التّفسير القرآني للقرآن - ج ٢

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٢

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٥

١

____________________________________

الآية : (٢٥٣)

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (٢٥٣)

____________________________________

التفسير : لله سبحانه وتعالى أن يصطفى من يشاء من عباده .. والرسل عليهم الصلاة والسلام هم ممن اصطفاهم الله ، لحمل رسالته إلى عباده ، فجعلهم سفراءه إلى الناس بالرحمة والهدى .. وهؤلاء الرسل ـ على علوّ مقامهم وشرف منزلتهم ـ هم درجات عند الله في الفضل .. بعضهم أفضل من بعض ، فكما اصطفى سبحانه وتعالى هؤلاء الرسل من بين خلقه ، اصطفى منهم صفوة جعلها في الدرجة العليا من هؤلاء المصطفين الأخيار .. والإشارة إلى الرسل بالمؤنث ، إنما هى إشارة إلى جملتهم ، أو جماعتهم ، باعتبارهم كيانا واحدا ، يحملون شعلة الهدى ، ويتجهون بها إلى غاية واحدة ، هى هداية الناس واستنقاذهم من الضلال.

وقد نوّه سبحانه بالنبيين الكريمين : موسى ، وعيسى ، بهذا الفضل الذي فضل به عليهما ، إذ شرّف الله موسى بأن أسمعه كلامه سبحانه ، من غير واسطة ، وأكرم عيسى بأن جعل على لسانه الحكمة ، وفى قلبه روح القدس ، حيث كان نفخة من روح الله ، فكان في قلبه شعاعة من نور الحق لا تخبو أبدا ، ولا يستملى لسانه منها غير الحق أبدا!.

واختصاص هذين النبيّين الكريمين بهذا الذكر هنا دون سائر الأنبياء والمرسلين ؛ لا يحصر الفضل فيهما وحدهما ، ولا يعطيهما المنزلة العليا فى الأنبياء جميعا ،

٢

وإنما كان ذلك الذكر لاستحضار أتباعهما من اليهود والنصارى ، وتذكيرهم بما حمل إليهم موسى وعيسى من الهدى والرحمة ، وما كان من أتباعهما من خلاف وشقاق ، ذهب بهم فى الفرقة والعداوة كل مذهب.

وهذا الخلاف بين أتباع موسى وعيسى ـ فيما بين كل فريق منهم ، ثم فيما بين الفريقين ، ثم فيما بينهم وبين المسلمين ـ هذا الخلاف هو مما تقتضية طبيعة الحياة ، وهو بعض مما أشار إليه سبحانه وتعالى فى قوله في الآية السابقة : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) .. فهناك حقّ وباطل ، وهناك محقّون ومبطلون ، وإنه لا بد أن يصطدم هؤلاء وهؤلاء ، ويقتتل هؤلاء وهؤلاء ، ولو لا ذلك لتسلط الشر على الخير ، وغلب الباطل على الحق ، وكان في ذلك فساد كل شىء ، وضياع كل شىء.

وفى قوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) إشارة إلى أن هذا الخلاف الذي وقع بين أتباع الأنبياء ، وأوقع القتال بينهم ، إنما هو بتقدير الله وحكمته ، ليكون فى ذلك ابتلاء واختبار ، وليميز الله به الخبيث من الطيب .. فالضمير في (مِنْ بَعْدِهِمْ) يرجع إلى أتباع الأنبياء الذين اختلفوا بعد أنبيائهم ، الذين هم جميعا على دين واحد ، هو دين الله ، وهو الإسلام.

قوله تعالى : (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) أي وقع الاختلاف بين أتباع الرسل ، فكان منهم المؤمنون وكان منهم الكافرون ، وكان من ذلك أن اقتتل المؤمنون والكافرون .. (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) أي ولو شاء الله ما اقتتلوا مع وجود هذا الخلاف بينهم .. (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) أي فوقع القتال بينهم لما أراد الله من حكمة يعلمها ، ولما قضى به من خير وراء هذا الذي يحسبه الناس شرا. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

٣

____________________________________

الآية : (٢٥٤)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٥٤)

____________________________________

التفسير : الناس فريقان : مؤمن وكافر .. والمؤمنون هم الذين يتقبلون دعوة الحق ، ويستجيبون لها .. والنداء هنا موجه للمؤمنين ، إذ يحمل إليهم أمر الله بأن ينفقوا فى سبيل الله مما رزقهم الله .. فمن هذا الذي ينفقونه فى هذه الدنيا يكون رصيدهم من الخير الذي يجدونه يوم القيامة ، يوم لا يلقى الإنسان شيئا إلا ما أعده من قبل لهذا اليوم .. حيث انقطع الإنسان من كل شىء ، وانقطع عنه كل شىء ، فلا بيع ولا شراء ، ولا ربح ولا خسارة .. فقد انفضّت السوق من قبل ، فربح من ربح وخسر من خسر .. وليس هناك من صديق أو معين يمد يده إلى غيره بشىء مما عنده ، فلكل امرئ يومئذ شأن يغنيه ، وليس لأحد شفاعة من أحد أو فى أحد ، فقد صار الأمر كله إلى يد غير يد الأصدقاء والشفعاء .. إنه فى يد الله رب العالمين.

