التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).

هذه الآية موجهة إلى النساء ، وإلى ما ينبغى أن يأخذن أنفسهن به ، من أدب ، واحتشام ، حتى لا يتعرضن للفتنة ، أو يقعن تحت دائرة الشك أو الاتهام ..

وأول ما يأخذن به أنفسهن ، هو أن (يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ..) هذا هو الأمر العام ، الذي يطلب منهن امتثاله ، فلا تملأ المرأة عينها من رجل غير محرم لها ، وأن تحفظ فرجها .. فهذا وذاك أمانة هى مؤتمنة عليها ، وليس من سلطان عليها ، إلا دينها وضميرها ، وعفّتها .. وقد اقترن الأمر بغض الأبصار بحرف من الذي يفيد التبعيض ، لأنه لا يمكن أن يغضّ البصر ، ويقفل قفلا تامّا ، ولهذا لم تجىء من التي للتبعيض مع حفظ الفروج ، لأن الحفظ هنا لا أبعاض له .. ثم هناك أمور .. هى ذرائع إلى الفتنة والإغراء بها ، من جانب الرجال .. فعلى المرأة أن تسدّ هذه الذرائع وتغلق هذه النوافذ ، التي تطلّ بها الفتنة منها على الرجال ، فتكون بذلك داعية فتنة وإغراء بالفتنة سواء قصدت إلى هذا أم لم تقصده ..

وهذه الذّرائع هى ما جاء مفصلا فى الآية على هذا الترتيب :

ـ (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ..) أي لا يكشفن من أنفسهن إلّا ما لا سبيل إلى ستره وإخفائه ، كالعينين ، والكفّين ، والقدمين.

فالمرأة كلّها «زينة» فى عين الرجل .. حتى صوتها .. ولكن الشريعة الإسلامية نافية للحرج .. وأمر المرأة بإخفاء كيانها كلّه ، مما لا تحتمله النفوس ، ولا تقبله الحياة .. ومن هنا كان الاستثناء بقوله تعالى : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) أي إلّا ما لا بدّ من ظهوره ، حتى تعيش المرأة فى الحياة ، وتشارك فيها ، فتنظر بعينيها وتعمل بيديها ، وتسعى بقدميها ..

٤٢١

ـ (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ).

الضرب : وضع الشيء على الشيء فى إحكام.

والخمر : جمع خمار ، وهو ما تستر به المرأة نحرها ..

والجيوب : جمع جيب ، وهو فتحة الثوب ، بين النحر ، والعنق ..

والمعنى : أنه يجب عليهن ستر العنق والنحر بالخمر ، وضربها على العنق ، وإرسالها إلى النحور ..

ـ (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ .. أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ).

فهؤلاء الأصناف من الرجال ، هم محارم للمرأة ، أو أشبه بالمحارم لها .. وليس عليها من جناح فى أن تتحفف كثيرا أو قليلا من هذا الحظر المضروب عليها ..

ـ فقوله تعالى : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ) أي أزواجهن .. فليس على المرأة حرج أن تبدى زينتها كلها أو بعضها للزوج.

ـ (أَوْ آبائِهِنَّ ..) وليس عليها من حرج كذلك فى أن تبدى زينتها كلها أو بعضها فى حضور أبيها.

ـ (أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ) وهم آباء الأزواج ، أي وكذلك الشأن مع أبى الزوج .. فهو مثل أبيها.

ـ (أَوْ أَبْنائِهِنَّ ..) وليس على المرأة من حرج فى حضور أبنائها ،

٤٢٢

أن يظهر منها شىء مما أمرت بستره من زينتها.

أو (أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ) أي أبناء الأزواج من غيرهن .. فهن مثل أبنائهن.

ـ (أَوْ إِخْوانِهِنَّ ..) وليس على المرأة حرج فى أن يظهر منها شىء من زينتها فى حضور إخوتها ..

ـ (أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ) وكذلك أبناء الإخوة ، هم كالإخوة ..

ـ (أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ) وأبناء الأخوات كأبناء الإخوة ..

ـ (أَوْ نِسائِهِنَّ) أي زوجات هؤلاء الرجال المذكورين ، حيث لا يكون فى مخالطتهن فتنة ، ولا فى كشف الزينة أمامهن ما يفضح جمال المرأة ، وذلك لأن زوجة أىّ من هؤلاء الرجال تتحرج من أن تصف ما ترى منها للرجال ، إذ كانت المرأة هنا بالنسبة لأية زوجة من أولئك الزوجات بعضا منها ، وأهلا من أهلها ، فلا تغرى الرجال بها ، ولا تكشف لهم عن مفاتنها ..

