التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

وقد ذهب معظم المفسرين مذاهب شتى فى «ذى الكفل» وكان أضعف الآراء عندهم فيه ، أنه نبى ، من أنبياء الله ..

والرأى عندنا والله أعلم ـ أنه نبىّ ، وأن أبرز صفة فى حياته كانت صفة الصبر .. أما رسالته ، وأما قومه ، فشأنه فى هذا شأن إدريس ، الذي لم يذكر له القرآن رسالة ولا قوما .. كما أننا نرجح أنه زكريا ـ عليه‌السلام ـ لأنه هو الذي كفل مريم ، كما يقول الله تعالى : (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا)

وتسأل : ما حكمة ذكر إدريس وذى الكفل ، هذا الذكر الذي لا يحوى إلا اسميهما دون أن تلحق بما قصة تستملى منها العبرة والعظة؟

والجواب على هذا ـ والله أعلم ـ أن ذكرهما فى القرآن الكريم لم يكن مساقا للعبرة والعظة ، ففيما حدث به القرآن من قصص الأنبياء أكثر من عبرة وعظة .. وإنما كان ذكرهما تكريما لهما ، وحفظا لاسميهما الكريمين على الزمن ، ونظمهما فى عباد الله المصطفين من أنبيائه ورسله ..

وفى هذا تحقيق لأمرين :

أولهما : ما يجده الأحياء الذين يشهدون هذا الحديث ، من إحسان الله سبحانه وتعالى إلى المحسنين من عباده ، بعد أن يتركوا هذه الدنيا ، وذلك برفع ذكرهم ، وتخليد آثارهم ، وفى هذا ما يغرى بالإحسان ، وبتمجيد المحسنين ..

وثانيهما : ألا يحرم هذان النبيان نصيبهما من دعاء المؤمنين على امتداد الأزمان ، حيث يصلّى المصلون على أنبياء الله ، وحيث يذكرهم الذاكرون واحدا واحدا.

قوله تعالى :

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ

١٠١

أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).

ذا النون : هو يونس ـ عليه‌السلام ـ والنون : هو الحوت ، وجمعه نينان .. وقد نسب إليه يونس ، لأنه عاش فى بطنه زمنا ـ كما سترى ..

وقوله تعالى : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) إشارة إلى أنه اختلف مع قومه ، فتركهم وذهب بعيدا عنهم ، مغاضبا لهم.

وفى قوله تعالى : (مُغاضِباً) إشارة إلى أنه استجلب المغاضبة ، واستعجلها ، وأنه وإن ظهر له من قومه ما يثير الغضب ، ويدعو إلى القطيعة ، إلا أنه كان جديرا به أن يصبر ، ويصابر ، وألّا يأخذ القوم بأول بادرة ، فيتخلى عن مقامه فيهم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى ، مخاطبا النبىّ الكريم ، صلوات الله وسلامه عليه : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ) (٤٨ : ن).

ففى هذا تعريض بيونس ـ عليه‌السلام ـ وأنه لم يصبر الصبر المطلوب من الأنبياء ..

وقوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي ظن أن لن نقدر على محاسبته على هذا الموقف ، وعقابه عليه ..

ولم يكن من يونس عليه‌السلام هذا الظن بربه ، وبقدرته ، وإنما حاله التي كان عليها هى التي تعطى هذا الوصف له .. فهو قد فعل فعل من يظن أنه يفعل ما يفعل ، ثم لا يجد محاسبا على ما فعل ..

قوله تعالى : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ).

١٠٢

هنا كلام مضمر ، يشير إليه العطف بالفاء (فَنادى) .. وهذا المضمر ، قد ذكر فى آيات أخرى من القرآن الكريم ، وفى هذا يقول سبحانه : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ) (١٣٩ ـ ١٤٢ : الصافات).

فحرف العطف «الفاء» يشير إلى هذه الآيات .. والمعنى أن يونس لما ذهب مغاضبا قومه ، ظانّا أن لن نقدر عليه ، أبق (أي هرب) (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي الذي شحن وامتلئ بالناس والأمتعة ، حتى فاض ، وكاد يغوص فى الماء .. وإنقاذا للسفينة من الغرق رؤى أن يتخفف من أمتعتها ، ثم من بعض الراكبين فيها ، وقد ارتضى الركاب أن يقترعوا فيما بينهم على من يخلى السفينة ، ويلقى بنفسه فى الماء ، ولو كان فى ذلك هلاكه ، إذ أن فى هلاكه نجاة كثيرين.