وقوله تعالى : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تنديد بالكافرين ، وإثارة لمشاعر الحسرة والندامة فيهم ، إذ ظلموا أنفسهم ، ولم يعملوا لها حسابا لهذا اليوم العظيم .. وحصر الظلم فيهم إشارة إلى أن كل ظلم هو تبع لظلمهم ، وفرع من أصل.

____________________________________

الآية : (٢٥٥)

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (٢٥٥)

____________________________________

٤

تستعرض هذه الآية الكريمة أمجاد الله وعظمته وقدرته ، ليكون من هذا العرض الكاشف مجلّى لأبصار المستبصرين ، ونور لبصائر الراشدين ، حتى يتعرفوا على الله ، ويؤمنوا به ، ويخبتوا له ، ليرشدوا ويسعدوا.

فالله هو الذي لا إله إلا هو .. وكل ما يعرف الضالون من أرباب وآلهة غيره ، ضلال فى ضلال.

والله ـ سبحانه ـ هو الحىّ حياة أبدية سرمدية. لم يسبقه عدم ، ولا يلحقه فناء.

والله ـ سبحانه ـ هو القيوم ، المالك لكل شىء ، والقائم على كل شىء ، والمهيمن على كل شىء.

والله ـ سبحانه ـ منزه عن العوارض التي تعرض للمخلوقات ، فلا يعرض له تعب أو كلال ، ولا يلحقه سهو أو نسيان ، ولا تأخذه سنة ولا نوم .. مما يأخذ الناس من جهد العمل.

والله ـ سبحانه ـ له ملك السموات والأرض وما فيهن ، يدبرها بحكمته ، ويسعها بعلمه.

والله ـ سبحانه ـ قد بسط سلطانه على السموات والأرض ، ووسع كرسيه السموات والأرض.

والله ـ سبحانه ـ هو العلى العظيم ، الذي لا يطاوله فى علوه أحد ، ولا يشاركه فى عظمته أحد .. هكذا يتجلّى الله سبحانه فى عظمته وجلاله ، وفى حكمته وعلمه ، وفى قدرته وحياطته ، وفى ملكه وسلطانه ـ هكذا يتجلّى لمن نظر فى هذا الوجود ، وهكذا يتجلّى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

وفى قوله سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) استحضار لنتيجة

٥

لازمة من هذا العرض المبسوط لسلطان الله وقدرته ، يشهد منه أولئك الذين يتخذون من الله أربابا يقولون عنهم إنهم شفعاؤنا عند الله ، ويقولون فيهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣ : الزمر) ـ يشهد منه هؤلاء ألّا سلطان لأحد مع سلطان الله ، ولا شفاعة لأحد فى أحد عند الله ، إلا لمن يأذن له الله ، ويرضى له الشفاعة ، فضلا منه وكرما وإحسانا!

وفى قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إشارة إلى امتداد سلطانه ، وسعته ، ونفوذه إلى كل شىء فى هذا الوجود ، وامتلاكه ناصية كل شىء فيه!.

فالكرسى عادة يحتوى السلطان الجالس عليه ، وهو فى حقيقته ليس إلّا شيئا صغيرا ، لا يشغل إلا حيّزا محدودا مما يقع تحت يد السلطان من ملك.

ولكن كرسىّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الوجود كلّه ، بل إن الوجود كله ـ فى أرضه وسمائه ، وما تحوى أرضه وسماؤه ـ هو مما يحويه هذا الكرسىّ ، ويشتمل عليه ..

فانظر إلى هذا الكرسي ، الذي يضم فى كيانه الوجود كلّه ، ثم انظر إلى عظمة الله سبحانه وتعالى ، الذي لا يمثل كرسيّه إلا حيزا محدودا من سلطانه ، على نحو ما يمثل كرسىّ صاحب الملك من ملكه .. ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى ، وهو العزيز الحكيم.

____________________________________

الآية : (٢٥٦)

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٥٦)

____________________________________

٦

الدين فى صميمه جذوة من الحق ، تسكن ضمير المؤمن ، فتكون النور الهادي له ، والقوة الموجهة لأفعاله وتصرفاته.

