التّفسير القرآني للقرآن - ج ١

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تقديم

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) بسم الله نستفتح خزائن علمه ، ونطرق أبواب حكمته ، وبحمد الله نستقبل مواطر فضله ، ونرجو المزيد من غيوث رحمته .. وبالصلاة والسلام على رسول الله ؛ نتزود بخير زاد ، فى صحبتنا لكتاب الله ، الذي نزل به الروح الأمين على قلبه ، هدى ورحمة للعالمين!

فسبحانك اللهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدّك ، والصلاة والسلام على النبي الأمى ، الذي بعثته فى الأميين رسولا يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، فحمل الأمانة ، وأدى الرسالة ، وجاهد فى الله حقّ جهاده ، حتى أجلى غواشى الشرك من القلوب ، وقشع ضلالات الجهل عن العقول ، وغزا بالقرآن أمة ركبها الضلال ، واستبد بها العمى ، فصابها بصوب حكمته ، وأدبها بأدب نبوته ، وصاغها صياغة جديدة ، فإذا هى أمة غير الأمة ، وناس غير الناس ، حتى لقد استأهلت أن تلبس هذا الوصف الكريم الذي وصفها الله به فى كتابه الكريم إذ قال سبحانه : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)!

* * *

فالأمة الإسلامية هى أمة القرآن ، إليه يردّ أصلها ، وبه يعرف نسبها ، ومنه نسجت وتنسج ما لبست وتلبس من حلل العزة والكرامة والسيادة ،

٣

ولن يمسك عليها وجودها فى هذا المقام الكريم إلا رعايتها للقرآن ، وتمسكها به ، واجتماعها عليه ،. ويوم تفتر عزيمتها عن المضي معه ، أو تسترخى يدها عن الشدّ عليه والتعلق به ، يوم يكون ـ ولا كان ـ ردّتها إلى الجاهلية ، وركسها فى الضلال ، ورعيها فى الهمل مع السائمة والهائمة ، من حواشى الأمم ، ونفايات الشعوب!

وتاريخ المسلمين مع القرآن الكريم يشهد لذلك شهادة قائمة على هذا الحساب ، مقدرة بهذا التقدير ، جارية معه .. طردا وعكسا!!

فإنه على قدر ما كان يقترب المسلمون من كتابهم الكريم ، وبقدر ما كانوا يرعون حقّه ، ويؤدون أمانته ـ كان نصيبهم من الخير ، وكان حظهم من السلامة فى أنفسهم ، وأموالهم ، وأوطانهم!

والعكس صحيح .. فإنه على قدر ما كان يبعد المسلمون عن كتابهم ، وبقدر ما يفرّطون فى حقه ، ويستخفوّن بشأنه ـ بقدر ما كان بعدهم عن الخير ، وكان دنوّهم من الخطر ، وتعرّضهم لآفات التفكك والانحلال!

وليس هذا شأن المسلمين وحدهم .. بل هو شأن كل من يدعى إلى الخير فيلقاه معرضا ، أو يصحبه على دخل وجفاء!

وفى واقع الحياة ، وعلى مسرح أحداثها كثير من المثلات والعبر!

بنو إسرائيل مثلا ..

أطعمهم الله خير طعام ، تشتهيه النفس ، وتطيب معه الحياة ، فأنزل عليهم المنّ والسّلوى .. مائدة من السماء .. يجدونها حيث يشاءون ، حاضرة عتيدة بين أيديهم ، لا يتكلفون لها جهدا ، ولا يبذلون من أجلها دانقا أو درهما!!

ومع هذا ، فقد عافت نفوسهم هذا الطعام السماوي .. الطيب الكريم ،

٤

المحفوف بالرحمات والبركات ، وأبت عليهم نفوسهم اللئيمة الخبيئة إلا أن تضع فمها فى التراب ، وأن ترعى مع الأنعام ، وتأكل مما يأكل الحيوان ..!

وقد كشف القرآن عن هذا الموقف اللئيم ، الذي وقفوه إزاء هذه النعمة الكريمة ، فقال تعالى :

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ...) (٦١ : البقرة).

