التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٥

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٥

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٦٨

١
٢

٦٧ ـ سورة الملك

نزولها : مكية ، نزلت بعد سورة الطور.

عدد آياتها : ثلاثون آية.

عدد كلماتها : ثلاثمائة وثلاثون كلمة.

عدد حروفها : ألف وثلاثمائة وثلاثة عشر حرفا.

مناسبتها لما قبلها

كانت الآيات التي ختمت بها سورة «التحريم» السابقة على هذه السورة ، معرضا للصراع بين الخير والشر ، والحرب بين الإيمان ، والكفر ـ فيما كان من امرأة نوح وامرأة لوط ، وخروجهما من المعركة خاسرتين كافرتين .. ثم ما كان من امرأة فرعون ، وصراعها مع قوى الشر المحدقة بها من كل جهة ، ثم انتصارها ، وخروجها من وسط هذا الظلام المطبق ، إلى حيث النور والهدى ..

ثم كان مما بدئت به سورة «الملك» قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ليقرر أن نتيجة هذا الصراع بين المحقّين والمبطلين ، والمحسنين والمسيئين ـ إنما تظهر على حقيقتها كاملة يوم القيامة ، ولهذا كان مما قضت به حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون موت ، ثم تكون حياة بعد هذا الموت ، ليحاسب الناس على ما عملوا فى الدنيا ، من خير أو شر ..

فكان من المناسب أن تلتقى هذه الحقيقة التي قررتها سورة «الملك» مع تلك الحقيقة التي ختمت بها سورة «التحريم» .. وبذلك يتأكد المراد منهما معا.

* * *

٣

بسم الله الرحمن الرّحيم

____________________________________

الآيات : (١ ـ ١١)

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) (١١)

____________________________________

٤

التفسير :

قوله تعالى :

* (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

معنى «تبارك» أي تمجّد ، وتعظم ، وكثر خيره وبركته على مخلوقاته .. فهو .. خبر يراد به إظهار ما أفاض الله سبحانه على هذا الوجود من خير وبركة ، فالله سبحانه ، بيده الملك كله ، لا يملك أحد معه شيئا ، وهو سبحانه القادر على كل شىء ..

وإنه ليس بكثير على من لا ينفذ خيره ، وعلى من يملك كل شىء ، ويقدر على كل شىء ـ أن يفيض هذا الخير على الوجود ، حتى لينال منه البرّ والفاجر ، وحتى ليكون من الفجار من يملك من متاع الدنيا ما يقيم به سلطانا قاهرا على الناس ، مثل فرعون الذي حشر ، فنادى ، فقال أنا ربكم الأعلى ..

وإنه إذ كانت هنا دنيا يتقلّب فيها الناس ، فإن هناك وراء هذه الدنيا حياة أخرى ، أخلد وأبقى ، وهى الحياة التي خلق الناس فعلا لها ، وأنهم لم يخلقوا لهذه الدنيا ، إلا لتكون معبرا لهم إلى الآخرة ، كما يقول سبحانه :

(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٦٤ : العنكبوت).

ولكن كثيرا من الناس جعلوا هذه الحياة الدنيا هى حياتهم ، التي لا حياة لهم بعدها ، ولهذا فإنهم لم يلتفتوا إلى الحياة الآخرة ، ولم يعملوا لها حسابا ..

٥

[الموت .. والحياة]

وفى قوله تعالى :

* (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ..)

ـ فى هذا تنبيه لهؤلاء الغافلين عن الحياة الآخرة ، وذلك إذا نظروا فرأوا أن هناك عمليتين تجريان عليهما ، وهما الموت والحياة .. فهاتان صورتان تتداولان الإنسان ، كما تتداولان عالم الأحياء كله .. فالكائن الحىّ ، كان ميتا ، أي عدما ، ثم أخرجته قدرة الله سبحانه إلى الحياة ، ثم تعيده تلك القدرة إلى الموت مرة أخرى .. ثم تردّه إلى الحياة للحساب والجزاء.