ومن هنا كان الدّين عقيدة ينعقد عليها الضمير ، فلا يعرف أحد كنه ما انطوى عليه الضمير من الدين .. إنه سرّ بين الدّين وصاحبه .. لا سبيل لأحد إليه ، ولا سلطان لمخلوق عليه.

ومن هنا أيضا لم يكن دينا ذلك الدين ـ إن سمّى دينا ـ الذي يجىء إلى الإنسان أو يجىء إليه الإنسان قسرا من غير اقتناع أو رضى.

ولهذا كانت دعوات الرسل إلى دين الله محملة بالشواهد والآيات التي تشهد بصدقها ، وتحدّث بخبرها وما تحمل إلى الناس من هدى ونور. ، حتى يكون الإيمان عن نظر واقتناع.

وإذا كانت الرسالات السماوية التي سبقت الإسلام قد جاءت إلى الناس بالآيات القاهرة ، وبالمعجزات المذهلة ، التي تقهر العقل وتتعامل مع الحواس ، حيث كان العقل يومئذ غير أهل لأن يفكر ويقدر ـ فإن رسالة الإسلام ، وقد التقت بالإنسانية فى رشدها ، وبالعقل فى نضجه واكتماله ـ قد جاءت بآياتها ومعجزاتها فى مواجهة العقل ، تحاجّه بالمنطق ، وتجادله بالحكمة ، وتأخذه بالموعظة الحسنة ، حتى إذا اطمأن الإنسان ووجد برد السكينة فى صدره آمن عن يقين ، ودان لله عن رضى! وهذا هو الدين الذي يعيش مع الإنسان ، ما عاش معه عقله ، وسلم له تفكيره.

وقوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) تقرير لحقيقة من أهم الحقائق العاملة فى الحياة ، ومن أبرز السّمات التي قامت عليها دعوة الإسلام .. (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) .. فهو نفى مطلق لكل صور الإكراه ، المادية والمعنوية ، التي تختل النّاس عن الحق ، وتحملهم حملا على معتقد لم يعتقدوه ، ولم يجدوا من جهته مقنعا!. وليس هذا شأن الدين وحده ، بل هو الشأن أو ما ينبغى أن يكون الشأن

٧

فى حياة الإنسان كلها ، لا يتلبّس بأمر إلا بعد أن ينظر فيه ، ويطمئن إليه ، ويرضى عنه ، فيقدم أو يحجم عن هدى وبصيرة ، وهذا هو ملاك النجاح فى كل أمر ، ومنطلق الملكات الإنسانية كلّها فى وثاب وقوة ، إلى أنيل؟؟؟ الغايات وأعظمها.

إن تحرير ضمير الفرد من الضلال والعمى ، وفك عقله من الضّيق والإظلام ، لا يكون إلا بتحرير إرادة الإنسان وإطلاقها من كل قهر أو قسر .. وإنه لن تصحّ إنسانية الإنسان ، ولن يكتمل وجوده ، إلا بالضمير الحر ، والعقل المتحرر .. وإنه لا فرق بين الأحرار والعبيد وبين الإنسان وغير الإنسان إلا فى تلك المشاعر التي يجدها الإنسان فى كيانه من طاقات الحرية والتحرر ، فيمتلك بها أمر نفسه ، ويكتب بها خطّ مسيره ومصيره ، كيف شاء ، وعلى أي وجه أراد ..

وفى الواقع أن ركوب الخطأ عن رأى الإنسان وتقديره ، غير المدخول عليه بإكراه أو خداع ، أو تضليل ـ هو خير من الانقياد للصواب عن قهر وقسر ، وعن تمويه وتلبيس .. إذ الأول يسير ومعه عقله ، وتفكيره ، وليس ببعيد أن يلتقى يوما بالصواب الذي ضل عنه .. أما الآخر ، فإنه يسير بلا عقل ولا تفكير .. يسير بعقل غيره ، وبتفكير غيره ، وليس ببعيد أن يلتفت يوما فلا يجد من أعاره عقله وتفكيره ، فإذا هو كتلة جامدة ، أو تمثال من لحم ودم ، لا حياة فيه ، ولا معقول له! .. إن الأول مبصر يتخبط فى الظلام ، ولكنه إذا رأى النور ، أبصر ، واهتدى واستقام على سواء السبيل ..

