التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

وهكذا ينظر الإسلام إلى الأسرة ، ويعدّها «البوتقة» الأولى ، التي تنصب فيها مبادئه ، وتختبر أحكامه ، وتثمر شريعته .. فإنه إذا ظهرت آثار هذه الشريعة فى مجتمع الأسرة ، وقامت منها تلك «الخلية» السليمة ، القوية ، المحصنة من آفات الانحلال والتفكك ـ كان المجتمع الذي يقوم من اجتماع هذه الخلايا ، مجتمعا سليما قويا .. أشبه بالجسد السليم القوى ، الذي لا تنال منه الآفات والعلل .. إذا عرضت له ..

وسلامة الرباط الذي يقوم بين الزوجين ، وقيام الرابطة الزوجية فى ضمان من التحلل والتفكك ، وفى أمان من الشك والارتياب ـ هو الأساس الذي تقوم عليه الصلات الروحية ، والنفسية ، والمادية بين أعضاء هذه الأسرة ، التي يبنيها الزوج والزوجة معا ..

من أجل هذا وقفت شريعة الإسلام هذه الوقفة الحكيمة الحازمة ، من أمر الزنا ، وعدّته آفة مهلكة إذا لم يأخذ المجتمع كله السبيل عليها ، وينكّل بالذين يعتدون على حرمته ويهددون أمنه وسلامته ، ويدكون صرح بنيانه ، باقتراف هذا المنكر ..

وقد فرق الإسلام فى العقوبة بين المحصنين وغير المحصنين ، لما بين الفريقين من اختلاف فى الحاجة ، وفى الدافع إليها.

فالحدّ الذي فرضه الإسلام ، هو مائة جلدة لغير المحصن ، من النساء والرجال : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ..)

أما المحصن من الرجال والنساء ، فحدّه الموت .. رجما بالحجارة.

فإذا توافرت أركان هذه الجريمة بما يوجب الحد ، وجب الحد ، ولزم.

ثم إنه إذا أقيم الحد ـ جلدا أو رجما ـ وجب أن يكون علنا ، يشهده طائفة

٣٦١

من المؤمنين ، وقد أشرنا من قبل إلى الحكمة المبتغاة من هذه العلانية.

هذا ، وقد جاء الجلد نصا فى القرآن الكريم .. كما جاءت به الآية الكريمة : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

ولكن .. هنا سؤال :

إذا كان حكم القرآن قد جاء هكذا مطلقا فى الزانية والزاني ، وهو الجلد .. فلم هذا التخصص بغير المحصنين؟ ومن أين جاء النص على المحصنين بالرجم؟

ونقول إن التقييد للنص القرآنى ، وصرفه إلى غير المحصنين ، إنما هو من عمل الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه .. فقد رجم الرسول صلوات الله وسلامه عليه ـ محصنا هو «ماعز بن مالك» كما رجم محصنة هى : «الغامدية» وذلك كما هو ثابت فى السنة المطهرة ..

ولكن .. لسائل أن يسأل :

كيف يجىء حكم القرآن عن جريمة «الزنا» نصا فى الجلد ، ثم لا يجىء فيه نص للرجم»؟

ألا يكون عكس هذا هو الأولى .. فينصّ القرآن على العقوبة الكبرى وهى «الرجم» ثم يجعل «الجلد» عملا من إعمال هذا النص ، فيكون تعزيرا ، حيث لا تتوافر الأدلة القاطعة؟.

ونقول ـ والله أعلم ـ :

أولا : حمل إطلاق قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ـ حمل هذا الإطلاق على غير المحصنين ، فيه رعاية لمقتضى الحال ، الذي يكاد يصرّح بأن الزنا ـ إن كان ـ فلا ينبغى أن يكون إلا من غير

٣٦٢

المحصنين ، حيث لم يكن لهم ما يتحصنون به من دواعى الشهوة ، بالزواج ، الذي من شأنه أن يكسر حدة هذه الشهوة ، ويطفىء وقدتها .. فهم لهذا ـ إذا أقدموا على الزنا كانوا أقل جرما من المحصنين ، الذين من شأنهم أن يتحصنوا ويتعففوا ، وهم فى حياة الزوجية.

فهذه الإشارة بليغة من الشريعة الإسلامية ، إلى أن المؤمن ينبغى أن يكون فى حصانة من دينه ، وفى يقظة دائمة من مراقبة ربه .. وتوقى العدوان على حدوده ، فإذا غلبت المؤمن شهوته ، فى هذه الحال ، وأغواه شيطان فاستغوى ، وركب طريق الفاحشة ـ فإنه ملوم مذموم .. ولكن شتان فى هذا ، بين المحصن وغير المحصن ، فى موقف الحساب والجزاء ، على تلك الفعلة المفكرة ..