وكذلك الشأن فى نساء زوجها ، اللائي تمسكهن الغيرة عن وصف أي حسن تراه إحداهن فى الأخرى ..

ـ (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ) وهم الرقيق ، المملوك لهن من الرجال .. فملك اليمين ، وإن لم يكن من محارم المرأة ، هو أشبه بالمحرم ، لأنها تملكه ، كما تملك المتاع ، الأمر الذي لا يصح معه أن يكون زوجا لها ، له القوامة عليها ، كما يقول الله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ ..) (٣٤ : النساء) فاعتبار ملك اليمين ، أهلا لأن ينظر إلى مالكته نظرة اشتهاء ، فيه إيذان بفتح باب فتنة وفساد ، حيث يخلى المرأة من شعور الترفّع عن أن تكون مستفرشة لخادمها وملك يمينها ، على حين أن هذا يجرّىء المملوك على التطاول إلى سيدته ، والطمع فيها ..

وفى التخفف من زينة المرأة أمام مملوكها ، إشعار له ولها ، أن الأمر بينهما

٤٢٣

قائم على غير ما يقوم عليه الحال بينها وبين غير المحارم من الرجال .. وبهذا يموت ، أو يصل إلى قريب من الموت ، هذا الإحساس الذي يكون بين المرأة والرجل الأجنبى عنها ..

فالمملوك ـ وإن كان رجلا ، فيه ما فى الرجال من رغبة واشتهاء ـ هو بالنسبة إلى مالكته كأحد محارمها ، الذين يخالطونها ، ويعايشونها .. كالأب ، والابن ، والأخ .. وتخففها من زينتها فى وجوده يشعره ويشعرها بهذا المعنى ، وهو أنه لا ينبغى أن يمدّ بصره إليها ، كما أنه لا يليق بها أن تشتهيه.

وقد ذهب كثير من المفسّرين ، والفقهاء إلى أن المراد بما ملكت أيمانهن الإماء ، دون العبيد .. ولكن الذي نراه ، هو أن المقصود به العبيد .. وقد روى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى إلى فاطمة ـ رضى الله عنها ـ بعبد لها ، فأرادت أن تستتر منه بالحجاب ، فقال عليه الصلاة والسلام : «إنه ليس عليك بأس .. إنما هو أبوك وغلامك»!!

ـ (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ ..)

والإربة : من الأرب ، وهو الرغبة والاشتهاء ..

والمراد بالتابعين ، هم الذين يخدمون المرأة ، ويكونون فى حاجتها بأجر ، وهم ليسوا فى ملك يمينها .. فهؤلاء التابعون ، وقد انقطعت شهوتهم للمرأة ، لمرض ، أو شيخوخة ، أو غير هذا مما تنقطع به شهوة الرجل للمرأة ـ هؤلاء التابعون ، لا حرج على المرأة من أن تتخفف من زينتها فى حضورهم ، لأنهم لا ينظرون إلى ما بدا منها نظرة رغبة واشتهاء .. ومن ثمّ لا يكون النظر إليها مدخلا إلى الفتنة ، إذ لا إربة لهم فى المرأة ..

٤٢٤

ـ (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ).

والطّفل : الولد ، مادام ناعما ، ويطلق على المفرد ، والجمع ، ويجمع على أطفال ، ويقال للمرأة الناعمة طفلة.

وحكم الصغار ـ وإن كانوا غير محارم للمرأة ـ كحكم التابعين غير أولى الإربة من الرجال .. لأنهم فى تلك الحال بعيدون عن التفكير فى المرأة ، وعن النظر إليها فى رغبة وشهوة ..

وفى وصفهم بقوله تعالى : (لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) إشارة إلى أنهم وهم فى سنّ الطفولة ، لا يستطيعون التمييز بين ما هو عورة ، وما ليس بعورة من المرأة ..

فهؤلاء اثنا عشر صنفا من الرجال ، ليس على المرأة حرج فى أن تبدى بعض زينتها فى وجودهن ..

هذا ، ويلاحظ فى هذا النظم ، الذي جاءت عليه هذه الآية فى ذكر هؤلاء الأشخاص ، أنه يأخذ ترتيبا تنازليا فى تضييق دائرة التخفف من الزينة ، شيئا فشيئا .. بحيث تكون هذه الدائرة على سعتها كلها مع الزوج ، ثم تبدأ تضيق شيئا فشيئا مع من بعده ، حتى تبلغ حدها الأدنى مع (الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ ..)

