التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٩

١
٢

____________________________________

الآيات : (٢١ ـ ٢٩)

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٢٩)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً).

هو بيان لمقولة من مقولات المشركين ، فى مواجهة الدّعوة التي يدعوهم إليها رسول الله ، وما يحمل إليهم من كلمات ربّه وآياته .. من هدى ونور .. فقد قالوا فى آيات الله وكلماته: (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) .. وقالوا فيها أيضا : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً). وقالوا فى رسول الله : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ

٣

وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها).

وهم هنا يقولون أكثر مما قالوا .. يقولون : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) .. فهم لا يجدون فيما اقترحوه من قبل مقنعا لهم ، للتصديق بالرسول ، وبرسالته .. بل يطلبون أن يكون المبعوث إليهم من الله ، ملكا من ملائكته .. (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) ثم يمدّون فى حبل الأمانىّ ، فلا يجدون فى إنزال الملائكة إليهم ما يقيم حجة بأنهم من عند ربّهم .. إنهم يريدون أن يروا الله عيانا. (أَوْ نَرى رَبَّنا)! فيال لضلال القوم ، وبال لعتوّهم وغرورهم!!

وقد ردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) فكشف عن الغرور الذي استبدّ بهم ، وملك عليهم أمرهم .. إنهم سادة فى الناس ، ورؤساء فى القوم ، وزعماء فى العشيرة .. وإنه إذا كان للسماء حديث معهم ، فليكن بلسان جنود الله فيها ، وهم الملائكة .. فهذا أقلّ ما يقبلونه من السماء إذا أرادت السماء أن تتحدث إليهم .. وإنهم ليعدّون هذا تنازلا منهم ، وإلّا فإنهم فى المستوي الذي ينبغى أن يلقاهم فيه الله لقاء مباشرا .. هكذا بلغ بهم السّفه والجهل والغرور!.

ـ وفى قوله تعالى : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) إشارة إلى أن هذا الكبر الذي أراهم فى أنفسهم هذا الرأى ـ هو داء سكن فى كيانهم ، فأشاع فيهم مشاعر كاذبة ، من ضلالات وأوهام ، ورمت بها أنفسهم ، كما يتورم الجسد بالمرض الخبيث! وهذا هو بعض السرّ فى ذكر النفوس ، وإسناد الاستكبار إليها ، دون إطلاقه ليكون كبرا لهم ، فقال تعالى : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) .. وهذا الذي جاء عليه النظم القرآنى ، يبين أن استكبارهم استكبار يعيشون به فى نفوسهم ،

٤

وأنه لا أثر له فى الخارج ، إذ لا يرى الرائي منهم ، إلا سفها وجهلا ، تخفّ به موازينهم فى الحياة ، وينزل به قدرهم فى أعين الناس ..

وقوله تعالى : (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) ـ إشارة إلى مخلّفات هذا الاستكبار الكاذب ، وأنه أغرى القوم بأن يلبسوا ثوب الجبابرة العتاة المتكبرين ..

فإذا نظرنا إلى القوم فى هذا الوصف الكاشف ، الذي وصفهم الله به ، ثم نظرنا فى قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) ـ رأينا أن قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) إنما هو منطلق من قلوب لا تؤمن بالبعث ، ولا بالحساب والجزاء ، ومن هنا أطلقوا العنان لسفههم وتطاولهم على الله ، حتى تمثّلوه واحدا منهم!

قوله تعالى :

(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً).

إن هؤلاء السفهاء طلبوا مطلبين ، لكى يصدّقوا بما ينزل عليهم من السماء .. إما أن تأتيهم الملائكة ، أو يأتيهم الله!

وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على المطلب الأول ، وهو نزول الملائكة ، وأضرب عن المطلب الثاني ، إذ لا سبيل إليه ، وهو رؤية الله!