أما الآخر .. فهو أعمى يقاد لكل يد تمتد إليه .. وكما انقاد ليد من ينصح له ويهديه ، فإنه لن يمتنع عن الانقياد لمن يمكر به ، ويضلّه .. وهل يملك الأعمى أن يأخذ طريقا غير طريق من يقوده ، ويمسك بيده؟

٨

وقوله تعالى : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) هو ليس قيدا واردا على إطلاق الحرية فى الدّين ، وإنما هو تقرير لبيان الحال من أمر الدعوة الإسلامية ، وهو أنه يجب ألا يطوف حول دعوتها طائف من القهر والقسر ، إذ قد استبانت معالمها ، ووضحت حدودها ، وإن الذي ينظر فى مقرراتها ، وفى شواهدها وآياتها ثم لا يجد الهدى ، ولا يقبل عليه ، فلا سبيل إلى هداه ، ولا جدوى من إيمانه! إنه فى حساب الناس .. لا شىء!.

قوله تعالى : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها).

«الطاغوت» شىء مخيف ، مفزع ، أشبه بالشيطان .. لا تقع عليه العين ، وإنما يصوره الوهم من هذا الاسم الذي يطلق عليه «الطاغوت» ، ويشكلّه من هذه الأحرف المتنافرة التي يتشكل منها اسمه : .. الطاء ، والغين ، والتاء ، يجمعها كيان واحد.

وإن الذي يحترم عقله ، ويكرم إنسانيته ليأبى أن ينقاد للوهم ، ويتعبّد لآلهة من مواليد الباطل والضلال ، إنه يجرى وراء سراب ، ويتعلق بما هو أوهى من خيوط العناكب!.

والموقف الصحيح الذي ينبغى أن يأخذه الإنسان العاقل الرشيد ، هو أن يعلو بعقله فوق هذه الأوهام ، ويرتفع بإنسانيته عن هذا الهوان ، وأن يجعل ولاءه وخضوعه لمن بيده ملكوت السموات والأرض ، رب كل شىء ، وخالق كل شىء .. وبهذا يمسك الإنسان بالسبب الأقوى ، ويعلق بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، وبهذا تكتب له النجاة والسلامة.

____________________________________

الآية : (٢٥٧)

(اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ

٩

كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢٥٧)

____________________________________

التفسير : منذ يدخل الإنسان ساحة الإيمان ويسلم وجهه لله وحده ، وهو فى ضمانة الله ، يتولاه برحمته وهدايته وتوفيقه ، ويخرجه من ظلمة الضلال إلى نور الحق ، وإذا هو على نور من ربّه (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠ : النور).

أما حين يعطى المرء وجوده للطاغوت ، ويسلم إليه زمامه ، فهو في ضمانة هذا الطاغوت .. أعنى فى ضمانة الباطل والضلال .. فانظر إلى أين يقاد من كان قائده الباطل وحاديه الضلال؟ إنه يخرجه من النور إلى الظلمات ، إذ يفسد عليه تلك الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فيطمس عليها فى كيانه ، فإذا هو أعمى يتخبط فى ظلام ، ، ويقاد بيد الضلال إلى كل مضلّة وكل مهلكة.

وانظر إلى كلمة «الطاغوت» مرة أخرى ، وقد جاءت مسندة إلى الفرد في الآية السابقة : (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ) ، ثم جاءت مسندة إلى الجمع فى هذه الآية : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) دون أن تتغير صورتها فى الحالتين ، بل ظلت هكذا : «الطاغوت» .. وهذا ما يؤيد ما ذهبنا إليه من أنه لا مشخّص لهذه الكلمة ، وإنما هى اسم جامع لكل باطل ، وكل ضلال ، وكل غواية ، وهو قادر على أن يحمل فى كيانه الضخم كل هذه المخازي والضلالات .. إنه «الطاغوت»!!. بناء ضخم شامخ من الوهم والضلال.

____________________________________

الآية : (٢٥٨)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ

١٠

فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨)

____________________________________

التفسير : هنا نجد المثل لمن آمن بالله فكان الله وليّه ، يخرجه من الظلمات إلى النور ، ومن كفر فكان الطاغوت وليّه ، يخرجه من النور إلى الظلمات!

ومثل الأول نجده على أكمل صورة وأتمها ، فى إبراهيم عليه‌السلام ، كما نجد مثل الثاني فى هذا الذي آتاه الله الملك ، وغمره بالنعم ، فاستقبلها بالجحود والكفران ، والإغراق فى البهت والضلال .. ولم يذكر القرآن اسم هذا الإنسان المتمرد على الله ، ولم يدل عليه ، لأنه ساقط من حساب الإنسانية ، إذ باع إنسانيته للشيطان ، وأسلمها للطاغوت .. ثم إنه لا ضرورة لذكره ، حتى لا يتعرف عليه أحد ، فتصيبه عدواه ولو من بعيد ، كما تصيب الرائحة الخبيثة بالأذى كلّ من يمر به حامل الجيف .. ثم لمن أراد أن يعرف وجه هذا الشر ، وحامل هذا المنكر فإن التاريخ يقول إنه «النمرود» ملك كنعان .. وكم فى الناس من نمرود؟

والذي تعرضه الآية الكريمة هنا ، وتحرص على كشفه وتجليته ، وهو هذا الصّدام الفكرى بين منطق الحق وسفاهة الباطل ، بين نور الإيمان وهداه ، وظلام الشرك وضلاله!

