من كتاب غيره

أبدا ولا وما قالت الثقلان

وكذاك يعرف من صفات البعث بالت

فصيل والإجمال في القرآن

ما يجعل اليوم العظيم مشاهدا

بالقلب كالمشهود رأي عيان

٢٤٧

وكذاك يعرف من حقيقة نفسه

وصفاتها بحقيقة العرفان

يعرف لوازمها ويعرف كونها

مخلوقة مربوبة بيان

وكذاك يعرف ما الذي فيها من ال

حاجات والاعدام والنقصان

وكذاك يعرف ربه وصفاته

أيضا بلا مثل ولا نقصان

الشرح : وإذا كانت ألفاظ الكتاب الكريم وعباراته ، إما أن يراد منها معانيها الموضوعة لها : وإما أن يراد منها لوازم تلك المعاني ، وهي من الكثرة بحيث تستوعب الأشياء كلها ، فلذلك كان من عرف كتاب الله عزوجل معرفة حقيقة ووقف على كل ما تدل عليه ألفاظه من المعاني بطريق الوضع أو الالتزام فإنه يكون قد عرف حقائق الوجود كلها معرفة جلية. وكذلك يعرف كليات الأحكام والشرائع التي تلائم مصالح الناس وحاجاتهم في كل زمان ومكان علما إجماليا ، ثم تجيء السنة وهي الوحي الثاني ببيان تلك الأحكام والشرائع بالتفصيل فكلا من السنة والكتاب وحيان من عند الله قد تكفلا لمن تدبرهما أن يبلغ ذروة العلم وسنام المعرفة.

ويعرف الواقف على علم الكتاب أيضا من صفات الله العليا وأفعاله وأسمائه الحسنى ما لا يوجد مثله ولا قريبا منه في كتاب غير القرآن ، ولا في كل ما قاله الثقلان من الإنس والجان.

ويعرف من صفات البعث وأحوال اليوم الآخر ومشاهد القيامة في التفصيل والإجمال ما يجعله كأنه يعاين ذلك اليوم وكأنه يعيش فيه الآن ، ويصير مشهودا له بالقلب كشهود العيان. ويعرف كذلك من حقيقة نفسه وصفاتها وأحوالها التي تتقلب فيها ولوازمها التي لا تنفك عنها من كونها حادثة مخلوقة لله مربوبة مقهورة في قبضة يده ، وما يعتريها من الفقر والاحتياج عنها ونواحي النقص والعدم ما لا يقاس به كل ما يهرف به الفلاسفة في هذا الشأن.

ويدرك أيضا أن نفسه وهي مخلوقة مربوبة محدثة لا تماثل صفاتها صفات الأجسام ، فالرب الخالق الغني أولى بأن لا تماثل صفاته صفات المخلوقين ،

٢٤٨

فيعرف ربه وصفاته معرفة منزهة عن المماثلة والنقصان.

* * *

وهنا ثلاثة أوجه فافطن لها

إن كنت ذا علم وذا عرفان

ماع بالضد والأولى كذا بالامتناع

لعلمنا بالنفس والرحمن

فالضد معرفة الإله بضد ما

في النفس من عيب ومن نقصان

وحقيقة الأولى ثبوت كماله

إذ كان معطيه على الإحسان

الشرح : يعني أن من عرف ما جاء في الكتاب والسنة من حقيقة النفس وأحوالها وصفاتها وما يلازمها من العيب والنقص يستطيع أن يعبر من تلك المعرفة بنفسه إلى معرفة ربه من ثلاثة أوجه يجب أن يفطن لها كل ذي قدم راسخة في العلم والمعرفة.

الوجه الأول : أن يعرف ربه عزوجل بضد ما في نفسه من عيب ونقص ، فإذا كانت نفسه مخلوقة محدثة مربوبة مملوكة عاجزة فقيرة جاهلة ، فيجب أن يعرف ربه بأنه الرب الخالق المالك القادر الغني الحميد إلخ ..