وقد وقعت القرعة على يونس فيمن وقعت عليهم ، ليلقوا بأنفسهم فى البحر .. (فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) أي الساقطين ، المخذولين .. وأرض دحض أي زلق ، لا تمسك قدمى من يمشى عليها ، وحجة داحجة : أي ساقطة ، غير مقبولة ..

فلما ألقى يونس بنفسه فى الماء ، التقمه الحوت. (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) والمراد بالنداء ، الدعاء ، والتسبيح لله .. كما يقول سبحانه : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) و (الظُّلُماتِ) هى هذا الظلام الكثيف المشتمل عليه فى بطن الحوت ، حيث لا ينفذ إليه شعاعة من ضوء.

وقد ذكر المفسّرون أن هذه الظلمات ، هى ظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وظلمة الليل ..

١٠٣

وأنه لا حاجة إلى هذا التكلّف ، لإيجاد وجه لجمع الظلمات .. والبحر نفسه هو ظلمات ، وبطن الحوت ظلمات وظلمات .. فما الحاجة إلى الليل ، حتى تصبح الظلمة ظلمات؟ وهل فى أعماق البحر ، أو فى جوف الحوت ، حساب للّيل أو النهار ، والظلام والنور؟ .. والله سبحانه وتعالى يقول : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ، ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) (٤٠ : النور) إن ما فى أعماق البحر ، ليست ظلمات وحسب ، وإنما هى ظلمات ، فوق ظلمات ، فوق ظلمات!

وقوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي أن الله سبحانه قد استجاب دعاء يونس ، ونجّاه مما هو فيه من غمّ ، وكذلك ينجى الله المؤمنين ، مما ينزل بهم من سوء ، وما يصيبهم من بلاء ..

ويونس لم يدع إلا بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) .. فهو دعاء لم يطلب فيه نجاة أو خلاصا من هذا البلاء الذي هو فيه .. ففيم استجاب الله له؟

والجواب ـ والله أعلم ـ أنه دعا بأفضل دعاء يقتضيه حاله ، ويطلبه موقفه. إنه قد أتى من قبل نفسه ، وإنّ نفسه هى التي أوقعته فى هذا البلاء ، ودفعت به إلى هذا الموقف الذي هو فيه ، فهو فى دعائه هذا يطلب البراءة من نفسه ، والنجاة من شباكها ، وذلك بإخلاص العبودية لله ، والبراءة من كل شىء ، حتى من نفسه هذه ، والاستسلام لله الذي لا إله إلا هو ..

وإنه إذا خلص من نفسه ، وبرىء من أهوائها ونوازعها ، فقد خلص من كل سوء ، وأمن كل مكروه .. ومن هنا كان خلاصه من بطن الحوت ، وكانت نجاته من هذا البلاء .. وهكذا كل من يضيف وجوده إلى الله ،

١٠٤

ويبرأ من نفسه وما توسوس له به .. إنه يكون أبدا على شاطىء النجاة!.

قوله تعالى :

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ).

وزكريا ـ عليه‌السلام ـ كان مبتلى بالحرمان من الولد ، وقد طال انتظاره له ، وتطلعه إليه ، حتى بلغ من الكبر عتيّا .. فلما بلغ الحدّ الذي يقع عنده اليأس ، لم يكن من اليائسين من روح الله ، فدعا ربّه ، وناجاه فيما بينه وبين نفسه ، فقال : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ).

ـ وفى قوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) تعقيب على قوله : (لا تَذَرْنِي فَرْداً) أي إن لم تستجب لى ، وتهب لى من يؤنسنى ، ويرثنى من الولد ، فتلك هى مشيئتك ، وهى منّى بموضع الاستسلام والرضا ، فإذا لم يكن لى الولد الذي يرثنى ، فأنت خير الوارثين .. ترث الأرض ومن عليها ..

