التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

منزلة لا ينالها إلا من يحقق الأمرين معا : الإيمان ، والعمل الصالح.

والمؤمنون .. مؤمنون ولا شبهة فى إيمانهم.

واليهود .. مؤمنون ، وفى إيمانهم شبهة ، وهى أنهم يؤمنون بالله ، ولا يؤمنون باليوم الآخر.

والنصارى مؤمنون بالمسيح ابنا لله ، فهو إيمان مشبوه.

أما (الصَّابِئُونَ) فهم لا يعترفون بإله قائم على هذا الوجود ، بل هم دهريّون ، أو طبيعيون.

ولهذا ، عزلوا عن هذه الطوائف الثلاث ، لأنهم أبعد الناس عن الإيمان ، ومع هذا فإن شأنهم شأن هؤلاء المؤمنين على اختلاف وضعهم من الإيمان ، وأنهم إذا آمنوا بالله وعملوا الصالحات ـ دخلوا فى هذا الحكم العام : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) .. أما من ذكروا فى آية الحجّ فهم على منزلة واحدة فى الحكم الذي يؤخذون به يوم القيامة ، وهو أن الله يفصل بينهم ، على الحال التي يكون عليها كل منهم ..

وثالثا : لم تذكر آية المائدة ، المجوس ، ولا المشركين ، على حين ذكرتهم آية الحج ..

والسرّ فى هذا ـ والله أعلم ـ أن المجوس والذين أشركوا ، هم على صورة مشابهة لليهود والنصارى فى إيمانهم إيمانا مشوبا بالضلال .. فلم يذكروا عند الدعوة إلى تصحيح إيمانهم ، لأن فساد إيمانهم أظهر من فساد إيمان اليهود والنصارى ، إذ كان مع اليهود والنصارى شبهة إيمان بالكتب السماوية التي معهم ، على حين لم يكن المجوس والمشركين شىء من هذا ، فهم مطالبون ـ من باب أولى ـ بتصحيح إيمانهم ، بصورة ألزم من مطالبة اليهود والنصارى

١٦١

بتصحيح معتقدهم فى الله ، وإيمانهم به .. ففى ذكر اليهود والنصارى ذكر ضمنىّ ـ ومن باب أولى ـ للمجوس والذين أشركوا.

أما فى موقف الفصل والحساب والجزاء ، فكل طائفة على منزلتها .. فكان لا بدّ من ذكر المؤمنين ، ومن ذكر من معهم شبهة من الإيمان ، وهم اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، ومن لا شبهة من إيمان معهم ، وهم الصابئة والمشركون .. وذلك حتى لا يقع فى وهم المجوس والذين أشركوا ، أنهم غير مأخوذين بهذا الحكم ، وأنهم ناجون من الحساب والجزاء .. ففى موقف الفصل والجزاء يأخذ كلّ مكانه ، لا مع الطائفة التي ينتمى إليها وحسب ، بل سيأخذ مكانه الخاصّ به فى الطائفة التي هو منها

قوله تعالى :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

فى هذه الآية تعريض بالكافرين والمشركين ، وغيرهم ، ممن لا يعطون ولاءهم خالصا لله .. فعلى حين أن الوجود كلّه قائم على هذا الولاء المطلق الخالص لله ـ فإن كثيرا من الناس ـ والناس وحدهم فى عالمنا ـ يخرجون على هذا الولاء العام المطلق لله ، ويأبون أن يسجدوا له ، فإن سجدوا كان سجودهم لغير الله .. وهذا فوق أنه كفر بالله ، وجحود بآلائه ونعمه ، هو شرود وضلال عن الاتجاه العام ، الذي يتجه إليه الكون كلّه ، وسباحة متحدية للتيار الهادر الذي لا يغالب ، والذي لا يلبث أن يغرق فيه كلّ من سبح فى غير مجراه!

١٦٢

إن من فى السموات ومن فى الأرض ، من عوالم ومخلوقات كبيرة أو صغيرة ، عاقلة ، أو غير عاقلة ، حيّة أو جامدة .. كلها تسبح بحمد الله ، وتنقاد لمشيئته ، وتخضع لأمره .. إلّا هذا الصنف الشقىّ الضالّ من بنى الإنسان! وإن هؤلاء الأشقياء ، لفى عزلة عن هذا الوجود ، بل وفى حرب معه .. إنهم أشبه بجماعة من الخارجين على نظام المجتمع والعابثين بحرماته ومقدّساته .. فالمجتمع كله حرب عليهم ، وإنهم لن يفلتوا من عقابه!.