الوجه الثاني : أن يستدل على ثبوت الكمال له سبحانه بطريق الأولى ، فإنه إذا كانت نفسه وهي مخلوقة محدثة ناقصة تتصف بأنها حية عالمة قادرة مريدة سميعة بصيرة إلخ ، فالرب أولى أن يتصف بذلك ، فإن كل كمال ثبت للمخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق كان الخالق أولى به من المخلوق لأن المخلوق إنما استفاد هذا الكمال من خالقه ، فهو الذي أفاده هذا الكمال إحسانا منه وفضلا ، وفاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه ، ولأنه سبحانه لو خلا من هذا الكمال الممكن له مع وجوده في المخلوق لكان في المخلوقات من هو أكمل منه ، وكل هذا باطل محال.

الوجه الثالث الاستدلال على تنزهه سبحانه عن النقص بطريق الامتناع ، وذلك أن يقال كل نقص تنزه عنه المخلوق ، فإنه يمتنع أن يتصف به الخالق ، إذ الخالق أولى بتنزهه عن النقص من المخلوق.

٢٤٩

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته (التدمرية) :

(والمقصود أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة سمعية بصيرة تصعد وتنزل وتذهب وتجيء ونحو ذلك من الصفات ، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها ، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيرا ، والشيء إنما تدرك حقيقته بمشاهدته أو مشاهدة نظيره ، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات فالخالق أولى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته).

* * *

فصل

في بيان شرط كفاية النصين والاستغناء بالوحيين

وكفاية النصّين مشروط بتج

ريد التلقي عنها لمعان

وكذاك مشروط بخلع قيودهم

فقيودهم غل إلى الأذقان

وكذاك مشروط بهدم قواعد

ما أنزلت ببيانها الوحيان

وكذاك مشروط بإقدام على

الآراء إن عريت عن البرهان

بالرد والابطال لا تعبأ بها

شيئا إذا ما فاتها النصان

لو لا القواعد والقيود وهذه

الآراء لاتّسعت عرى الإيمان

لكنها والله ضيقة العرى

فاحتاجت الأيدي لذاك توان

وتعطلت من أجلها والله أع

داد من النصّين ذات بيان

الشرح : وإذا كانت نصوص الكتاب والسنة فيهما الكفاية والشفاء لمعرفة الدين كله أصوله وفروعه ، فإن تلك الكفاية مشروطة بشروط لا بد من اعتبارها في ذلك.

أولا : أن يقوم الملتقي عنهما بالتجريد لما يفهم منها من معان بأن لا يصرف نصوصهما إلى معان أخر بتأويل لا دليل عليه ولا موجب له.

٢٥٠

ثانيا : أن يهدم كل القواعد والمصطلحات التي تواضع عليها الناس ، ولم يرد بشأنها بيان من السنة والقرآن.

ثالثا : أن يعمد إلى كل المقالات والآراء التي لم يقم عليها برهان فيدفعها ويجتهد في إبطالها ، ولا يقيم لها وزنا ما دامت غير قائمة على نصوص من الكتاب والسنة.

ووالله لو لا ما عمدت إليه فرق الزيغ والضلال من وضع القواعد والقيود والمذاهب التي أسست عليها لوجدت عرى الإيمان وقواعده واسعة لا حرج فيها ولا تعقيد ولكن هؤلاء ضيقوا عراه بما أحدثوا من المبادئ والاصطلاحات حتى عطلوا بها نصوصا كثيرة من الكتاب والسنة مع أنها في غاية الوضوح والبيان.

* * *

وتضمنت تقييد مطلقها وإط

لاق المقيد وهو ذو ميزان

وتضمنت تخصيص ما عمّته والت

عميم للمخصوص بالأعيان

وتضمنت تفريق ما جمعت وجم

عا للذي وسمته بالفرقان

وتضمنت تضييق ما قد وسع

ته وعكسه فلتنظر الأمران

وتضمنت تحليل ما قد حرمت

ه وعكسه فلتنظر النوعان

سكتت وكان سكوتها عفوا فلم

تعف القواعد باتساع بطان

وتضمنت إهدار ما اعتبرت كذا

بالعكس والأمران محذوران

وتضمنت أيضا شروطا لم تكن

مشروطة شرعا بلا برهان

وتضمنت أيضا موانع لم تكن

ممنوعة شرعا بلا تبيان

إلا بأقيسة وآراء وتلق

ليد بلا علم أو استحسان

الشرح : يذكر المؤلف في هذه الأبيات أنواع الجنايات التي جنتها القواعد والاصطلاحات على نصوص الكتاب والسنة ، وهذه الجنايات كما يأتي :

١ ـ عمدت إلى ما أطلقته النصوص فلم تقيد بشرط ولا صفة ولا استثناء

٢٥١

فقيدته بواحد من هؤلاء وإلى ما قيدته النصوص كذلك فأطلقته دون اعتبار للقيود مع أن كلا من الإطلاق والتقييد في النصوص له ميزان واعتبار.