ونظرة فى هذا الترتيب ، تدلّ على حكمة الحكيم ، وتقدير العزيز العليم ، لما فى النفس البشرية من نوازع وعواطف ، تتحرك حسب ما يقوم بينها وبين العالم الخارجي من روابط وصلات.

وقوله تعالى : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) أي ولا يأتين بأرجلهن حركة تنمّ عما يخفين من زينتهن .. وذلك بما يكون

٤٢٥

من ضروب متصنعة فى المشي ، تهتز معها الأرداف ، وتتمايل الخصور ، وتتماوج الصدور ..

وفى قوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) هو دعوة للمؤمنين ، والمؤمنات ، إلى التوبة إلى الله ، والرجوع إليه من قريب حيث أن الإنسان فى هذه المواقف معرض للزلل والعثار .. من خطرات نفسه ، أو نظرات عينه ، أو فحش لسانه ، إلى غير هذا ممالا يكاد يسلم منه أحد .. وليس لهذا من دواء إلا التوبة إلى الله من كل زلّة أو عثرة .. فإن هذه التوبة هى التي تصحح للمؤمن إيمانه ، وتبقى على ما فى قلبه من جلال وخشية لله رب العالمين .. وفى هذا الفوز والفلاح ..

____________________________________

الآيات : (٣٢ ـ ٣٤)

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) (٣٤)

____________________________________

٤٢٦

التفسير :

قوله تعالى :

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ .. إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) ..

الأيامى : جمع أيّم ، وهو من لم تكن له زوجة ، أو من لم يكن لها زوج ..

والأمر موجه إلى المجتمع الإسلامى كله .. وهو نصح وإرشاد ، وترغيب فى الزواج ، وذلك لما فيه من وقاية ، وحصانة ، وتعفف .. وهو مما يعين على الاستجابة لما أمر الله به فى الآيات السابقة ، من غضّ الأبصار وحفظ الفروج .. وفى هذا يقول الرسول الكريم : «يا معشر الشباب .. من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغضّ للبصر ، وأحفظ للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ، فإنه له وجاء» ..

والباءة : القدرة على التزوج ، وامتلاك الصلاحية له ..

والوجاء : الخصاء ، الذي به تموت الشهوة ، وينقطع اتصال الرجل بالمرأة ..

فالمسلمون مطالبون بأن يتحصنوا بالزواج ، وأن يرغبوا فيه ، وييسّروا أموره ، وذلك حتى لا تفشو فيهم دواعى الفساد ، والاعتداء على الفروج ، أو حتى لا يتجه أصحاب الإيمان القوىّ إلى الرهبنة ، التي تحرمها شريعة هذا الدين .. كما يقول الرسول الكريم : «النكاح سنّتى ، فمن رغب عن سنتى فليس منّى ..» وكما يقول صلوات الله وسلامه عليه: «لا رهبانية فى الإسلام» ..

ـ وقوله تعالى : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) معطوف على قوله تعالى :

٤٢٧

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ..) أي وزوجوا من لم يتزوج من أحراركم وحرائركم ، وزوجوا كذلك الصالحين من عبادكم وهم العبيد ، وإمائكم ، وهن الرقيقات .. أي وكما يرشدكم الله سبحانه وتعالى إلى أن تتزاوجوا فيما بينكم أيها الأحرار ، لتحفظوا فروجكم ، كذلك ينصح لكم أن تزوجوا من ترونه صالحا للزواج من عبيدكم وإمائكم .. فهم بشر مثلكم ، فيهم رغبة وشهوة ، وإنه لا سبيل إلى قضاء هذه الشهوة ، إن لم يكن فى حلال ، ففى حرام ..

ومن أجل هذا ، فإن على من فى يده فتى أو فتاة ، أن يرعى الله فيهما ، وألّا يدعهما هملا ، يعيشان فى الفاحشة كما تعيش البهائم .. فهم جزء من المجتمع الإنسانى ، وفى فسادهم فساد للمجتمع ، ومنهم تصل العدوى إلى غيرهم من الأحرار والحرائر ..