وتسبيح الكائنات بحمد الله ، هو فى جريانها على سنن الله التي أقامها عليها .. فهى لا تخرج أبدا عن هذه السّنن ، ولا تفلت من عقد الوجود الذي انتظمت فى سلكه ، وكانت حبّة من حبّاته .. (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ!) (٤٠ : يس) وفى هذا انقياد لله ، وولاء له ..

والإنسان وحده ـ فيما يظهر لنا ـ هو الذي منحه الله إرادة عاملة ، ومشيئة تسمح له بأن يختار الطريق الذي يرضاه ، دون قهر أو إلزام .. وليست كذلك الكائنات الأخرى ، التي لا تملك هذه الإرادة ، ولا تجد تلك المشيئة ، إنها مسخّرة ، على حين أن الإنسان مخيّر ومريد .. إنها لا تملك من أمرها شيئا ، على حين أن الإنسان هو سيد نفسه ، ومالك أمره .. وهذا تكريم من الله له ، إذ جعله سبحانه وتعالى على صورة أقرب إلى صورته ، فجعله مريدا ، عالما ، مختارا .. كما يشير إلى ذلك الحديث : «خلق الله آدم على صورته».

وهذا التكريم ، هو ابتلاء لآدم ، وهو الأمانة التي حملها ، وأبت السموات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها .. وكان عليه أن يثبت لهذا الامتحان ، وأن يؤدى الأمانة التي حملها ، حتى يكون أهلا لهذا التكريم ،

١٦٣

وإلّا كان عليه أن يتحمل تبعة نكوصه وتخاذله ، وأن يتجرع مرارة هذا الإخفاق ، وأن يخلع ثوب الإنسانية ، ليعيش مسخا قزما ، مشوّه الخلق بين أبناء جنسه ، الذين اعتدل خلقهم ، وسلمت لهم فطرتهم ، وذلك هو الشقاء الأليم والعذاب المهين ..

ـ قوله تعالى : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) معطوف على قوله سبحانه : (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) .. أي ويسجد له كثير من الناس ..

ـ وفى قوله تعالى : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) هو استئناف ، أي وكثير من الناس لا يسجدون لله ، فحق عليهم العذاب .. أي وجب ولزم ..

وفى قوله تعالى : (عَلَيْهِ) بدلا من «عليهم» إشارة إلى أن هذا الصنف من الناس الذي أبى السجود لله ، هو فى عداد غير العقلاء .. (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ) (١٧٩ : الأعراف) فهم وإن كانوا أعدادا كثيرة ، أشبه بكيان واحد يجمع كتلة متضخمة من الضلال والفساد ..

قوله تعالى : (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) ـ هو موجّه إلى تلك الجماعات التي شردت عن الحق ، وضلّت عن سواء السبيل ، وهى كلّ الطوائف غير المؤمنة التي أشار إليها سبحانه وتعالى فى قوله : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) .. فهؤلاء ممن أهانهم الله ، إذ لم يدعهم إليه ، ولم ينزلهم منازل رضوانه ، فشردوا وضلّوا .. فالكفر بالله هو أمارة الإهانة من الله للكافر ، إذ لم يكن أهلا لأن يدعى إلى جناب الله ، مع من دعوا إليه من عباده الذين آمنوا ، لما اشتمل عليه كيانه من داء خبيث ، لا ينبغى له أن يخالطه الأصحّاء ومعه هذا المرض ، الذي يفتال إنسانيته ، ويفسد معالمها.

ـ وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) هو ردّ على سؤال أو تساؤل ،

١٦٤

قد يرد على لسان بعض الناس .. وهو : لما ذا أهان الله هؤلاء الذين لم يؤمنوا به؟ ولما ذا لم يدعهم إلى الإيمان ، كما دعا المؤمنين وأراد لهم الإيمان؟

فكان الجواب : (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ)! فمن كان له حيلة فليحتل ، ومن كان له مع الله شىء فليأت به! .. فلتخرس الألسنة إذن ، وليحمد المؤمنون الله أن هداهم إلى الإيمان ، وليدع الضالون ربّهم أن يهديهم .. (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً) (١٧ : الكهف)

____________________________________

الآيات : (١٩ ـ ٢٥)

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ .. فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ

١٦٥

مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ..).