ـ وفى قوله تعالى : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) إشارة إلى ما كان فى امرأته من عقم ، وأنها بهذا العقم لم تكن صالحة للحمل والولادة ، فأصلحها الله سبحانه وتعالى ، وجعل من المرأة العقيم امرأة ولودا ..

ـ وقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) .. الضمير فى (إِنَّهُمْ) يعود إلى زكريا ، وزوجه ، وولدهما يحيى .. فهم جميعا كانوا على حال متقاربة من الإيمان بالله ، والطمع فى رحمته ، والخوف من عذابه والخشوع لعظمته وجلاله ..

والرّغب : الرغبة ، والطمع .. والرّهب : الخوف ، والخشية.

١٠٥

قوله تعالى :

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ).

التي أحصنت فرجها ، هى مريم ابنة عمران .. ولم تذكر باسمها لأنها لم تكن من الأنبياء ، والمذكورون هنا جميعا أنبياء ، ومنهم ذو الكفل ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ.

وقد ابتليت مريم بهذا الابتلاء ، الذي تكشّف عن نعمة سابغة ، وفضل عظيم ، لم يكن لأنثى غيرها ..

لقد حملت بنفخة من روح الله ، وجاءت بالمسيح عليه‌السلام .. وذلك بعد أن مرّت بهذا الامتحان القاسي ، وواجهت من أهلها وقومها هذا الاتهام ، الذي لم يكن ليدفعه عنها ما عرفت به فى قومها من طهر لا يحوم حوله شك ، ومن عفة لا يطوف بها دنس .. ومع هذا فقد واجهت المحنة ، واحتملتها فى صبر ، مستسلمة لأمر الله ، راضية بحكمه ، وكان عاقبة أمرها أن كانت هى وابنها آية للعالمين ، تتجلّى فيها قدرة الله ، وما له فى عباده المخلصين من فضل وإحسان ..

لقد كانت هى آية من آيات الله ، إذ ولدت من غير أن تتصل برجل ، وكان ابنها آية من آيات ، الله إذ ولد بنفخة من روح الله ، من غير أب.

____________________________________

الآيات : (٩٢ ـ ١٠٤)

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ

١٠٦

مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (١٠٤)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ).

بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى أولئك المصطفين من رسله وأنبيائه وعباده الصالحين .. من نوح الذي يعدّ الأب الثاني للإنسانية بعد آدم ، إلى إدريس ، الذي يقال إنه كان من ذرية نوح الأقربين ، إلى إبراهيم أبى الأنبياء .. إلى مريم أمّ آخر نبىّ فى بنى إسرائيل ـ بعد ذكر الله سبحانه وتعالى هؤلاء المكرمين من عباده ، من ذكور وإناث ، ومن بعيد عهده وقريبه ـ عقّب على ذلك بقوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ). إشارة إلى أن هذا هو المجتمع الإنسانى ،

١٠٧

وتلك هى الأمة الإنسانية ، التي يبعث الله فيها رسله ، ويصطفى منها من يشاء من عباده .. فهذه هى الأمّ التي ينتسب إليها كل إنسان ، وفيها هذه الوجوه المشرقة التي عرضتها الآيات السابقة ، والتي ينبغى أن يقيم الناس وجوههم عليهم ، وأن يقتدوا بهم ، فهم جميعا من طينة واحدة ، وإنما يكون التفاوت بينهم بالجهد الذي يبذله الإنسان منهم ، لإعلاء إنسانيته ، ورفعها عن هذا الطين!!

وفى قوله تعالى : (أُمَّةً واحِدَةً) إشارة إلى تلك الوحدة التي تجمع الناس جميعا. وتجعل منهم مجتمعا واحدا ، وإن اختلفوا ألسنة ، وتباينوا ألوانا ، وتناءوا ديارا وأوطانا ..

وقوله تعالى : (وَأَنَا رَبُّكُمْ .. فَاعْبُدُونِ) أي أنه سبحانه ربّ جميع الناس ، وراعيهم وكالئهم ، فكلهم خلقه وصنعة يده ، وكلهم غذىّ نعمته وإحسانه .. تقلّهم أرضه ، وتظلهم سماؤه ، وتغاديهم وتراوحهم نعمه .. وإذا كان هذا صنبعه بهم ، وشأنه فيهم ، فهو المستحق للعبادة والطاعة والولاء ..