وإنه إذا كان من الممكن أن تنزل عليهم الملائكة ، فإنها لا تنزل عليهم إلا بالهلاك والدمار .. فذلك ما كانت ننزل به الملائكة على الأقوام الظالمين قبلهم ، كما يقول سبحانه: (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٨ : الحجر) والحقّ هنا ، هو ما حقّ على الضالين من عذاب الله ، بعد أن كفروا بالله ، وكذّبوا برسله ..

٥

فلو أن الله سبحانه استجاب لهؤلاء المشركين ، ورأوا الملائكة ، لكان ذلك إيذانا ببلاء واقع بهم ، فلا يرى لهم بعد هذا من باقية.

وقوله تعالى : (لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) .. أي أن هذا اليوم الذي يرى فيه هؤلاء المجرمون الملائكة ، هو يوم عسر ، لا يطلع عليهم إلا بما يسوءهم ، سواء أكان ذلك فى الدنيا ، أو فى الآخرة .. فلا شىء من البشريات المسعدة لهم فى هذا اليوم الذي يرون فيه الملائكة ..

وقوله تعالى : (وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً).

الحجر : المنع ، ومنه سمى العقل حجرا ، لأنه يحجر صاحبه عن العثار ، والزلل ..

والضمير فى (يَقُولُونَ) يعود إلى الملائكة .. و (حِجْراً مَحْجُوراً) هو مقول قولهم للمجرمين .. أي أنهم يقولون للمجرمين : (حِجْراً مَحْجُوراً) أي ادخلوا هذا الحجر الضيّق ، الذي لا تستطيعون الهرب منه ..

ويجوز أن يكون الضمير فى : (يَقُولُونَ) عائدا على المجرمين أنفسهم ، ويكون ذلك من مقولاتهم ، حين يرون الملائكة ، وما بين أيديهم من نذر الهلاك ، والعذاب ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) .. فقولهم : (حِجْراً مَحْجُوراً) بمعنى قولهم : ثبورا ثبورا ، أي هلاكا مهلكا ..

قوله تعالى :

(وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً).

القدوم على الشيء : الورود عليه ، والوصول إليه من مكان بعيد عنه ..

وقدوم الله سبحانه وتعالى إلى أعمال هؤلاء المجرمين ، لا يعنى أنها كانت

٦

بعيدة عن الله ، إذ كل شىء حاضر بين يدى الله سبحانه ، وإنما بعدها عن الله ، هو بعدها عن موضع الرضا والقبول منه سبحانه وتعالى .. فهو بعد معنوى ، استعير للبعد الحسىّ .. وذلك مثل قوله تعالى : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٧٧ : آل عمران) .. فالمراد بالنظر ، هو نظر الرضا والرحمة ..

وفى التعبير بقدوم الله سبحانه وتعالى إلى أعمال الكافرين ، دون التعبير بقدومها هى إلى الله سبحانه وتعالى ـ إشارة إلى سوء هذه الأعمال ، وكراهية الله سبحانه وتعالى لها ، وأنها لا ترد عليه ، ولا تنزل بحماه ، وإنما تظل بمعزل عن هذا الحمى حتى يجئ اليوم الموعود ، ويعرض أصحابها على الحساب ، فيجاء لهم بأعمالهم تلك من مكانها المنعزل البعيد .. وإذا هى هباء منثور.

والهباء : الغبار الدقيق الذي لا يرى إلّا على أشعة الشمس.

والمنثور : المنتشر المتطاير ..

وهذا يعنى ، أن هذه الأعمال إذ تعرض على أصحابها ، لا يرونها إلا هباء لا يمسكون منه بشئ ، ولا يحصلون منه على ما ينفع ، فى هذا الموقف الحرج.

والمراد بالعمل هنا ، هو العمل الذي يحسب فى الأعمال الصالحة للمؤمنين ، على حين أنه لا يعتدّ به إذا كان من عمل غير المؤمنين بالله .. لأن كل عمل لا يزكّيه الإيمان ، هو عمل مردود على صاحبه ، لأنه لم يرد به وجه الله ، فهو ـ كما قلنا فى غير موضع ـ أشبه بالميتة من الحيوان ، قد خبث لحمه ، لأنه لم يزكّ بالذبح ، ولو زكّى بالذبح لكان طيّبا ، حلالا ..