الخصمان : هما المؤمنون ، والكافرون على اختلاف ضلالاتهم ..

واختصامهم فى ربهم ، هو اختلافهم فيه .. فالمؤمنون على طريق إلى الله ، والمشركون والكافرون ومن على شاكلتهم ، على طرق شتى تختلف عن هذا الطريق .. فهذا الاختلاف ، هو أشبه بالخصام الذي يفرّق بين المتخاصمين ..

ثم بينت الآيات بعد هذا ، ما أعدّ الله لكل من هذين الخصمين المختصمين فى الله ، من عذاب ، أو نعيم.

ـ (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) أي أنهم يلبسون النار ، أو تلبسهم النار ، فيكونون كيانا واحدا معها ، بحيث تشتمل على الجسد كلّه ، وتغطيه ، كما يغطى بالثوب!

ثم مازال هناك شىء من الجسد لا تغطيه الثياب ، وهو الرأس ، الذي يغطى بالعمائم ، والتيجان ، ونحو هذا ..

وإذن فلتتوج رءوسهم ، ولكن بتيجان من نار ، وبعمائم من جهنم.

ـ (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) ، وهو الماء الذي يغلى فيشوى وجوههم ثم يتخلل تلك الثياب ، فيصهر ما فى بطونهم من أمعاء ، وأكباد ، وقلوب ، وغيرها مما تحويه البطون .. كما يصهر الجلود ، ويذيبها فتكون كتلة مذابة مع اللحم والعظم ..

وليس هذا فحسب .. بل إن لهم طرائف يطرفون بها ، كما كانوا

١٦٦

يطرفون فى الدنيا بألوان النعيم الذي شغلهم عن الله .. فهناك (مَقامِعُ) أي مطارق من حديد .. لعلها تعمل تلقائيا من نفسها .. كلما أرادوا أن يخرجوا من ثيابهم النارية تلك ، أخذوا بهذه المقامع ، فردّوا فيها .. وقيل لهم اخسئوا ، وذوقوا عذاب الحريق ..

وهذه الصور من ألوان العذاب ، هو مما يتصوره الناس فى الدنيا ، بل ومما يأخذون به بعضهم بعضا .. فكم من صور هذا العذاب الجهنّمى استخدمه الجبابرة والظلمة فى تعذيب من يخرج على سلطانهم ، ويتحدّى تسلطهم وجبروتهم ..

فهذا العذاب الدنيوي يجده المجرمون يوم القيامة حاضرا عتيدا ، فيما يجدون من صور شتى من عذاب الآخرة ، وذلك ليذوقوا ما أذاقوه للناس فى دنياهم ، وليسقوا بكأس كانوا يجدون اللذة فى أن يتجرع الناس مرارتها ، سواء أكان عذاب الآخرة حسيا أو معنويا ، جسديا أو نفسيا ، وليست هذه الصور الحسيّة التي ذكرها القرآن لعذاب الآخرة ، من ثياب من نار ، ومن مقامع من حديد ، ومن سلاسل وأغلال ، ليست بالتي تتنافى مع العذاب النفسي ، فما أكثر ما تتجسد صور العذاب فى النفس ، ويجد الإنسان للآلام النفسية وقعا مثل ما يجده من الآلام الجسدية .. وأقرب مثل لهذا ما يقع للإنسان فى حال النوم من رؤى وأحلام مزعجة ، أو مسعدة .. إنه يعيش فيها بكيانه كله ، جسدا وروحا ، وإن كان الواقع أن الروح هى التي تتلقى هذه الرؤى وتلك الأحلام ، وتتعامل بها ، وهى فى انطلاقها بعيدا أو قريبا من الجسد ..

قوله تعالى :

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا

١٦٧

الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ).

فى ذكر الله سبحانه وتعالى هنا ، هذا الذكر المؤكد ، تكريم للمؤمنين ، واحتفاء بهم ، وأن الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة ، ولا يدع هذا لملائكته .. مبالغة فى تكريمهم ، فضلا منه ، وكرما ، ورحمة .. (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ..