٢ ـ تضمنت كذلك تخصيص ما عممته النصوص وتعميم ما خصصته وجعلته معينا ولم تراع ما أرادته النصوص من العموم والخصوص.

٣ ـ فرقت بين ما جمعته النصوص وجعلته شيئا واحدا ، وجمعت كذلك ما أرادت النصوص تفريقه.

٤ ـ ضيقت ما وسعته النصوص ، ووسعت ما ضيقته ، فلينظر ما في النصوص من تضييق وتوسيع.

٥ ـ تضمنت أيضا تحليلا لما حرمته النصوص ، وحرمت ما أحلته بأن سكتت عنه النصوص ، وكان سكوتها عفوا وتجاوزا ، ولكن القواعد لم تعف ولم تتسع لما اتسعت له النصوص.

٦ ـ أهدرت ما اعتبرته النصوص ، واعتبرت ما أهدرته وكلاهما ممنوع ، بل الواجب اعتبار ما اعتبرته النصوص وإهدار ما أهدرته.

٧ ـ تضمنت شروطا مشروطة في الشرع ولا برهان لهم عليها.

٨ ـ وتضمنت أيضا موانع لم يعتبرها الشرع بلا حجة ولا دليل اللهم إلا أقيسة فاسدة وآراء باطلة ، وتقليدا للرجال بلا علم ولا استحسان.

* * *

عمن أتت هذى القواعد من جمي

ع الصحب والأتباع بالإحسان

ما أسسوا إلا أتباع نبيهم

لا عقل فلتان ورأي فلان

بل أنكروا الآراء نصحا منهم

لله والداعي وللقرآن

أو ليس في خلف بها وتناقض

ما دل ذا لب وذا عرفان

والله لو كانت من الرحمن ما اخ

تلفت ولا انتقضت مدى الأزمان

شبه تهافت كالزجاج تخالها

حقا وقد سقطت على صفوان

٢٥٢

والله لا يرضى بها ذو همة

علياء طالبة لهذا الشأن

فمثالها والله في قلب الفتى

وثباتها في منبت الإيمان

كالزرع ينبت حوله دغل فيم

نعه النما فتراه ذا نقصان

وكذلك الإيمان في قلب الفتى

غرس من الرحمن في الإنسان

والنفس تنبت حوله الشهوات

والشبهات وهي كثيرة الأفنان

فيعود ذاك الغرس يبسا ذاويا

أو ناقص الثمرات كل أوان

فتراه يحرث دائبا ومغله

نزر وذا من أعظم الخسران

والله لو نكش النبات وكان ذا

بصر لذاك الشوك والسعدان

لأتى كأمثال الجبال مغله

ولكان أضعافا بلا حسبان

الشرح : يتساءل المؤلف عمن أثرت هذه القواعد؟ التي أسسها هؤلاء وبنوا عليها ما بنوا من المذاهب والآراء ، إنه لم يقل بها أحد من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا من التابعين لهم بإحسان ، فإنهم ما أسسوا للناس في دينهم إلا اتباع نبيهم الكريم ولم يأمروهم بالجري وراء عقول الحمقى وآراء السفهاء ، بل كلهم شدد النكير على من يأخذ بالرأي في دين الله عزوجل نصحا منهم لله وكتابه ورسوله عملا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدين النصيحة قلنا : لمن يا رسول الله؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم».