فإذا جاء من عند الله من يخبر بأن بعد هذا الموت حياة أخرى ، وأن الموت ليس نهاية الإنسان ـ فهل يقع هذا عند العقلاء موقع الإنكار؟ وكيف والشواهد كلها تشهد بإمكانيته؟ بل وتقطع بأنه أمر لا بد منه ، من حيث أن هذه الحياة التي لبسها الإنسان بعد العدم ، إنما كانت ليقوم بها على خلافة الله فى الأرض ، حيث بسط سلطانه ـ بعقله ـ على كل ما فى هذا الوجود الأرضى .. ومخلوق هذا شأنه ، لا بد أن يرقى صعدا إلى أفق أعلى من هذا الأفق الأرضى ..

وإن هذه الخلافة التي للإنسان على الأرض ليست خلافة جماعية ، تحمل فيها الجماعة الإنسانية كلها تبعتها ، وإنما هى خلافة يحمل فيها كل فرد مسئوليته ، ويحاسب على ما كان منه ، فيجزى بالإحسان إحسانا ، وبالسوء سوءا .. وذلك يقضى بأن يردّ الإنسان إلى الحياة مرة أخرى ، ليحاسب ، وليثاب أو يعاقب ..

والسؤال هنا ، هو :

إذا كان كذلك ، وكان لا بد من الحساب والجزاء على ما كان من

٦

الإنسان ـ فلم لا يحاسب فى الحياة الدنيا؟ ولم الموت ثم الحياة؟ وما حكمة الموت ثم الحياة؟ أليست هذه الحياة الجديدة هى عودة بالإنسان ـ نفسا وذاتا ـ إلى حياته الأولى ، ووصل لما انقطع منه بالموت؟ وهل يضيف الموت شيئا جديدا إلى الإنسان حتى يكون لموته مساغا ..

ونقول : إن هذه التصورات هى نتيجة لهذا الفهم الخاطئ للموت الذي يقع على الإنسان بعد الحياة ، حيث يبدو منه أنه انقطاع لجرى حياة الإنسان ، ثم إنه بعد زمن ما ـ قد يطول أو يقصر ـ يعود إلى الحياة مرة أخرى ، يوم القيامة!!

ولو فهم الموت على حقيقته ، وأنه ليس إلا تحوّلا من منزل إلى منزل ، وانتقالا من حال إلى حال ـ لو فهم الموت على هذا ، لما كان لمثل هذه التصورات أن تجد لها مكانا فى تفكير الإنسان ، يوقع فى نفسه هذه العزلة الموحشة بين الموت والحياة ..

فالموت ـ فى حقيقته ـ هو حياة جديدة تلبس الإنسان خارج هذا الجسد الذي تركه الموت جثّة هامدة .. وتلك الجثة الهامدة التي يخلفّها الموت وراءه ، هى التي تعطى الموت تلك الصورة المخيفة المفزعة ..

ذلك أننا نرى الإنسان فى ثوب الحياة ، يموچ بالنشاط والحركة .. ثم يطرقه الموت ، فإذا هو هامد همود الجمادات التي بين أيدينا ، ثم هو فى لحظة يغيّب فى الثرى ، ثم إذا فتّش عنه بعد زمن ، رؤى وقد تحول إلى أنقاض ، ثم إذا أعيد إليه النظر بعد زمن آخر لم ير لهذه الأنقاض أثر!!

وعن هذا التصور ، يقول المشركون الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة ـ يقولون ما يقوله سبحانه وتعالى على لسانهم : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ

٧

أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟ ..) (١٠ : السجدة)

ولكن لو جاوزنا هذا الجسد ، لوجدنا أن الحياة التي كانت تلبسه ، قد اكتسبت بخلاصها منه بالموت ، قوة لا حدود لها ، حيث حرجت من هذا الحيّز الضيق الذي كان يحتوبها ، وانطلقت فى هذا العالم الرحيب ، تحلّق فيه بقدر ما احتفظت به من خصائصها الروحية حال تلبسها بالجسد .. وفى هذا يقول الرسول الكريم : «الناس نيام ، فإذا ماتوا انتبهوا» .. وهو شرح لمعنى قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) (٤٢ : الزمر) ..

