التّفسير القرآني للقرآن - ج ٨

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٨

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤١

١

١٧ ـ سورة الإسراء

نزولها : نزلت قبل الهجرة بنحو عام ، فهى مكية .. وقيل إن فيها بضع آيات نزلت بالمدينة ، منها قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) .. إلى قوله تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) .. ومنها آية : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) .. وآية : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ)

ويقول «الفيروزآبادي» فى كتابه «بصائر ذوى التمييز» : إن السورة مكية باتفاق!!

عدد آياتها : مائة وإحدى عشرة آية ..

عدد كلماتها : ألف وخمسمائة وثلاث وستون كلمة ..

عدد حروفها : ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفا ..

[ما يقال فى تسمية السورة]

الرأى على أنها سميت الإسراء .. لأنها بدأت بالإسراء ، ولأن الإسراء أعظم حدث فى حياة النبىّ ، بل وفى حياة البشرية كلها .. فلم يقع هذا الحدث فى الحياة البشرية ، إلا تلك المرّة .. فكان بذلك أعظم معلم من معالم تلك السورة ، وحقّ له أن يكون وحده دون غيره ، عنوانا لها.

هذا ، و «البيضاوي» فى تفسيره ، يسمّى هذه السورة سورة : «أسرى» جاعلا فعل الإسراء «أسرى» ، هو العنوان للسورة ، دون تغيير فيه ..

* * *

ومن أعجب الأعاجيب هنا ، أن نجد لهذه السورة اسما ، يجعله المفسّرون من بعض أسمائها ، على ما جرت به عادتهم من تكثير الآراء وحشدها ،

٢

للأمر الواحد .. فجعلوا من أسماء هذه السورة ، اسم : «بنى إسرائيل» .. وواضح أن هذا الاسم دخيل منتحل ، تسلّل إلى المفسّرين وأصحاب السّير ، فيما تسلّل من الإسرائيليات ، التي دسّها اليهود على هؤلاء العلماء ، فقبلوها منهم بحسن نيّة ..

ولو كان لبنى إسرائيل أن تكون لهم سورة باسمهم فى القرآن الكريم ، لكانت سورة البقرة ـ مثلا ـ أولى من الإسراء فى هذا المقام ، إذ كانت البقرة تحوى من أخبار بنى إسرائيل ، أكثر مما تحويه سورة الإسراء ، ومع هذا فقد أخذت السورة اسم البقرة ، وهى بقرة بنى إسرائيل ، ولم تأخذ اسمهم! الأمر الذي يحمل على القول بأنه مستبعد أصلا أن يكون لبنى إسرائيل سورة باسمهم فى كتاب الله ، وإن كان لأبى لهب سورة باسمه!

ومن جهة أخرى ، فإنا نرى سورا فى القرآن ، فيها حديث مستفيض عن بنى إسرائيل ، كسورة الأعراف ، وسورة طه ، مثلا ، ومع هذا فلم تسمّ أىّ منهما سورة بنى إسرائيل!!

فلما ذا كانت سورة «الإسراء» بالذات ، هى التي يدخل عليها هذا الاسم ، وينازعها شرف هذه التسمية التي سميت بها تلك السورة؟

إننا نشمّ هنا ريح «اليهود» ونجد بصمات أصابعهم المتلصصة ، التي تريد أن يكون حديث «الإسراء» حديثا خافتا ، لا بذكر إلا عند تلاوة الآية ، دون أن يجرى له ذكر عند الحديث عن سور القرآن الكريم ، كلما ذكرت آية من آيات هذه السورة ، ونسبت إليها الآية .. وذكر السورة فى القرآن الكريم يحرى عادة أكثر من ذكر أي آية من آياتها.

هذه واحدة ، من فعلات اليهود فى حديث الإسراء!

٣

وأكثر من هذا كيدا ، ومكرا ، ما أدخلوه على حديث الإسراء ذاته من زور الأحاديث ، التي أخذها عنهم بعض العلماء ، عن غفلة ، ونيّة حسنة ، باعتبار أن هذه الأحاديث المبالغ فيها تعالى من قدر النبىّ ، وترفع من شأنه .. وما دروا أن تلك المفتريات إذ تجتمع مع الحقّ ، تبعث حوله الشك والاتهام ، الأمر الذي يذهب بجلال الحقيقة وروعتها ، وإنما مردّ ذلك الجلال ، وتلك الروعة ، إلى قربها من الطبيعة البشرية ، ومداناتها للواقع المألوف .. وحسبنا شاهدا لهذا ، القرآن الكريم ، فى إعجازه الذي قصرت عن مداناته أيدى الإنس والجن ، ومع هذا ، فهو من كلام لم يخرج عن مألوف اللسان العربىّ ، ولم يجاوز حدود اللغة العربية!