فإذا أدخلهم الله سبحانه وتعالى الجنة ، حلّوا فيها بأساور من ذهب ، ولؤلؤا ، فى مواضع شتّى ، من أجسامهم ، كأن يكون لهم من اللؤلؤ قلائد ، أو تيجان ، ونحو هذا ، هذا إلى ما يلبسون من ملابس رقيقة ، من حرير ..

وهذه الحلىّ ، وتلك الملابس ، هى مما كان يشتهيه المؤمنون فى الدنيا ، وقد فاتهم أن ينالوه فيها. فكان مما ينعمون به فى الجنة أن ينالوا ما كانت نفوسهم متطلعة إليه .. فهو غائب ينتظرهم .. وليس هذا كل ما يلبسون ، أو يتزينون .. بل هناك ما لا حصر له من ألوان الملابس والزينة ، مما لم يخطر على قلب بشر .. فهذه الألوان من صنوف الطعام والشراب ، والملابس ، والأنهار ، والظلال ، والقصور وغيرها ، مما جاء ذكره فى القرآن ، مما يلقاه أهل الجنة ـ هو مما كانوا يطلبونه فى الدنيا ، ولا يأخذون حظهم منه ، أو ينالون منه شيئا .. وكان من تمام الإحسان إليهم ، أن يعرض عليهم كل هذا فى صورته الكاملة ، كمالا مطلقا ..

قوله تعالى :

(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ).

أي أنهم كما طاب وحسن ظاهرهم ، طاب وحسن كذلك باطنهم ..

١٦٨

فلا ينطقون لغوا ، ولا يسمعون لغوا .. (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ..

والصراط الحميد ، هو صراط الله .. وقد هدوا إلى أن يحمدوه حمدا دائما متصلا ، لأنه هو سبحانه المستأهل للحمد ، ولأن نعمه التي أفاضها عليهم تستوجب منهم أن يلزموا هذا الصراط ، ولا يحيدوا عنه لحظة ..

قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ).

خبر إن محذوف دل عليه قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) .. أي أن هؤلاء الذين كفروا ، ولم يقفوا عند كفرهم ، بل وقفوا للناس بالمرصاد ، يصدونهم عن سبيل الله ، ويحولون بينهم وبين الاتصال بالمسجد الحرام ، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا ، وجعل فيه للبادين ـ وهم أهل البادية ـ مثل ما للعاكفين ـ وهم المقيمون من أهل مكة ـ من حقّ فى الاتصال بهذا البيت ، والطواف به ، والصلاة فيه ..

هؤلاء الذين كفروا ، ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام .. هم أشنع الناس جرما ، وأغلظهم إثما .. إنهم ليسوا كافرين وحسب ، بل إنهم أضافوا إلى كفرهم الوقوف فى وجه المتجهين إلى الله ، وإلى بيت الله ـ هؤلاء لهم عذاب مضاعف ، فوق عذاب الكافرين .. أما هذا العذاب فقد عرفوا بعضا منه ، وهو ما أعد للكافرين ، كما بيّنه سبحانه وتعالى فى قوله : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ

١٦٩

وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ..) .. فهم أولا مأخوذون بهذا العذاب الذي يؤخذ به الكافرون .. أما ما فوق هذا ، فعلمه عند الله .. وهو شىء فوق المدارك والتصورات.

وفى قوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) جاء فيه الفعل : «يرد» متضمنا معنى «يسعى» ، ولهذا عدّى بحرف الجرّ فى ، وهذا التضمين للدلالة على أن الإرادة هنا لا يقع عليها هذا الوعيد ، حتى تكون عملا وسعيا.

____________________________________

الآيات : (٢٦ ـ ٣٣)

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣)

____________________________________

١٧٠

التفسير :

[مناسك الحج .. ومشاهد القيامة]

قوله تعالى :

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).

بوأنا : أي هيأنا ، وأعددنا .. وأصل البوء الرجوع إلى المنزل ، والسّكن إليه ..

ـ وقوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) أي هيّأناه له ، وأعددناه .. وقد عدّى الفعل باللام ، لأنه تضمن معنى الإعداد ، والتمكن .. والأصل فى الفعل أنه يتعدّى بنفسه لمفعولين .. تقول : بوأنك المنزل ، بمعنى أسكنتك إياه.