أما أن الميت يبقى بعد موته فى حال همود ، وجمود ، إلى أن يجىء يوم البعث والنشور ، فهذا فهم خاطئ أيضا ..

فالإنسان إذ يموت ، فإن الموت ـ كما قلنا ـ لا يقع إلا على جسده ، أما روحه ، فإنها تجد فى موت الجسد فرصتها للخلاص من القيد الذي قيدها به ..

وعلى هذا ، فإن الإنسان إذا مات ، فإنما يموت موتا ظاهريّا يرى فى هذا الجسد ، وأما هو فى حقيقته ، فهو حىّ فى هذا الروح الذي انطلق من الجسد محمّلا بكل ما ترك الجسد فيه من آثار طيبة ، أو سيئة .. وفى هذا يقول الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «من مات فقد قامت قيامته» ..

وهذا يعنى أن الميت إذ يموت ، يبعث فى الحال بعثا جديدا ، بمعنى أنه يقوم من عالم النوم الذي كان فيه ، كما يشير إلى ذلك الحديث الذي ذكرناه من قبل ، وهو : «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» ..

وهذا يعنى أيضا أن هناك قيامتين : قيامة خاصة بكل إنسان ، وهى

٨

قيامته ساعة موته ، وهى ـ كما قلنا ـ قيامة من عالم النّيام ، عالم الحياة الدنيا ـ ثم قيامة عامة ، وهى التي يبعث فيها الناس جميعا من عالم القبور ، حيث تلتقى الأرواح بأجسادها مرة أخرى ، على صورة يعلمها الله سبحانه وتعالى ..

أما هذه الحياة التي عاشها الإنسان على هذه الأرض ، فهى اختبار وابتلاء له ، تتكشف فيه حقيقة طبيعته التي أوجده الله عليها ..

إنه فى هذه الحياة أشبه بحبة بذرت فى الأرض مع ما بذر من حبوب ، ثم لا تلبث كل حبة أن تكشف عن حقيقتها ، وعن الثمر الذي تثمره ، من جيّد أو ردىء. ، فإذا آن وقت الحصاد ، جمع كل زرع مع ما بشا كله ..

وقد يسأل سائل : ولما ذا هذا البذر والغرس؟ أليس صاحب البذر والزرع ، هو الله سبحانه وتعالى ، وهو سبحانه عالم بما كمن فى هذا البذر من ثمر؟

والجواب على هذا ، أن علم الله سبحانه بالمخلوقات قبل أن تخلق ، هو علم مكنون .. وخلق المخلوقات فى صورها ، وأشكالها ، وأزمنتها ، وأمكنتها هو إظهار لهذا العلم المكنون ، وأنه لولا هذا لما قام الخلق ، ولما اتصف سبحانه بصفة «الخالق» ولظلّ الوجود فى حال كمون .. يقول سبحانه : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) (٢٤ : الحشر).

ويقول سبحانه أيضا : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) (١ ـ ٢ : العلق) ويقول جل شأنه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦٢ : الزمر). فكان مما اقتضته إرادة الله سبحانه أن يخلق هذا الذي خلق من موجودات وعوالم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٥٠ : طه) .. وبهذا صار لكل مخلوق ذاتيته ومكانه فى هذا الوجود.