فهذه مائدة كانت ممدودة لهم من السماء ، وكان جديرا بالقوم أن يعيشوا فيها ، وأن يهنئوا بها .. ولو أنهم فعلوا ما زايلهم هذا الخير أبدا ، ولعاشت فيه أجيالهم جيلا بعد جيل ، يطعمون من هذا الطعام الطيب الكريم ، الذي تصفو عليه النفوس ، وتنتعش الأرواح ، كما تصح عليه الأبدان!!

ومن يدرى؟ فلعله لو ذهب بنو إسرائيل بهذه التجربة إلى غايتها ، لتغير وجه الحياة الإنسانية بهم ، ولظهرت فى الحياة سلالات بشرية لا تحمل معدة الحيوان ، ولا بهيمية البهائم .. ولكن الله بالغ أمره!

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣ : الطلاق).

فبدّل الله نعمة القوم نقمة ، وضربهم بالذّلة والمسكنة ، فما استقام لهم بعدها وجه فى الحياة ، ولا كان لهم فيها من زاد إلا السحت الخبيث من الطعام ، يختلسونه اختلاسا ، مما يأكل الناس والأنعام!

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ

٥

فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) (١٧٥ ـ ١٧٦ : الأعراف).

ونحن ـ المسلمين ـ ماذا كان منا اليوم فى شأن هذا الكتاب الكريم الذي بين أيدينا؟

لقد أنزله الله علينا مائدة من السماء ، حافلة بالطيبات من الرزق ، محملة بالكريم الغدق من النعم!

فذالكم هو «القرآن الكريم» الذي وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٨٢ : الإسراء) .. والذي يقول فيه النبىّ صلوات الله وسلامه عليه : «القرآن مأدبة الله ، فتعلموا من مأدبته».

ففى مأدبة الله هذه .. الشفاء والرحمة .. وإن المائدة التي أعدّها الله للمسلمين ، ووضعها بين أيديهم ليست على شاكلة تلك المائدة التي أنزلها على بنى إسرائيل طعاما يغذّى الأجسام ، ويشبع البطون.

إن المائدة الممدودة للمسلمين ، مائدة يتغذى منها العقل والروح ، فتتخلق منها ملكات علوية ، ووجدانات ربانية. بها يسمو الإنسان ويعلو ، وبها ينتصر على هذا الضعف الإنسانى ، وينتصر على تلك النزعات الحيوانية ، المندسّة فى كيانه.

ولهذا يقول الرسول الكريم عن تلك المأدبة : «فتعلموا من مأدبته» ولم يقل : «فكلوا من مأدبته» .. ذلك أن القرآن مأدبة علم وحكمة وخلق ، وليس مأدبة معدة ، ولا طعام بطون!!

٦

وانظر كيف رفع الله قدر هذه الأمة ، وأعلى شأنها ، وكيف جعل غذاءها السماوىّ الذي أنزله عليها غذاء يتصل بالروح ، ولم يجعله فيما يقدم إلى البطن والمعدة ، وفى ذلك ما فيه من كرامة وتكريم لهذه الأمة ، التي تتلو القرآن وتدين بالإسلام ، وتتعبد بقول الحق جل وعلا فى شأنها : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (١١١ : آل عمران).

فمن شأن القرآن أن يقيم المتصلين به على طريق الحق ، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالله!

إن الذي يستقيم على دعوة القرآن ، لهو إنسان سليم فى كيانه ، معافى فى نفسه ، ثم هو مع ذلك قادر على أن يحمل الهدى إلى غيره ، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويكون خليفة الله فى الأرض ، وخليفة الرسول فى الدعوة إلى الله ، وهداية الناس إليه.

ولكن صحبة المسلمين للقرآن لم تكن قائمة على العدل والإحسان فى جميع الأحوال .. فكثيرا ما أساء المسلمون تلك الصحبة ، وأوسعوها جفاء وعقوقا ، حيث يعيش القرآن فيهم غريبا .. لا يقفون عنده ، ولا يلتفتون إليه ، ولا يتدبرون آياته ، ولا يتلقون بعض ما فيه من خير وهدى!