وفى وصف العبيد والإماء بالصلاح ، إشارة إلى أنه ليس كل عبد أو أمة صالحا للزواج .. فإن حياة العبيد والإماء تذهب بكثير من معالم إنسانيتهم .. ولكن يبقى ـ مع هذا ـ قدر صالح من الإنسانية عند بعضهم ، يصلح به أن يكون أهلا للزواج من مثله ..

وقوله تعالى : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ..) الضمير فى (يَكُونُوا) يعود إلى المذكورين فى الآية من (الْأَيامى) ويشير من طرف خفىّ إلى العبيد والإماء .. أي إن يكن هؤلاء المذكورون صالحين للزواج ، وراغبين فيه طلبا للتعفف ، ولكن يمنعهم خوف الفقر والحاجة ، وعدم القدرة على حمل أعباء الزوجية ، وما تجىء به من ذرية ـ إن يكن هذا صارفا لهم عن التزوج فليتزوجوا ، والله سبحانه وتعالى يعدهم سعة الرزق ، ودفع الضرّ الذي يتوقعونه من الزواج ، ما دامت نيتهم قائمة على طلب مرضاة الله ، وحفظ الفروج بهذا الزواج ..

٤٢٨

وهذا وعد كريم من الله سبحانه ، لا بدّ أن يتحقق ، وذلك لأمرين :

أولهما : أنه وعد من الله .. والله سبحانه وتعالى لا يخلف وعده! ..

وثانيهما : أن هذا الوعد يحمل معه أسباب الغنى! ..

وكيف؟ ..

والجواب ، هو أن الذي يطلب فى الزواج العصمة لدينه والحفاظ على شرفه ومروءته ، هو إنسان جادّ فى هذه الحياة ، وملء إهابه ، إيمان ، وتقى ، وجدّ ، وعزم .. وأنه ليس من اللاهين الفارغين ، الذين يقضون حياتهم فى اللهو والعبث ، وتصيّد الشهوات ، والتقاطها من كل وجه .. فهؤلاء الذين يشغلون بالبحث عن اللذات والمتع ، وقضاء الشهوات ، هم أقرب الناس إلى الفقر ، وأدناهم إلى الحاجة والعوز ، لأنهم لا يصرفون أنفسهم إلى عمل جاد مثمر أبدا ..

أما أولئك الذين تحصنوا بالزواج ، فقد أراحوا أنفسهم من هذا الجري اللاهث وراء شهواتهم ، وهم لهذا منصرفون إلى العمل الجاد المثمر ، الذي يبذلون له كل جهدهم وطاقتهم .. وهذا من شأنه أن يملأ أيديهم من الخير ، وأن يدنيهم من الغنى ، بل ويحققه لهم ..

وفى قوله تعالى : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) إشارة إلى سعة فضل الله ، وأنه لا يضيق بالطالبين لفضله ، المبتغين من رزقه ، وهو (عَلِيمٌ) بما يصلح أمرهم ، ويقربهم من فضله ، ويعرّضهم لرزقه .. ومن ذلك تحصنهم بالزواج ..

قوله تعالى :

(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ

٤٢٩

فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ..

الكتاب : المكاتبة ، وهو أن يطلب العبد إلى مولاه أن يعتقه من الرقّ ، فى مقابل قدر من المال ، يؤديه إليه ، فيعطيه سيّده بذلك كتابا ، يذكر له فيه المال الذي كاتبه عليه ..

وفى دعوة ما لكى الرقاب إلى مكاتبة من فى أيديهم ، ممن يرغب منهم فى هذا ـ دعوة إلى تحرير الأرقاء ، وفكّ الرقاب .. وذلك بعد الدعوة إلى حفظ إنسانيتهم ، ورفع قدرهم بالزواج ، ونقلهم من دائرة الحيوان إلى عالم الإنسان ..

وفى قوله تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) إرشاد لمالكى الرقاب ، إذا هم استجابوا لأمر الله ، ورغبوا فى مكاتبة من يطلب المكاتبة من مواليهم ـ أن ينظروا فى حالهم قبل أن يكاتبوهم ، وأن يتحرّوا صلاحيتهم للحياة بعد أن يتحرّرا من الرق ـ .. فقد لا يكون لمن يتحرر منهم حيلة فى الحياة الجديدة التي يدخل فيها ، فيصبح ـ وهو الحر ـ عالة على المجتمع ، يعيش على السؤال والتكفف ، وفى هذا ضياع له ، أكثر من ضياعه وهو فى قيد الرق! .. ولا شك أن السيد إذا أمسك عن مكاتبة عبده ، وهو ينظر فى هذا إلى مصلحة العبد نفسه ـ إنما يريد له الخير ، باختيار ما هو أصلح له .. وسيد هكذا .. هو سيد يخاف الله ويتقيه ، فى هذا الإنسان الذي ملكه الله رقبته ، وحفظه فى يده رقيقا خير من إطلاقه. وهو لا يحسن القيام على نفسه.