٩

فللحياة حكمة ، وللموت حكمة ، وللبعث بعد الموت حكمة .. (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ ، وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢٨. البقرة) .. (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) (١١٥ : المؤمنون)

وقضية الحياة بعد الموت هى مضلّة الضالين ، وهى الغشاوة التي تحجبهم عن الله سبحانه وتعالى ، فلا يرون مالله سبحانه وتعالى من قدرة ، وأنه سبحانه قادر على كل شىء ، وأن بعث الحياة فى تلك الأجساد الهامدة ، والعظام البالية ، ليس بأبعد فى مجال المنطق الإنسانى ، من خلقها أول مرة ، من تراب ، أو من نطفة من ماء مهبن .. ولكن هل يكون للمنطق مكان عند من ختم الله على قلبه وسمعه ، وجعل على بصره غشاوة؟ (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً) (٤١ : المائدة)

قوله تعالى :

* (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ).

أي أنه سبحانه كما خلق الموت والحياة ، خلق سبع سموات طباقا .. أي بعضها ينطبق على بعض ، وقائم عليه قيام اشتمال واحتواء ، وهذا يعنى أن الوجود دائرى الشكل ، وأنه دوائر ، بعضها داخل بعض ، يجمعها مركز واحد ، أشبه بتلك الدوائر التي يحدثها حجر يلقى به فى الماء الساكن ، فتنداح من موقع الحجر دوائر ، بعضها أكبر من بعض .. وهكذا إلى مالا نهاية.

وقوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) أي ما ترى من اختلال أو نقص فى نظام الوجود ، وما أبدع الخالق من مخلوقات .. فكل ما خلق الله يحمل شارة دالّة على قدرة الخالق ، وعلمه ، وحكمته ، وإبداعه فيما خلق ـ

١٠

وفى هذا إلفات إلى قدرة الله سبحانه ، وإلى إحكام ما خلق .. وأن كل مخلوق مهما صفر شأنه ، وضؤل شخصه ، هو صنعة الحكيم العليم ، فيه من روعة الصنعة ، وقدرة الصانع ، ما فى أعظم المخلوقات وأروعها .. فليس فيما صنع الله سبحانه ـ حسن وأحسن ، بل كل ما خلق الله على صفة واحدة ، هى الحسن فى أكمل كماله ، وأبدع آياته .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (٨٨ : النمل) وفى إضافة الخلق إلى «الرحمن» ـ إشارة أخرى إلى أن المخلوقات إنما خلقت جميعها بيد الرحمة التي مستها جميعا .. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) (١٥٦ : الأعراف).

وقوله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) هو دعوة إلى الإنسان أن ينظر بعقله ليرى مصداق قوله تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) .. أي أن من شكّ في هذه الحقيقة ، أو من لم يقع له بعد علم بها ، فليلق بصره على هذا الوجود ، وليقف بين يديه وقفة المتأمل الدارس ، ثم ليسأل نفسه : هل يرى من فطور؟ أي هل يرى خللا ، أو اضطرابا ، أو تفاوتا؟

والفطور : هو التشقق ، والتصدع ، الذي من شأنه أن يصيب الشيء الذي أصيب به .. والفطور إنما يكون فى المواد الجامدة لا السائلة.

وقوله تعالى :

* (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ ، يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) أي إذا انكشف لنظرتك التي ألقيتها على هذا الوجود ، أنه ليس فى خلق الله من تفاوت ، أو من فطور ، فلا تقف عند حدود هذه النظرة ، التي أعطتك علما يقينيّا بأن ليس فى خلق الله الرحمن من تفاوت أو فطور. فهذا الذي وقع لك من علم ، هو خير كثير ، فاحرص عليه ، واجعل منه زادا تتزود به فى طريقك إلى الإيمان بالله ..