* * *

والجفوة التي بين المسلمين وبين القرآن الكريم جفوة غليظة مستحكمة ، قد تداعت عليها دواع كثيرة ، أحكمت بنيانها ، وثبتت دعائمها ، فلم يعد بين المسلمين وبين القرآن طريق يصلهم به إلا تلك الطرق الدارسة الطامسة ، التي تتصاعد منها أتربة وأدخنة ، تعمّى على الناظر منهم فى كتاب الله ، وجوه الحق والخير التي فيه.

٧

وإن كل حظ المسلمين اليوم من القرآن هو حظهم من مخلّفات الآباء والأجداد ، مما تضمه المتاحف ودور الآثار ، يزورونها لماما ، ويطرقونها حينا بعد حين .. قد تثير فيهم تلك الزّورة نشوة عارضة ، أو تبعث فيهم عزّة كاذبة ، ينفضونها عن نفوسهم قبل أن يجاوزوا المزارة ، كما ينفضون ما قد يكون علق على ثيابهم من التراب ، وهم يجوسون خلال الديار!

فنحن نلمّ بالقرآن إلماما ، ونلقاه حينا بعد حين ، وقد نذكر به فى تلك اللقاءات ، وهذه الإلمامات ، ما نذكر من مواعظ وعظات ، ثم لا نلبث حتى ننخلع عن هذه المشاعر قبل أن نضع المصحف من أيدينا ، لنلقى الحياة ونختلط بها ، كما نحن ، على الوجه الذي كنا نصحبها به ، ونعيش معها عليه!

فما يحدّث به القرآن شىء ، وحياتنا التي نحياها ونتقلب فيها شىء آخر ، بعيد كل البعد عن القرآن ، وما يحدثنا به القرآن!

إن المسلم ـ منا ـ يعيش فى هذه الحياة بشخصية «مزدوجة» ويلقاها بنفس منقسمة على نفسها ، ولهذا كان مسيره فيها مضطربا مختلجا ، تتماوج أبعاضه بين مشرق ومغرب ، وشمال وجنوب ، فهو يتحرك فى مكانه ، حركة متماوجة مضطربة ، فلا يتقدم خطوة إلى الأمام ، على كثرة هذا الضرب المضطرب فى الأرض!

والسبب فى هذا يرجع ـ فى تقديرنا ـ إلى «تميّع» العقيدة الدينية فى نفس المسلم ، وإلى اختلاط كثير من مسائلها فى تفكيره ، وعدم وضوح المعالم والحدود لكثير من أمور الدين عنده!

وذلك ـ فى تقديرنا أيضا ـ يرجع إلى أمور كثيرة .. منها :

أولا : هذه الخلافات السياسية والمذهبية التي وقعت بين المسلمين منذ أعقاب الخلافة الراشدة ، فانعكست آثار هذه الخلافات السياسية والمذهبية

٨

على المسائل الدينية ، فجاءت تلك المسائل على وجوه كثيرة متناقضة متضاربة ، يلطم بعضها وجه بعض ، بحجج تسندها آية من كتاب الله ، متأولة على غير وجهها ، أو حديث ضعيف ، أو أثر مكذوب .. فتجد كل هذه الأقوال منطقا يقيمها ، أو ذكاء يدارى عوارها ، بما دخل المسلمين من مذاهب الجدل والسفسطة ، منذ قيام الدولة العباسية ، واتصال العرب والمسلمين بالثقافات والديانات الأخرى ، التي كانت تصبّ روافدها المتدفقة فى كيان الأمة العربية ، وفى محيط العقل الإسلامى.

وكان من هذا أن تشعبت مسائل الدين بين الطوائف المختلفة ، اختلافا دينيا سياسيا ، والتي انقسمت كل طائفة منها على نفسها ، فكانت فرقا تبلغ المئات عدا .. وقد ذهبت كل فرقة فى الدين مذهبا ، وأقامت لمذهبها حجته من كتاب الله ، وسنة رسول الله .. وهذا هو أفدح ما فى الأمر ، وأشنع ما فى هذا الخلاف!

فالمسألة الواحدة من مسائل الدين ، تأخذ دورة طويلة لا تكاد تنتهى أبدا ، فلا يكاد المسلم يمسك منها بطرف حتى تجره جرا إلى مسائل كثيرة ، تتولد منها وتتفرع ، وتبيض وتفرخ ، وإذا هو أمام عشرات من الصور «المهزوزة» للأمر الواحد ، والمسألة الواحدة .. تتراقص فى محيط تفكيره ، كما يتراقص الشبح فى ضوء مصباح ، عبثت بذبالته الريح .. فى يوم عاصف!