وفى قوله تعالى : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) دعوة إلى المؤمنين جميعا ، ومنهم السيد مالك الرقيق المكاتب ، أن يعينوهم على جمع المال المطلوب

٤٣٠

منهم ، حتى يتخلصوا من أسر الرق ، وحتى يدخلوا فى المجتمع الحرّ ، ويكونوا قوة عاملة فيه ..

قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً).

البغاء : من البغي ، وهو العدوان على حدود الله بإهدار حصانة الفروج ..

والنهى هنا متجه إلى من يملكون إماء فى أيديهن ..

وقد أجمعت أقوال المفسرين جميعا ، على أن معنى إكراه الإماء على البغاء ، هو دعوة مالكيهن لهن إلى طلب البغاء ، رغبة فى الحصول على المال الذي يجمعنه لهم من هذا الوجه الخسيس ..

والنهى هنا واقع على مالك الرقبة ، إذا أرادت المملوكة تحصنا وتعفّفا .. أما إذا كان البغاء بدعوة من سيدها ، وعن رغبة ورضا منها ، فلا محلّ للنهى ، ويكون هذا البغاء مباحا .. هذا ما يفهم مما أجمع عليه المفسرون فى تأويل هذه الآية .. وللمفسرين فى هذا تخريجات ، وأساتيد يستندون إليها ، ومرويات يأتون بها ، فى أسباب النزول ، والأحداث التي لابست نزول الآية ..

والحق أننا لم نر فى هذه التخريجات وجها ، نقبلها عليه ، وأن نفهم كلمات الله بها ، دون أن يكون فى الصدر حرج ، وفى القلب ضيق ووسواس! .. فمن أراد أن ينظر فى هذه المرويات ، وتلك التخريجات فهى مبثوثة فى كتب التفاسير ، يضيق الصّدر بها ، ويثقل على النفس نقلها هنا ..

وقد هدانا الله سبحانه وتعالى ، إلى مفهوم للآية الكريمة. نرجو أن يكون أقرب إلى الصواب ، وأدنى إلى الحقّ.

فالفهم الذي نستريح إليه فى الآية الكريمة .. هو أن قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) هو دعوة إلى مالكى

٤٣١

رقاب هؤلاء الفتيات (الإماء) بتزويجهن إذا رغبن فى الزواج. ليتحصّن به ، وليحفظن فروجهن .. فهذه الإرادة منهن للتحصن بالزواج ، شاهد مبين على صلاحهن ، وسلامة إيمانهن ، وأنهن يرغبن عن الحياة الطليقة ، التي يعيش فيها الإماء ، مستباحات الأعراض .. إنهن بهذا الزواج الذي يرغبن فيه ، يردن قيدا يقيّد خطوهن المطلق فى عالم الخطيئة .. وهذا لا يكون إلّا من أمة تشعر بإنسانيتها ، وتخاف الله فى عرضها ..

فالإمساك بالإماء اللاتي يرغبن فى الإحصان بالزواج ـ الإمساك بهن عن الزواج ، هو فى الحقيقة ـ إكراه لهن على البغاء .. إذ لا سبيل إليهن ـ وهن رقيقات ـ إلا البغاء ، رغبن فى هذا ، أو لم يرغبن .. إذ لا حجاز بينهن وبين من يريدهن ..

ويكون تحرير معنى الآية هكذا :

(وَلا تُكْرِهُوا) أيها المؤمنون (فَتَياتِكُمْ) أي إماءكم اللاتي يرغبن التحصن بالزواج ـ لا تكرهوهن (عَلَى الْبِغاءِ) وتحملوهن عليه حملا ، بمنعهن من التزوج ..

وفى قوله تعالى : (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) إشارة إلى العلة التي قد تحول بين السيد ، وبين إجابة رغبة أمته أو إمائه فى التحصن بالزواج .. وذلك لما تشغل به الأمة عن سيدها ، بزوجها ، وبالحمل ، والرضاعة ، وغيرها ، الأمر الذي يخفّ به ميزانها فى خدمة سيدها ، وينزل به قدرها عند بيعها ..