وإن في اختلاف هذه الآراء وتناقضها ما يدل كل ذي عقل ومعرفة على أنها ليست من دين الله في شيء ، إذ لو كانت من عنده سبحانه ما اختلفت ولا تناقضت في أي عصر ولا زمان ، بل هي في حقيقتها شبه واهية لا أصل لها كأنها بيت من الزجاج قد سقط على حجر صلب فصار هشيما ، وو الله ما يرضى بها من كانت له همة علياء في طلب الحق وتسعى لمعرفته ، فمثالها في قلب أصحابها وثباتها في منبت الإيمان كهذه الحشائش الضارة الطفيلية التي تمنع الزرع من النماء والتمام ، فلا يعطي غلته كاملة. فالإيمان في قلب العبد هو غرس الله ، والنفس تنبت من حوله وفي خلاله أفنانا كثيرة من الشهوات والشبهات التي تأكله وتعوق نموه حتى يرى بعد نضرته يابسا ذاويا ناقص الثمرة ، فهو يزرع باستمرار ويتعهد

٢٥٣

بالسقي والحرث ، ولكن مغله قليل بسبب وجود هذه النباتات التي لو نكشت وأخرجت لجاءت غلته أضعافا مضاعفة.

* * *

فصل

هذا وليس الطعن بالإطلاق في

ها كلها فعل الجهول الجاني

بل في التي قد خالفت قول الرسو

ل ومحكم الإيمان والفرقان

أو في التي ما أنزل الرحمن في

تقريرها يا قوم من سلطان

فهي التي كم عطلت من سنة

بل عطلت من محكم القرآن

هذا وترجو أن واضعها فلا

يعدوه أجر أو له أجران

إذا قال مبلغ عمله من غير إي

جاب القبول له على إنسان

بل قد نهانا عن قبول كلامه

نصا بتقليد بلا برهان

وكذاك أوصانا بتقديم النصو

ص عليه من خبر ومن قرآن

نصح العباد بذا وخلص نفسه

عند السؤال لها من الديان

والخوف كل الخوف فهو على الذي

ترك النصوص لأجل قول فلان

وإذا بغى الإحسان أولها بما

لو قاله خصم له ذو شان

لرماه بالداء العضال مناديا

بفساد ما قد قاله بأذان

الشرح : وإذا كنا ننكر على هؤلاء ما وضعوا من قواعد واصطلاحات جنوا بها على الدين ، وخالفوا بها دلالات النصوص ، فإن ذلك الطعن ليس على اطلاقه بحيث يكون متناولا لجميعها ، فإننا لا نريد التجني على أحد أو غمط ما عنده من حق ، وإنما نريد بالإنكار والطعن تلك القواعد التي جاءت مخالفة لأقوال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومناقضة لمحكم الإيمان وصريح القرآن وكذلك التي لم يرد في تقريرها حجة من الله ولا برهان ، فهذه هي التي عطلت كثيرا من النصوص الصريحة من الكتاب والسنة ، ومع ذلك يرجو واضعها أن يثاب على اجتهاده فيها

٢٥٤

فإن كان قد أخطأ فله أجر وإن كان قد أصاب فله أجران ، لأنه قد قال بما أداه إليه اجتهاده وما بلغه علمه من غير أن يوجب قبول قوله ومذهبه على إنسان ، بل كل واحد من الأئمة المجتهدين نهى أن يأخذ أحد بكلامه تقليدا له من غير أن يعرف دليله ، وأوصى كل من اطلع على نص يخالف مذهبه أن يأخذ بالنص ويترك مذهبه ، فكلهم قالوا حيث يصح الحديث فهو مذهبنا ، نصحا للعباد لكي يخلصوا بذلك أنفسهم من تبعة السؤال عند الله يوم القيامة.

فهؤلاء المجتهدون على رجاء من المغفرة ، ولكن الخوف كله على هؤلاء المقلدين المتعصبين لمذاهب أئمتهم ، بحيث يتركون النصوص لأجلها ، وإذا أراد أحدهم الإحسان والتوفيق بين هذه النصوص وبين قول امامه أولها تأويلات بعيدة ومتكلفة ، يحمل الألفاظ فيها ما لا تحتمله ، وقال في ذلك ما لو قاله خصمه ذو الشأن والشهرة لرماه بالحمق وفساد الرأي ولشنع عليه اعظم التشنيع.