ـ وفى قوله تعالى : (مَكانَ الْبَيْتِ) إشارة إلى أن الإعداد كان المكان لا للبناء الذي أقيم على المكان ، وهو البيت .. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى قد أعدّ هذا المكان ، وهيأه ، وأضفى عليه ، ما شاء سبحانه ؛ من البركة والرحمة .. أما البناء ، فقد أقامه إبراهيم ، ومعه إسماعيل على هذا المكان المبارك ..

فالبركة أصلا فى المكان .. ثم شملت البناء الذي أقيم عليه وهو البيت فصار البيت مباركا فى المكان المبارك.

ـ وقوله تعالى : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) .. المصدر المؤول متعلق بمحذوف ، تقديره : وأمرناه ، أو قلنا له .. أن لا تشرك بي شيئا ، .. فإن هذا المكان الطاهر المبارك ، لا ينزله إلا طاهر مبارك ، مبرأ من الشرك ..

ـ وقوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) .. أي

١٧١

وطهره من الشرك ، واجعله خالصا لله ، ولعباده المؤمنين به ، الذين يجيئون إلى بيته طائفين ، قائمين ، راكعين ، ساجدين ..

ـ وفى قوله تعالى : (وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) إشارة إلى أن هذا البيت سيكون لتلك الأمة الإسلامية ، التي سيكون السجود معلما من معالم صلاتها ، وحدها دون غيرها من أصحاب الديانات السماوية كاليهود والنصارى ، ولهذا كانت سمة المسلمين التي يعرفون بها بين الأمم ، هى هذا الأثر الذي يتركه السجود فى الجبهة ، وقد وصفوا بهذا الوصف فى التوراة كما يقول سبحانه وتعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ). (٢٩ : الفتح)

وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة ، وإحسانه إليها ، إذ أعدّ لها هذا البيت قبل أن يبعث فيها رسول الله ، ويجىء إليها برسالة الإسلام .. وفضلا عن هذا ، فإن إعداد إبراهيم لهذا البيت ، وإقامته بيده ، يقابله من جهة أخرى إعداده لرسالة الإسلام ، إذ كان هو أبا الأنبياء ، وكانت رسالة من أرسلوا من ذريته ، كموسى وعيسى أشبه بتلك اللبنات التي رفع بها إبراهيم القواعد من البيت ، فلما جاء الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ برسالة الإسلام ، كمل البناء ، وأصبح البيت مهيأ لاستقبال (الْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ..

قوله تعالى :

(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).

الأذان : الإعلام ، ورفع الصوت بالأمر المراد الإعلام به ..

١٧٢

والرّجال : المشاة ، الذين ينتقلون على أرجلهم .. جمع راجل أو رجل ، يطلق على الذكر والأنثى.

والضامر : النحيف ، الذي خفّ لحمه من الجهد والتعب ..

والفج العميق : الطريق الطويل بين مرتفعين ..

والمعنى أن الله سبحانه ، أمر إبراهيم ـ بعد أن أقام البيت ـ أن يؤذن فى الناس ، ويدعوهم إلى الحج إلى هذا البيت .. فإنه إن فعل ، وجد الآذان التي تسمع هذا النداء وتستجيب له ، وإذا الناس من كل مكان قريب وبعيد ، قد جاءوا لحج هذا البيت ـ يجيئون إليه ماشين على أقدامهم ، كما يجيئون إليه راكبين من جهات بعيدة ، فتهزل مطاياهم من طول السفر ، وقلة الزّاد ، ويصيها الضمور ، وخفة اللحم.

ـ وفى قوله تعالى : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) بنون النّسوة ، لغير العاقل من الإبل والدوابّ ونحوها التي يعود إليها هذا الضمير ـ فى هذا ما يشير إلى بعد الشقة التي جاءت منها هذه الدواب براكبيها ، وأنها قطعت طرقا طويلة موحشة ، لا أنيس فيها ، فكانت هى وراكبوها كيانا واحدا طوال هذه الرحلة ، حيث تقتسم معهم طعامهم وشرابهم ، وتستمع إلى أحاديثهم وحدائهم ..

