التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

المجتمع الإنسانى ، وإلى الروابط التي تربط الفرد بالجماعة ، فهو نظر جانبى يحىء تبعا للنظرة المتجهة اتجاها مباشرا إلى الإنسان وحده.

ومن هنا كان الحكم على الخير والشر ـ فى تقدير الفلسفة الحديثة ـ قائما على أساس فردى بحت ، بمعنى أن الفرد ـ والفرد وحده ـ هو الذي له أن يحكم على هذا الأمر بأنه خير أو شر ، ثم إنه ليس هذا بالذي يمنع من أن يجىء غيره فينقض عليه حكمه ، فيرى ما رآه غيره خيرا ، شرا ، وما رآه شرا ، هو عنده خير ..

وعلى هذا ، فهناك ـ عند الفلسفة الحديثة ـ خير وشر ، ولكن لا ذاتية للخير أو الشرّ ، بل هما أمران اعتباريّان ، فالخير ما رآه الإنسان خيرا. والشر ما رآه شرا .. وإنه لا خير ولا شرّ فى حقيقة الأمر!!

وفى هذا يقول الفيلسوف الأمريكى «وليم جيمس» : «إن الإنسان هو مصدر الخير والشرّ ، والفضيلة والرذيلة .. إن الخير خير بالنسبة له ، والشرّ شر بالقياس إليه .. إن الإنسان هو الخالق الوحيد للقيم فى ذلك العالم ، وليس للأشياء من قيمة خلقية إلا باعتباره هو»!!

ويمكن أن يكون هذا الرأى تلخيصا للفلسفة الحديثة ، وإن دخلت عليه بعض الألوان والأصباغ ، فإن اللون الغالب فيه هو هذا اللون الذي يجعل للإنسان وحده تقييم الأشياء ، وتصنيفها ، ووضع كل شىء منها فى موضعه من الخير والشر ، والحسن والقبح ..!

الخير والشرّ فى نظر الإسلام :

لا تحفل الشريعة الإسلامية بالنظر الفلسفي فى حقائق الأشياء ، ولا تعنى بالجدل اللفظي حول ماهيتها ، لأن غاية هذه الشريعة ليست تربية الملكات

٤١

العقلية ، ولا تخريج الفلاسفة والحكماء ، وإنما رسالتها تقوم أساسا على تقويم السلوك ، وتهذيب النفوس ، وإقامة مجتمعات إنسانية على مبادئ الخير والعدل والإحسان.

ومن هنا ، لا نجد فى الشريعة الإسلامية تلك التعريفات الجامعة المانعة ـ كما يقولون ـ للخير والشرّ ، والحقّ والباطل ، والحسن والقبيح ، وغير ذلك من الصور التي عنى الفلاسفة والأخلاقيون ، بتحليلها ، والتعرف على عناصرها ، وجمع الصفات المميزة لكل واحد منها ..

فإذا قال الفلاسفة والأخلاقيون : «إن الحق هو كذا ، والخير هو كذا ، والحسن كذا ـ لم نجد فى كتاب الله ولا سنّة رسوله قولا عن الحق .. ما هو؟ والخير ما هو؟ والحسن ما هو؟ وإنما نجد دعوات إلى الحق ، والخير ، والإحسان ، وإغراء بها ، وتحريضا عليها ، ورصدا للجزاء الحسن لمن استقام عليها .. كذلك نجد عكس هذا ، إزاء كل ما هو باطل ، وشر ، وخبيث!.

ولم يكن إغفال الشريعة الإسلامية لرسم حدود الفضائل ، وتقويم الأخلاق عن تهوين لشأنها ، أو استصغار لخطرها .. وكيف وغاية الشريعة ومقصدها أولا وأخيرا ، إنما هو تقويم الأخلاق ، وتربيتها ، وإقامتها على منهج سليم مستقيم! وكيف والنبىّ الكريم يجعل عنوان رسالته ، ويحصر مهمة نبوته فى هذا المجال وحده : فيقول صلوات الله وسلامه عليه : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»؟

فليس عن تهوين إذن من شأن الأخلاق ، ولا عن استصغار لخطرها ، هذا الاتجاه الذي اتجهت إليه الشريعة فى إغفالها البحث عن «ماهية» الأخلاق .. إذ كان مقصد الشريعة وهدفها ـ كما قلنا ـ هو الجانب العملي

٤٢

للأخلاق .. الجانب السلوكى ، الذي لا يغنى فى تعديله وتقويمه ، الجدل الفلسفي ، أو النظر المنطقي ، وإنما الذي يرجى منه النفع فى هذا المقام ، هو إثارة مشاعر السموّ النفسي فى الإنسان ، ووصله بالمجتمع الإنسانى بصلات الأخوة ، والحنان والرحمة .. فذلك هو الذي يقيم من الإنسان إنسانا صالحا فى بناء مجتمع صالح.