يقول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) فهذا الإنسان الذي فضل الله عليه وأوسع له فى فضله ، ومكّن له فى الأرض ، قد غرّه ما بيده من سلطان ، فكفر بأنعم الله ، ثم لجّ به الكفر فحادّ الله ورسوله ، وادعى لنفسه الألوهية ، وقال قولة فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)!

١١

فلما جاءه نبىّ الله ، إبراهيم ، يدعوه إلى الله ، أنكر هذه الدعوة ، وجحد أن يكون فى الأرض إله معه ، وجعل يلقى إلى إبراهيم بالحجج الدالة على ألوهيته ، وأهليته لتلك الألوهية ، بما فى يده من سلطان بتصرف به كيف يشاء .. وكثرت بينه وبين إبراهيم المحاجّة والمناظرة .. وتخير القرآن الكريم من هذه المواقف مشهدين ، يلخصان القضية كلها ، ويضبطان محتواها ومضمونها. (قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)!

هذا هو ربّ إبراهيم ، الذي يدين له ، ويدعو إليه .. هو الذي بيده الحياة والموت ، وهو الّذى أمات وأحيا .. فذلك أمر لا يشاركه فيه أحد ، ولا يدّعيه لنفسه مخلوق ، إلا أن يركب الحماقة والسّفه.

وقد ركب هذا الجهول الحماقة والسفه وانطلق بلا عنان .. (قالَ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ!!) هكذا يقولها بملء فيه! ولم يذكر من أين هو جاء ، ولا إلى أين هو يصير؟ (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً)؟ (٦٧ : مريم).

ولم ير إبراهيم ـ إزاء هذا السّفه الوقاح ـ أن يقف عند هذا الجواب ، وأن يكشف باطل هذا الأحمق الجهول .. فقد يذهب بالرجل الحمق والجهل فيقول لإبراهيم : ألا تصدق ما أقول؟ أتريد شاهدا؟ أنت نفسك أنا الذي أحييه ، لأنى لا أريد قتلك! وأنا أميتك لو أردت! فهل تريد مصداق ذلك؟ وقد يفعلها الرجل ولا معقّب عليه!!

وتحاشى إبراهيم أن يدخل مع النمرود فى هذا الجدل ، وأن يمد له فى حبال السفسطة ، بل جاء إليه إبراهيم بما يخرسه ويفحمه!

(قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ).

١٢

فهذا النظام الذي ينتظم حركة الشمس قبل أن يولد هذا الإنسان المغرور بآلاف السنين وملايينها ، ليس من صنع إنسان من الناس ، إنه من عمل قدرة غير قدرة الناس .. فإذا كان النمرود إلها يناظر إله إبراهيم ، فليجب على هذا التحدّى ، ولينقض على إله إبراهيم عملا من عمله ، وتدبيرا من تدبيره! (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ!!).

وأسقط فى يد الرجل ، وخرس لسانه وشلّ تفكيره ، وسقط من عليائه مبللا فى ثيابه ، بعرق الخزي والخذلان! (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

وهكذا يصاب الرجل فى مقاتله ، بطعنة نافذة من يد الحق : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

____________________________________

الآية : (٢٥٩)

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٥٩)

____________________________________

التفسير : لمّا ذكر الله فى الآية (٢٥٧) أنه ولىّ الذين آمنوا ، وأنه بهذه الولاية لهم يخرجهم من الظلمات إلى النور ، وأن الذين كفروا أولياؤهم

١٣

الطاغوت ، وأنهم بهذه الولاية للطواغيت يخرجونهم من النور إلى الظلمات ـ لما ذكر الله هذا الحكم ، لفت النبىّ الكريم إليه سبحانه ، ليريه له الأمثال والشواهد فى الناس ، ثم قدم له سبحانه شاهدين من التاريخ ، ليسكونا مثلين للمؤمنين والكافرين .. أولياء ، الله وأولياء الطاغوت .. والمثل البارز لأولياء الطاغوت هو ذلك الذي حاج إبراهيم فى ربه ، أما المثل الآخر لأولياء الله فهو ذلك الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها.