وهذا ما نجده فى كل أمر من أمر ديننا ؛ نرجع فيه إلى الفقه الإسلامى ، الذي صادف تدوينه ، تلك الفترة التي تمزقت فيها الوحدة الإسلامية ، وتمزق معها العقل الإسلامى!

وثانيا : التعويل على هذا الفقه تعويلا كاملا ، وربط المسلمين به ربطا محكما ، حتى لقد أصبح عند كثير من علماء المسلمين ، وفقهائهم ـ على امتداد العصور

٩

التي تلت هذا العصر ـ أصبح دستور الشريعة الإسلامية ، وترجمان كتابها الكريم .. وكان من هذا أن أصبح تعلّق أكثر العلماء والفقهاء بهذا الفقه أكثر من تعلقهم بكتاب الله نفسه .. فهم يرجعون فى كل أمر يعرض لهم إلى مقولات المذهب أو المذاهب الفقهية ، فى هذا الأمر أو ذاك ، وفى كل داعية من دواعى الحياة ، يراد للدين أن يزنها بميزانه ، ويقيسها بأحكامه!

وطبيعى أنه إذا جاء رأى دينى من محصّل هذا النظر القائم على مقولات المذاهب الفقهية المتضاربة المتخالفة ـ جاء مذعورا قلقا ، يموج فى أخلاط من الآراء المتناقضة ، والأقوال المتخالفة ، لا يكاد المرء يعرف منها وجها من ظهر.

من أجل هذا «تميّعت» مسائل الدين ، وغامت فى أنظار المسلمين ، فهم إنما يطوفون بها فى إجلال وتقديس ، أشبه بإجلال المجهول وتقديسه ، لا يقوم فى النفس مقاما ثابتا مطمئنا أبدا ، بل سرعان ما يذهب ذلك الشبح الباهت إذا طلع عليه بصيص من نور ، أو لمعة من سراب!

* * *

والقرآن ـ من غير شك أو جدال ـ هو مصدر الشريعة الإسلامية ، وهو دستورها القائم أبد الدهر ..

وقد استغنى به المسلمون فى الصدر الأول للإسلام ، فأغناهم عن كل شىء .. لا يمدون أبصارهم إلى غيره ، ولا يأخذون لدينهم ودنياهم إلا بما توحى به إليهم كلماته ، وتومىء به إليهم آياته!

وطبيعى أن هذا الذي نقوله عن كتاب الله ، نقوله كذلك فيما ثبت من سنة رسول الله ، القولية والفعلية ، إذ كانت السنة المطهرة تطبيقا شارحا لكتاب الله ، وفى هذا يقول الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٧ : الحشر).

١٠

ولا يستقيم هذا القول ، الذي نقوله فى القرآن ـ بأنه مصدر التشريع الإسلامى ـ إلّا بفهم سليم صحيح لكتاب الله ، ولا يكون هذا الفهم السليم الصحيح إلا عن طول تأمل وتدبر لكتاب الله ، وتذوق لأساليب بيانه ، ووقوف على بعض أسراره.

وبهذا الفهم لكتاب الله ، يتحقق لنا أمران :

أولهما : اتصالنا بكتاب الله اتصالا وثيقا ، قائما على معرفة به ، وتذوق لجنى طعومه الطيبة ، وهذا مما يجعل لتلاوتنا للقرآن ، أو استماعنا لتلاوته أثرا فى نفوسنا ، ووقعا على قلوبنا ، وتجاوبا مع آدابه ، واستجابة لنداءته .. فيما يدعو إليه ، من أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر!

وثانيهما : تصور مسائل الدين تصورا واضحا محددا ، بلا ذيول ، ولا معلقات .. وبهذا يعرف المسلم الحكم قاطعا ، فيما أحل الله ، وفيما حرم ، فيكون على بينة من أمره ، فيما يأخذ أو يدع من أمر دينه!