فمن شرد عن الله ، وبعد عن مكانه الذي ينبغى ان يأخذه بين عباده ، وأبى أن يستمع لناصح ، أو يستجيب لداع ، أو يحفل بنذير ، فقد سعى بنفسه إلى حتفه ، وأزهق روحه بيده ..

وانظر مرة أخرى فى قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً .. وَأَنَا رَبُّكُمْ .. فَاعْبُدُونِ) تجد هذه المعادلة :

هذه أمتكم .. أمة واحدة.

وهذا أنا ربكم .. إله واحد .. لا ربّ لكم غيره.

١٠٨

والنتيجة اللازمة لهذه المعادلة هى :

(فَاعْبُدُونِ) إذ أنتم مربوبون ، وأنا الرّبّ ..

أنتم العباد ، وأنا ربّ العباد ..

أنتم العابدون .. وأنا المعبود ..

قوله تعالى :

(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ).

واو العطف هنا تشير إلى معطوف عليه محذوف .. وهذا المحذوف هو من تفريعات الأمر الذي أمر به الناس فى قوله تعالى : (فَاعْبُدُونِ) .. وهو جواب عن سؤال مقدّر يقتضيه الحال وهو : ما ذا كان من الناس إزاء هذا الأمر الذي أمروا به؟ فكان الجواب ، لم يكونوا على طريق واحد ، بل اختلفوا ، وتقطعوا شيعا وأحزابا .. فكان منهم المطيع ، وكان منهم العاصي. منهم المؤمن ، ومنهم الكافر .. منهم عابد الرحمن ، ومنهم عابد الشيطان .. (تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) .. وفى إضافة الأمر إليهم ، إشارة إلى أنه الأمر الذي هو ملاك صلاحهم وفلاحهم ، وهو الإيمان الله.

ـ وقوله تعالى : (كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) أي أن كل فريق منهم راجع إلى الله ، ومحاسب على ما كسب من خير أو شر ..

قوله تعالى :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ .. وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ).

هو بيان لما يكون عليه الناس عند رجوعهم إلى الله يوم القيامة .. فمن عمل

١٠٩

صالحا وهو مؤمن ، تقبّل الله عمله ، وكتبه له .. وسيجزيه عليه الجزاء الأوفى ..

ـ وقوله تعالى : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) هو قيد لقبول الأعمال الصالحة ، فلا يقبل من غير المؤمنين عمل وإن كان صالحا ، إذ لم يزكّه الإيمان بالله ، وكل عمل لا يزكّيه الإيمان بالله ، هو باطل ، لا وزن له.

قوله تعالى :

(وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

هو بيان للوجه المقابل للمؤمنين ، وهو وجه الكافرين .. وقد جاء النظم القرآنى على هذا الأسلوب ، ليكشف عن حال هؤلاء المجرمين فى الدنيا ، والآخرة معا ..

فهم فى الدنيا معرّضون للهلاك ، الذي يعجّل للظالمين .. وهم فى الآخرة واقعون تحت عذاب الله ، مسوقون إليه ، يتمنّون أن يعودوا إلى الدنيا ، ليصلحوا ما أفسدوا .. ولكن هيهات .. هيهات ..

ـ وقوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي ومحكوم على أية قرية هلكت ألا يرجع أهلها مرة أخرى إلى الدنيا ، أو أن يفرّوا من هذا العذاب المعدّ لهم.

وفى التعبير عن الحكم بلفظ الحرام ، تأكيد لهذا الحكم ، وجعل عودتهم إلى الدنيا من المحرمات ، التي إن ارتكبها المجرمون ، فإنها لا تجىء من عند الله! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، فكما كتب سبحانه على نفسه الرحمة ، حرّم سبحانه على نفسه أن يرجع الموتى إلى الدنيا مرة أخرى ، وإنما يبعثهم للحساب والجزاء.

١١٠

قوله تعالى :

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) ..