وهذا المقطع من الآية هو الذي حمل المفسرين على القول بأن الإكراه مراد به الإكراه على الزنا ، وجلب المال لأسيادهن من هذا الوجه .. وقد رأيت تأويلنا لهذا المقطع ، واتساقه مع المعنى الذي ذهبنا إليه ..

٤٣٢

ثم تجىء خاتمة الآية هكذا : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ...

وقد اضطرب المفسرون فى توجيه هذه الخاتمة ، وضاقت بهم السبل فى تخريجها ، إذ كيف يكره السيد أمته أو إيماءه على البغاء ، ثم يجىء من ذلك عفو الله ومغفرته ورحمته؟ إن هذا أشبه بالتحريض على الإكراه على البغاء ..!

ومن مخرج ضيّق كسمّ الخياط ، خرج بعض المفسرين إلى القول ، بأن المغفرة والرحمة إنما يراد بهما الإماء اللاتي أكرهن على البغاء ، على حين لا تنال المغفرة والرحمة من أكرههن!!

وهذا مردود من أكثر من وجه :

فالأمة فى تلك الحال مكرهة ، ولا ذنب عليها ، ترجى له المغفرة والرحمة .. ففى الحديث الشريف : «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ..

ثم هى من جهة أخرى ، ملك فى يد سيدها ، لا تملك من أمر نفسها شيئا ، فهو يحلّ منها ما يشاء لمن يشاء!

وعلى هذا ، فإن المغفرة والرحمة إنما تطلب لمن كانت منه إساءة ، هى فى مفهومنا ممن أمسك بهن عن التحصن بالزواج ، وكان بسبب هذا كالمكره لهن على البغاء .. فإن هو رجع إلى الله ، وأمسكهن عن طريق الفساد ، وحصنهن بالزواج ، نالته مغفرة الله ، وسعة رحمته ..

ومن جهة أخرى .. فإننا نرى فى هذه الآية ، دعوة إلى مالكى الرقاب بمكاتبة من يرونه صالحا للمكاتبة من عبيدهم ، إذا هم رغبوا فى هذا ..

٤٣٣

فهذه رغبة يدعو الإسلام إلى تحقيقها للعبيد .. لأنهم فى الواقع هم الذين تنزع بهم نفوسهم إلى الرغبة فى التحرر بالمكاتبة ، بخلاف الإماء اللاتي لا حول لهن ولا طول ..

ومن حق الإماء على الشريعة الإسلامية أن تحقق لهن رغبة يرغبنها ، كما حققت للعبيد الرغبة التي يرغبونها ..

ورغبة الإماء هنا ، هى إرادة التحصن بالزواج ، كما يقول سبحانه : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ..) فهذه الرغبة تقابل رغبة العبيد فى المكاتبة كما يقول سبحانه : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ..)

وبهذا يعتدل ميزان الإماء والعبيد ، فى شريعة قامت على العدل والإحسان والمساواة .. فى الحقوق ، والواجبات .. للمرأة والرجل على السواء ..

ومن جهة ثالثة ، فإن الأمة إذا تزوجت أحصنت ، كما يقول الله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ .. ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٥ : النساء).

ففى هذه الآية أمور ..

أولا : أن الحرّة محصنة ، سواء أكانت متزوجة أم غير متزوجة ، وأن الأمة إنما تحصن بالزواج ..

ثانيا : فى زواج الأمة تكريم لها ، ورفع لخسّتها ، ونقلها من مرتبة

٤٣٤

الحيوان المملوك ، إلى درجة المرأة الحرة .. حيث ينشىء لها الزواج حقوقا ، ويفرض عليها واجبات ، وقد كانت قبل الزواج مطلقة ، لا حقوق لها ، ولا واجبات عليها ..

ثالثا : أن الأمة إذا تزوجت ثم زنت ، وثبتت عليها الجريمة ، أقيم عليها الحدّ ، وهو نصف ما على المحصنات من العذاب ، فتجلد خمسين جلدة.

رابعا : أشارت الآية إلى أن زواج الأمة لا يكون إلا بإذن مالكها وعن رضاه ، فليس لها والحال كذلك ، أن تزوج نفسها إذا رغبت فى الزواج ، وأرادت التحصن به .. فإن أبى عليها مالكها أن تتزوج ، لم يكن أمامها إلا أن تعرض نفسها للرجال .. وهذا هو البغاء الذي أكرهها مالكها عليه بوقوفه فى وجه الزواج الذي تتحصن به وتعفّ عن الفاحشة.