ولشناعة هذه الجريمة ، وعظيم خطرها ، فقد نص القرآن على أدنى حد يجب أن يؤخذ به مقترفها. وهو الرجم ، كما أن القرآن أمسك بهذا النص من يغلب عليهم أن يواقعوا هذا المنكر ، ويقعوا تحت العقوبة الراصدة له ، وهم غير المحصنين .. أما المحصنون فأولى بهم ألا يكون لهم موقف هنا. وألا يذكروا فيمن يذكر فى معرض هذا الأمر الشنيع.

وثانيا : إن عمل الرسول ، متمم للشريعة ، وشارح لها ، بحكم القرآن الكريم فى قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٧ : الحشر) ذلك أن الرسول لا يدخل على شريعة الله إلا بما يأمره به الله .. كما يقول تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى .. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٣ ـ ٤ : النجم)

وثالثا : أن وجوب إقامة الحد على الزاني والزانية ، لا يكون إلا إذا وقعت هذه الجريمة مستوفية أركانا خاصة ، دون أن يعلق بأى ركن منها شبهة من

٣٦٣

الشبه القريبة أو البعيدة .. فإذا انحلّ ركن من هذه الأركان ، أو دخلت عليه شبهة لم تكن جريمة فى نظر الشارع ، ومن ثم فلا حد على المأخوذ بها.

وأهم الأركان التي تثبت بها جريمة الزنا ، شهادة أربعة من الشهود العدول ، بأن يشهدوا بأنهم رأوا هذا المنكر بين الرجل والمرأة ، على الوجه الذي يقع بين الزوجين فى فراش الزوجية ، من المعاشرة التي لا يطلع عليها أحد ، وأن تكون هذه الرؤية كاشفة كل شىء بين الرجل والمرأة ، وخاصة فيما يتصل بالتقاء سوءتيهما ، التقاء مباشرا كاملا.

فإذا لم تقم كل شهادة من شهادات الشهود الأربعة على هذا الوجه ، بحيث لو وقع الاختلاف بينها فى أية صفة من تلك الصفات ـ لم يحكم بوقوع الجريمة ، ومن ثمّ فلا إقامة لحد عليها .. ويجلد الشهود ثمانين جلدة ، إعمالا لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ، وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤ : النور).

وطبيعى أن تحقق هذه الشروط ندر أن يقع .. ذلك أن الذي يمكن أن يحدث منه هذا الأمر المنكر على ملأ من الناس بحيث تنكشف لهم سوءته ـ هو إنسان معتوه ، أو مجنون ، أو مخمور .. لأن العاقل ـ فى أي درجة من درجات العقل ـ يأبى عليه حياؤه أن يتجرد هذا التجرد لأعين الناس .. وإنه لو فرض وكان ممن ذهب ماء الحياء من وجهه .. فكيف السبيل إلى المرأة التي جمد حياؤها هذا الجمود ، فتعرّت للرجل هذا التعرّى على أعين الناس؟ إن هذه صورة لا تقع إلا فى أحوال نادرة ، وتحت ظروف وأحوال غير طبيعية ، كأن يقدر الزانيان أنهما فى مأمن ، فينكشف عنهما هذا الستر الذي تسترا فيه ، على غير انتظار ، أو أن يطلع عليهما مطلع من حيث لا يحسبان أو يقدران ..

٣٦٤

ولا شك أن غير المحصنين هم أقرب إلى التعرض لمثل هذا الفعل المنكر المفضوح ، إذ كانوا ـ تحت وطأة الشهوة وقسوة الحرمان ـ معرضين للاندفاع إلى هذه الجريمة ، وإلى قلة المبالاة بعواقبها ، والعمى أو التعامي عن الظروف المحيطة بها.

أما المحصن فإنه ـ إذ يقدم على هذه الجريمة ـ لا يكون محكوما بثورة الشهوة ، أو قسوة الحرمان إلى هذا الحد الذي يكون عليه غير المحصن .. كما أنه لا يندفع إلى هذه الجريمة هذا الاندفاع الصارخ المجنون ، فى غير مبالاة ، خوفا من الفضيحة والخزي ، عند زوجه وبنيه وأهله .. ولهذا لم تثبت جريمة الزنا على المحصن أو المحصنة إلا بإقرارهما ، كما كان الشأن مع «ماعز» والمرأة الغامدية ..

وهنا يتضح لنا حكمة نص القرآن على حد الجلد ، وهو العقوبة المفروضة على غير المحصنين ، إذ كان غير المحصنين ـ كما قلنا ـ هم الكثرة الواقعة تحت حكم الزنا ، على تلك الصورة المكشوفة المفضوحة ، وهم أدنى إلى مواقعة الإثم على صورته تلك ، من المحصنين ، الذين يكاد الإسلام لا يفترض لهم وجودا .. لأنهم إذا وجدوا على تلك الحال ، كانوا من الندرة النادرة التي لا يتوجه إليها عموم الحكم.

كذلك تتضح حكمة هذا التقدير الذي قدّره الإسلام لعقوبة هذا الجرم ، فى مجاليه معا ، الإحصان وغير الإحصان ، وهو تقدير عادل رحيم ، لا تخف موازينه أبدا ، فى أي مجتمع إنسانى ، يحترم وجوده ، ويكرم إنسانيته ، ويرعى حرماتها ، ويحتفظ بالقدر الإنسانى من حيائه ومروءته ..