وسنرى فى حديث الإسراء ، ما دخل على هذا الحديث من دسّ اليهود وكيدهم ، الأمر الذي ألقى شبها كثيرة عند من يستمعون إلى هذا الحديث وما اختلط به ، فلا يدرى المؤمن ماذا يأخذ من هذه الأحاديث وماذا يدع ، فلو أنه أخذها جملة لما اطمأن إليها قلبه ، ولما سكن إليها عقله ، ولو أخذ بعضا وترك بعضا ، لفقد الثقة فيما أخذ أو ترك .. جميعا!!

[مناسبتها للسورة التي قبلها]

ختمت سورة النحل ، التي قبل هذه السورة بقوله تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ* إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

وهذا الختام يحدّث عما كان يعانيه الرسول الكريم من ضيق ، وما يجده فى نفسه من مشاعر الحزن والألم ، لما يلقى من قومه وأهله من كيد ، وما يرى فيهم من عناد وإصرار على الكفر والضلال .. فناسب ذلك أن يذكر معه ، ما كان من فضل الله على النبي الكريم ، بهذه الرحلة المباركة التي رأى فيها النبىّ

٤

الكريم ما رأى من آيات ربّه ، فوجد فى هذا ، الروح لنفسه ، والانشراح لصدره ، والعزاء الجميل من مصابه فى أهله ..

ولعلّ فيما حدّث به ختام سورة النّحل ما يكشف عن بعض حكمة الإسراء ، وأنه ـ كما سنرى ـ كان استضافة للنبىّ الكريم فى رحاب الملأ الأعلى ، ليستشفى مما نزل به من ضيق ، وما ألمّ به من ألم ، فى هذا الصراع الذي كان محتدما بينه وبين قومه ، حتى لقد كانت تتنزّل عليه آيات الله تدعوه إلى أن يرفق بنفسه ، وأن يتخفف من مشاعر الحزن على أهله ، ألا يكونوا مؤمنين. وفى هذا يقول سبحانه (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) (٨ : فاطر) ويقول جلّ شأنه : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩ : يونس) ويقول سبحانه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٥٦ : القصص) .. ويجتمع هذا كله فى قوله تعالى فى آخر سورة النحل : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) ..

فناسب هذا الختام للسورة أن تجىء بعدها سورة الإسراء ، وما كشف الله لنبيه فى هذه الرحلة المباركة من جلال ملكوته ، وما أراه من أسرار علمه وحكمته!

بسم الله الرّحمن الرّحيم

____________________________________

الآية : (١)

(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١)

____________________________________

٥

التفسير :

سبحان : مصدر ، منصوب ، بفعل محذوف تقديره سبّح الله تسبيحا ، أو سبّحه سبحانا ..

أسرى : أسرى بكذا ، أي سار به ليلا .. وأصل الفعل من السرّ ، وهو ما خفى عن غير صاحبه من الأمور .. ولأن الليل يستر الناس ، ويخفى شخوصهم وأفعالهم عن الناس ، فقد سمّى السير فيه سرى .. وسمّى تحرك الليل نفسه ، سرى ، وذلك لأنه يقطع رحلته فى دورة الفلك من أول الليل إلى آخره دون أن يدلّ دليل على حركته ، إلا شواهد باهتة خفية لا يراها إلا من يتربص له ، ويرصد مسيرته .. فأول الليل وآخره سواء ، فى مرأى العين .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَالْفَجْرِ* وَلَيالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) .. فالليل نفسه يسرى ، أي يسير متخفّيا فى ظلام ، مستترا به ، لا ننكشف حركته للناس ..!

وعلى هذا ، فكل حركة ، أو عمل ، يكون فى خفاء يمكن أن يطلق عليه لفظ «سرى» ، فيقال : أسريت بهذا الأمر أي فعلته سرّا ، دون أن يطلع عليه أحد ..

وقيد السّرى باللّيل هنا ، يراد به تحقيق أمرين :

أولهما : اتخاذ الليل ستارا للسير ، وظرفا حاويا له ، حتى لا تنفذ إليه الأبصار ..

وثانيا : التحرك فى حذر ، وحيطة ، وفى خفاء ، دون جلبة أو ضوضاء .. الأمر الذي يعين على إنفاذ الأمر دون أن يفضح .. فإن الليل وإن كان سترا

٦

يحجب الأبصار ، فإن مع الأبصار التي حجبها الليل أسماعا ، لا يعطّل وظيفتها ظلام الليل ، بل سكونه يزيد من قدرتها على التقاط الأصوات ، والإمساك بها .. ولعلّ هذا هو ما نلمحه فى قوله تعالى للوط عليه‌السلام : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) (٨١ : هود) وقوله تعالى لموسى عليه‌السلام : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٢٣ : الدخان) .. فقد جاء الأمر إلى النّبيّين الكريمين بالسّرى ليلا ، ليكون اللّيل ستارا لهذا السير ، إلى جانب ما يكون من حذر وحيطة واحتراس ، فى إخفاء كل حركة ، وكل صوت ، ينبىء عن هذا السير ، أو السّرى ..! ومن هنا سمّى النّبع الجاري فى سلاسة ، ورفق ـ سمّى «سريّا» كما يقول سبحانه وتعالى لمريم : (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (٢٤ : مريم).