فالقرآن الكريم يحضّ على الأعمال الصالحة ويزكيها ، ويرفع منازل أهلها ، وبعدهم بجنات الله ورضوانه عليها ..

يذكر القرآن الكريم «التقوى» فى مواضع كثيرة ، مثل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) .. (٧٠ ـ ٧١ : الأحزاب)

فما هو العمل الصالح؟ وما هى التقوى؟ وما القول السديد؟ .. كل ذلك لم يشأ القرآن الكريم أن يعرض له بالكشف عن «ماهيته» ورسم حدوده ..

نعم ، هناك أمور واضحة صريحة فى باب الخير ، كما أن هناك أمورا واضحة صريحة فى باب الشر .. ولكنها على هذا الوضوح ، ومع تلك الصراحة ، لا تقع من النفوس موقعا واحدا .. فإذا اتفقت النفوس على أن العدل جميل .. فإنه فى نفس عمر بن الخطاب مثلا ، غيره فى نفس كثير من الناس .. هو خير لا شك فيه .. تدعو إليه الشريعة وتأمر به ، وتثيب عليه .. ولكنها لا تستطيع أن تضعه فى معادلة جبرية. أو تحلله تحليلا كيماويا .. إنه العدل ، وكفى! وإنه الخير وكفى! «الحلال بيّن ، والحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات» هكذا يقول الرسول الكريم .. وليست الشبهة فى الحلال فى ذاته ، أو الحرام فى داته ، وإنما تقع الشبهة فى الملابسات التي تلابس الحلال أو الحرام ، وفى الوضع الذي يكون عليه الإنسان إزاء ما هو حلال وحرام ..!

أتترك الأمور إذن بلا ضابط هكذا؟ ..

٤٣

كلا .. ومن قال هذا؟

إن ربّان السفينة إذا أدار محركها أو فرد قلوعها ، هو هالك لا محالة ، إذا هو لم يعرف الوجهة التي يتجه إليها ، وإذا لم يكن معه «بوصلة» أو ما يشبهها ، ليستعين بها على معرفة الشرق والغرب ، والشمال والجنوب ، وإذا لم يكن معه «بوصلة» أخرى أو ما يشبهها ، يقيس بها الأعماق ، أو يستدلّ بها على مهابّ الرياح!

والإنسان هو سفينة فى محيط هذه الحياة .. ربّانه العقل ، وقلوعه النفس ، ونزعاته وأهواؤه ، هى التي تملأ قلوعها وتدفعها ..!

لا بد إذن من «بوصلة» تضبط سيره ، وتحدد وجهته ..

وما غفلت قدرة الحكيم العليم عن هذا .. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا .. وكيف ، وهو الذي أعطى كلّ شىء خلقه .. ثم هدى»؟

لقد أودع الخالق العظيم فى الإنسان أدقّ «بوصلة» وأضبطها .. إنها «القلب» .. وحسبك بالقلب السليم «بوصلة» عاملة فى سفينة الحياة!

لقد اعتمد الإسلام على القلب فى تقويم الأخلاق ، وفى التعرف على الخير والشر ، والحسن والقبيح .. ووكل إليه الفصل فى خير الأمور وشرها ، وحسنها وقبيحها ..

إن القلب فى نظر الإسلام ، هو العين الباصرة ، التي تكشف للإنسان مسالكه ، وتحديد المستقيم والمعوجّ من طرقه ..

وفى القرآن الكريم آيات كثيرة تتجه إلى القلب وتتحدث إليه .. فيقول سبحانه وتعالى: (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) (٣٧ : ق) ويقول

٤٤

سبحانه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ .. أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢٨ : الرعد).

والرسول الكريم ، ينوّه بشأن القلب ، ويكشف عن آثاره فى الإنسان ، فيقول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ «ألا وإن فى الجسد مضغة ، إذا صالحات صلح الجسد كلّه ، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه .. ألا وهى القلب» ..

ويقول الرسول الكريم فى تعريف الخير والشر ، وفى التعريف عليهما : «البرّ ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك فى النفس ، وتردّد فى الصدر .. استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك» ..

الإسلام إذن ، يعترف بالخير والشرّ .. لأنهما أمران واقعان فى الحياة ، يعيشان فى الناس ، ويعيش فيهما الناس .. وقد جاءت الشريعة الإسلامية آمرة بالخير ، ناهية عن الشر .. وأشارت إلى أمور بذاتها عدّتها خيرا ، وأخرى اعتبرتها شرّا .. ثم جمعت الخير كله فى دائرة واحدة هى «المعروف» وطوت الشر كله تحت حكم واحد ، هو «المنكر» : يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر».

فالخير هو «المعروف» أو وجه بارز من وجوه المعروف ، والشر هو المنكر ، أو وجه كالح من وجوه «المنكر» ..