والجلد مضافا إليه الفضح على الملأ ، هو عقوبة غير المحصن والمحصنة.

٣٦٥

وهذا الجلد .. غير منكور ما فيه من استخفاف بإنسانية الإنسان ، وامتهان لكرامته ، وإسقاط لمروءته!

نعم .. إن الإسلام يأخذ هذا «الإنسان!» بكل هذا التجريم والتجريح ، فى مقابل جنايته تلك التي جناها على المجتمع ..

وكيف يرعى الإسلام ، حرمة فرد ـ رجلا كان أو امرأة ـ لم يرع إنسانيته ، ولم يحفل بمروءته؟

وكيف يقبل منه هذا العدوان الصارخ على المجتمع ، وهذا التحدّى المجنون لحرمة الجماعة وحيائها ، دون أن يذيقه من الكأس التي سقى منها مجتمعا كاملا؟ وكيف لا يلبسه هذا الثوب من المذلة والهوان والاستخفاف ، وقد ألبس هو المجتمع هذه الملابس جميعها؟

إن أقلّ ما ينبغى أن ينال مقترقى هذا الإثم ـ فى علانية وفى غير مبالاة ـ هو أن يكون العقاب المسلط عليهما قائما على العلانية ، وعدم المبالاة بهما.

أما المحصنون الذين يضبطهم المجتمع على تلك الحال ، ويقيم الشهادة عليهم ، فقد نزلوا دركات بعيدة عن هذا المستوي المنحط الذي نزل إليه غير المحصنين ، إذ لا يجدون عند الله ، ولا عند الناس شيئا من العذر الذي قد يقوم لغير المحصنين .. ولهذا كان عقابهم أن يدفنوا فى هذه الحفرة التي حفروها لأنفسهم ، وأن يقذفهم المجتمع بالأحجار التي قذفوه بها ، حتى تزهق أرواحهم.

* * *

إن جريمة الزنا ، لا يلقاها الإسلام بهذا العقاب الدنيوي الراصد الزاجر ، إلا حين تتحول عند مرتكبيها إلى عمل غير منكر ، فيأتيه من يأتيه منهم ،

٣٦٦

وكأنه يؤدى رسالة كريمة فى الحياة ، يرى من الخير أن يشهد الناس وهو متلبس بها .. وهنا يكون الحساب على هذا الفجور العريان ، وعلى تلك الحيوانية الطاغية التي تلبس الإنسان ، وتتمشى به فى الناس ، فى غير خجل أو حياء .. وكيف يستحلّ دم الحيوان ، ولا يباح دم هذا الحيوان من أبناء آدم؟ وهل مثل هذا الإنسان أكرم عند الله أو عند الناس من الحيوان الذي أباح الله دمه ، وأحلّ ذبحه؟

أما حساب الإسلام لمرتكبى هذا الإثم ، فى ستر وخفاء ، فهو مما يتولّاه الله ، ويأخذ به أهله ، يوم يقوم الناس لربّ العالمين ، ويقف المذنبون بذنوبهم بين يدى أحكم الحاكمين ، فيغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء.

من أجل هذا ، لم تكن عقوبة الجلد أو الرجم تقع ، إلا فى القليل النادر جدا ، على أولئك الذين ينادون على أنفسهم بالفضيحة .. بلا مبالاة أو تحرج ..!

فما فرض الإسلام على المسلمين ـ حكاما أو محكومين ـ أن يفتّشوا على دخائل الناس ، وأن يعمدوا إلى كشف ما ستروه ، وما ستره الله عليهم .. بل إنه سبحانه ـ رحمة بعباده ـ دعا إلى الستر على المبتلين من عباده بمنكر من المنكرات ، وعدّ الكشف عن هذا المنكر من إشاعة الفاحشة فى المؤمنين وتوعّد الذين يذيعونها بالعذاب الأليم .. فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (١٩ : النور).

روى أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ، وقد بلغه عن امرأة كانت تعلن الفجور ، فقال : «لو كنت راجما أحدا بغير بيّنة لرجمت هذه» وهذه المعالنة التي يشير إليها الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ

٣٦٧

هى تلك التي يرى فيها الناس تلك المرأة متلبسة بهذا المنكر ، على مرأى ومشهد منهم .. حتى لقد كان منها أن اشتهرت أنها على علاقة بفلان أو فلان ، وأن بعضهم قد اطلع منها على هذا المنكر ..

* * *

بقي أن نشير هنا إلى ما ورد فى بعض الأحاديث من أن رجم المحصن والمحصنة ، قد جاء فى كتاب الله غير المتلو من آياته .. أي الذي نسخ تلاوة ، وبقي حكما .. ويروون لهذا ، هذه الآية : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم».

وقالوا : إن هذه الآية مما كان أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم نسخت تلاوته ، وبقي حكمه ، ولم يثبت فى المصحف.