قوله تعالى :

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً).

٧

هو عرض لأهل الإيمان ، الذين تقبل الله سبحانه منهم أحسن ما عملوا ، وتجاوز عن سيئاتهم ، وأدخلهم منازل رضوانه ..

وهذا العرض لأصحاب الجنة ، وما يلقون عند الله من رضوان ـ هو مما يضاعف فى حسرة الكافرين ، ويزيد فى قسوة البلاء المحيط بهم .. فإن أهل البؤس ، يزداد بؤسهم ، حين يرون النعيم الذي يعيش فيه غيرهم ، ولو أنهم كانوا يعيشون وحدهم ، فى عزلة مع بؤسهم ، لخفّف ذلك كثيرا من عناء ما يعانون من قسوة الحرمان ..

وفى التعبير عن المؤمنين النازلين بالجنة ، بأنهم أصحاب الجنة ـ إشارة إلى التمكين لهم من كلّ ما فيها من نعيم ، وأنهم أصحابها المالكون لها ، يتصرّفون فيها تصرّف المالك فيما ملك ، من غير مراجعة أو حساب ، كما يقول سبحانه وتعالى لهم : (تِلْكُمُ الْجَنَّةُ ، أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣ الأعراف).

والمستقرّ : مكان الاستقرار ، والأمن ، والطمأنينة ، حيث لا يجد الإنسان داعية للتحول عنه ..

والمقيل : مكان القيلولة وقت الظهيرة ، حيث الظلّ الذي يفرّ إليه الإنسان من الحرور فى ذلك الوقت.

فأصحاب الجنة فى أمن واستقرار ، وفى ظلّ ظليل من حرّ الشمس ، ولفح الهجير .. وتلك أمنية يتمنّاها الذين يعانون حياة الصحراء ، ويكتوون بنار شمسها المحرقة ، كما يقول سبحانه وتعالى : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً) (١٤ : الإنسان) .. أما الذين يعانون حياة البرد ولفحات الزّمهرير ، فإنهم سيجدون أمنيتهم فى جوّ معتدل ، لا تحرقهم شمسه ، ولا يلفحهم برده ، كما يقول سبحانه : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (١٣ : الإنسان).

٨

وكلّ ما جاء فى القرآن الكريم من أوصاف الجنة ونعيمها ، هو مما كان يتمنّاه المؤمنون فى الدنيا ، وتقصر عنه أيديهم .. فإذا منّ الله عليهم بالجنّة ، كان من تمام هذه النعمة ، أن يجدوا كل ما فاتهم فى الدنيا حاضرا بين أيديهم ، إلى جانب ما أعدّ الله لهم من نعيم ، لم يكن يخطر على قلب بشر .. وإذا كلّ نعيم هذه الدنيا الذي كانوا يتشهوّنه ، لا يوازى مثقال ذرة من هذا النعيم الذي لم يروه من قبل ، ولم يتخيّلوه!

وكذلك الشأن فى عذاب الآخرة ، فإن ما يساق منه إلى أهل النار ، هو مما كان يراه أهلها واقعا بالمؤمنين فى الدنيا ، ومما كان يأخذ به الظالمون أولياء الله ـ هو شىء لا يذكر ، إلى جانب ما يلقون هم اليوم من عذاب فوق هذا العذاب .. فالسياط من النار ، والمقامع من الحديد ، والسلاسل والأغلال ، وغيرها مما تحدّث به القرآن من ألوان النكال لأهل النار ، هو مما كانوا يعذّبون به أهل الإيمان .. كما فعل المشركون بالسابقين الأولين من المؤمنين ، كبلال وآل ياسر وغيرهم.

قوله تعالى :

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً).

تشقّق السماء بالغمام : أي يأخذ الغمام فيها طرقا ، فيتشقق بهذه الطرق أديمها ، وبتغير وجهها ، وتتلوّن صفحتها ..