يأجوج ومأجوج ، وهم من الجماعات المفسدة فى الأرض ، وقد ذكرهم الله تعالى فى قصة ذى القرنين ، وقد أقام ذو القرنين فى وجههم سدّا ، حتى لا ينفذوا منه إلى مواطن العمران ، ويعيثوا فى الأرض مفسدين ..

وفى هذا يقول ذو القرنين عن السدّ : (هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي .. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) وفى قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) إشارة إلى انهيار هذا السدّ ، وفتح الطريق ليأجوج ومأجوج إلى الأمم المجاورة لهم ..

والحدب : المكان المرتفع ، ومنه الأحدب ، الذي برز ظهره ، وعلا. ثم انحنى .. ومنه الحدب ، وهو الميل والعطف ، وينسلون : أي يجيئون فى خفة وانطلاق .. كأنهم جراد منتشر ..

هذا ، وقد ربط القرآن خروج يأجوج ومأجوج بقرب الساعة .. والساعة قربت من يوم نزول القرآن ، كما يقول تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) وكما يقول سبحانه: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ).

وعلى هذا ، فليس بالمستبعد أن يكون يأجوج ومأجوج قد خرجوا من هذا السدّ ، بعد أن تداعى وانهار .. ومن يدرى؟ فلعلهم التتار الذين طلعوا على الدولة الإسلامية ، وأتوا على معالم الحضارة ، فى عاصمتها بغداد ، وفى كل ما وقع لأيديهم من كل عامر ، حتى لقد قيل إنهم ألقوا بما حوت الخزائن من كتب فى نهر دجلة ، وكان هذا شيئا كثيرا سدّ به النهر! وربما كانت أمة الصين ، التي كانت تعيش فى شبه عزلة عن العالم ، وها هى ذى اليوم تتجمع وراء

١١١

حدودها ، وقد ملكت فى يدها القنبلة الذرية .. وإنه ليس ببعيد هذا اليوم الذي تغزو فيه العالم كلّه .. بهذا السلاح الرهيب ..!

وقد تحدثنا عن يأجوج ومأجوج ، وما قيل فيهم من مقولات ، فى تفسير سورة الكهف.

قوله تعالى :

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا .. يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ).

والوعد الحق .. هو يوم القيامة .. شاخصة أبصار الذين كفروا : أي جامدة ، لا تطرف ، من شدّة ما ترى من هول.

والآية معطوفة على محذوف ، هو غاية «حتى» فى قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ).

والتقدير : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كلّ حدب ينسلون ، وقع الفساد والاضطراب ، واقترب الوعد الحق. حيث هذا النذير الذي يقوم بين يدى هذا اليوم ، وهو ذلك الهول الذي تشخص له أبصار الذين كفروا يوم القيامة ..

ـ وفى قوله تعالى : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إشارة إلى أن اقتراب الساعة ، وظهور أماراتها ، ومنها خروج يأجوج ومأجوج ـ يطلع منه على الكافرين ما تشخص به أبصارهم ، فتظل الحدق معلقة فى الأعين ، ثابتة لا تتحرك ، للهول الذي يرونه .. إنهم فى طريقهم إلى الفزع الأكبر .. إلى جهنم ، أعاذنا الله منها ..

وقوله تعالى : (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) .. هو حكاية لما يتنادى به الكافرون يومئذ ، وهم فى فزع القيامة ، وبين يدى

١١٢

يومها الموعود .. إنهم يدعون بالويل والثبور ، ويندبون أنفسهم وهم على طريق الهلاك.

قوله تعالى :

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ).

هو صوت الإغاثة الذي يغاث به الكافرون ، وهم يولولون ، ويندبون .. وإنه لصوت مفزع ، يدخل عليهم بما يزيدهم كربا وجزعا : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي إنكم الحصى الذي تحصب به جهنم ، أي إنهم يلقون فيها هم وآلهتهم كما يلقى بالحصى فى حفرة ، بلا وزن ولا حساب.

قوله تعالى :

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ).