فهذا العطف فى قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي) هو عطف لهذا المثل على المثل السابق .. والتقدير : أتريد يا محمد شاهدا لهذا الحكم الذي حكمت به ، وهو أنى ولىّ الذين آمنوا أخرجهم من الظلمات إلى النور ، وأن الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات؟ أتريد لهذا شاهدا؟ إليك شاهدين أو مثلين ..

أما المثل الأول فتجده فى هذا الذي حاجّ إبراهيم فى ربه ، وقد كان وليّا للطاغوت ، فأخرجه من النور إلى الظلمات.

وأما المثل الثاني فتجده فى ذلك الذي مرّ على قرية وهى خاوية على عروشها .. فهو رجل مؤمن بالله ، وهو يريد أن يستوثق لإيمانه ، ويطلب له المزيد من الأدلة والشواهد ، وليس هذا بالذي يضير المؤمن أو يجور على إيمانه ، مادام حريصا على طلب الحق ، مجتهدا فى السعى إليه ، والبحث عنه ، فإنه بهذه النية المخلصة سيجد العون والتوفيق من الله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

وفى قوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها؟) ما يكشف عن مشاعر هذا المؤمن بالله ، حين مرّ بقرية قد اندثرت معالمها ، وخمدت الحياة فيها ، فتمثل له

١٤

منها ما كانت عليه فى سالف الزمن ، وما كانت تزخر به من عمران ، وما كان يموج فيه أهلها من ألوان الحياة ، ومذاهب العمل .. لقد صار كل ذلك ترابا فى تراب!

واهتاجت مشاعر الرجل ، وتمثل له من هذا الهمود الموحش صور من الماضي البعيد ، وإذا القرية وأهلها حاضرة فى خياله ، تنبض بالحياة ، وتفور بالنشاط ، كإحدى القرى الحية الماثلة لعينيه هنا أو هناك .. وفتح الرجل عينيه فطار حلم اليقظة الذي ارتسم فى خياله .. وتساءل : أهذا الحلم يمكن أن يصبح حقيقة؟ وهل تعود هذه الأجساد التي بلاها البلى وأكلها التراب؟ هل تعود مرة أخرى إلى الحياة؟ أذلك ممكن؟ ويهتف به هاتف الإيمان : أهذا امتحان لقدرة الله؟ أأنت فى شك من تلك القدرة القادرة على كل شىء؟ ويجيب على نفسه : معاذ الله أن أمتحن أو أشك .. ولكن!! وتموت الكلمات بعد ذلك فى صدره ، ويمضى فى طريقه في صمت ووجوم!!

وهنا تجىء نجدة السماء فى أطواء قوله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) .. وكانت تجربة حية وجدها الرجل فى نفسه ، وفى الأشياء التي بين يديه .. الرجل ، وحماره ، وطعامه ، وشرابه .. وذلك يمثل الإنسان ، والحيوان ، والطعام ، والماء .. إنها صورة مصغرة للقرية بكل مشخصاتها ، مما يدخل عليه الفساد والانحلال مع الزمن .. الرجل وأشياؤه التي يضمها إليه .. فى رحلة إلى غاية يقصدها ، ومنزلة يحط عندها رحاله .. والقرية وأشياؤها التي تضمها إليها .. في رحلة إلى غاية هى سائرة إليها ، ومنزلة هى منتهية عندها .. يوم يقوم الناس لربّ العالمين!

وما يكاد الرجل يعطى القرية ظهره ، حتى تتردد فى أذنيه من جنباتها أصداء تلك الكلمات التي همس بها إلى نفسه :

(أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها)؟ فلا يلبث أن يخرّ صعقا! .. (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ)

١٥

إنها رحلة طويلة فى عالم ما بعد الحياة ، استغرقت مئة عام قطعها الرجل وأشياؤه مع القرية فى مسيرتها .. وصحا الرجل بعدها ، فوجد من يسأله من قبل الله ، على لسان هاتف يهتف به : «كم لبثت» فى نومتك تلك؟ وما حسب أنه طوى هذا الزمن الطويل فى هذا النوم الثقيل ، فقال : (لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ!) ذلك ما وقع فى تقديره ، قبل أن يفتح عينيه على الحياة من حوله ، ويرى سير الزمن بها ، وأثره فيها .. فلما قيل له : (بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) فزع ، وكرب ، وجهد أن يستحضر وجوده كله ، ويقظته كلها ، ليعلم أهو فى يقظة أم منام .. وصحا الرجل صحوة مشرقة ، فرأى الأمر على ما أخبر به .. لقد تغيرت وجوه الأرض من حوله ، فأنكرها وأنكرته ، بل لقد أنكر نفسه بما طرأ عليه خلال نومه الطويل ، من تغيّر فى هيئته .. ووقع فى يقينه أنه نام نومة استغرقت مئة عام ، وهتف به هاتف الحق : أن انظر إلى طعامك وشرابك .. إنه على ما هو عليه لم يدخل عليه فساد ، بل ما زال طيبا هنيئا «لم يتسنّه» أي لم تغيّره السنون ـ وأصله لم يتسنّ ، والهاء للسكت!! (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) إنه ما زال قائما إلى جوارك على عهدك به!! ففيك وفى أشيائك التي بين يديك آية لك وللناس ، يرون فيها قدرة الله التي لا يعجزها شىء ، ويستيقنون منها إمكانية البعث الذي يرتاب فيه المرتابون.