والمراد بالغمام هنا ، هو ما يشبه السّحاب ، الذي ينزل الملائكة على هيئته يوم القيامة ، فلا يراهم الناس يومئذ إلا فى هذه الظلل من الغمام.

٩

كما يقول الله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) (٢١٠ : البقرة).

ففى يوم القيامة ، يتشقق أديم السماء ، حين يتنزل الملائكة فى صورة محسوسة ، يراهم الناس فيها كما يرون قطع السحاب ..

وفى هذا اليوم ، يجىء الناس إلى موقف الحساب ، مجردين من كل شىء .. عراة حفاة ، كما ولدتهم أمهاتهم .. فإن ما كانوا يملكونه فى الدنيا هو ملك زائل .. أما الملك الحق ، فهو للرحمن ، سبحانه وتعالى .. كما يقول سبحانه يوم القيامة : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ ..) فلا يكون إلا جواب واحد ، هو : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (١٦ : غافر).

وفى إضافة الملك إلى «الرحمن» ـ دون ما لله سبحانه من صفات أخرى ـ فى هذا إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من رحمة بعباده ، فى ذلك اليوم ، الذي تلتمس فيه الرحمة ، وبلاذ فيه بجناب الرحمن الرحيم .. فحساب الناس ، فى هذا اليوم ، هو إلى ربّ رحمن ، رحيم ، وأن ما ينال العصاة والمذنبين ، والمنحرفين من عذاب ، هو ممسوس برحمة الله ، لا يراد منه ، إلا تطهير هذه النفوس الخبيثة ، وإلّا شفاء هذه القلوب المريضة .. وليست النقمة ولا التشفي مما يتصل بهذا العذاب الذي يلقاه العصاة .. فإنه لا ينتقم ولا يتشفّى إلا من كان عاجزا فقدر ، وإلّا من كان عدوّا ، فقهر ، ثم انتصر .. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا .. فالناس خلقه ، وصنعة يده .. هو الذي أوجدهم ، وربّاهم ، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة .. ولا يتفق الانتقام والتشفّى ، مع الإنعام والإحسان. وإن صحّ ولزم الإصلاح ، والتقويم!

وفى قوله تعالى : (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) ـ إشارة إلى

١٠

ما يلقى العصاة والمجرمون ، فى هذا اليوم ـ يوم القيامة ـ من شدائد وأهوال ، وما يطلع عليهم منه ، من بلاء ، وعذاب .. مع الرحمة المحفوفة به.

من الرحمن الرحيم .. فكيف بهذا العذاب لو جاءهم خالصا من غير رحمة الرحمن؟

قوله تعالى :

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً).

هو معطوف على قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) .. وكلا الظّرفين متعلّق بقوله تعالى : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) .. أي أنه يتجلّى للناس عيانا فى هذا اليوم ، يوم تشقق السماء بالغمام ، ويوم يعضّ الظالم على يديه ـ يتجلى لهم أن الملك الحق ، هو لله ، وأن ما كانوا يملكونه فى الدنيا ، لا شىء فى أيديهم منه اليوم ، وأنه باطل الأباطيل وقبض الريح ..

وعضّ الظالم على يديه ، كناية عن الحسرة والندم ، على ما فاته من خير ، ولا يمكنه الآن دركه ..

وقوله تعالى : (يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) جملة حالية ، تكشف عن سبب الحسرة ، التي تملأ قلب الظالم فى هذا اليوم ، وهو أنه قد كان على طريق مخالف لطريق النبىّ ، وأنه دعى إلى الإيمان فأبى؟؟؟؟ ، ولم يتخذ مع الرسول سبيلا ، بل اتخذ سبيله مع الضالين ، والظالمين من أمثاله ، الذين أغووه ، وأغواهم ، فكانوا حزبا على النبىّ والمؤمنين .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى ، على لسان هذا الظالم : (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً).