أي لو كان هؤلاء الذين يعبدهم المشركون ، آلهة ما وردوا جهنم ، ولا دخلوها معهم .. إذ كيف يكون إلها من يلقى به فى جهنم؟ (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي كل من هذه الآلهة وعابديها ، واردون جهنم وخالدون فيها .. وهؤلاء وأولئك جميعا يعانون من ألوان العذاب أهوالا ، فأنفاسهم فى جهنم زفير متصل ، مما يلفظونه من أجوافهم التي تغلى ، وليس لهم فرصة يأخذون منها شهيقا وإن كان من لهب جهنم ، وقد أصابهم الصمم من هذا الزفير المتلاحق ، الذي لا يأذن لشىء يدخل إلى كيانهم .. والمعبودون هنا هم أولئك الضالّون المغرورون الذي دعوا الناس إلى عبادتهم وأقاموا أنفسهم آلهة عليهم.

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ

١١٣

وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).

تعرض هذه الآيات الثلاث ما يلقى المؤمنون يوم القيامة من ربهم ، من كرامة وتكريم .. وقد وصفوا بأنهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، لأن إيمانهم بالله ، وتوفيقهم للأعمال الصالحة ، لم يكن إلا بما سبق من علم الله بهم ، وإرادته فيهم ، وأنهم كانوا فى علم الله ، وبمقتضى إرادته من أصحاب اليمين .. هكذا خلقهم الله أزلا .. فلما جاءوا إلى هذه الدنيا ، جروا على ما علم الله منهم ، وعلى ما أراد لهم ، فآمنوا ، وعملوا الصالحات ، وكانوا من عباد الله المكرمين ..

فالإيمان والكفر ، والهوى والضلال ، وأصحاب الجنة وأصحاب النار .. كلّ ذلك فى علم الله القديم ، وفى إرادته السابقة .. كما يقول سبحانه : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (٢ : التغابن) وكما يقول جلّ شأنه : (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٧ : الشورى).

وقد شرحنا هذه القضية فى مبحث خاص تحت هذا العنوان : «مشيئة الله. ومشيئة العباد».

فهؤلاء الذين سبقت لهم من الله الحسنى ، هم مبعدون عن تلك النّار التي يتقلب على جمرها ، ولهيبها ، الكافرون والضالون .. فلا يخلص إلى المؤمنين شىء من حرّها ، ولا يصل إلى أسماعهم حسّ من زفيرها وشهيقها (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) حتى لا تتأذى مشاعرهم بهذه الأصوات الرهيبة ، المفزعة ، (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي أنهم يلقون فى الجنة ما تشتهى أنفسهم ، من نعيم دائم لا ينقطع أبدا .. (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أي أنهم لا يجزعون ليوم القيامة ولا يفزعون منه ، إذ ملأ الله قلوبهم طمأنينة وأمنا ، بما أراهم من فضله ، وبما استقبلتهم به الملائكة من بشريات بهذا الفضل ، إذ الملائكة

١١٤

يلقونهم على أول الطريق فى هذا اليوم ، ويقولون لهم : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أي هذا اليوم يوم جزاؤكم ، ونعيمكم ، ورضوانكم ، الذي وعدكم الله به ، ولن يخلف الله وعده .. فهيّا استقبلوا ما وعدكم الله من رضوان ، وجنات لكم فيها نعيم مقيم.

قوله تعالى :

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ).

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) ظرف متعلق بقوله تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) لا يحزن الذين لهم من الله الحسنى ، الفزع الأكبر فى هذا اليوم ، الذي نطوى فيه السماء كطىّ السجل للكتب ، وهو يوم القيامة ، يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات .. ويصح أن يكون هذا الظرف (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) متعلقا بقوله تعالى : (نُعِيدُهُ) أي نعيد الخلق كما بدأناه ، وذلك يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب.

وطىّ الشيء ، ضمه ، ولفّه كما يلفّ البساط ويطوى.

وطى السماء ، ضمها ، ولفّها ، فينكشف هذا السقف المعقود بها ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) .. فالسماء تطوى كما يطوى السّجلّ ، بما كتب فيه ، فهى تطوى بعوالمها كلها ، من كواكب وشموس وأقمار ..

والسجلّ : أصله الحجر ، الذي يكتب عليه ، ثم استعمل لكل ما يكتب عليه ، من جلد وورق ونحوه .. وللكتب : أي على الكتب .. والكتب بمعنى المكتوبات.