ومن هذا ما يروى فى صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود ، أن ابن عباس أخبره أن عمر قام ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «أما بعد أيها الناس ، فإن الله تعالى بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فقرأناها وو عيناها ، ورجم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورجمنا بعده .. فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم فى كتاب الله ، فيضلّوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم فى كتاب الله حق على من زنى وهو محصن من الرجال والنساء ، إذا قامت البينة ، أو الحبل ، أو الاعتراف».

وفى مسند أحمد عن ابن عباس ، عن عبد الرحمن بن عوف ، قال : إن عمر بن الخطاب ، خطب الناس ، فسمعته يقول : «ألا وإن ناسا يقولون : ما الرجم فى كتاب الله ، وإنما فيه الجلد ، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه

٣٦٨

وسلم ورجمنا بعده ، ولو لا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم : إن عمر زاد فى كتاب الله لأثبتها كما نزلت»!

وفى مسند أحمد أيضا عن ابن عباس ، قال : خطب عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، فذكر الرجم فقال : «لا نجد من الرجم بدا ، فإنه حدّ من حدود الله ، ألا وإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم ، ورجمنا بعده ، ولو لا أن يقول قائلون : إن عمر زاد فى كتاب الله ما ليس فيه لكتبت فى ناحية من المصحف : وشهد عمر بن الخطاب ، وابن عوف ، وفلان ، وفلان أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد رجم ورجمنا بعده»!

هذا بعض من أحاديث جاءت فى هذه القضية ، وهى عند أصحاب الحديث صحيحة ، لا مطعن عندهم فى سندها ..

ونحن إذ ننظر فى هذه الأحاديث نجدها معلولة بأكثر من علة :

فأولا : آية الرجم التي تروى بأنها كانت هكذا : «الشيخة والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم».

هذه الآية ـ إذا صحّ أن تأخذ اسم آية ـ فيها أكثر من أمر يصرّح بأنها ليست من آيات الله ، ولا من كلام الله ، ولا من كلام رسوله .. وذلك :

١ ـ «الشيخ والشيخة» كلمتان ثقيلتان ، قلقتان ، لا ينتظم باجتماعهما نظم قرآنى .. وقد جاء فى القرآن لفظ «الشيخ» فوقع موقعه من النظم .. كما فى قوله تعالى : (وَهذا بَعْلِي شَيْخاً) وقوله سبحانه : (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ولم يجىء لفظ الشيخة ، لا فى القرآن ، ولا فى كلام عربىّ بليغ.

٢ ـ كلمة «البتّة» كلمة غريبة ، لم يستعملها العرب ، وإنما هى كلمة مولدة استعملها الفلاسفة والمناطقة ، وأصلها من البتّ ، وهو القطع .. وليس فى

٣٦٩

اللغة العربية الصحيحة كلمة تلزمها همزة القطع فى «ال» التي للتعريف .. «والبتة» لا تنطق ابتداء أو وصلا إلا بهمزة القطع محققة ، على ما استعمله عليها أصحابها.

٣ ـ كلمة «البتة» هذه ـ فوق أنها غريبة ـ هى أيضا زائدة لا حاجة إليها فى تقرير الحكم أو توكيده .. وقد جاء قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ..) وكان من الطبيعي أن يجىء الحكم المتمم لهذه الآية هكذا : «والشيخ والشيخة فارجموهما .. نكالا من الله ..»

وإذن فهذه التي تسمى آية ، أبعد ما تكون عن نظم القرآن ، كما أنها أبعد ما تكون عن بلاغة الرسول ، وبيانه المعجز ..

وثانيا : إلى جانب هذا الذي يقال عنه إنه آية .. يروى هذا الحديث عن النبىّصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا عنى .. خذوا عنّى .. قد جعل الله لهن سبيلا .. البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم».

وهذا الحديث ـ إن صح ـ وقد صححه رجال الحديث ، يكون أشبه بالناسخ لآية (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ولآية : «الشيخ والشيخة» .. صارفا النظر عنهما إلى الأخذ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ لا معنى للقول : «خذوا عنى خذوا عنى» إلا صرف النظر عن كلّ ما جاء فى القرآن عن هذا الأمر ، والأخذ بهذا الذي يقال .. وحاش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينطق بهذا ، وأن يتحدّى كلام الله الذي نزل عليه وبلّغه ، فقد أخذ عنه المسلمون من قبل قوله تعالى : (شالزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ)!

٣٧٠

وثالثا : سورة النور كلها محكمة ، وقد نوّه الله سبحانه وتعالى بها بقوله : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ..) فهى نور من نور ، وكل ما فيها بيّن جلّى ، وكلّ ما فيها مفروض لا نقض فيه ..

وإذن فتغريب المجلود ، والمجلودة ، عاما ، هو حكم زائد على ما نصّ عليه الحكم الصريح البين فى الآية .. وهذا يناقض ما جاء فى مطلع السورة من أنها سورة فرضها الله وأنزل فيها آيات بينات ، واختصاصها بهذه الأوصاف ـ مع أن كل القرآن على هذه الصفة ـ مزيد عناية بها ، وتأكيد بأنه لا يدخلها نسخ ، إن كان هناك نسخ.