وفلان : كناية عن إنسان ، يعرفه المتحدّث عنه ، ولا يريد ذكر اسمه

١١

كراهية له .. وهو هنا كناية عن كل ضالّ أضلّ صاحبه ، كما يقول الله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧ : الزخرف).! فالأخلّاء فى الدنيا ، إذا كانت المخالّة بينهم قائمة على الخير ، وعلى الإيمان والتقوى ، كانت فى الآخرة روحا وأنسا .. أما إذا كانت قد جمعت بينهم على طريق الضلال والغواية ، فإنها تكون يوم القيامة حسرة وندامة ، وعداوة بادية ، وتراميا باللّعن والسّباب .. وفى هذا يقول الله تعالى فى الكافرين : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٥ : العنكبوت).

روى أن بعض الصالحين ، افتتن بامرأة ، حتى كاد يجنّ بها ، ولم يستطع مغالبة هواه ، وجعل يتوسل إليها بوسائل كثيرة ، وهى تأبى عليه ، حتى إذا استجابت له بعد لأى ، وأمكنته من نفسها ، أعرض عنها ، وفرّ من وجهها ، فسألته : لم هذا الإعراض والفرار ، بعد الطلب الملحّ والملاحقة المتصلة؟ فقال : لقد ذكرت قول الله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) .. وأنا أريد أن أحرص على هذا الحبّ الذي لك فى قلبى ، وأحتفظ بذلك الإعزاز الذي لك فى نفسى ، وألّا ينقلب هذا الحب وذلك الإعزاز إلى عداوة وخصام ، ولعان .. يوم القيامة!!

وقوله تعالى : (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) ـ هو مقولات الظالم يوم القيامة ، حيث ينحى باللائمة على كل من كان سببا فى إضلاله وغوايته. (وَالذِّكْرِ) هو ذكر الله ، والاتجاه إليه ، والإيمان به .. وقد جاء ذلك الذكر على لسان الرسول الكريم فى آيات الله المنزلة عليه .. فالقرآن الكريم ، هو ذكر فى ذاته ، وهو منبع الذكر ، ومصدره ، كما يقول الله تعالى : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١ : ص).

١٢

وقوله تعالى : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) ـ يجوز أن يكون من كلام الظالم ، تعقيبا على الصفات التي وصف بها صاحبه. وأنه شيطان ، يغوى ، ويضل ، كما يغوى الشيطان ويضلّ .. ففى الناس من هو أقدر من الشيطان فتنة ، وغواية ، لمن بصحبه ، ويستجيب له .. ومن هذا كان على الإنسان ، أن يتخير الأخيار من الناس ، ليصل بهم نفسه ، ويشدّ بهم ظهره ، على طريق الاستقامة والهدى .. فالإنسان على دين من يصاحب ، وعلى هوى من يخالط ويعاشر ..

يروى عن السيدة عائشة رضى الله عنها ، أنها كانت تحدّث فنقول : «إن امرأت كانت تدخل على نساء قريش ، تضحكهم .. فلما هاجرت إلى المدينة ، قدمت علىّ ، فقلت لها : أين نزلت؟ قالت على فلانة (وكانت تضحك الناس بالمدينة) فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : فلانة المضحكة عندكم؟ قلت نعم! قال : على من نزلت؟ قلت على فلانة المضحكة ، فقال : الحمد لله .. إن الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف!» ..

____________________________________

الآيات : (٣٠ ـ ٣٤)

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣٤)

____________________________________

١٣

التفسير :

قوله تعالى :

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) ..

هو أسلوب من أساليب القرآن ، فى تنويع العرض ، وفى إثارة المشاعر ، وتحريك العواطف ، فى مجال الدعوة إلى الله ، وذلك بعرض الناس على مشاهد القيامة ، وما يلقون هناك من حساب وجزاء ، ثم العودة بهم إلى حياتهم الدنيا ، حيث تواجههم الآيات بماهم متلبسون به من كفر وعناد ، فيكون لذلك وقعه فى كثير من القلوب القاسية ، والعقول المظلمة .. حيث تلين القلوب ، وتنقشع الضلالات عن العقول ..