وقد توسعنا فى شرح كلمة «أسرى» وفى قيدها بظرف الليل ، لندرك السرّ فى قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) وأن قيد السّرى هنا بالليل ، وجعله وعاء حاويا له ، لم يكن توكيدا للخبر بأن الإسراء كان بالليل ، كما يقول بذلك المفسّرون ، فهذا الظرف ـ فى رأيهم على هذا القول ـ ليس له أثر فى معنى لفظ «الإسراء» .. إذ الإسراء أو السّرى ـ عندهم ـ لا يكون إلا ليلا .. فكلمة «ليلا» عندهم لمجرد التوكيد ، بالتكرار!!

وقد رأيت أن معنى الإسراء ، أو السّرى ، هو الخفاء ، وأنه مشتق من السّرّ ، وأنه وإن غلب السّرى على اللّيل ، فإن ذلك لا يمنع من أن يكون بالنّهار إذا وقع الأمر فى ستر من الخفاء ، غير هذا الستر الطبيعي الذي يتّخذ من الليل ..

٧

* فقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) يشير إلى أمرين : أولهما : أن ظرف الإسراء كان ليلا ، وثانيهما : أنه كان بحيث لم يشعر به أحد ، بل وقع فى ستر ، بحيث لم يلحظه أحد من المتصلين بالنّبيّ ، القريبين منه ، الذين كانوا يشاركونه الحياة فى بيته ، وفى الحجرة التي كان ينام فيها.

ونستظهر من هذا أمرين أيضا :

أولهما : أن الإسراء بالرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، كان بجسده ، ولم يكن بروحه الشريف وحده .. وأنه لو كان بروحه لما جاء التعبير القرآنى عنه بلفظ «أسرى» الذي يدلّ فى ذاته على الستر والخفاء ، ولما جعل هذا السّتر فى مضمون ستر آخر هو الليل ، كما يقول سبحانه : «ليلا» ..

وثانيهما : أن هذا الإسراء بالنبيّ الكريم ، لم يكن معجزة متحدّية ، وإنما هو رحلة روحيّة ، واستضافة من الله الرحمن الرحيم ، للنبىّ ، فى رحاب ملكوته ، حيث يشهد من ملكوت الله ، ويتزود من ألطاف الله ، ما لم يشهده بشر ، وما لم يتزود به إنسان!

هذا ، وقد كان للإسراء حديث طويل متصل ، امتلأت به كتب التفسير ، والسّير ، وقد دخل على هذا الحدث كثير من الخيال ، وكثير من الكذب والدسّ ، حتى كاد يختنق الشعاع المنبعث منه ، وتغيب عن نظر الناظر فيه ، مواقع العبرة والعظة منه ..

ولهذا رأينا أن نقف من هذا الحدث وقفة ، ندفع بها ما نستطيع دفعه من هذا الضباب المتكاثف حول «الإسراء» ، حتى يستطيع المسلم أن يرى وجه هذه الآية الوضيئة التي اختص الله سبحانه وتعالى بها خاتم النبيين ، وإمام المرسلين ..

٨

[وقفة مع الإسراء .. والمعراج]

قد رأينا فى مفتتح هذه السورة أنها تبدأ بقوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).

فهذه الآية ، هى كلّ ما ذكر القرآن ذكرا صريحا عن الإسراء .. وكان من أجل هذا أن سمّيت السورة سورة «الإسراء» ، باعتبار أن «الإسراء» هو أبرز حدث فيها ، وأظهر وجه من وجوه الأحداث التي عرضت لها هذه السورة.

وإذن ، فالحديث الحقّ عن الإسراء ، ينبغى ألا يخرج عن مضمون هذه الآية ، وألا يجاوز حدودها ..

والإسراء ـ كما يفهم من هذه الآية ـ هو رحلة سماوية ، أرادها الله سبحانه لنبيّه الكريم ، ليريه سبحانه وتعالى من آياته ، ما لا تراه العيون ، ولا تتظنّاه الظنون!

وحدود هذه الرحلة ـ كما يذكر القرآن ـ هى : من المسجد الحرام بمكة ، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس.

وزمانها ، لحظة من لحظات الليل .. كما يقول سبحانه : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ..)

فالآية صريحة فى «الإسراء» وفى أنه كان فعلا للنبى الكريم ، وأنه واقعة حقيقية ، وليس رؤيا مناميّة ، وإلّا لما كان له ذكر خاص فى سورة خاصة.