ومن أجل هذا كانت صحبتنا هذه لكتاب الله ، على هذا الوجه ، الذي لا ننظر فيه إلى غير كتاب الله ، وإلى تدبر آياته ، بعيدا عن طنين المقولات الكثيرة التي جاءت إلى القرآن من كل صوب ، وكادت تخفت صوته ، وتغيم على الأضواء السماوية المنبعثة منه! إننا فى صحبتنا هذه للقرآن ، لا نقيم نظرنا على غير كلماته وآياته ، ولا نخط على هذه الصفحات غير ما يسمح لنا به النظر فى كلماته وآياته.

إننا لا نفسر القرآن بالمعنى المعروف للتفسير ، فى هذه الصحبة التي نصحب فيها كتاب الله .. وإنما نحن نرتل آيات الله ترتيلا .. آية آية ، أو آيات آيات .. ثم نقف لحظات نلتقط فيها أنفاسنا المبهورة ، لما تطالعنا به الآية أو الآيات ، من عجب ودهش وروعة ، ثم نمسك القلم ، لنمسك به على الورق بعض

١١

ما وقع فى مشاعرنا من صور العجب والدهش والروعة .. وإنها لصور باهتة بالنسبة للواقع الذي حملته تلك المشاعر .. فما أبعد الفرق بين الشعور المشتمل علينا ونحن بين يدى كلمات الله ، وبين الكلمة التي تنقل هذا الشعور!! ولكنها ـ على أي حال ـ معلم من معالم الطريق إلى كتاب الله ، يمكن أن يجد فيه السالك نورا ، ويزداد به المهتدى هدى .. (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .. وسلام على المرسلين ، والحمد لله ربّ العالمين.

المؤلف

القاهرة فى الثاني والعشرين من ذى القعدة ١٣٨٦ ه‍

فى الثالث من مارس ١٩٦٧ م

١٢

دراسات حول القرآن

أولا : المكىّ والمدنيّ

المكىّ من القرآن ما نزل بمكة ، والمدنىّ ما نزل بالمدينة.

وعدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة باتفاق.

السّور المكية.

١) اقرأ باسم ربك

١٦) الماعون

٣١) الهمزة

٢) ن

١٧) الكافرون

٣٢) المرسلات

٣) المزمل

١٨) الفيل

٣٣) ق

٤) المدثر

١٩) الفلق

٣٤) البلد

٥) المسد

٢٠) الناس

٣٥) الطارق

٦) التكوير

٢١) الإخلاص

٣٦) القمر

٧) الأعلى

٢٢) النجم

٣٧) ص

٨) الليل

٢٣) عبس

٣٨) الأعراف

٩) الفجر

٢٤) القدر

٣٩) الجن

١٠) الضحى

٢٥) الشمس

٤٠) يس

١١) الشرح

٢٦) البروج

٤١) الفرقان

١٢) العصر

٢٧) التين

٤٢) المعارج

١٣) العاديات

٢٨) قريش

٤٣) مريم

١٤) الكوثر

٢٩) القارعة

٤٤) طه

١٥) التكاثر

٣٠) القيامة

٤٥) الواقعة

١٣

٤٦) الشعراء

٦٠) حم (السجدة)

٧٤) آلم : السجدة

٤٧) النمل

٦١) حم عسق

٧٥) الطور

٤٨) القصص

٦٢) الزخرف

٧٦) الملك

٤٩) الإسراء

٦٣) الدخان

٧٧) الحاقة

٥٠) يونس

٦٤) الجاثية

٧٨) المعارج

٥١) هود

٦٥) الأحقاف

٧٩) النبأ

٥٢) يوسف

٦٦) الذاريات

٨٠) النازعات

٥٣) الحجر

٦٧) الغاشية

٨١) الانفطار

٥٤) الأنعام

٦٨) الكهف

٨٢) الانشقاق

٥٥) الصافات

٦٩) النحل

٨٣) الروم

٥٦) لقمان

٧٠) نوح

٨٤) العنكبوت

٥٧) سبأ

٧١) إبراهيم

٨٥) المطففون

٥٨) الزمر

٧٢) الأنبياء

٥٩) المؤمن

٧٣) المؤمنون

السور المدنية :

٨٦) البقرة (أول ما نزل بالمدينة)