والسؤال هنا ـ ونحن فى معرض البحث عن الخير والشر ـ إذا كان الخير أمرا محمودا ، ودعوة من دعوات السماء إلى لقائه ، والعمل به ـ فلم كان هذا الشرّ؟ وما حكمة وجوده؟

الشرّ موجود .. هذه حقيقة مسلّم بها ، لا سبيل إلى إنكارها ، أو تجاهلها!

أمّا ، لما ذا وجد؟ وما حكمة وجوده؟ وهلّا محضت الحياة للخير ، وخلصت الشرّ؟ ..

٤٥

أما هذا ، فهو الذي يدور حوله الخلاف ، ويكثر فيه الجدل ..

وقد تجنب الإسلام ـ منذ قام ـ إيقاظ هذه الفتنة ، فلم يطرق بابها من أية جهة ، ولم يشر إليها من قريب أو بعيد .. والحكمة فى هذا ظاهرة .. إذ لا جدوى من أن يقيم الإسلام لوجود الشرّ علة أو عللا .. إنه موجود .. وكفى .. «وحسبك من شرّ سماعه»! .. والحزم كل الحزم فى توقّيه ، ودفعه ، والخلاص منه ..

إنه لمن السفاهة الغليظة ، والخسران المبين ، أن يرى الإنسان حيوانا يريد أن ينقضّ عليه ويفترسه ، ثم لا يطلب النجاة لنفسه ، بل يستغرق فى تأملات سخيفة ليجيب على هذا السؤال : ما هذا الحيوان المؤذى؟ ولم كان؟

لم يرد الإسلام أن يسوق أتباعه إلى هذه المواقف الخاسرة .. بل صرفهم عنها صرفا ، وخلّى بينهم وبين الحياة بخيرها وشرها ؛ بعد أن أراهم منازل الخير وثمراته ، وأطمعهم فيه ، ودعاهم إليه ، ثم أراهم مزالق الشرّ ، ومغباته ، وخوّفهم منه ، وتوعدهم على الاتصال به ..

أليس ذلك هو النهج القاصد ، والطريق المستقيم فى تقديم الأخلاق وتربية النفوس؟

لقد كان ذلك هو طريق الإسلام ، وكان ذلك هو موقفه حيال هذه القضية .. لم يوقد نارها ، ولم يلق لها وقودا ..

ولكن حين اتصل المسلمون بالأمم المجاورة ، وعرفوا شيئا من فلسفة اليونان والهند ، وشيئا من معتقدات الفرس ، تحركت فى نفوسهم هذه الفتنة «الخالدة» .. لما ذا وجد الشر؟

وقد فتحت الإجابة على هذا السؤال باب فتنة ، أخذ يتسع شيئا فشيئا ،

٤٦

حتى دخله المسلمون جميعا ، وانقسموا إلى فرق وطوائف ، ولكل فرقة مقولاتها ولكل طائفة حججها .. حتى كان من ذلك الجدل محصول وفير من الكلام!!

ولا نريد أن نعرض لهذا الجدل ، فهو مبسوط فى كتب علم الكلام (١).

والذي نحبّ أن نقرره هنا .. هو أن الإسلام يوجّه اهتمامه أولا وقبل كل شىء ، إلى مجاهدة الشر الذي يعيش فى مجال الناس فعلا ، وإلى محاولة التغلب عليه ، والانتصار للخير ، والانحياز إلى جانبه .. فذلك هو الجدير بالإنسان ، من حيث هو إنسان ، يحترم عقله ، ويستهدى بقلبه ، ومن حيث هو كائن اجتماعي ، يعيش فى المجتمع الإنسانى .. ومن خيره وخير الجماعة أن يكون عضوا فى هذا المجتمع الكبير ، يسعد بسعادته ، ويشقى بشقائه ..

إن الإسلام ، لا يضع الشرّ فى مجال العدم بالنسبة للخير ، بل يراه كيانا قائما بذاته إزاء الخير .. فللشر ـ فى نظر الإسلام ـ ذاتية قائمة فى الحياة ، وعلى الناس أن يأخذوا حذرهم منه ، وأن يعملوا له حسابا فى موازنة الأمور التي تعرض لهم.

لقد حاول كثير من مفكرى الإسلام ، أن يهوّنوا من شأن الشرّ ، وأن يجعلوا وجوده فى الحياة ، شيئا عارضا ، يجىء فى ثنايا الخير!

وكأنهم أرادوا بهذا أن يبرّئوا صنع الله من هذا النقص ، الذي يلحق بالوجود ، إذا قيل إن الشرّ قد نجم فيه!!

وهذا دفاع غير موفق .. إذ أنه ينكر أمرا واقعا يعيش فى الناس .. وهو الشرّ .. وكان خيرا من هذا الدفاع أن يعترفوا بالشر .. ولكنه شرّ لا يرتفع

__________________

(١) انظر فى هذا كتابنا «القضاء والقدر .. بين الفلسفة والدين».