والذي يقف بالإسراء عند هذا الحدّ الذي قطعت به هذه الآية الكريمة ، يجد أن تلك الإضافات الكثيرة ، وتلك الذّيول الطويلة التي علقت بحديث

٩

الإسراء ، ليس من معطيات الآية الكريمة ، من جهة ، ولا تستدعيه غاية الإسراء ، ولا يحتاج إليها الكمال الذي يجب أن يكون عليه ـ من جهة أخرى ..

فالإسراء ، على ما تشهد به الآية ـ لم يكن ـ كما أشرنا من قبل ـ معجزة متحدية ، وإنما هو ـ كما قلنا ـ رحلة روحية إلى بيت المقدس ، مجمع الأنبياء ، وأول قبلة للإسلام!!

دواعى هذه الرحلة :

كان الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قبيل الإسراء ، فى وجه خصومة عنيفة ظالمة ، من قومه .. يدعوهم إلى الرشاد والخير ، فيلقونه بالتكذيب والبهت ، وبرمونه بالسّوء والأذى .. وهو رحيم بهم ، حريص على هدايتهم ، تكاد تذهب نفسه حسرة عليهم ، إذ يراهم يتمزقون شعبا ، ويتقطعون أوصالا ، بين يدى دعوته التي يدعوهم إليها ..

وليس حال أدعى من هذه الحال ، للخروج من هذا الجوّ الثقيل الخانق ، إلى جوّ آخر ، فيه راحة للصدر واسترواح للنفس!

ولكن : إلى أين المذهب والنبىّ قائم على دعوة السماء ، موجه برسالتها؟ إنه لا مفرّ للنبىّ ـ إن أراد أن يظل فى سجل الأنبياء ـ من أن يثبت فى موقفه ، لا يزايله ، ولا يتحول عنه أبدا ، وإن هلك! وقد قالها رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لعمّه أبى طالب ، حين دعاه عمّه إلى أن يترك ما هو فيه ، ويلقى قومه بالموادعة ، حتى لا تتمزّق وحدة قريش ، ويقتل بعضها بعضا ، فقال قولته الخالدة : «والله يا عمّ لو وضعوا الشّمس فى يمينى ولقمر فى بسارى على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، أو أهلك دونه»!

١٠

ولكن .. ها هى ذى الأحداث تزداد شدة ، والشر يشتد اشتعالا ، فتأتمر قريش فيما بينها على أن تكون جبهة واحدة فى وجه النبي ، ومن يقف إلى جواره من قومه ..

وقد أبت العصبية العربية على بنى هاشم ، وبنى عبد المطلب ـ رهط النبي الأدنين ـ أبت عليهم العصبية العربية ، أن يتخلوا عن النبي ، وأن يسلموه لقريش ، تنال منه ، وتستبد به!

وكان من هذا أن عمدت قريش إلى مقاطعة بنى هاشم ، وبنى عبد المطلب ، وعقدت فيما بين بطونها وأفخاذها عهدا ، على ألا يتعاملوا مع بنى هاشم ، وبنى عبد المطلب ، فلا يزوّجوهم ، ولا يتزوجوا منهم. ولا يأخذوا منهم أو يعطوهم. بل إنها القطيعة التامة فى كل شىء بتواصل الناس به.

وقد واجه بنو هاشم ، وبنو عبد المطلب ، هذه الحرب الاجتماعية والاقتصادية ، بشجاعة وصبر ، وإباء ، وأبوا أن يعطوا الدنيّة فى هذا الامتحان ، الذي تعرف فيه معادن الرجال .. فجمع أبو طالب ـ عميد بنى هاشم ـ أهله ، وانحاز بهم إلى شعب أبى طالب (١) .. واستمر هذا الحصار ، نحو ثلاث سنين ، بلغ بهم الجهد فيها غايته ، حتى سمع أصوات صبيانهم يتضاغون جوعا من وراء الشّعب!

وطبيعى أن النبي الكريم ، كان خلال هذه المحنة يحمل فى نفسه كل ما لقى آل عبد المطلب ، وآل هاشم ، من جهد ومشقة .. فكل ما كان يقع من آلام فى محيط أفرادهم ، فردا فردا ، وفى جماعاتهم ، أسرة أسرة ، كان يقع على مشاعر

__________________

(١) شعب أبى طالب : هو محلة انحاز إليها بنو هاشم مدة الحصار ، فسميت بهذا الاسم.

١١

النبي ، ويهيج خواطر الألم والإزعاج فى نفسه. قبل أن يصل إليهم .. أضعاف ما كانوا يجدون من ألم وإزعاج!