وهنا فى هذه الآية ، تقرع آذان المشركين كلمات الله ، صارخة بشكوى الرسول الكريم من إعراض قومه عنه ، وسخريتهم به ، واستهزائهم بكلمات الله .. ذلك ، وما زالت مشاهد القيامة ، التي كانوا بين يديها منذ قليل ـ ما زالت تلبس كيانهم ، وما زال العرق المتصبب من هولها يرشح على وجوههم! ..

وانظر فى قوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) وإلى هذه الكلمات الشاكية الضارعة ، وإلى ما تحمل من مشاعر الألم والضيق اللذين يجدهما الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ من هذا الموقف الذي يقفه قومه ، من مركب النجاة ، التي يدعوهم إليها الرسول ، وهم غرقى ، يتخبطون فى أمواج الضلال ، والهلاك ..!

إنك لتستشعر لتلك الكلمات حرارة هذا الدعاء الذي يدعو به الرسول ربّه ، إلى هداية قومه ، وإلى إنقاذهم مما هم فيه .. إنها رحمات يستمطرها الرسول

١٤

ـ صلوات الله ورحمته وبركاته عليه ـ من السماء ، لتلين هذه القلوب القاسية ، ولتبصر هذه العيون العمى!.

وإنك لتجد فى كلمة (قَوْمِي) من الحنو الممزوج بالحسرة والألم ، ما تجده فى قول نوح :

(رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي!) .. إن هذا من ذاك ، سواء بسواء!

وفى قوله تعالى : (هذَا الْقُرْآنَ) .. إشارة إلى أن هذا الخير الذي يتجنبه القوم ، بل ويرمونه بالفحش من القول ، والهجر من الكلام ، وهو اليد البرّة الرحيمة ، الودود .. فما أبعد ما بين القوم ، وبين هذا القرآن! إنه يحسن ويسيئون ، ويتودد إليهم ويحزنون؟؟؟؟ ، ويروّض ويجمحون ، ويسمع ولا يسمعون!

وفى قوله تعالى : (مَهْجُوراً) .. بيان جامع لموقف المشركين من القرآن. وهو أنهم اتخذوه ، كما يتخذون الأماكن المهجورة ، يلقون فيها بالنفايات ، والقاذورات .. فإن ما يخرج من ألسنتهم فى شأن هذا القرآن ، هو من ساقط القول ، وسخف الكلام ، وهجر الحديث!

قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) ..

هذا عزاء كريم ، من ربّ كريم ، للنبىّ الكريم ، عن مصابه فى قومه ، الذين تفيض نفسه الرحيمة عطفا عليهم ، ورحمة بهم .. فهذا حكم الله فى الضالين المعاندين منهم .. وتلك هى سنة الله فى الذين خلوا من قبل .. وأنه مما قضى الله به فى الناس ، أن يكون منهم المؤمنون ، والكافرون ، وأولياء الأنبياء وأعداؤهم ..

١٥

فلكلّ نبى أعداء من المجرمين ، يقفون من دعوته موقف الخلاف ، والعداء. وفى هذا ابتلاء للنبىّ ، وللمؤمنين ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، كما يقول سبحانه: (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً .. أَتَصْبِرُونَ؟ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) (٢٠ : الفرقان).

وكما تحمل الآية الكريمة عزاء للنبىّ ، تحمل كذلك التهديد والوعيد للمجرمين ، الذين يقفون منه ، ومن دعوته ، هذا الموقف العنادىّ اللئيم .. وكفى أن يكون الوصف الذي لهم ، هو أنهم مجرمون ، قد حملوا أبشع جريمة تعرفها الحياة فى عالم البشر .. وهى قتل أنفسهم بأيديهم ..!

وقوله تعالى : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً) يهدى من يشاء من عباده .. (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً .. أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ .. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٤١ : المائدة).

وفى قوله تعالى : (وَنَصِيراً) تثبيت للنبىّ وللمؤمنين ، ودعوة لهم إلى الصبر على أذى (الْمُجْرِمِينَ) .. فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى نصر النبىّ ومن معه ، وكفى بالله نصيرا .. (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) (١٦٠ : آل عمران) ..