٤٧

إلى أكثر من ضرورات الحياة .. الحياة الإنسانية ، التي يعتبر الشرّ فيها عنصرا من العناصر العاملة فى دفع عجلة الحياة ، ودوران دولاب العمل فيها ..

يقول الجاحظ : «اعلم أن المصلحة فى ابتداء أمر الدنيا إلى انقضاء مدّتها ، والكثرة بالقلّة .. ولو كان الشرّ صرفا ، لهلك الخلق ، أو كان الخير محضا لسقطت المحنة ، وتعطلت أسباب الفكرة ..

ومع عدم الفكرة يكون عدم الحكمة ، ومتى ذهب التخيير ، ذهب التمييز ، ولم يكن للعالم تثبت وتوقف وتعلم ، ولم يكن علم ، ولا يعرف باب التدبير ، ولا دفع المضرّة ، ولا اختلاف المنفعة ، ولا صبر على مكروه ، ولا شكر على محبوب ، ولا تفاضل فى جانب ، ولا تنافس فى درجة ، وبطلت فرحة الظفر ، وعزّة الغلبة .. ولم يكن على ظهرها (أي الدنيا) محقّ يجد عزّ الحقّ ، ومبطل يجد ذلّ الباطل ، وموفّق يجد برد اليقين .. ولم يكن للنفوس آمال ، ولم تتشعّبها الأطماع (١)».

فالجاحظ هنا يكشف عن الدور ، الذي يؤديه التفاوت بين الأمور ، فى امتداد مجال التنافس بين الناس ..

إن الاختلاف بين الأشياء فى مجال الخير والشرّ ، هو الذي يملأ كل فراغ فى الحياة ، ويفسح لكل إنسان مكانا فى قافلة الحياة ، حسب استعداده ، ونزعانه .. وهكذا تتحرك الحياة كلها ، فى آفاقها الصاعدة والنازلة ، على السواء!.

والذي ينظر إلى الحياة نظرة فردية جانبية ، يرى هذا التفاوت بين الناس

__________________

(١) الحيوان : للجاحظ .. جزء : ١ ص : ٩٦.

٤٨

وأوضاعهم فى هذه الحياة .. فيرى قمما عالية ، بينما يرى سفوحا ، ومنحدرات ، بل وحفرا .. ولكنه إذا نظر إلى الحياة عامة شاملة ، لم ير إلا وحدة منتظمة ، وإلّا سطحا مستويا ، لا نجود فيه ، ولا منحدرات .. كالذى ينظر من طائرة محلّقة فى آفاق السماء ، إلى مدينة واسعة الأرجاء .. إنه يرى دورها وقصورها ، وأكواخها ، ونواطح سحبها ـ فى مستوى واحد .. كسطح أملس ، لا فرق بين الأكواخ والقصور ..

يقول الفيلسوف الأمريكى «بوردن باركرباون» : «إن أفراد الناس يؤثّر بعضهم فى بعض ، وقد يعارض بعضهم بعضا .. لكن هذا التضادّ بينهم ، وهذا الانفصال والتجزؤ ، يذوب كله فى عنصر واحد يحويهم جميعا .. وما قد يبدو فى عالم الجزئيات تضادّا ، إن هو فى حقيقة الأمر إلا اتساق ، لو نظر إليه من أعلى نظرة ترى تفصيلات الوجود كلها واحدة فى كلّ واحد».

فهذا الفهم للحياة ، لا ينكر وجود الشرّ وذاتيته فى واقع الحياة الإنسانية ، ولكنه حين يرتفع بالنظر عن الحياة الإنسانية الفردية ، وعن مستوى هذه الأرض ، لا يرى إلا عالما مشرقا ، يفيض بالحسن والجمال.

إن حواسّنا ، ومشاعرنا ، ومداركنا ، مضبوطة على مستوى هذا الوجود الأرضى الذي نعيش فيه .. وهذا التناقض ، والتضادّ ، والتعاند ، الذي نراه ـ هو مما يقتضيه وجودنا ، وتولده حاجاتنا ، وتحققه مدركاننا وحواسنا.

ويقول الجاحظ : «وأظنك ممن يرى الطاووس ، أكرم على الله من الغراب ، وأن الغزال أحبّ إلى الله من الذئب .. فإنما هذه أمور فرّقها الله الله تعالى فى عيون الناس ، وميّزها فى طبائع العباد ، فجعل بعضها أقرب بهم

٤٩

شبها ، وجعل بعضها إنسيّا ، وجعل بعضها وحشيّا ، وبعضها عاديا ، وبعضها قاتلا ..

وكذلك الدرّة والخرزة ، والنمرة ، والجمرة .. فلا تذهب إلى ما تريك العين ، واذهب إلى ما يراك العقل ..

«وللأمور حكم ظاهر للحواس ، وحكم باطن للعقول .. والعقل هو الحجة .. وقد علمنا أن خزنة النار من الملائكة ، ليسوا بدون خزنة الجنة ، وأن ملك الموت ليس دون ملك السحاب ، وإن أتانا بالغيث ، وجلب الحياة» (١).