ذلك أنه ـ وهو النبي ـ يألم لآلام الناس جميعا ، ويود لو حملها عنهم ، أو رمى بها فى مكان سحيق .. فكيف بما يقع فى نفسه من هذا ، للآلام التي يراها فى أهله وذوى قرابته القائمين على نصرته؟ ثم هو من جهة أخرى ، يرى أن ما نزل بأهله من آلام وشدائد ، خلال تلك المحنة ، إنما كان بسببه هو ، وأن ذلك الذي احتملوه من أجله ، لم يكن بسبب العقيدة والدّين ، وإنما كان من أجل القرابة والدم. ولو كان من أجل العقيدة والدين ، لهان الأمر ، ولكان على أصحاب العقيدة أن يؤدّوا ضريبة الدفاع عن عقيدتهم ، لقاء الثواب العظيم الذي ينتظرهم من رب العالمين!

إن الآلام النفسية والروحية ، بل والجسدية ، التي احتملها النبي حلال تلك المحنة التي عاش فيها أهله .. كانت من أقسى ما لقى النبي فى طريق دعوته من آلام .. إنه حمل آلام أهله كلها ، وإن ذهب كل منهم بنصيبه منها .. فمن أجل النبىّ احتملوا هذه التجربة القاسية ، وفى سبيل حمايته ، والدفاع عنه ، واجهوا هذه القطيعة المرة ، واحتملوا عبء هذا الحصار المحكم الظالم. ثلاث سنين!

رحلة فى العالم الأرضى :

وحين بلغ الأمر من الشدة والضيق مداه فى نفس النبي ، وأصبح جو مكة ثقيلا خانقا .. أراد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن يلتمس له متنفسا خارج مكة ، لعله يجد أعوانا على الحق ، وأنصارا للخير ، يستمعون له ، ويستجيبون لدعوته.

كان لا بد أن يلتمس النبي لنفسه ولدعوته مجالا آخر خارج مكة ، بعد أن

١٢

لقى هو وأهله الأدنون ما لقوا من هذا البلاء الشديد ، أثناء الحصار الذي ضربته عليهم قريش نحو ثلاث سنين ..

ومما ضاعف من وقع الآلام فى نفس الرسول ، أن سقط فى ذلك الحين الجناحان اللذان كانا يرفّان عليه رحمة وحنانا .. ذلك أنه ما كادت تنتهى محنة الحصار ، ويفسد تدبير قريش ، وتنقض صحيفتها التي أبرم فيها هذا العقد الذي عقدته بينها لمقاطعة بنى هاشم ، بعد أن سلّط الله عليها الأرضة فأكلتها جميعا ، إلا ما ورد فيها من ذكر اسم الله عزوجل ـ ما كادت تنتهى هذه المحنة. حتى مات عمه أبو طالب ، بعد خروجه بقومه من الشّعب بستة أشهر .. ثم لحقت به الزوجة البرّة الرحيمة السيدة خديجة ، بعد موته بثلاثة أيام!!

فانظر كيف ابتلى النبي الكريم هذا الابتلاء فى عمه وفى زوجه ، وكيف تفرغ يده من كلّ قوة مادية على هذه الأرض كانت تقف إلى جانبه ، وتشد أزره؟ ومتى كان ذلك؟

إنه كان فى أحرج مواقف الدعوة ، وحين بلغ الأمر من الشدة والشقاق مداه ، بين قريش ، وبين النبي.

إن ذلك كله من ألوان الشدائد والمحن التي مرت بالرسول خلال تلك السنوات العشر التي قضاها النبي الكريم بين قومه ، يغادبهم ، ويراوحهم بآيات الله وكلماته ، فلا يسمع منهم إلا ما يسوء ، ولا يلقى منهم إلا ما يكره ـ نقول إن ذلك كله كان تربية وإعدادا للجولة التالية من الدعوة ، واستعدادا لاستقبال الطور الجديد من أطوارها ـ حيث ستشهد الأيام التالية أحداثا جساما ، وتطورات خطيرة فى حياة هذا الدين الجديد. فسيلتقى النبي بوجوه كثيرة من قبائل مختلفة ، وسيسمع أحاديث متباينة ، وسيتلقّى أجوبة مختلفة لما يلقى على الأسماع من آيات الله ، وسيهجر النبي موطنه ، ويهاجر إلى موطن

١٣

آخر ، وأقوام آخرين غير قومه .. وستدور معارك ، وتسيل دماء ، ويبتلى النبي فى نفر كريم عزيز من أصحابه ، يسقطون فى هذه المعارك ، وسيقوم النبي على توجيه مجتمع إسلامى ضخم ، بعد أن يجيئه نصر الله ، ويفتح مكة ، ويدخل الناس فى دين الله أفواجا!