* * *

فصل

في لازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟

ولوازم المعنى تراد بذكره

من عارف بلزومها الحقاني

وسواه ليس بلازم في حقه

قصد اللوازم وهي ذو تبيان

إذ قد يكون لزومها المجهول أو

قد كان يعلمه بلا نكران

لكن عرته غفلة بلزومها

إذ كان ذا سهو وذا نسيان

ولذاك لم يك لازما لمذاهب ال

علماء مذهبهم بلا برهان

فالمقدمون على حكاية ذاك مذ

هبهم أولو جهل مع العدوان

لا فرق بين ظهوره وخفائه

قد يذهلون عن اللزوم الداني

سيما إذا ما كان ليس بلازم

لكن يظن لزومه بجنان

لا تشهدوا بالزور ويحكم على

ما تلزمون شهادة البهتان

٢٥٥

الشرح : أعلم أن الجهمية المعطلة لا يجدون لهم سلاحا يشهرونه في وجه أهل الحق والإثبات إلا إيراد اللوازم والرمي بالشناعات ، فيقولون لهم مثلا : يلزم على اثباتكم صفة العلو لله أن يكون في جهة وأن يكون في حيز ، وأن يكون ذا قدر ونهاية ، وأن يكون جسما كما يلزم على إثبات الوجه واليد والعين أن يكون له جوارح وأعضاء إلى غير ذلك مما امتلأت به كتبهم التي ألفوها في نفي الصفات ودفع مذهب أهل الإثبات.

والمؤلف رحمه‌الله يرد عليهم هنا بأن لوازم المعنى لا تكون مقصودة عند ذكره إلا ممن يعرف لزومها له ، فهذا هو الذي يمكن أن يؤخذ بما يلزم ما يثبته من معان ، وأما غيره ممن يجهل اللزوم بينهما فليس بلازم في حقه القصد إلى اللوازم عند ذكر المعنى مهما تكن اللوازم بينة واضحة ، إذ قد يكون لزومها مجهولا له ، أو يكون معلوما ولكن أصابته غفلة عن ذلك اللزوم بسبب كثرة سهوه ونسيانه ، ولذلك قرر العلماء بأن لازم المذهب لا يكون مذهبا بلا حجة ولا برهان ، وأن من حكى ذلك عنهم فهو من أجهل الجهل والعدوان ، ولا فرق في ذلك بين اللوازم الظاهرة واللوازم الخفية ، فإن الإنسان قد يذهل عن اللازم القريب ، وهذا الحكم أنما هو بالنسبة إلى اللوازم التي ثبت لزومها ، أما ما ليس بلازم في الحقيقة ، ولكن يظن الذهن لزومه ، فهذا أولى أن لا يعتبر لازما ، فلا تشهدوا أيها المعطلة على ما تلزموننا به شهادة زور وبهتان ، فترمونا بالقول بتلك اللوازم ، وأنها مذهب لنا ، مع أنا لم نقصدها ولم تخطر لنا في الأذهان عند إثبات الصفات للرحمن.