والذي يعنينا من هذا الكلام ، أن الموجودات إنما تأخذ كيفيتها على حسب مدركاتنا ، أو بمعنى أصحّ ، أننا نكيّف الموجودات حسب وقوعها على حواسنا ومدركاتنا ..

وإذا كان الإسلام قد جعل معيار الأخلاق وتقويمها إلى بصيرة الإنسان ، يحتكم فيها إلى قلبه ، ويرجع فيها إلى ضميره ـ فإنه لم يغفل عن الجانب الضعيف فى الإنسان ، ذلك الجانب الذي تهبّ من جهته الأهواء الذاتية ، والشهوات الشخصية ، فتثير الاضطراب فى كيان الإنسان ، وتنذره بالهلاك الذي يتهدد سفينته الضاربة فى محيط الحياة .. ففى كيان الإنسان نفس أمّارة بالسوء ، ورغبات نزّاعة إلى الهوى ..

لهذا كانت تعاليم الإسلام ، موجهة إلى تقوية هذا الجانب الضعيف فى الإنسان ، ودعمه بكل ما يضمن للإنسان الأمن والسلام من هذا الجانب ، لو أنه اتبع وصايا الشريعة ، وعمل بها.

__________________

(١) الحيوان .. للجاحظ. جزء ١ ص ١٩٧.

٥٠

ومما جاء به الإسلام فى هذا :

أولا : أنه جعل الخير خيرا فى ذاته ، والشرّ شرّا فى ذاته ، ولم يلتفت إلى تلك التصورات الذهنية الطبيعة الشر والخير ، وإنما نظر إليهما على أنهما كائنان قائمان فى الحياة ، يشعر بهما المرء ، ويجد آثارهما فى نفسه ..

فالنار إذ يستدفىء الإنسان بها خير ، والنار إذ تحرقه ، شر .. إنها خير وخير محض فى حال ، وشر وشر محض فى حال .. هذا جانب الخير يراه الإنسان فى الأشياء حين يقيسها إلى نفسه ، ويحكم عليها بما تقتضيه مصلحته .. ومثل هذا جانب الشر ، الذي يراه الإنسان فى الأشياء ، حين يأخذها بمعياره الشخصي الذاتىّ أيضا.

ولا تحسبنّ الإسلام يجعل الخير والشر محصورين فى دائرة الإنسان الذاتية ، وفى الجانب الحسّىّ من هذه الدائرة .. أي جانب اللذة والألم .. وكلّا .. فهذا جانب وإن لم ينكره الإسلام فى تقويم الخير والشر ، لأنه قائم فى الحياة ، لا يستطيع الناس الانفصال عنه ، إلا أن الإسلام ـ فوق هذا ـ يعلو بهذا الإحساس ، فيرتفع ، عن الجانب المادّى إلى الجانب الروحي ، ومن جانب الذاتية الفردية فى الإنسان ، إلى جانب المجتمع الإنسانى من أضيق حدوده إلى آخرها ، امتدادا واتساعا .. ومن أجل هذا كانت دعوة الإسلام إلى التخفيف من متاع الدنيا ، كما كانت دعوته إلى البذل ، والإيثار ، والتضحية ، ثم كان وعده بالثواب والعقاب ، والجنة والنار فى الآخرة.

وثانيا : كشف الإسلام للناس عن كثير من وجوه الخير والشرّ ، إذ نصّ على كثير من الأمور اعتبرها خيرا ، ودعا الناس إليها ، وأمرهم بها ، ووعدهم الجزاء الحسن عليها .. كالصدق ، والصبر ، وبرّ الوالدين ، والإحسان إلى الناس ، بالقول والعمل ، والوفاء بالعهد وأداء الأمانات إلى أهلها ، والحكم

٥١

بالعدل .. وكثير غير هذا ، مما ثبت عند الناس خيره ، ووجدوا آثاره الطيبة فى حياتهم الخاصة والعامة على السّواء.

وكما كشف الإسلام عن كثير من وجوه الخير ، كشف كذلك عن كثير من وجوه الشرّ ، كالقتل ، والسرقة ، والخمر ، والميسر ، والزنا ، والربا ، والكذب ، وشهادة الزور ، والغيبة ، والنميمة ، والنفاق ، والغش ، والظلم والبغي ، والعدوان ، وكثير غير هذا ، مما جاء به القرآن ، وبيّنته السنّة المطهرة ..

ولا شك أن الإسلام إذ يكشف عن وجوه الخير والشر ، فإنما ليؤكد ما استقرّ فى ضمير الناس ، وما وقع لعقولهم وقلوبهم من هذه الوجوه كلها ، وبهذا تلتقى فى قلب المسلم كلمة السماء ، مع منطق العقل ، وواقع الحياة .. فيقبل على الخير ، ويعيش معه ، وينأى عن الشرّ ، ويحاذر الاتصال به!