إن هذا البلاء العظيم الذي ابتلى به الرسول ، هو ـ كما قلنا ـ إعداد لما سيستقبل من تلك الأحداث الكبرى ، وإن هذا البلاء أشبه بعمل المحاريث والفئوس ، فى شقّ الأرض ، وتقليب تربتها قبل أن يلقى فيها الحبّ .. فذلك هو الذي يتيح لها الجو الصالح ، لأن تعطى خير ما فيها من عناصر الإنبات ، لما يلقى فيها من حبّ!

نقول إنه فى هذا الجو الثقيل الخانق ، الذي كان يضيق به صدر الرسول فى مكة ـ خرج إلى الطائف ، يعرض نفسه ، ويقدّم دعوته إلى «ثقيف» يلتمس منهم الاستجابة له ، والنصرة لدعوته ، والمنعة بهم من قومه .. وكان معه فى رحلته تلك ، مولاه زيد بن حارثة!

ولما انتهى الرسول الكريم إلى الطائف ، عمد إلى سادة ثقيف وأشرافهم ، فدعاهم إلى الله ، فلم ير منهم إلا إعراضا ، وسفها ، وتكذيبا ، واستهزاء .. وكان فيما قال له صاحب كلمتهم : «والله لا أكلمك أبدا! لئن كنت رسولا ـ كما تقول ـ لأنت أعظم خطرا من أن أردّ عليك السلام! ولئن كنت تكذب على الله. ما ينبغى لى أن أكلمك!!»

إنها سفسطة أحمق ، وضلالة ظلوم جهول!

فقام رسول الله من عندهم ، وقد يئس من خيرهم ، إن كان فيهم خير ، وقال لهم صلوات الله وسلامه عليه : «أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى ..» إذ كره رسول الله ، أن يبلغ ذلك قومه عنه ، فيغربهم ذلك به ، ويدفعهم إلى

١٤

الانتقام منه ، ومضاعفة الكيد له .. ولكن القوم لم يفعلوا ، وبعثوا إلى قريش من يخبرها بما كان من أمر محمد معهم ، ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، فوقفوا له سماطين (أي صفين) وجعلوا يسفهون عليه ، ويرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه ، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه ، حتى أصابه شجاج فى رأسه!

وترك الرسول الكريم ـ بأبى هو وأمي ـ الطائف على تلك الحال ، وقد امتلأت نفسه أسى وحسرة ، وفاض صدره ، ضيقا وحزنا!

ولكن إلى أين المسير؟ وهل هناك غير مكة؟ إنه على أي حال ، لا يزال يمسك منها على شىء من الأمل والرجاء ، ولا يزال يطمع فى خير من أهل أو صديق فيها!

وقبل أن يتخذ الرسول وجهته إلى مكة ، أسند ظهره إلى شجرة نائية هناك ، حتى تجتمع نفسه ، وتسكن خلجاته ؛ ويخف عنه بعض ما حمل من أهل ثقيف من آلام!

وفى ظل هذه الشجرة ، وجّه الرسول وجهه إلى ربّه ، يناجيه ، ويطلب العون والمدد من رحمته ، فخلق قلبه بهذا النداء الدافئ العميق ، وتحركت شفتاه بهذا الدعاء الندىّ العطر ، المعقود بأنفاس الأمل والرجاء فى مالك الملك ، ومن بيده ملكوت السماوات والأرض .. فيقول صلوات الله وسلامه عليه :

«اللهمّ .. أشكو إليك ضعف قوّتى ، وقلّة حيلتى ، وهو انى على الناس! «يا أرحم الراحمين. أنت ربّ المستضعفين ، وأنت ربى ...

«إلى من تكلنى؟ إلى بعيد يتجهّمنى (١)؟ أم إلى عدوّ ملّكته أمرى؟

«إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى ..

__________________

(١) أي يتنكر بي. والمراد بالبعيد ثقيف ، وبالعدو : قريش.

١٥

«غير أن عافيتك أوسع لى ..

«أعوذ بنور وجهك ، الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن يحلّ علىّ غضبك ، أو أن ينزل بي سخطك.

«لك العتبى حتى ترضى (١)

«ولا حول ولا قوّة إلا بك ..

بهذه الكلمات المشحونة بالإيمان الوثيق بالله ، المخلّقة بأنفاس النبوّة الطاهرة ، اتجه الرسول إلى ربّه .. متضرعا ، متوجعا ، طالبا رضا ربّه ورحمته ، فى صبر وحمد ، على السّرّاء والضرّاء!

مدد غير منتظر :

وفى طريق الرسول الكريم من الطائف إلى مكة ، نزل منزلا بمكان يسمّى «نخلة» وقضى فيه ليلته ، ثم قام فى جوف الليل يصلّى ، ويتهجّد بكلمات ربّه ، فصرف إليه نفر من الجنّ ، فاستمعوا له ، وباتوا الليل معه ، دون أن يشعر بهم! ..