فاكتسبت بهذا من مشاعر الألفة والأنس ، ما جعلها أقرب شىء إلى الإنسان منها إلى الحيوان ، حيث أنس الإنسان بها ، كما يأنس برفيق سفره! فحقّ لها ـ والأمر كذلك ـ أن تخاطب خطاب العقلاء ..

قوله تعالى :

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ).

١٧٣

اختلف فى عدد الأيام المعلومات تلك .. فهى معلومات الزمان ، مجهولة العدد ..

فقيل ، هى الأيام العشرة الأولى من ذى الحجة ، ويؤيد هذا ما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من أيّام أعظم عند الله ولا أحبّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام ، فأكثروا فيهن التهليل والتكبير والتحميد» .. وعلى هذا فسّر بعض الصحابة الليالى العشر فى قوله تعالى : (وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ) بأنها هى تلك الأيام العشر .. وقيل إن الأيام المعلومات ، هى يوم النحر وثلاثة أيام بعده .. وقيل يوم النحر ، ويومان من بعده .. وقيل يوم عرفة ، ويوم النحر ، ويوم آخر بعده.

ولام التعليل فى قوله تعالى : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ..) متعلق بقوله تعالى فى الآية السابقة : (يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) .. أي يأتى الحجيج إلى هذا البيت ليشهدوا منافع لهم ..

والمنافع التي يشهدها الوافدون إلى بيت الله الحرام ، كثيرة ، متنوعة ، تختلف حظوظ الناس منها ..

فهناك منافع روحية تفيض من جلال المكان وروعته وبركته ، على كلّ من يطوف بحماه ، وينزل ساحته ، وذلك بما يغشى الروح من هذا الحشر العظيم الذي حشر فيه الناس ، على هيئة واحدة ، فى ملابس الإحرام ، مجرّدين من متاع الدنيا ، وما لبسوا فيها من جاه ، وسلطان .. إنهم هنا فى هذا الموطن الكريم على صورة سواء ، فيما يأنون من أعمال الحج من ، سعى ، وطواف ، ووقوف بعرفة ، ورمى للجمرات .. ومن تلبية ، وتضرع ، وتعبّد لله ربّ العالمين .. إنهم فى مشهد أشبه بمشهد الحشر يوم القيامة .. حيث تعنو الوجوه للحىّ القيوم ، وحيث تخشع الأصوات لجلاله وقيومته .. ولعلّ هذا

١٧٤

بعض السرّ فى مجىء آيات الحج فى هذه السّورة التي بدئت بهذا العرض المثير لأهوال القيامة ومفازعها : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) .. فما أقرب الشبه بين موكب الحجيج ، وبين الحشر فى هذا اليوم العظيم ..

إن الحجّ نفسه ، هو صورة مصغرة للحياة الآخرة ، التي تبدأ من الموت ، ثم البعث ، والحشر ، والحساب ، والجزاء.

ولقد أحسن الإمام النسفي ، رضى الله عنه ، فى تصوير هذه الفريضة ، وفى عقد الشّبه بينها وبين الحياة الآخرة.

يقول ـ رضى الله عنه ـ : «فالحاج إذا دخل البادية ، لا يتكل فيها إلا على عتاده ، ولا يأكل إلا من زاده ، فكذا المرء إذا خرج من شاطىء الحياة ، وركب بحر الوفاة ، لا ينفع وحدته إلا ما سعى فى معاشه لمعاده ، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده.

«وغسل من يحرم ، وتأهبه ، ولبسه غير المخيط ، وتطيّبه ـ مرآة لما سيأتى عليه ، من وضعه على سريره ، لغسله وتجهييزه ، مطيبا بالحنوط ، ملففا فى كفن غير مخيط!.

«ثم المحرم ، يكون أشعث حيران .. فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان.

«ووقوف الحجيج بعرفات ، آملين ، رغبا ورهبا ، سائلين خوفا وطمعا ، وهم من بين مقبول ومخذول ـ كموقف العرصات ، لا تكلّم نفس إلّا بإذنه ، فمنهم شقىّ وسعيد ..

١٧٥

«والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء ، هو السّوق لفصل القضاء!

«ومنى ، هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين ..

«وحلق الرأس والتنظيف ، كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف.

والبيت الحرام ، الذي من دخله كان آمنا من الإيذاء والقتال ، أنموذج لدار السلام ، التي هى من نزلها بقي سالما من الفناء والزوال ...»