وإنه لا حجة لذى عقل على أن الله سبحانه هو الذي أوجد الشرّ ، كما أوجد الإنسان الذي يتعامل معه ، وإذن فلا يحاسب على لقاء شىء كتب عليه أن يلقاه ـ لا حجة لذى عقل على هذا ، فإنه كما أوجد الله الشرّ ، أوجد الخير ، ثم دعا إلى الخير ، وحذّر من الشرّ ، وجعل للإنسان عقلا ينصرف به إلى الخير والشرّ. ثم جعل للخير أثرا طيبا فى عاجل الإنسان وآجله ، وجعل للشر أثرا سيئا فى عاجله وآجله .. فإذا انصرف الإنسان عما ينفعه إلى ما يضرّه ، وآثر ما يسوؤه على ما يسرّه ، فهو الذي جلب على نفسه ما جلب من مكروه ، لأنه هو الذي آثره ، ورضى به!

إن الحياة بخيرها وشرها ، أشبه بمائدة ممدودة ، عليها ألوان من الأطعمة ، بعضها طيب ، يفيد الجسم وينمّيه ، وبعضها خبيث يعطب الجسم ويفسده. وعلى كل لون من ألوان الطعام لافتة تحدد صفته ، وتكشف عن حقيقته ، وأثره

٥٢

فيمن يتناوله .. وليس هذا فحسب ، بل إنه يقوم على هذه المائدة ناصح أمين ، يدعو إلى الأكل من الطيب ، ويحذر من مدّ الأيدى إلى الخبيث : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً .. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ .. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (١٦٨ : البقرة) على أنه ليس لهذا الناصح أن يمسك بأيدى الآكلين على هذا الطعام أو ذاك : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (١٤ : القيامة) .. (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) (١٠٤ : الأنعام) ..

إن الإسلام ليحترم الإنسان ، ويرفع قدره ، ويعلى منزلته ، ويخرج به عن دائرة الطفولة إلى مجال الرشد ، وحمل المسئولية .. وقد أمدّه الإسلام بأمداد الرعاية والهداية ، بما بعث من رسول كريم ، يحمل بين يديه آيات الله وكلماته وضيئة مشرقة ، تجلو غياهب الرّيب ، وتكشف وجوه المنكر ، فالحلال بيّن والحرام بيّن .. وما على الإنسان إلا أن يجمع رأيه ، ويحزم أمره على اختيار الطريق السوىّ .. طريق الخير ، والحق ، والإحسان .. واجتناب الطرق المليئة بالمعاثر والمهالك .. طرق الشر ، والبغي ، والعدوان ..

أما التحكك بالمماحكات والسفسطات ، فجدل عقيم لا يلد إلّا البوار والهلاك .. والعاقل من دان نفسه قبل أن يدان ، وتوقّى الشرّ قبل أن يقع فيه.

____________________________________

الآيات : (٣٦ ـ ٤٧)

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ

٥٣

مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ(٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ، أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) ..

مما كان يلقى به المشركون النبيّ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ الاستهزاء به ، والسخرية منه ، ورميه بقوارص الكلم ، وفحش القول .. فذلك هو سلاح من أسلحة الجاهلين ، الذين لا يحسنون غير السفاهة والفحش ، حين تقهرهم الحجة ، ويخرسهم البرهان ..

٥٤

ـ وفى قوله تعالى : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ..) «إن» هنا بمعنى «ما» النافية ، أي ما يتخذونك إلا هزوا .. وهذا تهديد لهؤلاء الكافرين ، وفضح لما يدور فى رءوسهم ، وتتلمظ به شفاههم ، وتتغامز به عيونهم .. إنهم إذا رأوا النبىّ تحركت هذه الكلاب التي تنبح فى صدورهم ، فأرسلوها نظرات حانقة ، وأطلقوها كلمات محمومة مجنونة ، ترمى النبىّ من بعيد ومن قريب .. فليست هناك كلمة طيبة تخرج من أفواههم ، أو نظرة وادعة تطرف بها عيونهم ..

ـ وقوله تعالى : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) .. هو بعض ما يجرى على ألسنتهم من سفاهة .. والاستفهام هنا للاستهزاء والاستنكار ، واستصغار قدر النبىّ الذي يتطاول إلى هذه الآلهة ، فيذكرها بما يذكر من سوء عابديها!

ـ وقوله تعالى : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) جملة حالية .. أي أنهم يقولون هذا القول فى النبىّ وينكرون عليه أن يذكر آلهتهم ؛ وأن يجترىء على مقامهم ، فى حال هم فيها قائمون على جرم غليظ ، إذ كفروا بالرحمن ، الذي وسعتهم رحمته ، فلم يجعل لهم العذاب ، وأفاض عليهم من فضله وإحسانه ، فلم يقطع أمداده عنهم .. فما لهم يغارون على آلهتهم الصماء الخرساء ، ولا يغارون على مقام الله «الرحمن» وقد أجلوه من قلوبهم ، وأخلوا مشاعرهم من كل توقير له؟

قوله تعالى :

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ).