وفى الصّباح ، وقبل أن يزابل النبىّ مكانه الذي بات فيه ، تلقّى خبر السّماء فى قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ، فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ..) .. (الآيات : ٢٩ ـ ٣٢) من سورة الأحقاف.

فكان هذا عزء كريما للرسول الكريم ، ومواساة رقيقة مسّت مشاعر النبىّ ، وذهبت بكثير مما خالطها من الألم والحزن ، فشاع فى كيانه الرّضا والاطمئنان .. إنه ليس وحده ، وإن صوت السماء متصل به ، وإن جندا

__________________

(١) العتبى : ما يزيل آثار الأمر الذي استوجب العتاب أو اللوم.

١٦

من جنود الله ـ لا يراهم ـ يحفّون به ، ويستمعون إليه ، ويؤمنون به ، وبالكتاب الذي أنزل عليه.

ومن هذا الذي يستمع إلى كلام الله ، ويستجيب لرسوله؟ إنهم جماعة من «الجنّ» .. الجنّ الذي يضرب به المثل فى الخروج على كل نظام ، والتأبّى على كل نداء!.

فكيف لا يكون لهذا القرآن مثل هذا الأثر فى نفوس الناس ، وفى أضلّهم ضلالا ، وأعتاهم عتوّا؟

ولا شك أن فى هذا قدرا كبيرا من التنفيس عن رسول الله ، والتطييب لخاطره ، بعد تلك التجربة القاسية التي مرّت به فى الطائف .. وإنها لزاد يتزوّد به الرسول ، ويجد منه القوة على مواصلة السّير فى طريقه إلى قومه ، وفى مواجهة تحدّيهم له ، وعنادهم وتأبّيهم عليه!.

وعلى هذا العزم ، ومع تلك القوة ، مضى الرسول إلى مكة!.

ولا يجد الرسول قومه ، على غير ما عرف منهم .. إنهم على هذا الضلال المبين ، وعلى تلك العداوة له ، والخلاف عليه .. وأنه إذا كان قد وجد من استماع الجنّ إليه ، ما يشدّ عزمه ، ويدفع به إلى مواجهة قومه فى مكة ـ فإنه ما زال فى حاجة إلى أمداد أخرى ، تثبّت قدمه ، وتشدّ عزمه ، وتلقى أضواء على هذا الظلام الكثيف المنعقد فى سماء مكة ، بينه وبين قومه.

لقد أبلى الرسول الكريم بلاءه ، فى الأرض ، واستنفد كل ما يعطى ويأخذ منها ومن أهلها ، فكان لا بد من عالم آخر ، يتزود منه بزاد روحى ، يشيع فى كيانه قوى مجدّدة ، لا تنفد على كثرة ما ينفق منها فى هذا النضال المتصل بينه وبين قومه ، حتى يحكم الله بينه وبينهم بالحق ، وهو خير الحاكمين .. فكانت رحلة الإسراء!

١٧

رحلة فى العالم العلوي :

وفى الإسراء إلى العالم العلوي .. يجد الرسول من آيات ربّه ، ومن دلائل قدرته ، وعجائب ملكوته ، ما تذوب فى عباب محيطاته كل شرور العالم الأرضى وآلامه ..

فلم يكن الإسراء فى صميمه ، إلا رحلة روحية لرسول الله ، فى عالم النور ، وإلّا استدناء له إلى مواطن الرحمة واللطف .. وإن ذلك لهو الجزاء الحسن للرسول على جهاده الصّادق ، فى سبيل الله ، وفى قيامه على أداء الرسالة التي أرسل إليها ، واحتمل ما احتمل من أجلها ..

وماذا يكون للرسول من جزاء فى هذه الدنيا ، على مالقى فى سبيل الدعوة من عنت وإرهاق ، وما أصابه من ضرّ وأذى فى نفسه ، وأهله ، وصحبه؟ إن كلّ ما فى الأرض لا يقوم ببعض هذا الجزاء .. وإن الرسول الزاهد فى كل ما فى هذه الأرض ، وما عليها من مال ومتاع .. فلم يكن إلا ما فى السماء ، هو الذي يناسب حال الرسول ، ويليق به!

وقد ذكر القرآن الكريم حادثة الإسراء فى ، أول سورة الإسراء .. والذي ذكره من أمر الإسراء ، أنه وقع ليلا ، وأن حدوده كانت من المسجد الحرام بمكة ، إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس ، وقد وصف بالأقصى لبعده عن المسجد الحرام ، فهو فى مكان قصىّ بالإضافة إلى المسجد الحرام.