هذا ، هو ما رأينا والله سبحانه وتعالى أعلم (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ).

* * *

قوله تعالى :

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

هذه الآية هى ختام لآيات الأحكام ، التي جاءت بها السورة من قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) إلى قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً).

وهى فى هذا أشبه بالبدء الذي بدئت به السورة ، فى قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

فبدء السورة كان إعلانا بنزول آيات بينات ، تلى هذا الإعلان ، وتجىء بعده ..

٤٣٥

وقد نزلت هذه الآيات البينات ، متضمنة تلك الأحكام الخاصة بحرمات الفروج. وحين انتهت الآيات من بيان هذه الأحكام ، جاء قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ ..) ليذكّر بتحقيق هذا الخبر الذي أعلنته السورة فى أول آية منها ، وليلفت الأنظار إلى أن هذه الآيات ، هى الآيات البينات ، التي أشارت إليها الآية الأولى من السورة .. فليتحققوا من هذا الوصف ، وليطلبوه منها ، وليكون لهم منه عبرة وموعظة ..

وفى وصف الآيات فى أول السورة بأنها (آياتٍ بَيِّناتٍ) ووصفها هنا بأنها (آياتٍ مُبَيِّناتٍ) ما يحقق وصفين لهذه الآيات فهى آيات بينات واضحات مشرقات فى ذاتها .. سواء نظر إليها الناظرون ، أو لم ينظروا .. ثم هى مبينات ، تكشف لمن ينظر فيها طريق الحقّ والهدى ..

وقدّم وصفها بالبيّنات على وصفها بالمبينات .. لأنها فى أول الأمر لم تكن بين يدى الناس ، ولم ينظروا فيها بعد .. فكان وصفها بالبينات وصفا ذاتيا لها ، دون نظر إلى اتصال الناس بها .. فلما نزلت ، واتصل الناس بها كانت مبينة لهم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ..

وقوله تعالى : (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) معطوف على قوله تعالى : (آياتٍ مُبَيِّناتٍ) أي وأنزلنا إليكم فى هذه الآيات مثلا من الذين خلوا من قبلكم.

وهذا المثل الذي جاءت به الآيات هنا مشابها ومماثلا لمثل آخر وقع فى الأزمنة الخالية ـ هذا المثل هو حديث الإفك ، الذي رميت به السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ ومثله فى الذين خلوا من قبل ، هو ما وقع لمريم ـ عليها‌السلام لما لقيها به أهلها من اتهام ، حين جاءت إليهم بوليدها تحمله .. وقد برأ الله مريم فى آيات بينات من كتابه الكريم ، كما قال سبحانه وتعالى فى اليهود : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) (١٥٦ : النساء) ـ فقد وصف الله سبحانه

٤٣٦

وتعالى قولهم فى مريم بأنه بهتان عظيم ، كما وصف سبحانه ما رميت به السيدة عائشة ، بأنه بهتان عظيم ، وذلك فى قوله سبحانه : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) ..

وكفى السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ قدرا وشرفا أن تكون مثلا مناظرا للسيدة مريم ، عفة وطهارة ، وأن تشاركها هذا الوصف الذي وصفت به فى قوله تعالى : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) (٤٢ : آل عمران).

____________________________________

الآيات : (٣٥ ـ ٤٠)

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ

٤٣٧

بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ .. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ .. الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

هذه الآية تحدث عن سلطان الله ، وامتلاكه لناصية كل موجود فى هذا الوجود ، من الذّرّة فما دونها ، إلى النجم فما فوقه ..

وقد وصف الله سبحانه وتعالى ذاته بأنه نور السّموات والأرض .. أي أنه الكاشف لكل موجود طريقه فى هذا الوجود ، والهادي الموجّه له إلى الطريق الذي يأخذه ، كما يقول سبحانه : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ، ثُمَّ هَدى) (٥٠ : طه).

فهذا النور الذي يضىء الوجود كله ، ويقيم لكل موجود فيه ، بصيرة ، أو بصرا ـ هذا النور هو مظهر من مظاهر جلال الله ، وعظمته ، وقدرته .. فكما أن الله سبحانه وتعالى هو ربّ العالمين ، فكذلك هو ـ سبحانه ـ نور العالمين ..