الإنسان هنا ، هو مطلق الإنسان .. فكل إنسان مفطور على حبّ العاجل يتعجّل كل شىء .. الخير والشرّ .. كما يقول الله تعالى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (١١ : الإسراء).

٥٥

ولهذا كان مما دعت إليه الشرائع السماوية «الصبر» الذي هو الدواء الذي يخفّف من هذا الداء ..

وفى هذا يقول سبحانه : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (٤٥ : البقرة) ويقول : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر).

فالصبر هو زاد المؤمنين ، وهو عدّتهم فى مواجهة الحياة ..

أما من تحففوا من هذا الزاد ، فإنهم أبدا فى همّ وقلق ، تمرّ الأيام بهم بطيئة ثقيلة .. يريدون أن يجتمع لهم فى يومهم كلّ ما يمكن أن تطوله أيديهم ، وتمتد إليه آمالهم .. إنهم يريدون حياتهم يوما واحدا أو ليلة واحدة ، كليلة جنود الحرب ، يقضونها ليلة صاخبة لاهية ، يفرغون فيها كلّ ما فى جيوبهم ، ويلقون فى وقودها كل ما معهم من مال ومتاع .. أما الغد فلا نظر إليه ، ولا حساب له ..

والمشركون يستعجلون كل شىء .. حتى الهلاك ، والبلاء الذي أنذروا به ، ويقولون فى إلحاح ولجاج : متى هو؟

ـ وفى قوله تعالى : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) هو الجواب على ما يستعجل به المشركون من عذاب الله ، ومن الخزي الذي سيحل بهم يوم يجىء نصر الله والفتح .. وهو تهديد للمشركين ، بما سيلقون على يد المؤمنين من هوان وذلة ، يوم يرون آيات الله ، ويوم تهزم الفئة القليلة الفئة الكثيرة!

قوله تعالى :

(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ..

٥٦

جواب الشرط هنا محذوف ، وتقديره : لو يعلم الذين كفروا ما ينتظرهم من بلاء وعذاب يوم يأتيهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، لما استعجلوا ما أنذروا به من عذاب الله.

ـ وفى قوله تعالى : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) إشارة إلى أنهم لن ينصروا فى هذه الدنيا ، بل ستحلّ الهزيمة بهم ، وأنهم لن يجدوا فى الآخرة من ينصرهم من بأس الله إذا جاءهم.

قوله تعالى :

(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

الضمير فى (تَأْتِيهِمْ) يراد به السّاعة التي يكذبون بها ، ويستعجلونها ..

فالساعة لا تأتيهم حسب تقديرهم ، وحسب موعد معلوم لهم .. بل ستأتيهم بغتة ، أي مباغتة ، ومفاجأة (فَتَبْهَتُهُمْ) أي تخزيهم ، وتفضح معتقدهم فيها .. (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) أي دفعها ومنعها .. إنها بلاء واقع بهم ، ليس لها دافع .. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي لا ينتظر بهم فى الدنيا ، حتى يصححوا معتقدهم ، ويهيئوا أنفسهم للقاء هذا اليوم ..

قوله تعالى :

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ..

هو عزاء للنبىّ ، وتسرية لما يلقى من قومه من أذى ، وما يواجه به من استهزاء وسخرية .. فهو ليس وحده من بين رسل الله ، الذي وقف منه قومه هذا الموقف اللئيم ، بل إن كثيرا من رسل الله قد أعنتهم أقوامهم ، وأغروا بهم السفهاء منهم ..

٥٧

ـ وقوله تعالى : (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) هو تهديد لهؤلاء المشركين ، وأنه سيحيق بهم ما حاق بالمستهزئين من قبلهم برسل الله ، وسيلقون حساب هذه السخرية عذابا ونكالا ..

قوله تعالى :

(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ).

الكلأ ، والكلاءة : الحفظ والرعاية ، والحراسة .. يقال : كلأه الله : أي حرسه وحفظه .. ومنه الكلأ ، وهو العشب الذي ترعاه الماشية ، والذي عليه قوام حياتها ..

والمعنى : من يكلؤكم أيها المكذبون الضالون المشركون ، ويحفظكم من الله إن أراد بكم سوءا ، أو أخذكم بعذاب من عذابه بالليل أو بالنهار؟ أهناك من آلهتكم ومعبوداتكم من يدفع عنكم بأس الله إن جاءكم؟ انظروا إلى هذه الآلهة وماذا يمكن أن يكون لها من حول وطول أمام حول الله وطوله؟ إنه لا شىء إلا العجز والاستخزاء ..