وهذا التحول فى العوالم العلوية والسفلية ، إنما هو تصوير لما يقع فى مفهوم

١١٥

الإنسان ، حين ينتقل إلى الدار الآخرة ، حيث يشهد الوجود على غير ما يقع لحواسه ومدركاته وهو فى هذه الدنيا.

وهذا يعنى أن الإنسان بعد أن يفارق هذا الجسد ، يعود إلى عالم الرّوح ، فينطلق من أسر هذا الجسد المحدود ، ويسبح فى عالم ماوراء المادة ، وهناك يرى الأرض ، والسماء غير السماء .. كما يقول سبحانه : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨ : إبراهيم) .. فهذا التبدل هو تبدّل فيما يقع على تصورات الإنسان ومدركاته ، بانتقاله من العالم المادي إلى العالم الروحي .. وإلا فإن العوالم ثابتة على ما أقامها الله سبحانه وتعالى ، فى هذا النظام المحكم.

فالأمر إذن ، ليس كما يتصور الذين أخذوا أوصاف يوم القيامة التي جاء بها القرآن ، على هذا التصور الذي تذهب به معالم الوجود كلّه ، وتنقلب أوضاع السموات والأرض ..

وكلّا ، فإن هذا الوجود العظيم ، ليس للإنسان ، ولا من أجل الإنسان ، وإنما الإنسان ذرة من ذراته ، وشىء من أشيائه .. وإن التغير والتبدل واقع عليه هو ، فتتغير لذلك مدركاته ، ويرى الوجود ، والموجودات بعين غير التي يراها عليه ، وهو فى هذا الكيان المادي .. وذلك يوم يكشف هذا العطاء المادىّ ، الذي يحجب نظر الإنسان ، ويحصره فى هذه الدائرة المحدودة الضيقة ، وعندئذ يرى ما لم يكن ليراه فى عالمه المادىّ ، كما يقول سبحانه : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢ : ق).

وإذا صحّ الحديث الذي يروى عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات فقد قامت قيامته» فهذا يعنى أن كل من مات وانتقل إلى العالم الآخر ، يرى الوجود قائما على هذه الصورة التي يصوّر فيها القرآن مشاهد القيامة ، وما يتبدل

١١٦

من معالم الوجود .. فهو تبدل فى مدركات الإنسان وفى تصوراته ، بعد خلاصه من الجسد وتحرره من أسر المادة ..

ـ وفى قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي أننا نعيد الموتى وننشرهم كما خلقناهم ابتداء ، فلا يصحّ للمشركين والكافرين ، الذي يكذبون بيوم الدين ، أن ينكروا هذا البعث ، وأن يستبعدوه .. فهو أهون من الخلق ابتداء (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) .. (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (٧٨ ، ٧٩ : يس)

ـ وفى قوله تعالى : (أَوَّلَ خَلْقٍ) وفى تنكير (خَلْقٍ) ما يفيد الاستغراق والعموم ، فهو بمعنى أول كل خلق .. كما يفيد أيضا أن كلّ مخلوق له خلق خاصّ به ، وأن له من علم الله وقدرته وحكمته ، نصيبه المقدور له .. وهذا خاصَّ به ، وأن له من علم الله وقدرته وحكمته ، نصيبه المقدور له .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩ : القمر).

ـ وقوله تعالى : (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أي إن إعادة الموتى إلى الحياة مرة أخرى ، للحساب والجزاء ، هو أمر قضى الله به ، ولا رادّ له .. وفى هذا يقول سبحانه : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) (١٥ ـ ١٦ : المؤمنون) ويقول جل شأنه : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٧ : التغابن).

وهذا وعد من الله ، ولن يخلف الله وعده وقد أكّده سبحانه بقوله : (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) .. وهو وعد لا يحتاج إلى توكيد ، عند المؤمنين ، وإنما التأكيد منظور فيه إلى الكافرين ، الذين يكذبون بيوم الدين.

١١٧

____________________________________

الآيات : (١٠٥ ـ ١١٢)

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) ..

المراد بالزّبور هنا ـ والله أعلم ـ الكتب السماوية ، التي هى بعض الكتاب «الأم» ، كتاب الله ، وهو مستودع علمه الذي لا ينفد ..