وقد ضرب الله سبحانه وتعالى لنوره العظيم ، مثلا يقربه إلى العقول ، ويدنيه من المدارك والتصورات ، ويخرجه من عالم ماوراء الحس إلى عالم الحسّ .. وإلا فإن هذا النور فى ذاته لا يمكن تصوره ، حقيقة أو خيالا ، لأنه من صفات

٤٣٨

الله ، وكما لا تدرك ذات الله ، فكذلك لا تدرك صفاته ..

والمثل المضروب لنور الله هو «المشكاة» وهى الكوة أي «الطاق» المفتوحة فى الحائط ، والمغلقة من أحد وجهيها .. ويمكن أن تكوّن «المشكاة» هى هذا القنديل من البلّور ، الذي يحمل المصباح.

وهذه المشكاة ، أو القنديل ، يتلألأ نورا مشعّا ، يكاد يخطف الأبصار .. وهذا النور ، ينبعث من «مصباح» وهو الشعلة المتقدة المضيئة ، من فتيل أو نحوه ، داخل المشكاة ..

وهذا المصباح داخل زجاجة ..

وهذه الزجاجة .. شفافة صافية .. كأنها كوكب درّىّ ..

ثم إن وقود هذا المصباح هو ، من زيت مبارك ، مستصفى من شجرة مباركة زيتونة ، (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) أي مغروسة فى أنسب مكان لها ، وأعدله .. فهى وإن كانت من نبات المناطق المعتدلة ، لا الحارة ، ولا الباردة ، إلا أنها تأخذ أعدل مكان فى هذه المناطق ، فهى لا إلى الشرق ، ولا إلى الغرب ..

وقد يحسب بعض الناس أن التأثيرات الطبيعية فى حياة الناس ، والحيوان والنبات ، تخضع لقرب المكان أو بعده من خط الاستواء .. وهذا ، وإن كان صحيحا ، إلا أنه ليس على إطلاقه ، فإن قرب المكان أو بعده ، من نصف الكرة الأرضية ، شرقا ، أو غربا ، له تأثيره القوىّ فى الكائنات الحية ، من إنسان ، وحيوان ، ونبات ، ولهذا اختلف الشرق والغرب ، ولهذا قيل : الشرق شرق والغرب غرب ، بمعنى أن لكل منهما بيئة خاصة ، يتأثر بها الأحياء التي تعيش فيها .. وإنه لشتان بين اليابانى فى أقصى الشرق ، وبين الأمريكى فى أقصى الغرب ، وإن كانا على خط عرض واحد ..

٤٣٩

والمشرق ، أو النصف الشرقي من الكرة الأرضية ، تختلف طبائع الناس فيه ، بين من كان منهم فى أقصى الشرق ، ومن كان فى أقصى الغرب من هذا الشرق ، وذلك لامتداد المسافة وطولها بين شرق الشرق وغربه ، وكذلك الشأن فى الغرب ، ولهذا جاء قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) (١٧ : الرحمن) وجاء فى آية أخرى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) (٤٠ : المعارج) .. فالمشرق مشرقان ، والمغرب مغربان .. والمشرق مشارق ، والمغرب مغارب ، وذلك حسب اتساع النظرة التي ينظر بها إليهما.

ولا شك أن وصف الشجرة الزيتونة بأنها لا شرقية ولا غربية ، يدلّ على أنها أكرم شجرة زيتون ، وأحسنها ، وأتمها ، إذ كانت تنبت فى أعدل مكان من الأماكن التي تنبت فيها.

* * *

ونعود إلى هذا التشبيه الذي شبه به نور الله ..

وقد أكثر المفسرون القول فى العائد عليه الضمير فى قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ) أهو الله؟ أم المؤمن؟ أم قلب المؤمن؟ أم القرآن؟ أم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟.

والذي تدل عليه الآية صراحة ، هو أن هذا الضمير يعود إلى الله سبحانه وتعالى ، وأن هذا التشبيه هو تشبيه لنور الله ، وإنه لا حرج من أن يشبه نور الله بما يقع لحواسنا من نور ، ولله ـ مع هذا ـ المثل الأعلى ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) وقد وصف سبحانه ذاته ، بأنه يرى ، ويسمع ، ويطوى السموات بيمينه ، ويصنع من يصطفى من عباده على عينه .. إلى غير ذلك مما هو من صفات الإنسان ، وأعماله .. وما ذلك إلا لنعطيه سبحانه ، نحن البشر ـ الوصف الكامل ، الذي ننتزعه من عالم الحس الذي نعيش فيه ..

٤٤٠