وفى الآية الكريمة إشارتان :

الأولى فى قوله تعالى : (يَكْلَؤُكُمْ) وقد جاءت بمعنى يمنعكم ، ويحرسكم .. وفى التعبير عن هذا بالكلاءة إشارة إلى أن الإنسان ـ مهما ملك من جاه وقوة وسلطان ـ هو كائن عاجز ضعيف ، محتاج إلى قوة عليا ، ترعاه ، وتمدّه بأسباب الحياة والبقاء.

والإشارة الثانية فى قوله تعالى : (مِنَ الرَّحْمنِ) وقد جاءت هذه الصفة الكريمة من صفات الله سبحانه وتعالى ، لتشير إلى واسع رحمته ، وعظيم فضله ، وأنّ هؤلاء المشركين الضالين ، قد بالغوا فى غيّهم ، وضلالهم ، ومحادّتهم لله

٥٨

ورسوله ، حتى إن رحمة الله ـ مع سعتها ـ تكاد تطردهم من رحاب فضلها وجودها ..

ـ وفى قوله تعالى : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ـ إشارة إلى أن هؤلاء المشركين ، قد شغلوا بما هم فيه من لهو ومتاع ، وأنهم لهذا لا يذكرون الله ، وأنه إذا جاءهم من يذكّرهم بالله ، ويعرض عليهم آياته وكلماته ، أعرضوا ، وسفهوا .. وذلك غاية فى الضلال والخسران .. إذ أنه قد يغفل الإنسان عن الخطر الذي يتهدده ، وينسى أو يتناسى المكروه الذي يترصده ، فإذا هلك فى هذا الوجه ، كان له بعض العذر عند نفسه أو عند الناس ، أما من ينبّه إلى الخطر فلا ينتبه ، ويحذّر من البلاء فلا يرعوى ، فإنه إذا لقى مصيره المشئوم ، لم يجد من يعذره ، أو يرثى له ..

قوله تعالى :

(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا؟ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ).

هو مطالبة لهؤلاء المشركين الذين لجّوا فى ضلالهم وطغيانهم ، أن يأتوا بمن يمنعهم من دون الله ، ويدفع عنهم يأسه إن جاءهم .. فليسأل المشركون أنفسهم هذا السؤال : ألهم آلهة تمنعهم من دون الله؟ فإن هم عموا عن حقيقة آلهتهم ، وقالو : نعم ، إن لنا آلهة نعبدها ، ونرجو نصرها وعونها ـ إن هم قالوا هذا الضلال ، وجدوا فى قوله تعالى : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) ـ ما يردّ عليهم هذا السّفه ، ويبطل هذا الباطل .. فإن هذه الآلهة لا تستطيع الدفاع عن نفسها ، ولا ردّ السوء إذا وقع بها ، فكيف تنصر غيرها ، وتدفع السوء عنه؟.

ـ وفى قوله تعالى : (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) إشارة إلى أن هؤلاء المشركين ،

٥٩

لا يجدون من آلهتهم نصرا ، كما أنهم لا يجدون من الله عونا ، ولا نصرا .. إذ لا عمل يشفع لهم عند الله ، ويردّ عنهم بأسه ، فلا يصحبون من الله بعون أو نصر ..

قوله تعالى :

(بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ).

أي أن هؤلاء المشركين قد مدّ الله لهم ، فى ضلالهم ، ولم يعجّل لهم العذاب بل متعهم ، كما متّع آباءهم المشركين من قبلهم ، حتى استوفوا آجالهم .. وقد حسبوا ـ لضلالهم ـ أن الله غافل عما يعمل الظالمون ، وأنهم بمنجاة من بأس الله ، لما فى أيديهم من مال ومتاع .. وذلك ظنهم بربّهم هو الذي أرداهم ..

لقد جهلوا قدر الله ، ولم يرجوا له وقارا ، ولم يخشوا له بأسا .. ولو نظروا فيما بين أيديهم وما خلفهم لرأوا كيف تأتى غير الله ، وكيف يقع بأسه بالظالمين فكم أهلك الله قبلهم من قرون؟ وكم أذلّ من جبابرة؟ وكم بدّل من أحوال وأوضاع؟ فهل بقي حال على حاله ، أو ظل ذو سلطان فى سلطانه؟ أم أنهم هم القوة التي لا تغلب ولا تنزل بها الأحداث والغير؟ (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها؟ أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟) والاستفهام الأول للأمر ، والثاني للتهديد ..

والمراد بالاستفهام الأمرى : إلفات المشركين إلى ما يقع من غير الله فى الناس ، وأنه سبحانه القوى القهار ، يذلّ الجبابرة ، ويرغم أنوف المتكبرين ، فإذا هم فى لباس الذلة بعد العزة ، وفى دار الهوان بعد الكرامة ، وفى ضنك العيش بعد النعمة والرفاهية. هذه سنة الله فى هذه الدنيا ، فلا شىء فيها يبقى على حال ، بل كل شىء إلى زوال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ

٦٠