* * *

بخلاف لازم ما يقول الهنا

ونبينا المعصوم بالبرهان

فلذا دلالات النصوص جلية

وخفية تخفى على الأذهان

والله يرزق من يشاء الفهم في

آياته رزقا بلا حسبان

واحذر حكايات لأرباب الكلا

م عن الخصوم كثيرة الهذيان

فحكوا بما ظنوه يلزمهم فقا

لوا ذاك مذهبهم بلا برهان

٢٥٦

كذبوا عليهم باهتين لهم بما

ظنوه يلزمهم من البهتان

فحكى المعطل عن أولي الاثبات قو

لهم بأن الله ذو جثمان

وحكى المعطل أنهم قالوا بأن

الله ليس يرى لنا بعيان

وحكى المعطل أنهم قالوا يجوز

ز كلامه من غير قصد معان

وحكى المعطل أنهم قالوا بتحي

يز الإله وحصره بمكان

وحكى المعطل أنهم قالوا له ال

أعضاء جل الله عن بهتان

وحكى المعطل أن مذهبهم هو الت

شبيه للخلاق بالإنسان

وحكى المعطل عنهم ما لم يقو

لوه ولا أشياخهم بلسان

الشرح : يعني إذا كان لازم المذهب قد لا يكون مقصودا لصاحب المذهب لجواز جهله باللزوم أو غفلته عنه ، فإن ذلك لا ينطبق على لوازم الكتاب والسنة بل كل ما يقوله الله عزوجل ورسوله المعصوم صلوات الله عليه وسلامه لا بد أن تكون لوازمه كلها مقصودة ، ولذلك كانت دلالات النصوص منها ما هو جلي ظاهر ، ومنها ما هو شديد الخفاء ، وذلك لتفاوت اللوازم في القرب والبعد من المعنى الأصلي ، فبعضها يكون لزومه لهذا المعنى واضحا وبعضها يكون خفيا ، والله سبحانه هو الذي يرزق من يشاء من عباده الفهم لمعاني كلامه رزقا واسعا بلا تقدير ، كما أثر عن علي رضي الله عنه أنه سئل هل وصى لكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشيء؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا أن يعطي الله عبده فهما في كتابه وإلا ما في هذه الصحيفة.

وكذلك ما عرف عن سعة علم ابن عباس رضي الله عنهما بوجوه التأويل حتى سمي ترجمان القرآن ، وذلك ببركة دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين وضع يده على صدره ، وقال : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».

وإذا عرفت أن لازم المذهب لا يصح أن يكون مذهبا فضلا عما يظن لزومه مما ليس بلازم فاحذر ما يحكيه علماء الكلام عن خصومهم من أهل الحق والإثبات من حكايات فيها كثير من الهراء والهذيان ، فقد ذكروا ما ظنوه لازما

٢٥٧

لمذاهبهم وحكوه على أنه مذهب لهم بلا حجة ولا برهان ، فكذبوا بذلك عليهم وبهتوهم بما هم منه براء مما ظنوه يلزمهم من الأقوال والآراء. فحكوا عنهم أنهم قالوا أن الله تعالى جسم ذو جوارح وأعضاء لما رأوهم يثبتون ما أثبته لنفسه من الوجه واليدين والعينين وغير ذلك من الصفات.

وحكوا عنهم كذلك أنهم قالوا أن الله ليس يرى رؤية حقيقية بالعين لما رأوهم ينفون عنه الكيف والإحاطة ويقولون ما قاله القرآن : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام : ١٠٣].

وحوا عنهم أنهم قالوا يجوز أن يكون كلامه سبحانه مجردا عن قصد المعاني لما رأوهم يثبتون لوازم تلك المعاني ويدخلونها في دلالة الألفاظ.

وحكوا عنهم أنهم قالوا بأن الله متحيز ومحصور في المكان ، لأنهم رأوهم يثبتون له جهة العلو والفوقية.

وحكوا عنهم بأنهم يثبتون لله الأعضاء ، لأنهم أثبتوا له من الصفات ما يطلق فينا على الجوارح والأعضاء.

وحكوا عنهم أنهم شبهوا الله عزوجل بخلقه حين رأوهم قد وصفوه بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله مما يوجد مسماه في الإنسان.

وبالجملة فقد حكى المعطل عنهم ما لم يتلفظوا به لا هم ولا شيوخهم ، وإنما هي أمور استنتجها من مذهبهم بالظن والتخمين ، فوقع في الكذب والبهتان والضلال المبين.

* * *

ظن المعطل أن هذا لازم

فلذا أتى بالزور والعدوان

فعليه في هذا معاذير ثلا

ث كلها متحقق البطلان

ظن اللزوم وقذفهم بلزومه

وتمام ذاك شهادة الكفران

يا شاهدا بالزور ويحك لم تخف

يوم الشهادة سطوة الديان

٢٥٨

يا قائل البهتان غط لوازما

قد قلت ملزوماتها ببيان

والله لازمها انتفاء الذات وال

أوصاف والأفعال للرحمن

والله لازمها انتفاء الدين وال

قرآن والإسلام والإيمان

ولزوم ذلك بيّن جدا لمن

كانت له أذنان واعيتان

والله لو لا ضيق هذا النظم بي

نت اللزوم بأوضح التبيان

ولقد تقدم منه ما يكفى لمن

كانت له عينان ناظرتان

أن الذكي ببعض ذلك يكتفي

وأخو البلادة ساكن الجبان

الشرح : ظن المعطل أن هذه الأمور المتقدمة لازمة لمذاهب أهل الحق والإثبات فاعتقدها مذهبا لهم وحملهم إياها زورا وعدوانا ، وارتكب في حقهم ثلاث جنايات كلها باطلة. الأولى : ظنه لزوم هذه الأمور لمذاهبهم. والثانية : رميه إياهم بذلك اللزوم. والثالثة : التي هي تمام الثلاثة شهادته عليهم بالكفر بسبب ما ظنه لازما لمذهبهم.