٩٣) الحديد

١٠٠) الحشر

٨٧) الأنفال

٩٤) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٠١) النصر

٨٨) آل عمران

٩٥) الرعد

١٠٢) النور

٨٩) الأحزاب

٩٦) الرحمن

١٠٣) الحج

٩٠) الممتحنة

٩٧) الإنسان

١٠٤) المنافقون

٩١) النساء

٩٨) الطلاق

١٠٥) المجادلة

٩٢) الزلزلة

٩٩) البينة

١٠٦) الحجرات

١٤

١٠٧) التحريم

١١٠) الصف

١١٣) المائدة

١٠٨) الجمعة

١١١) الفتح

١١٤) فاتحة الكتاب .. اختلف

١٠٩) التغابن

١١٢) التوبة

فى نزولها بمكة أو بالمدينة.

وقيل إنها نزلت مرتين ـ مرة بمكة ومرة بالمدينة.

ثانيا : عدد آياته ، وكلماته ، وحروفه

وكان من اهتمام المسلمين بالقرآن ، وحرصهم عليه أن أحصوه آية آية ، وكلمة كلمة ، وحرفا حرفا .. ونسجل هنا هذا الجهد المشكور لعلماء القرآن رضى الله عنهم.

عدد آيات القرآن :

اختلف الدارسون للقرآن فى إحصاء آياته ..

فقال بعضهم : هى ستة آلاف آية.

وقال آخرون : ستة آلاف آية ومئتان وأربع آيات.

وقيل : سنة آلاف ومئتان وأربع عشرة آية.

وقيل : ستة آلاف ومئتان وتسع عشرة آية.

وقيل ستة آلاف ومئتان وخمس وعشرون أو ست وعشرون أو ست وثلاثون ..

عدد كلماته :

أجمع العلماء على أن عدد كلمات القرآن سبع وسبعون ألفا وأربع مئة وسبع وثلاثون كلمة.

عدد حروفه :

وأما عدد حروفه فهى ثلاثمئة وواحد وعشرون ألف حرف.

١٥

وقيل إن الحجاج بن يوسف جمع القراء والحفاظ والكتّاب ، فقال لهم : أخبرونى عن القرآن كله ، كم من حرف هو؟ فأجمعوا على أنه ثلاثمئة وأربعون ألفا وسبع مئة وأربعون حرفا.

قال : فأخبرونى عن نصفه ..

قالوا : عند الفاء من قوله تعالى فى سورة الكهف : (وَلْيَتَلَطَّفْ) (١٩ : الكهف).

١٦

١ ـ فاتحة الكتاب

نزولها : مكية ، وقيل إنها نزلت بمكة ، ثم نزلت مرة أخرى بالمدينة.

ولا وجه لهذا القول.

* عدد آياتها : سبع.

* عدد كلماتها : خمس وعشرون كلمة.

* عدد حروفها : مائة وثلاث وعشرون حرفا.

* من أسمائها : سميت بأسماء كثيرة ، جاوزت المائة ، وذلك حسب ما يقع فى الخاطر منها.

ومن أسمائها : الفاتحة ، وفاتحة الكتاب ، والحمد ، وسورة الحمد ، والشافية ، والشفاء ، وأم القرآن ، وأم الكتاب : والسبع المثاني (لأنها تثنى ـ أي تكرر ـ فى كل صلاة).

____________________________________

آية : (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

____________________________________

التفسير : باسم الألوهية يقوم الوجود ، وإليه يركن كل موجود .. فكل عوالم الكون مألوهة لله ، خاضعة لمشيئته ، محفوفة برحمته.

ووصف الألوهية بهاتين الصفتين : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يدل على أن هذا الوجود إنما هو فيض من رحمانية الله ورحمته. إذ الوجود ـ على أية صورة من صوره ـ نعمة وخير ، إذا هو قيس بالعدم ، الذي هو فناء مطلق ، وتيه وضياع.