قوله تعالى :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً .. كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) ..

وهذه مقولة أخرى من مقولات المشركين فى القرآن ، ومن مما حكاتهم

١٦

الغثّة الباردة حوله .. لقد أخزاهم قولهم فيه : (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) .. وقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ـ لقد أخزاهم هذا القول ، ولم يجدوا له بينهم أذنا تسمع ، أو إنسانا يصدّق .. فجاءوا إلى ما حول القرآن ، لا إلى القرآن نفسه ، إذ لم يجدوا للزّور فيه مقالا ، وبدا لهم أن الصورة التي ينزل عليها القرآن ، يمكن أن ينظروا إليها على أنها دليل على العجز ، والقصور ، وعلى معاودة النظر ، ومعاناة البحث ، حتى يقع النبىّ على الكلمات المناسبة ، والظرف المناسب ، ثم يطلع على الناس بها. هذا ، وإلّا لما ذا جاء هذا القرآن منجّما هكذا ، تتنزّل آياته قطرات قطرات ، ولا تنزل جملة واحدة؟ إنه لو كان هذا القرآن من عند الله لأنزله الله جملة واحدة ، إذ أن قدرة الله لا يكون منها هذا العجز البادي فى نزول القرآن قطعا متناثرة! .. هكذا فكروا وهكذا قدّروا .. وإنه لبئس التفكير ولبئس التقدير!

وفى قولهم (نُزِّلَ) بدل أنزل ، الذي يناسب قولهم : (جُمْلَةً واحِدَةً). لأن (نُزِّلَ) يفيد تقطيع الفعل ، ووقوع النزول حالا بعد حال ـ فى قولهم هذا تعريض بالتهمة التي يتّهم بها القرآن عندهم ، وهو أنه نزّل لا أنزل ، فهم يحكون الصورة التي نزل عليها القرآن ، ثم ينكرونها بقولهم : (جُمْلَةً واحِدَةً) ..

وقد ردّ سبحانه وتعالى عليهم هذا الإنكار ، مبيّنا الحكمة من نزول القرآن منجّما ، على هذا الأسلوب ، بقوله سبحانه :

(كَذلِكَ .. لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً).

فقوله تعالى : (كَذلِكَ) ـ إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن ..

١٧

أي أنزلناه على هذا الأسلوب المنجم : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) .. وذلك التثبيت ، هو بهذا الاتصال الدائم بالسماء ، وبتلقّى ما ينزل منها ، حالا بعد حال ، على مدى ثلاث وعشرين سنة ، تنتظم مسيرة الدعوة ، من مبدأ الرسالة إلى خاتمتها .. فعلى كلّ خطوة في هذه المسيرة ، وعند كل موقف من مواقفها ، كان الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يتلقى أمداد السماء ، ويفتح قلبه وسمعه ، لنداء الحق جل وعلا ، فيما يحمل إليه الملك من كلمات ربّه ، فيجد الرّوح لروحه ، والأنس لنفسه ، والعزاء الجميل لكل ما يلقى من ضرّ وأذى .. (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) .. ولو نزل القرآن جملة واحدة ، لما وجد الرسول هذا الذي كان يجده منه ، من أنس دائم ، ومدد ممتد ، من تلك الثمرات الطيبة ، التي ينال غذاءه الروحي منها ، كلّما أحسّ جوعا ، وهفت روحه إلى زاد من مائدة السماء!!