١١

ثم اطلب مزيدا من هذا العلم ، وذلك بمعاودة النظر بعد النظر ، فى ملكوت الله ، الذي لا حدود له .. فإنك إن فعلت سلك بك ذلك طريقا لا نهاية له ، من العلم اليقينيّ ، بقدرة الله ، وعظمته ، وجلاله. وإن بصرك إذ يعود إليك بعد هذه الرحلة الطويلة السابحة فى ملكوت الله ، سيعود إليك «خاسئا» أي منزجرا ، مرتدّا فى استخزاء ، أمام هذا الجلال الذي ببهر الأبصار ، ويخلب العقول ، بعد أن يبلغ به التعب والإعياء غايته ، وبعد أن يرى الإنسان الذي حصّل ما حصل من علم الدارسين المتفحصين ، أنه ما زال على شاطىء بحر لا نهاية له!!

والحسير : المتعب الكليل ، الذي أعيا من طول النظر .. ويجوز أن يكون المعنى على صورة أخرى ، وهى أنه مهما عاود الناظر النظر والبحث وراء الوقوع على تفاوت فى خلق الرحمن ، فإنه لن يجد شيئا من هذا ، ولو أجهده السير ، وطال به المطاف ، حتى يسقط إعياء .. وهذا يعنى أن العلم وحده لا يقيم الإنسان على إيمان يقينىّ ، إلا إذا التقى هذا العلم بقلب سليم ، تنقدح فيه شرارة العلم ، فيضىء بنور الحق والهدى.

وفى هذا ما يشير إلى أن العقل ، وإن كان من المطلوب منه أن ينظر فى ملكوت الله ، وأن يقرأ فى صحف الوجود ما شاء من آيات الله ـ فإن عليه أن يعلم أنه على ساحل محيط لا نهاية له ، وأنه إذا أراد أن يحتوى كلّ ما فى هذا الوجود ، فإن ذلك لن يقع له ، ولن يجد آخر المطاف إلا العجز والإعياء .. فليرض إذن بما يقع له من علم ، وليتخذ من هذا العلم ، الشاهد الذي يقيم فى قلبه إيمانا وثيقا بالله ، وبماله من قدرة ، وعلم ، وحكمة ، وجلال ..

فذلك حسبه من العلم الذي يبلغ به شاطىء الأمان ..

قوله تعالى :

* (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) هو إشارة

١٢

إلى صفحة من صحف الوجود ، التي يمكن أن يرتادها النظر ، وأن يقرأ فيها العقل آيات من قدرة الله وإحكام صنعته ..

فالسماء الدنيا ، هى أقرب سماء إلينا ، وهى المطلّة على الأرض التي نعيش عليها .. وإن العين ـ أي عين ـ لترى فيها مصابيح تزينها ، وتنتثر على صفحتها كأنها اللآلئ .. ومن هذه السماء الدنيا تنطلق رجوم وشهب ترمى بها الشياطين ، التي تتطاول إلى هذه السماء ، وتحاول الاتصال بالملأ الأعلى .. فالضمير فى قوله تعالى : «وجعلناها» يعود إلى السماء. أي وجعلنا من عالمها رجوما للشياطين .. ويجوز أن يعود الضمير إلى المصابيح ، وفى هذا يقول سبحانه : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ* وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ* لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ* إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (٦ ـ ١٠ الصافات).

وفى هذا إشارة إلى أن للعقل حدودا ، ينبغى أن يقف عندها فإن تجاوز حدوده ، رمى بشهب من الشكوك ، فاحترق بنارها ، كما يحترق الشيطان الذي يصعّد فى السماء ، ويجاوز الحدود التي تحتملها طاقته .. وليس فى هذا حجر على العقل فى الانطلاق إلى أبعد مدى ، ولكن ليكن على حذر من أن يضلّ ، ويتوه ، أو يغرق فى عباب هذا المحيط العظيم.

قوله تعالى :

* (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) ـ هو وعيد للشياطين ، وأنه إذا لم يرجم بعضهم بتلك الرجوم القاتلة فى الدنيا ، فإنهم جميعا على موعد مع عذاب السعير ، الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم ، فى الآخرة.

فقوله تعالى : (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) ـ إشارة إلى أن هذا العذاب حاضر

١٣

معدّ لهم منذ الأزل .. ومنه قوله تعالى : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) (٢٣ : ق) أي حاضر ..