وحين استبان للرجل كل شىء حوله ، وأشرق قلبه بنور الحق ، واستنارت بصيرته بهدى الله ، دعى إلى أن ينظر نظرا أعمق وأشمل ، إذ قيل له : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً) ونشز العظام هو بروزها من بين أخلاط الجنين .. وفى النظر تتكشف عملية الخلق ، وبعث الإنسان من عدم ، كما يقول الله تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (٦٧ : مريم). فالذى أوجد الحياة من موات ، قادر على أن يرد هذه الحياة إلى موات ، كما أنه قادر على أن يعيد الحياة إلى هذا

١٦

الموات .. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) (١٠٤ : الأنبياء).

وتنجلى هذه التجربة المثيرة عن إيمان عميق بقدرة الله ، يملأ كيان الرجل كله ، وتندفع به غيوم الشك من صدره ، ويزول دخان الريب من قلبه. (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهذا تصديق لما كان يعلمه من قبل ، وليس إنشاء لعلم جديد. ولكن شتان بين علم وعلم ، وإيمان وإيمان .. (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) (٧٦ : مريم).

وهنا أسئلة :

فأولا : هل هذه حادثة وقعت ، أم هى مثل مضروب للعبرة والعظمة؟.

والذي نقول به هو أن كل قصص القرآن وأمثاله ، وما ورد فى هذا القصص والأمثال من أشخاص وأحداث ، هو من الواقع الذي لا شك فيه ، وإذا كان لنا نحن البشر أن نلجأ إلى الخيال والوهم لننسج منهما قصصا ، وذلك حين يعجز الواقع عن أن يسعفنا بما نتصوره ونتمناه ، فإن قدرة الخالق جلّ وعلا لا يعجزها شىء .. تريد فيقع ما تريد ، كما أرادته ، دون قصور أو مهل ، إنها إرادة لا يخالطها وهم ، ولا يطوف بها خيال ، ولا تعللها الأمانىّ .. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فالذين يرون أن من قصص القرآن ومن أمثاله ما لا يقع ، إنما يتهمون قدرة الله ، وينسبون إليه ما ينسبون إلى البشر من عجز وقصور.

وثانيا : هل كان الذي حدث للرجل موتا حقيقيا ، أم كان سباتا ونوما طويلا ، كما حدث لأصحاب الكهف؟.

وكلا الأمرين يمكن أن يكون ، مادام ذلك متعلقا بقدرة الله .. وكذلك الشأن فى حماره الذي كان معه!.

على أننا ـ مع هذا ـ نميل إلى القول بأن ما حدث للرجل كان نوما ثقيلا

١٧

عميقا ، فى مكان منعزل عن الناس والحياة ، وليكن كهفا ، وذلك على نحو ما حدث لأصحاب الكهف ، ولكلبهم ، الذي صحبهم فى نومهم الطويل.

وفى قوله تعالى : (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) مشابه كثيرة من قوله سبحانه فى أصحاب الكهف : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً* ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً)

(١١ : ١٢ الكهف)

وثالثا : ماذا أفادت هذه التجربة فى واقع الحياة؟ ولم كانت مئة عام ولم تكن عاما ، أو بعض عام .. فإن امتداد الزمن وقصره سواء ، بعد أن يجاوز المدى الذي يمكن أن يحتمله الإنسان فى الحياة بلا طعام أو شراب؟.

والجواب عن الشق الأول من السؤال ، هو أن التجربة قد رفعت عن هذا الرجل المؤمن بالله غشاوة كانت تظلل إيمانه ، وتزعج طمأنينة قلبه ، وفى هذا رحمة من رحمة الله بعبد من عباده ، إذ استنقذه من الضلال ، وأدخله فى عباده الصالحين .. وليس هذا بالشيء القليل من معطيات هذه التجربة ، كما أن هذه التجربة ليست بالشيء الكثير على قدرة الله ـ إنها لا تعدو أن تكون استيلادا لمولود جديد من مواليد الحياة! فإذا نظرنا إليها من هذه الزاوية هانت وصغرت بالنسبة لبابها الذي جاءت منه ، وإذا نظرنا إليها من جهة دلالتها كانت شيئا رائعا عظيما مثيرا ، للدلالة على قدرة الله وحكمته ، وسعة رحمته!