وهناك منافع عقلية ، ومادية يحصلها الحجاج عن قصد ، وغير قصد ، حيث يلتقى بعضهم ببعض وينظر بعضهم فى أحوال بعض ، وفى البلاد التي جاؤا منها ، وما فى هذه البلاد من صور الحياة ، وأعمال النّاس ، وثمرات أفكارهم وأيديهم ، وذلك فيما حملوه معهم من آثار الحياة عندهم ، وما كان لهم من جديد ومستحدث .. وبهذا يتبادلون المعرفة ، كما يتبادلون السّلع بينهم ، بيعا وشراء ، أو يتهادونها ، مودة وإخاء.

ـ قوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) .. الأيام المعلومات هى أيام الحج ، التي تتم فيها أعمال هذه الفريضة .. وهى فى أرجح الأقوال عشرة الأيام الأولى من ذى الحجة.

والذكر المراد هنا هو هذا الذكر الخاص ، الذي يكون فى أعمال الحج .. فكل عمل من أعمال الحج هو ذكر لله .. فالإحرام ذكر ، والطواف بالبيت الحرام ذكر ، واستلام الحجر الأسود ذكر .. والسعى بين الصفا والمروة ذكر .. والوقوف بعرفة ذكر ، ورمى الجمرات ذكر .. وحركات الحاج وسكناته فى أيام الحجّ كلّها ذكر .. حيث يلهج الحجيج دائما بالتلبية ، والتكبير ..

ـ وقوله تعالى : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) هو متعلق بمحذوف دلّ عليه قوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) والتقدير ويذكروه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ..

١٧٦

هذا ، ويكاد إجماع المفسّرين ينعقد على أن قوله تعالى : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ) متعلق بقوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) .. وعلى أن ذكر اسم الله فى هذه الأيام المعلومات واقع على (ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وهى الهدى المساق إلى بيت الله ، بمعنى أنهم يذكرون اسم الله عند نحر ما يقدّمون من هدى ..

والذي نراه ـ والله أعلم ـ أن قيد ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام فى تلك الأيام المعلومات غير مقبول ، وذلك من أكثر وجه :

فأولا : ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام لا تختصّ به أنعام الهدى وحدها ، بل هو أمر واجب فى كل ما يذبح من حيوان للأكل ، سواء ما كان منه هديا أو غير هدى ، وأنه لا يحلّ أكل حيوان ذبح من غير أن يذكر اسم الله عليه ، وهذا صريح فى قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ .. وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) .. (١٢١ : الأنعام) وفى قوله سبحانه : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ) (١١٨ : الأنعام) .. فقد جاء النهى فى الآية الأولى صريحا قاطعا ، كما جاء الأمر بالأكل فى الآية الثانية : (مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) متضمنا النهى ـ بمفهوم المخالفة ـ عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه.

وعلى هذا ، يكون تخصيص ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات ، وقصره على بهيمة الأنعام ـ لا محلّ له ، إذ لا جديد فيه ، الأمر الذي يجعل الآية معطلة عن إعطاء معنى يستفاد منها. وذلك مما تنزّهت عنه آيات الله وكلماته. وفى هذا يقول ابن حزم فى كتابه «المحلّى» ردّا على من يقول بأنه لا يجوز أن يضحّى ليلا ، محتجا بقوله تعالى : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ

١٧٧

بَهِيمَةِ) .. وبأن الله تعالى ذكر الأيام ولم يذكر الليالى .. يقول ابن حزم فى معرض الرد على هذا :

«لأن الله تعالى لم يذكر فى هذه الآية ذبحا ، ولا تضحية ، ولا نحرا ، لا فى نهار ، ولا فى ليل ، وإنما أمر الله تعالى بذكره فى تلك الأيام المعلومات .. أفترى يحرم ذكره فى لياليهن؟ إن هذا لعجب! (١).

وحقّ لابن حزم ـ رضى الله عنه ـ أن يعجب ، ويعجب!.

وثانيا : جاء فى آية أخرى بعد هذه الآية ، أمر خاص بذكر اسم الله على بهيمة الأنعام هذه ، التي تساق هديا للبيت الحرام ، وذلك فى قوله تعالى : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ .. لَكُمْ فِيها خَيْرٌ .. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ .. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) (الآية : ٣٦).