وقوله تعالى :

* (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ـ هو معطوف على قوله تعالى .. (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ). أي أعتدنا للشياطين عذاب السعير ، وللذين كفروا بربهم أعتدنا لهم كذلك عذاب جهنم ، وبئس المصير الذي يصيرون إليه .. فالشياطين من الجنّ ، والكافرون من الإنس ، لهم جميعا عذاب أليم ، معدّ لهم ، وهو فى انتظار ورودهم عليه يوم القيامة.

قوله تعالى :

* (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) .. أي أن جهنم هذه التي أعدها الله سبحانه للكافرين ، ستلقاهم لقاء يسوءهم ، كما يسوءهم عذابها .. إنهم سيجدون منها عدوّا راصدا لهم ، كأنّ بينها وبينهم ثارات قديمة ، فإذا أمكنتها الفرصة فيهم ، أخذتهم أخذ العدوّ عدوّه ، حين تمكنه الفرصة منه .. إنه لا يشفى غيظها منهم ، إلّا أن تضربهم بكل ما فيها من قوة. فهى تشهق شهيق من وجد فرصته فى عدوه بين يديه ، وقد طال انتظاره لها لتلك الفرصة ..

إن هؤلاء الكافرين ، هم أعداء الله ، والنار جند من جند الله المسلط على أعدائه .. فهم لهذا فى موقف العدوّ من هذه النار ، المسلطة عليهم من الله سبحانه.

١٤

قوله تعالى :

* (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ).

أي أن جهنم حين برد عليها هؤلاء الواردون من أهلها ، تلقاهم ، مغيظة محنقة ، تكاد تميز من الغيظ ، أي تتقطع وتتمزق من الغيظ ، والحنق عليهم ، لا يشفى غليلها ، إلا أن تحتويهم ، وتجعلهم وقودا لها ..

وقوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) ـ أي كلما ألقى فى جهنم «فوچ» أي جماعة ممن قضى الله فيهم أنهم من أصحاب النار ـ كلما ألقى فوج من هذه الأفواج المتتابعة ، سألهم خرنة جهنم وزبانيتها هذا السؤال : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟).

وهذا السؤال تقريعى وتوبيخى للواردين على جهنم .. لأنهم ما وردوا جهنم إلا لمخالفتهم النذير ، أي الرسول الذي أرسله الله تعالى إليهم ، لينذرهم عذاب هذا اليوم ، فكذبوا الرسول ، ولم يؤمنوا بما جاءهم به من عند الله .. ولو أنهم اتبعوا هذا النذير ما وردوا جهنم .. وهذا يعنى أنه لا يعذّب إلا من بلغتهم رسالة رسل الله ، ثم خالفوها ، ولم يقبلوا ما دعوا إليه منها .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥ : الإسراء) ..

وفى قوله تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ) وفى التعبير عن سوق الكافرين إلى جهنم بالإلقاء ـ فى هذا ما يشير إلى هوان هؤلاء المجرمين ، وعدم احترام آدميتهم ، وأنهم إنما يعاملون معاملة الأشياء المستغنى عنها ،

١٥

من النفايات والفضلات ، حيث نطرح بعيدا بغير حساب ، فتقع حيث تقع ، غير ملتفت إليها.

قوله تعالى :

* (قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) ـ هو جواب الواردين على النار ، لما سئلوا عنه من زبانية جهنم بقولهم : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ)؟ فكان جوابهم : بلى! أي قد جاءنا نذير ، ولكن كذبنا بهذا النذير ، وقلنا ما نزل الله من شىء ، أي من كتب ، وما أرسل من رسل ..

وقوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) يجوز أن يكون من جواب أهل النار ، ومن مقولاتهم للمنذرين الذين جاءوهم ، حيث كذبوهم ، ثم رموهم بالضلال الكبير ، الذي لا يخفى أمره على أحد ..