يقول ابن إسحق فى سيرته : «وكان مسراه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وما ذكر منه ، بلاء وتمحيصا ، وأمرا من أمر الله ، فى قدرته وسلطانه .. فيه عبرة لأولى الألباب ، وهدى ورحمة ، وثبات لمن آمن به وصدّق ، وكان من أمر الله على يقين .. فأسرى به كيف شاء ، ليريه من آياته ما أراد ، حتى عاين ما عاين

١٨

من أمره وسلطانه العظيم ، وقدرته التي يصنع بها ما يريد» (١).

وقد طلع النبىّ على قريش بهذا الخبر ، وأنه أسرى به فى ليلته تلك من مكة إلى بيت المقدس ، فبهتوه ، وكذّبوه ، وأطلقوا ألسنتهم بالقول السيّء فيه .. وقال قائلهم : «هذا والله الإمر (٢) ، والله إن العير لتطّرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة ، وشهرا مقبلة .. أفيذهب محمد فى ليلة واحدة ويعود إلى مكة»؟

ولم يقف الأمر عند كفّار قريش ، بل تجاوزهم إلى ضعاف الإيمان ، ممن أسلموا ، فارتدّوا عن الإسلام ، وارتابوا ..

وتحدّث الروايات أن الكفار ذهبوا إلى أبى بكر ـ رضى الله عنه ـ لعلهم يجدون عنده ما وجدوا عند ضعاف الإيمان ، فقالوا له : «هل لك يا أبا بكر فى صاحبك؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس ، وصلّى فيه ، ورجع إلى مكة؟ فقال لهم أبو بكر : أنتم تكذبون عليه؟ فقالوا : ها هو ذا فى المسجد يحدّث به الناس! فقال أبو بكر : «لئن كان قاله لقد صدق! فما يعجبكم من ذلك؟ فو الله إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار ، فأصدقه .. فهذا أبعد مما تعجبون منه (٣)».

ونحن نشكّ فى هذه الرواية .. فما كان أبو بكر بالذي يخفى عليه شىء من أمر النبىّ ، حتى يعلمه كفار قريش قبل أن يعلمه ، وما كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يحدث بهذا الخبر العجيب قبل أن يلقى به أبا بكر ، وهو الذي كان أشبه بظلّ رسول الله ، لا يفارقه أبدا!

__________________

(١) السيرة لابن هشام : جزء ٢ ص ٢.

(٢) الإمر بالكسر ـ الأمر العظيم فى شناعته : «لقد جئت شيئا إمرا»

(٣) زاد المعاد جزء ٢ والسيرة لابن هشام جزء ٢ ص ٤.

١٩

ونعود إلى «الإسراء» فنقول ـ كما قلنا من قبل ـ إنه كان شأنا خاصّا بالنبيّ ، ورحلة روحيّة فى الملأ الأعلى ، أرادها الله سبحانه وتعالى له ، ليشرح بها صدره ، وينعش بها روحه ، ويذهب بها ما ألمّ به من ضيق وحزن ، بموت عمّه ، وزوجه ، وبتألّب قريش عليه ، وعلى آله ، وبما لقى من أهل الطائف من لقاء بارد ثقيل ، وردّ سمج قبيح.

وفى حدود هذا المعنى ينبغى أن نقيم نظرتنا إلى الإسراء .. فهو بهذا المعنى ، ليس معجزة للتحدّى ، تقف من الناس موقف التعجيز لهم ، والتحدّى بالإتيان بمثلها ، وإنما هى إخبار بأمر شهده الرسول وحده .. فإذا حدّث به كان حديثه الصدق كلّه ، لا ينبغى لمن آمن بأنه نبىّ أن يكذّبه ، أو يشك فى شىء مما يقول .. إنه أمين السّماء .. لا يكذب أبدا .. هذا مبدأ يجب أن يسلم به كل من يدخل فى هذا الدين ، ويؤمن بالله ورسوله .. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٧ : الحشر).

إن حديث الإسراء اختبار عملىّ لإيمان المؤمنين .. فمن آمن بالله ، لا يكون إيمانه إيمانا حقّا ، حتى يؤمن برسوله ، ولا يكون مؤمنا برسوله حتى يصدّق كل قول يقوله ، ويسلّم به ، قبل أن ينظر فيه ، أو يعرضه على عقله .. وإن كان ذلك لا يمنعه من أن ينظر بعد هذا فى قول الرسول ، وأن يعرضه على عقله فذاك نظر غايته الفهم والإدراك لمرامى قول الرسول والعمل به ..

فهذه آيات الله التي كانت تنزل على الرسول الكريم ، إنها لم يقم عليها شاهد بأنها كلام الله ، إلّا إيمان المؤمنين به ، بأنه رسول من عند الله ، وإن كان فى آيات الله ذاتها ما يحدث عن إعجازها ، وأنها ليست من قول بشر .. ولكن هذا لا يعرف إلا بعد نظر فى وجه آيات القرآن ، واستعراض ما فيها من قوى الحق ، وشواهد الإعجاز!

٢٠