وقد ذهب كثير من الأئمة والفقهاء إلى القول بأن لا تغريب مع الجلد .. ويروى عن الإمام علىّ كرم الله وجهه أنه كان يقول : «كفى بالتغريب فتنة». وإذا كان للتغريب حكمة فى أنه يبعد المجلود أو المجلودة عن محيطهما الذي ارتكبا فيه الفاحشة ، ويباعد بينهما وبين الأعين التي ترميمهما بالازدراء ، والألسنة التي تقذفهما بالسوء ـ إذا كان للتغريب هذا ، فإن فيه ما ينسى الناس العبرة والعظة التي يجدونها كلما طالعوا وجه المجلودين ، كما أن المجلودين ـ إذا بعدا عن موقع الجريمة ، وعن شهودها ، خف عنهم أثرها ، وزال وشيكا وقعها .. ثم إن الغربة ـ كما يقول الإمام علىّ ـ فتنة قائمة بذاتها ..!!

ورابعا : الأحاديث التي تروى عن عمر بن الخطاب فيها اضطراب ، وتناقض .. فما ينسب إلى عمر أنه قال : «إن ناسا يقولون : «ما الرجم فى كتاب الله وإنما فيه الجلد ..» هذا غير معقول أن يقول به عمر ، وأحداث الرجم التي وقعت بأمر رسول الله لا تزال حديث الناس .. والمسلمون يعلمون أن الرسول مبيّن لكتاب الله ، وأن قوله وعمله ـ فيما يتعلق بالشريعة ـ شرع .. فمحال إذن

٣٧١

أن يقول إنسان هذا القول ، ومحال كذلك أن يكون لعمر تعليق على قول لم يقل ..!

ثم من جهة أخرى ، يرى فى الحديث أن عمر يقول : «لو لا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد فى كتاب الله لأثبتّها كما نزلت ..» وهذا كلام لا يلتقى أوله مع آخره .. فعمر رجل قوىّ ، لا يأبه أبدا لقول قائل أو كلام متكلم ، فى أي أمر متعلق بأحكام الله .. ثم كيف يخشى عمر قول الناس وكلامهم ، ولا يخشى أن يزيد فى كلام الله .. ثم كيف يخشى عمر قول الناس وكلامهم ، ولا يخشى أن يزيد فى كلام الله ، ويثبت ما لم يأمر الرسول بإثباته؟ وكيف تظل هذه الآية غير مقروءة زمن النبىّ ، وزمن أبى بكر ، وزمن عمر ، ثم يبدو لعمر أن يثبتها ، لو لا أنه يخشى قول القائلين؟

وأكثر من هذا ، فإن الحديث الثالث الذي رويناه آنفا عن عمر ، يدل دلالة قاطعة على أن الرجم كان سنّة عملية ، ولو لم يكن عن آية قرآنية نسخت تلاوتها .. يقول عمر : «لا نجد من الرجم بدا» ـ وصدق فإن الرجم للزانية والزاني المحصنين ، مما فعله الرسول ، وأمر به .. ثم يقول : «فإنه من حدود الله ..» وصدق ـ رضى الله عنه ـ فإن الرجم كالجلد ، كلاهما من حدود الله .. ثم يقول : «ألا وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجم رجمنا بعده» وهذا إجماع لا خلاف فيه .. ثم يقول : «ولو لا أن يقول قائلون : إن عمر زاد فى كتاب الله ما ليس فيه ـ لكتبت فى ناحية من المصحف» وهذا يعنى أن الذي كان يهتم به عمر ولا يفعله مخافة الفتنة ـ هو أن يكتب فى جانب من المصحف ، بعيدا عن الآيات القرآنية ـ هذا الذي همّ أن يكتبه ..

وماذا همّ عمر بكتابته ولم يكتبه للاعتبارات التي رآها؟

هذا هو نص ما أراد عمر أن يكتبه ، وأمسك عن كتابته :

«وشهد عمر بن الخطاب وابن عوف وفلان وفلان أن رسول الله صلى الله

٣٧٢

عليه وسلم رجم ، ورجمنا معه ..»

هذا ما همّ عمر بكتابته ولم يكتبه ، هو شهادة تلحق بالمصحف ، فى ناحية منه .. ومضمون هذه الشهادة ، هو : «أن رسول الله رجم ، ورجم المسلمون بعده» ويشهد على هذا عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف ، وآخرون.

وهذا يعنى أنه لو كانت هناك آية «الرجم» هذه التي يقولون عنها : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» ـ لو كان لهذه الآية وجود ـ ظاهر أو خفى ـ لكانت شهادة عمر عليها أولى من شهادته على الرجم ، ولأثبتها فى ناحية من المصحف ، وشهد هو ومن معه على أنها قرآن ، نسخت تلاوته وبقي حكمه ..