ويجوز أن يكون هذا تعقيبا من زبانية جهنم على ما سمعوه من جواب أهل النار ..

و «إن» نافية بمعنى «ما» ، أي ما أنتم إلا فى ضلال كبير ..

قوله تعالى :

* (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) .. هذا من حديث النفس لأصحاب النار ، حيث يرجعون بالملامة على أنفسهم ، ويتهمون أنفسهم بأنهم كانوا فى غفلة من أمرهم ، وأنهم لم يكونوا أصحاب سمع أو عقل ، إذ لو كانوا أصحاب سمع وعقل ما كذبوا رسل الله ، ولما وردوا هذا المورد الوبيل ..

١٦

وقدّم السمع على العقل ، لأنهم إنما أدينوا فى الآخرة من جهة سمعهم ، وما جاءهم عن طريقه من آيات الله ، على لسان رسله .. فلم يحسنوا الاستماع إلى ما أنذرهم به الرسل ، ولم يقبلوا ما دعوا إليه من الإيمان بالله واليوم الآخر ، ولم يعرضوا ما سمعوا على عقولهم.

ثم إنهم إذ لم يأخذوا بهذا البلاغ السمعي ، ولم يكن لهم من عقولهم بلاغ عقلىّ ، يقيم لهم طريقا إلى الإيمان بالله ، ويدعوهم إليه فقد ضلّوا ، وهلكوا ..

قوله تعالى :

* (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) ..

أي أن هؤلاء المعذّبين بنار جهنم ، قد شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا ظالمين ، وأنهم أهل لهذا العذاب الذي هم فيه ..

وقوله تعالى : (فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ) ـ دعاء عليهم بالبعد من رحمة الله ورضوانه ، يرميهم به كل لسان .. ناطق أو صامت ، فى هذا الوجود ..

____________________________________

الآيات : (١٢ ـ ١٥)

(إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (١٥)

____________________________________

١٧

قوله تعالى :

* (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ..

هو بيان للطرف المقابل للذين كفروا بربهم ، والذين عرضتهم الآيات السابقة وعرضت أحوالهم ، وما يلقون من هوان وعذاب يوم القيامة ..

وكما أن فى الآخرة عذابا ، فإن فيها رحمة ورضوانا ، كما يقول سبحانه : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) (٢٠ : الحديد) ..

وإذا كان للذين كفروا بربهم ، عذاب جهنم وبئس المصير ، فإن للذين آمنوا ، مغفرة وأجرا عظيما ..

والذين يخشون ربهم بالغيب ، هم الذين خافوا عذاب يوم القيامة ، وخافوا لقاء ربهم ، قبل هذا اليوم الغائب عنهم .. ثم إنهم هم الذين يخشون ربهم فى سرهم ، كما يخشونه فى علانيتهم ، حيث يشهدون سلطان الله قائما عليهم فى كل حال من أحوالهم. فهم لشهودهم هذا السلطان ، لا يعصون الله ، ولا يفعلون ما لا يرضاه ، وهم لهذا مجزبّون من الله تعالى ، بمغفرة ذنوبهم التي تقع منهم ، وهم على خشية من الله ، كما يقول سبحانه : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) (٦٠ : المؤمنون) .. وإلى جانب غفران ذنوبهم يكون مضاعفة أجرهم لما يعملون من حسنات .. (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) ..

قوله تعالى :

* (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ـ هو بيان شارح ، ودعوة إلى الإيمان بالغيب ، الذي أشار إليه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) .. أي أن سبحانه وتعالى ، عالم بما نحفى وما نعلن ، مطلع على ما نعمل فى سر أو جهر .. وإذن فليكن سلطان

١٨

الله مشهودا لنا فى كل حال .. وأنه إذا كنا لا نجاهر بالمنكر أمام الناس ، فكيف نجاهر بالمعاصي أمام الله؟ فليس فيما نفعل أو نقول ، سرّ بالنسبة إلى الله سبحانه ، بل كل أعمالنا وأقوالنا ، هى جهر منّا بين يديه ، على أية حال لنا .. (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ) (١٠ : الرعد) .. فمن ترك المعاصي جهرا ، ولم يتركها سرّا ، فهو إنما يفعل ذلك خوفا من الناس ، لا من خشية الله ، وفى ذلك استخفاف بجلال الله ، وسوء أدب مع الله ..