١٧

____________________________________

آية : (٢)       

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)

____________________________________

التفسير : بهذا الحمد لله تنطق المخلوقات كلها ، فهو سبحانه الذي أوجدها من العدم وأعطاها خلقها بين المخلوقات ، وقام عليها مدبرا ، وحافظا ، (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٥٠ : طه) ، فحق عليها أن تحمده ، وتشكر له ، وقد لزمها هذا الحق الذي لا انفكاك لها منه ، إن لم تؤده اختيارا أدته اضطرارا ، وإن لم يفصح عنه ظاهرها نمّ عليه باطنها : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (٤٤ : الإسراء)

____________________________________

آية : (٣)

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣)

____________________________________

التفسير : استفاضة رحمانية الله ، وشمول رحمته ، يجدها كل موجود فى نفسه ، وفيما حوله ، ولهذا كان حمد الله واقعا بين هاتين الصفتين ، كأنه تعقيب عليهما أولا ، وكأنهما تعليل له ثانيا.

____________________________________

آية : (٤)

(مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(٤)

____________________________________

التفسير : يوم الدين : هو يوم الدينونة ، أي الحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ

١٨

يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٧ ـ ١٨ ـ ١٩ : الانفطار).

ومجىء (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) معطوفا عطف بيان على (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) للإشعار بأن هذه الملكية ملكية رحمانية ورحمة ، تضع موازين القسط للفصل بين الناس ، حيث يثاب المحسنون ، ويعاقب المسيئون ، وهو عقاب فيه رحمة لهم ، حيث يطهرهم من أدران الآثام التي علقت بهم ، ليكونوا أهلا لمساكنة الملأ الأعلى.

____________________________________

آية : (٥)

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥)

____________________________________

التفسير : من مقتضى حمد لله الذي استوجبه على عباده بربوبيته ، ورحمته ، أن يفرد بالعبودية ، وأن يختص بالعبادة ، فلا متوجّه إلا إليه ، ولا لجوء إلا له ، ولا معول إلا عليه. (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ، فَادْعُوهُمْ ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٩٤ : الأعراف).

____________________________________

آية : (٦)

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ)

____________________________________

. التفسير : الصّراط المستقيم : هو الطريق القائم على الحق والعدل ، الموصّل إلى الخير والفلاح ، لا يضل سالكه ، ولا تتعثر له قدم فيه.

____________________________________

آية : (٧)

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) (٧)

____________________________________

١٩

التفسير : هذا بيان للصراط المستقيم ولأهله ، الذين أنعم الله عليهم ، فهداهم إليه ، وأقامهم عليه ، ثم بيان آخر للصراط المستقيم ، وهو صراط لا يسلكه للمغضوب عليهم ، الذين مكروا بآيات الله ، وكفروا بنعمه ، فضربهم بغضبه ، وصبّ عليهم لعنته ، وهو صراط لا يستقيم عليه من اتبع هواه ، وعمى عن الحق الذي بين يديه!

والمغضوب عليهم هم اليهود ، وقد صرّح القرآن فى غير موضع وفى أكثر من آية ، بأنهم مغضوب عليهم من الله ، فقال تعالى : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) (٦٠ : المائدة) وليس وصف اليهود بالمغضوب عليهم مانعا من إطلاق الوصف على كل من غضب الله عليه ، فحاد عن الطريق المستقيم ، وكذلك الشأن فى «الضالين» باعتباره وصفا لكل من ضل طريق الحق والهدى.

وفى دعاء المؤمنين بأن يهديهم الله الصراط المستقيم ، ويجنبهم صراط المغضوب عليهم ، والضالين عن الطريق القويم ـ فى هذا الدعاء غاية فى تحرّى الطريق إلى الله ، والتماسه مستقيما خالص الاستقامة ، بعيدا عن مزالق المفتونين فى دينهم ، والمنحرفين عن سواء السبيل.

و «آمين» دعاء تختم به السورة ، وهو اسم فعل أمر ، بمعنى استجب يا الله ما دعوناك به. وهذا اللفظ ليس من القرآن ..

* * *

وهذا ، وتلك السورة الكريمة ، فوق أنها قرآن كريم ، هى مفتتح هذا القرآن ، وهى أم الكتاب الكريم ، لاشتمالها على أصول الشريعة الإسلامية ، من توحيد ، وعبادات ، وآداب ، ومعاملات ..

ولهذا كانت ملاك الصلاة ، التي هى بدورها ملاك الإسلام كله ،

٢٠