وهذا قليل من كثير مما يمكن أن يقال فى هذه الأحاديث ، وفى آية الرجم هذه ، وأنه كلما نظر الإنسان فيها وجد خللا واضطرابا برىء منهما القرآن الكريم ، وتنزه عنهما كلام الله ..

فمثلا : الشيخ والشيخة إذا كانا غير محصنين فهل يرجمان؟ والشاب والشابة إذا كانا محصنين فهل لا يرجمان؟ هذا ما يتسع له منطوق آية : «الشيخ والشيخة» ومفهومها!

وفى حديث يروى عن علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه ، أنه قد ثبت لديه حكم الزنا على امرأة محصنة اسمها «سراحة» فجلدها يوم الخميس ، ثم رجمها يوم الجمعة ، وقال جلدتها بكتاب الله ، ورجمتها بسنة رسول الله .. وهذا دليل على أن الأصل هو «الجلد» ، وهو عام يشمل المحصن وغير المحصن حيث جاء الحكم مطلقا فى قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) وأما الرجم فهو استثناء ، من الأصل ، وهو مما جاءت به السنّة ، فى حق

٣٧٣

المحصنين فى الحكم العام ، وأن يجرى عليهما حكم الآية المحكمة ، ثم يأخذهما بالاستثناء الذي جاءت به السنة .. وهو الرجم .. والله أعلم.

* * *

قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

اختلف المفسّرون فى معنى النكاح هنا ، فذهب بعضهم إلى أو المراد به التزوج ، على اعتبار أن هذا هو المعنى الغالب على هذه الكلمة .. وذهب آخرون إلى أن معنى النكاح هنا ، الوطء ، والتقاء الرجل بالمرأة ..

وعلى المعنى الأول ، يكون معنى الآية : أن الزاني لا يجوز له أن يتزوج إلا من زانية أو مشركة ، وأن الزانية ، لا يجوز لها أن تتزوج إلا من زان أو مشرك .. وهذا يعنى بدوره أن الزاني والزانية ليسا مسلمين ، وأن لهما أحكاما تخالف أحكام المسلمين ، إذا لا يجوز لهما أن يتزوجا من المسلمين ، وأن لهما أن يتزوجا من المشركين .. وهذا مما لا يحلّ لمسلم أو مسلمة ..

والثابت شرعا وعملا ، أن الزانية والزاني ، لم يخرجا من الإسلام بجريمتهما ، وأن إقامة الحدّ عليهما تطهير لهما من الرجس الذي وقعا فيه .. ولهذا كانت كلمة من جاءوا إلى النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ معترفين بذنبهم ، هى قولهم : «طهرنى يا رسول الله»! ..

ولهذا ، فإن المعنى الذي تستقيم عليه الآية هو أن يكون «النكاح» بمعنى «الوطء» ، والتقاء الرجل بالمرأة .. ويكون معنى الآية حينئذ : أن الزاني لا يطأ إلا زانية ، أي لا يتهيأ له الحصول على من يشاركه هذا الإثم إلا امرأة فاسدة فاسقة مثله. فهو فاسد فاسق ، لا يستجيب له إلا فاسدة فاسقة ، أو «مشركة» لا تؤمن بالله ، ولا تخشى حسابا أو جزاء ، فهى لهذا مستخفّة

٣٧٤

بكل معنى من معانى الخلق والفضيلة ، إذ لا ترجو بعثا ، ولا تطمع فى ثواب ولا تخشى من عقاب ..

وكذلك الشأن فى الزانية .. إنها لا تدعو إليها إلا فاسدا فاسقا ، يستجيب لها ، ويواقع المنكر معها ، أو مشركا .. لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ..

وفى هذا تغليظ لهذا الجرم. واستخفاف بأهله .. وأنهم أهل سوء ، يجتمع بعضهم إلى بعض .. فليس فيهما صالح وفاسد .. وإنما هما كائنان فاسدان ، ينجذب بعضهما إلى بعض ، كما ينجذب الذباب إلى القذر والعفن.

وفى قوله تعالى : (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى أن هذا الفحش ، أو هذا المنكر ، قد حرّم على المؤمنين ، لا يأتونه أبدا .. كما حرم عليهم شرب الخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير ، وما أهلّ لغير الله به .. ومع هذا فإن بعض المؤمنين يأتى هذه المحرّمات ، ولا تنزع عنه صفة الإيمان إلا فى حال تلبّسه بالمنكر ..

وهذا ما يشير إليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقتل القاتل حين يقتل وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ولا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يختلس خلسة وهو مؤمن .. يخلع منه الإيمان كما يخلع سرباله ، فإذا رجع رجع إليه الإيمان». أي أنه فى الحال التي يتلبس فيها يفعل هذا المنكر أو ذاك لا يكون الإيمان فى صحبته ، إذ لو كان الإيمان معه ، لكان له منه وازع يزعه عن مخالفة الله ، والاعتداء على حدوده .. ففى تلك الحال يجلى الإيمان من قلبه ، وينزع الثوب الذي يلبسه منه .. فإذا صدر عن هذا المنكر ، وتاب إلى الله ، ورجع إليه ، عاد إليه الإيمان ، وكان فى المؤمنين ، العاصين ..