إنه لو نزل القرآن جملة واحدة ، لكان على النبيّ ، أن يحمل هذا الزاد الكثير معه على كاهله ، ثم كان عليه ـ كلما أحسّ جوعا ـ أن يتخير من هذا الزاد طعامه .. ثم كان عليه أن يعدّ هذا الطعام ، وأن يهيئه .. ثم كان عليه أيضا أن يحدد القدر المناسب لحاجته. وهذه كلّها عمليات تستنفد جهدا كبيرا من النبيّ ، وتذهب بكثير من طاقانه الروحية في البحث والإعداد. وهذا على خلاف نزول القرآن منجّما ، حسب الحاجة ، وعند الظروف الداعية .. حيث يجد النبيّ في تلك الحال وجوده كلّه مع آيات الله المنزلة عليه ، فتشتمل عليه ، وتنسكب في مشاعره ووجدانه ، وتملأ عقله ، وتلبس روحه .. وشتان بين طعام محفوظ في علب ، وبين هذا الطعام المجننى من مغارسه لساعته!

قوله تعالى : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن ، وأنه جاء أرتالا متواكبة ، ومواكب يتبع بعضها بعضا ، حيث تستطيع العين

١٨

أن تشهد كل ما في هذه المواكب ، وأن تتبيّن شخوصها ، وملامحها ، وما تحمل معها من متاع ، وذلك على خلاف ما لو جاءت هذه الحشود في موكب واحد ، يزحم بعضه بعضا ، ويختلط بعضه ببعض ، فإن أخذت العين جانبا ، فاتها كثير من الجوانب ، وإن أمسكت بطرف ، أفلت منها كثير من الأطراف.

والترتيل : ـ كما يقول الراغب في مفرداته «هو اتساق الشيء وانتظامه على استقامة واحدة .. يقال رجل رتل الأسنان (أي منتظمها) والترتيل : إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة».

ومن هنا كان «ترتيل القرآن» .. وهو قراءته ، قراءة مستأنية ، فى أنغام متساوقة ، يأخذ بعضها بحجز بعض ، فيتألف منها نغم علويّ ، هو أشبه بتسابيح الملائكة ، يجده المرتّل لآيات الله في أذنه ، وفي قلبه ، وفي كل خالجة منه ..

قوله تعالى :

(وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ـ هو بيان لحكمة أخرى من حكم نزول القرآن منجما ، وهو أن هذا النزول على تلك الصورة ، يرصد الأحداث الواقعة على طريق الدعوة الإسلامية من مبدئها إلى ختامها .. ثم يطلع على كل حدث ، بما هو مناسب له .. فيحقّ حقّا ، ويبطل باطلا ، ويزيل شبهة ، ويحيى سنة ، ويميت بدعة .. وهكذا ..

ونكتفى هنا بأن نضرب لهذا مثلا واحدا ..

فقد كان من مقولات المشركين. فى إنكارهم للبعث ، قولهم : كيف تبعث هذه العظام النّخرة ، وتلبسها الحياة مرة أخرى؟. وذلك ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)

١٩

فجاء قوله تعالى : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ .. بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (٧٩ ـ ٨١ : يس).

فكان ذلك ردّا على هذا المثل الذي ضربوه ، وإبطالا له ، وإطفاء لنار الفتنة المنطلقة منه ، قبل أن يعظم لهيبها ، ويشتدّ ضرامها.

قوله تعالى :

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ..

(الَّذِينَ) بدل من الضمير في قوله تعالى في الآية السابقة : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) .. «فهؤلاء الذين يضربون الأمثال للنبيّ الكريم ، يجادلونه بها ، ويشوّشون على دعوته ، ويثيرون الشكوك والريب عند صغار الأحلام ومرضى القلوب ـ هؤلاء الذين يجيئون تلك الأمثال ، هم الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ، وهم شر الناس مكانا في هذه الحياة الدنيا ، وأضلهم سبيلا ، إذ عزلوا عن طريق الحق ، وركبوا طرق الغواية والضلال .. وحشرهم على وجوههم ، هو تنكيل بهم ، وامتهان لهم ، حيث يعاملون معاملة الحيوانات الميتة ،؟؟؟ من أرجلها ، ويلقى بها في مكان بعيد .. وفي هذا يقول الله تعالى في هؤلاء الظالمين : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (٤٨ : القمر)

____________________________________

الآيات : (٣٥ ـ ٤٤)

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦)

٢٠