وأصل الزبور : القطعة من الشيء وجمعه زبر ، كما يقول تعالى : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) والذكر : على هذا التقدير ، هو أم الكتاب.

والمعنى ، أن الله سبحانه وتعالى كتب وقضى فى الكتب المنزلة على رسله بعد أن كان ذلك مسطورا فى الكتاب الأمّ ـ (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) ..

١١٨

والمراد بميراثهم الأرض ، أنهم هم الذين ينتفعون بحياتهم فيها ، ويتزودون فيها الزاد الطيب ، الذي يلقونه يوم القيامة ، فيكون لهم مطية يجوزون بها النار إلى الجنة ، حيث ينعمون ينعيمها الخالد .. فهذا كلّ ما يجنى من ثمر ، وما يحصل من خير فى هذه الدنيا ، وهو الذي يستحقّ أن يسمى ميراثا ..

أما غير المؤمنين ، فإنهم مهما ملكوا من هذه الدنيا ، ومهما وقع لأيديهم منها من مال ، وجاه ، وسلطان ـ فلن يكون لهم من هذا شىء فى حياتهم الآخرة ، بل سيكون عليهم وبالا وحسرة ، على حين تمر بهم حياتهم الدنيا ، وكأنها ضحوة يوم أو عشيته .. (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها). (٤٦ : النازعات).

فالمراد بالميراث هنا ، الميراث النافع ، الذي يبقى لما بعد الموت ، حيث يجده الإنسان ، وكأنه فى حياته الثانية ، قد ورث حياته الأولى .. أو كأنه هذا الحىّ فى الآخرة ، الذي ورث هذا الميت الذي كان فى الدنيا .. وهذا هو بعض السرّ فى التعبير بكلمة (يَرِثُها) ..

قوله تعالى :

(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) ..

أي إن فى هذا الذي تحدّث به القرآن الكريم من قصص ، وما فيه من عبر ـ لبلاغا ، أي لبيانا كاشفا شافيا .. أو أن فى هذا الحكم الذي ضمّت عليه الآية الكريمة : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ ..) ـ إن فى هذا لبيانا مبينا وحجة قاطعة ، يتلقى منها العابدون العبرة والعظة.

والمراد بالعابدين ، المؤمنون ، وقد ذكروا بالصفة الغالبة عليهم ، وهى التعبد لله ، والولاء له .. فلا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا عبد الله ، وذكره ، ذكرا متصلا ..

١١٩

قوله تعالى :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

الخطاب للنبىّ صلوات الله وسلامه عليه ، وأن الله سبحانه وتعالى إنما أرسله رحمة للناس جميعا .. كما يقول صلوات الله وسلامه عليه : «أنا رحمة مهداة» ..

ويسأل سائل :

كيف يكون النبىّ صلوات الله وسلامه عليه رحمة للعالمين جميعا. الناس كلّهم أسودهم وأحمرهم ، وما بين أسودهم وأحمرهم ، وقليل من كثيرهم أولئك الذين آمنوا به واهتدوا بهديه ، وانتفعوا برسالته؟ كيف هذا ، وقوله تعالى (لِلْعالَمِينَ) يفيد العموم والشمول؟

والجواب على هذا ـ والله أعلم ـ من وجوه :

أولا : أن الهدى الذي جاء به ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هو خير ممدود للناس جميعا ، وهو رحمة غير محجوزة عن أحد ، بل إنها مبسوطة لكل إنسان ، أيّا كان لونه وجنسه .. وفى هذا يقول الله تعالى لنبيه الكريم : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ..) (١٥٨ : الأعراف) فهو صلوات الله وسلامه عليه رحمة مهداة ، يطرق بها باب كل إنسان ، من غير أن يطلب لذلك أجرا ، وليس على النبي ـ بعد هذا ـ أن يرغم المتأبّين عليه أن يقبلوا ما يقدمه هدية لهم .. إنه أشبه بالشمس ، وهى رحمة عامة لكل حىّ .. ولكنّ كثيرا من الأحياء يعشون عن ضوئها ، وكثير من الأحياء ، إذا آذنهم

١٢٠