قوله تعالى :

* (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ..

هو تقرير لما جاء فى قوله تعالى : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) .. فإن علم الله سبحانه وتعالى بما نسرّ وما نجهر به من قول ـ أمر لا يصحّ أن ينكره أو يشك فيه عاقل .. فنحن صنعة الله .. من التراب ، إلى النطفة ، إلى العلقة ، إلى المضغة ، إلى أن نصبح بشرا سويا .. وإذا كان ذلك شأن الله فينا ـ أفيخفى على الله بعد ذلك شىء من ظاهرنا ، أو باطننا؟ أفيخفى على الصانع شىء من أسرار ما صنع؟ أيخفى على صانع آلة من الآلات البخارية ، أو الكهربية ، أىّ جزء من أجزائها .. دقّ ، أو عظم؟ ألا يعلم السرّ فى كل حركة من حركاتها ، أو سكنة من سكناتها؟ ألا يعلم لم تتحرك ، ولم تسكن؟ ..

فإذا كان ذلك كذلك فيما يخلق المخلوقون ، فكيف لا يكون هذا الربّ العالمين ، وخالق المخلوقين؟ ..

فالاستفهام فى قوله تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) استفهام تقريرى ..

وقوله تعالى : (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) صفتان من صفات الله تعالى»

١٩

تكشفان عن سعة علمه ، ونفوذ هذا العلم إلى أعمق أعماق الوجود .. فهو علم «اللطيف» الذي لا يحجب عنه شىء «الخبير» الذي لا تخفى عليه حقيقة أي شىء ..

قوله تعالى :

* (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) ..

هو خطاب للناس جميعا ، وإلفات لهم إلى فضل الله عليهم ، وإحسانه إليهم ، إذ خلقهم ، وأقامهم على خلافة الأرض ، وجعل الحياة فيها ذلولا لهم ، أي مذللة ، ميسرة لهم ، بما أوجد فيها من أسباب الحياة ، وأدوات العمل للعاملين فيها ..

وقوله تعالى : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) ـ هو دعوة إلى العمل فى هذه الحياة ، وإلى السعى فى الأرض ، والضرب فى وجوهها المختلفة .. فالله سبحانه قد وضع بين أيدى الناس خيرات كثيرة ممدودة على بساط هذه الأرض ، وعليهم هم أن يتحركوا فى كل وجه على هذا البساط ، وأن يمدّوا أيديهم إلى كل شىء يقدرون عليه من هذا الخير ، فإن هم لم يفعلوا ، فقد بخسوا أنفسهم حقها من الحياة الكريمة على هذه الأرض ، ونزلوا إلى درجة الحيوانات التي تأكل من حشائشها ، وخسيس ثمارها ..

ومناكب الأرض ، هى أجزاؤها العليا فيها ، أشبه بمنكبي الإنسان ، وهما جانبا الكتفين .. وهذا يعنى أن يستدعى الإنسان قواه كلها ، وأن يعمل فى الحياة عملا جادّا ، يحشد له طاقانه الجسدية والعقلية ، حتى يأخذ مكانا متمكنا من الأرض ، يستطيع به أن يقهر قوى الطبيعة فيها ، وأن يقودها بقوته ، وأن يتحكم فيها بسلطانه .. فهذا هو مكان الإنسان الذي يعرف قدر إنسانيته ، ويحترم وجوده بين المخلوقات فيها .. إنه الخليفة على هذه الأرض ، ومقام الخلافة يقتضيه

٢٠