* * *

٣٧٥

____________________________________

الآيات : (٤ ـ ١٠)

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ(٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

بعد أن بينت الآيتان السابقتان حكم الزانية والزاني ، وما يجرى عليهما من عقاب ، وما يكون لهما من مكان فى المجتمع الإسلامى ـ جاءت الآيات بعد هذا تبيّن شناعة هذه الجريمة ، والخطر العظيم الذي ينجم عنها ، حتى ليكاد يصيب كل من يقترب منها ، فضلا عن أن يكون طرفا من أطرافها ..

٣٧٦

وهذه الجريمة لا تتم إلا بشهادة شهود أربعة ، كما بيّنا ، أو بالاعتراف أربع مرات ، أو بالحمل فى غير فراش الزوجية.

أما الاعتراف بالزنا والإقرار به ، فأمره موكول إلى من فعله ، وأقرّ به ، ليتطهر بالعقوبة ، من الرجس الذي لبسه ..

وأما الحمل فى غير فراش الزوجية ، فهو منكر يمشى بين الناس ، وفيه ـ مع المجاهرة بالفاحشة ـ اعتراف ضمنى ..

وأما الشهود الذين يشهدون على واقعة الزنا ، فهو موضوع هذه الآية ، حيث تدعو الشهود إلى التثبت ، والتحقق مما يشهدون عليه ، وإلّا يعجلوا بالشهادة قبل التثبت والتحقق ، وألا يتلقوا ما يشهدون به من أفواه الشائعات والأقاويل .. ذلك أن هذه الشهادة إذا تمت ، كان من شأنها أن تهدر دم إنسان بالرجم ، إن كان محصنا ، أو تحطّم إنسانيته وتذهب بكرامته بالجلد ، إن كان غير محصن .. إن آثارها فى كلا الحالين ، قضاء على إنسانية إنسانين ، وفضحهما وفضح من يتصل بهما من أهل وولد .. ومن هنا أقام الإسلام تلك الحراسة الشديدة على الشهادة ، وعلى الشهود معا .. كما فصلنا ذلك من قبل!

فمن رمى محصنة أو محصنا ، وقذفهما بهذه التهمة علنا ، كان عليه أن يأتى بأربعة شهداء ، هو واحد منهم ، أو أربعة ليس هو فيهم .. يشهدون على ما رأوا بأعينهم من التقاء المرأة والرجل ، التقاء محققا ، كما يلتقى الزوج بزوجه فى فراش الزوجية ..

وقد ذكرت المحصنات ، ولم يذكر المحصنون .. لأن المرأة تبعتها فى هذه الجريمة ـ إذا ثبتت ـ أفدح من الرجل .. وكذلك ذكر المحصنات ، ولم يذكر غير المحصنات ، لهذا السبب عينه ..

٣٧٧

فالجميع داخلون فى هذا الحكم ، نساء ورجالا ، محصنات ، وغير محصنات ، ومحصنين وغير محصنين ..

وإنما ذكر الإحصان ، للدلالة به على التعفف والتصوّن ، وأن الذي يرمى بتلك التهمة إنما يرمى عفيفا متصونا ، أو من شأنه أن يكون هكذا ، أو من شأن المسلمين أن يظنوا به هذا الظن ، قبل أن يتهموه ..

فإذا لم يأت القاذف للمحصنة أو المحصن بأربعة شهداء ، أو إذا أتى بهما ولم تتحقق التهمة من شهادتهم ، لخلل فيها .. وقعوا جميعا ـ أي القاذف والشهود ـ تحت طائلة العقاب ، واستحقوا شيئا من العقوبة التي كان يستحقها المتهم لو أن التهمة ثبتت عليه ، وذلك بأن يجلد كل منهم ثمانين جلدة .. وليس هذا فحسب بل إنهم يخرجون من دائرة المسلمين العدول ، فلا تقبل لهم شهادة أبدا .. وليس هذا وكفى ، بل إنهم لينادى عليهم بأنهم فاسقون .. فتلك هى صفتهم ـ بل هذه هى صفتهم الخاسرة التي خرجوا بها من هذا الأمر الذي دخلوا فيه من غير تثبت ، واستيقان ..

وفى هذا كلّه دعوة للمؤمنين ألا يذيعوا الفاحشة فى المؤمنين ، وألا يتعجلوا الفضيحة للمسلمين ، وأن يستروا عليهم ما كان للستر موضع .. وليس معنى هذا ألا ينكر الناس المنكر ، وألا يسوقوا أهله إلى موقع العقاب ، وإنما هو الحذر والحيطة ، وعدم الطّير فرحا ، إذا اطلع المسلم على سوء من مسلم ..! وأنه إذا أراد الكشف عن هذا السوء فليكن فى حذر ، وفى مهل ، وفى رفق ، بل وفى أسى على هذا الذي غرق فى الإثم ، ووقع بين أنياب الفتنة ..!