والجواب عن الشق الآخر من السؤال هو أن امتداد رحلة النوم أو الموت إلى مئة عام ، إنما هو إخبار عن الحدث الذي وقع ، ولو كانت هذه الرحلة عاما أو بعض عام أو عشرة أعوام أو ألف عام ، لكان هذا السؤال واردا على أي زمن منها! وإذن فلا محلّ لهذا السؤال عن المائة عام! ولنؤمن بما أخبر الله به عنها ، وأنها مئة عام .. ولنترك حكمة هذا الزمن الطويل لله وحده ..

١٨

على أنه ـ مع هذا ـ يمكن أن يقال إن المائة عام هى الزمن المناسب لتلك التجربة ، إذ أن هذه المدة كافية لتغير وجه الحياة تغيرا واضحا ، وخاصة فى الوجه البشرى منها ، فمئة عام يمكن أن تأتى فى نهايتها على كل من كان حيّا من الناس فى أولها .. وبهذا يكون هذا الرجل الواقع تحت التجربة فى الأموات حكما ، بعد أن كان فيهم فعلا وقد أماته الله .. وبهذا أيضا يكون كل من كان على ظهر الأرض من الناس حين قال الرجل قولته : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) قد مات فى نهاية المائة عام ، فلما بعثه الله من بينهم وحده ، كان بعثه شاهدا على إمكان بعثهم جميعا ، وشاهدا على إمكان بعث من سبقهم ، ومن سيلحق بهم ..

____________________________________

الآية : (٢٦٠)

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٦٠)

____________________________________

التفسير : في هذه الآية صورة أخرى ، تمثل المؤمن الذي يطلب المزيد من الإيمان ، ليقتل فى نفسه كل وسواس ، وليخمد فى صدره كل همسة من همسات الشيطان! .. ثم هى مثل آخر لمن كان وليّا لله. : يخرجه من الظلمات إلى النور.

وهذا الموقف ـ كما قلنا ـ لا ينتقص من إيمان المؤمن ، إذ كانت غايته طلب المزيد من النور ، والجديد من العلم. فذلك طريق لا نهاية له ، ولا ضلالة فيه!

١٩

وقضية الموت والبعث هى القضية الأولى فى باب الإيمان ، وهى الثغرة التي تنفذ منها رميات الشيطان إلى قلوب المؤمنين!

وإبراهيم ـ عليه‌السلام ـ فى وثاقة إيمانه ، وقوة يقينه ـ لا عليه إذا هو وجد طريقا إلى مزيد من الإيمان ، حتى يمتلىء به قلبه ، فلا يبقى فيه مكان لم يغمره نور اليقين ، ولم تعمره الطمأنينة ـ لا عليه أن يطلب المزيد حتى يرتوى ريّا لا ظمأ بعده!

وقد وجد أن ألطاف الله تحف به ، ونفحاته ورحماته لا تنقطع عنه ، فهفت نفسه إلى أن يسأل الله هذا السؤال الذي يشهد به جلال الله وعظمته من قريب :

(رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى؟) وقد سأل موسى عليه‌السلام سؤالا أعظم من هذا ، فقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) (١٤٣ الأعراف). والسؤال «بكيف» لا يكون جوابه إلا بأن يشهد إبراهيم عملية الإحياء وكيف تتم هذه العملية ، والعناصر التي تعمل فيها .. وأمر كهذا هو فوق مستوى الإدراك البشرى ، إنه سرّ من أسرار الألوهية ، لا يستطيع أحد أن يحتمله ، أو يعرف السبيل إليه.

ومن أجل هذا كان الجواب آخذا اتجاها آخر غير متجه السؤال .. فيه عرض لقدرة الله ، دون كشف عن سرّ هذه القدرة .. وذلك بما رأى إبراهيم بين يديه من تجليات هذه القدرة وآثارها.

وفى قوله تعالى لإبراهيم : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟) إثارة لمشاعر إبراهيم ، واستحضار للإيمان الذي يعقد عليه قلبه .. ولهذا كان جواب إبراهيم : «بلى» أي أنا مؤمن كل الإيمان (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) وتلك درجة فوق درجة الإيمان .. إذ لا سلطان للإنسان على قلبه ، وليس من شأن القلب

٢٠