فويحك يا شاهد الزور والبهتان كيف لم تخف يوم تسأل عن شهادتك سطوة الديان ، وبدلا من أن ترمي خصومك بلوازم مظنونة ليس لك عليها برهان كان أولى بك أن تستر ما يلزم مذهبك من لوازم في غاية البيان ، وفي الدرجة القصوى من الشناعة والنكران ، فإن لازمها هو انتفاء الذات والصفات والأفعال للرحمن بل ولازمها انتفاء الدين والقرآن والإسلام والإيمان ، ولزوم هذه اللوازم الشنيعة لمذهبكم بين جدا لمن كانت له عينان ، فإن وصفه تعالى بصفات السلوب والاعدام من كونه ليس داخل العالم ولا خارجه ، ولا متصلا ولا منفصلا ، ولا قريبا ولا بعيدا ، ولا في جهة ولا مكان ، وليس بذي مقدار ولا صورة الخ ، يفضي إلى نفي وجوده سبحانه في الأعيان ويصبح أمرا مفروضا في الأذهان ، وإذا انتفى وجوده فقد انتفت صفاته وأفعاله.

وأيضا نفيكم لقيام الفعل بذاته وجعلكم أفعاله تعلقات للقدرة مستلزم لنفي الفعل عنه واعتقادكم أنه ليس متكلما بهذا القرآن الذي بين أيدينا يقتضي أنه ليس

٢٥٩

له بيننا كلام ، وذلك يستلزم نفي الرسالة لأن بناءها على تكليم الله لرسله ، وإذا انتفت الرسالة انتفت معها شرائع الإسلام والإيمان ، وهكذا تجد اللوازم لمذهبهم في غاية الوضوح والبيان ، ولكن ضيق النظم وقيوده تمنع من ذكرها على التفصيل ، ولكن قد تقدم منها ما يكفي لمن كانت له عينان متفتحتان ، فإن الذكي تكفيه الإشارة إلى بعضها أما أخو البلادة فهو يسكن مع الأموات في الجبان.

* * *

يا قومنا اعتبروا بجهل شيوخكم

بحقائق الإيمان والقرآن

أو ما سمعتم قول أفضل وقته

فيكم مقالة جاهل فتان

إن السموات العلى والأرض قب

ل العرش بالإجماع مخلوقان

والله ما هذي مقالة عالم

فضلا عن الإجماع كل زمان

من قال ذا قد خالف الإجماع وال

خبر الصحيح وظاهر القرآن

فانظر إلى ما جره تأويل لف

ظ الاستواء بظاهر البطلان

زعم المعطل أن تأويل استوى

بالخلق والإقبال وضع لسان

كذب المعطل ليس ذا لغة الألى

قد خوطبوا بالوحي والقرآن

فأحاره هذا إلى أن قال خلق الع

رش بعد جميع ذي الأكوان

يهنيه تكذيب الرسول له وإج

ماع الهداة ومحكم القرآن

الشرح : وكان ينبغي لكم بدلا من رميكم أهل الإثبات بالجهل والعجز عن إدراك المعقولات أن تعتبروا بما لشيوخكم من فضائح وشناعات دلت على جهلهم بحقائق الإيمان وصريح الآيات ، ولا بد أن تكونوا قد سمعتم بما قاله امام (١) منكم كان يعد أفضل عصره علما وتدقيقا مقالة جاهل يبغي الفتنة وصرف الناس عن صريح الكتاب والسنة ، فقد قال هذا الجاهل ويا شناعة ما قال إن السموات والأرض مخلوقة كلها قبل العرش ، وادعى في ذلك الإجماع في

__________________

(١) المراد فخر الدين بن الخطيب الرازي امام الأشاعرة في وقته.

٢٦٠