ـ وفى قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) استثناء من الحكم الذي قضى به الله تعالى على أولئك الذين يرمون المحصنات ، ولم تكن بين أيديهم الحجة القاطعة ، وقد تضمن هذا الحكم ثلاثة

٣٧٨

أمور : جلدهم ثمانون جلدة .. وعدم قبول شهادة لهم أبدا .. ثم وسمهم بهذه السمة ، وهى الفسق ..

وقد اختلف فيما يقع عليه الاستثناء فى قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أهو الجلد؟ أم عدم قبول الشهادة؟ أم وصفهم بالفسق.؟

ولا خلاف يعتدّ به فى وقوع الجلد .. لأن التوبة ، إنما تجىء بعد وقوع العقوبة ، لأن التوبة لا تدفع الحدّ عمن لزمه الحدّ ووجب عليه ، إذا أعلن توبته .. وإنما هى طهرة له ، مما بقي عليه من آثار فعلته ، مما لم يذهب به الحدّ ..

أما الخلاف فهو فى : هل التوبة ترفع عن الذين أقيم عليهم حدّ القذف ، هذا الحظر الذي أقيم عليهم بعدم قبول شهادتهم؟ وهل تزيل عنهم وصفهم بالفسق؟ ..

أكثر المفسرين على أن التوبة هنا إنّما تدخل بالاستثناء على الوصف بالفسق وحده. بمعنى أن المجلودين فى هذا الحد ، إذا تابوا ، وأعلنوا توبتهم على الملأ وأصلحوا ما فسد منهم ، رفعت عنهم صفة الفسق .. أما الحظر الذي أقيم عليهم بعدم قبول شهادتهم فهو قائم ، لا ترفعه التوبة ، لأنه جاء حكما مؤبدا ، كما يقول سبحانه : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) ...

وذهب بعض المفسرين إلى أن التوبة تدخل بالاستثناء على الأمرين معا : عدم قبول الشهادة ، والوصف بالفسق ، وأن التأبيد هو تأبيد قائم ما لم تلحقه توبة .. وقالوا : إن المجلود فى الزنا ، وهو أصل الجريمة ، لم ينصّ على ردّ شهادته ، فكيف ترد شهادة من جلد فى الشهادة على الزنا ، وتقبل شهادة من زنى ..؟

٣٧٩

والحقّ أن هذا قياس مع الفارق ـ كما يقولون ـ فالزّانى الذي جلد فى الزنا إنما ارتكب جريمة ، قامت عليه بالبيّنة ، أو بالإقرار ، أو بالحبل .. وفيها أن من أقرّ على نفسه ، وطلب التطهير ، هو شخص لم يقبل ضميره هذا المنكر ، وأنه طلب بنفسه إنزال العقوبة به ، ومثل هذا لا يمكن أن يشهد زورا ، ومن ثمّ فهو عدل لا تردّ شهادته .. ومن جهة أخرى ، فإن المجلودة أو المجلود فى الزّنا ، قد غلبتهما شهوة ، وتسلط عليهما هوى ، وأنهما بهذا قد جنيا على أنفسهما ، أما شاهد الزور هنا ، فهو إنما دخل إلى هذا الأمر لما غلب على طبيعته من فساد ، وليس عن حال طارئة ، أو شهوة غالبة ، ثم إنه بهذا الزور يجنى على نفسه كما يجنى على غيره .. وكذلك الشأن فى كل شهادة ، هى فى أصلها مؤثرة فيمن شهد عليه .. فردّ شاهد الزور الذي ثبت عليه هذا ، ثم أقيم عليه الحدّ فيه ، هو حماية للناس من أن يجنى عليهم بشهادة الزور ، وقد جرّب عليه هذا ، وأنه إذا كانت شهادته قد ردّت هنا ، ولم يؤخذ بها ، فإنه إذا كان له أن يشهد بعد هذا وأن تقبل شهادته ، فقد يشهد بالزور ، وقد يقضى بما شهد به .. وفى هذا بلاء وشر ، يقع على الناس منه ..

وعلى هذا ، فإننا نرى أن المجلود فى القذف لا تقبل شهادته أبدا .. وإن قبلت شهادة المجلود فى الزنا .. وبهذا يكون الاستثناء فى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) واقعا على صفة الفسق ، التي تسعها رحمة الله ، وتشملها مغفرته .. لأن أمرها يتعلق بحق من حقوق الله .. أما شهادة الزور ففيها حق الناس ، الذين تحمل عليهم هذه الشهادة.

ويؤيد هذا ما جاء فى الرسالة المشهورة المعروفة برسالة القضاء ، والمنسوبة إلى عمر بن الخطاب رضى الله عنه .. وفيها : «المسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا مجلودا فى حدّ ، أو مجربا عليه شهادة زور ، أو كان ظنينا فى نسب

٣٨٠