وهذا الأمر الخاص بذكر اسم الله على أنعام الهدى عند ذبحها ، هو تنويه بهذه الذبائح ، وإشعار بأنها قربان لله ، وأنها شعيرة من شعائر الله ، وعمل من أعمال الحج ، وأنها ليست لمجرد الأكل ، وإنما هى للبّر والإحسان إلى الفقراء ، حيث يطعمون من لحومها ، ويشاركون أصحابها فى الأكل منها ..

فليس الأمر بذكر اسم الله على هذه الأنعام عند نحرها ، هو إنشاء لهذا الأمر ، بل هو توكيد للأمر العام بذكر الله على ما يذبح ، وأن ذكر الله هنا ينشىء شعورا خاصا بأن هذه الأضاحى ليست ملكا خاصا لأصحابها ، وإنما هى قسمة بينهم وبين الفقراء!.

__________________

(١) المحلى : الجزء السابع ص ٤٤٦.

١٧٨

وثالثا : قصر ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات ، على بهيمة الأنعام (الهدى) قد أوقع المفسرين والفقهاء فى خلاف شديد ، فى تحديد الميقات الذي تذبح فيه الأضاحى .. وهل تذبح يوم النحر ، أو فى الثلاثة الأيام المكملة ليوم النحر ، أو لآخر يوم من ذى الحجة؟ فى كل هذا آراء ..

ذلك .. أن ذكر اسم الله فى أيام معلومات ، قد أفسح للمفسرين والفقهاء مجال النظر فى هذه الأيام ، التي تذبح فيها الأضاحى .. إنها أيام ، وليست يوما .. وإذن فقد لزم الاجتهاد فى تحرّى الوقت المناسب من هذه الأيام لذبحها .. وقد كان!!

ففى رأى أبى يوسف ومحمد ـ صاحبى أبى حنيفة ـ أنها أيام النحر ، وعدّتها ثلاثة أيام .. يوم العيد ، ويومان بعده ..

وعن الشافعي ، والحسن وعطاء ، أنها أربعة أيام ، يوم العيد ، وثلاثة أيام بعده ..

وعند ابن سيرين ، يوم واحد ، هو يوم النحر.

وعند أبى سلمة ، وسليمان بن يسار ، أنها إلى هلال المحرم ..!

فأى يوم من تلك الأيام ينحر فيه الهدى ، هو مجز فى حدود هذه المقولات.

وهذا كلّه ـ فيما نرى ـ مخالف لقوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) حيث قرن الأمر النحر بالصلاة ، التي هى صلاة العيد ، لا مطلق الصّلاة .. حيث يتحلل الحجيج من إحرامهم ، وحيث يختمون أعمال الحجّ بهذا القربان ، وحيث ينالون شيئا من حظوظ الدنيا بهذا الطعام من اللّحم فى هذا اليوم ، وحيث يشتركون جميعا فى هذه المائدة التي دعاهم الله إليها ،

١٧٩

وهم فى ضيافة بيته المحرّم .. وهذا مما لا يمكن تحصيله إذا وقع الذبح بعد هذا اليوم ، حيث يتفرق الحجيج ، ويأخذ كل طريقه إلى العودة من حيث أتى .. ثم من جهة أخرى نرى أعمال الحج كلها تجرى فى صورة جماعية .. وليس هناك من حكمة ظاهرة فى إفراد الهدى بهذا التحلل من قيد الجماعية فى الوقت الذي يذبح فيه!

هذا ، وربّما فهم بعضهم من قوله تعالى : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) على أن «اسم الله» لا يذكر إلا عند الذبح ، أما الذكر بمعناه المطلق ، فهو ذكر الله مثل قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) (٢٠٠ : البقرة) وقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٠ : الجمعة) وقوله سبحانه : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) (٣٥ : الأحزاب) .. فحيث أريد ذكر الله ، أي تسبيحه وحمده لم تقرن به به كلمة «اسم» على حين أن كلمة «اسم» قد جاءت مع لفظ الجلالة عند إرادة تزكية الحيوان وذبحه ، كما فى قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) (١١٨ ـ ١١٩ : الأنعام) وقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (١٢١ : الأنعام).

نقول : لعل هذا هو الذي جعل أكثر المفسّرين والفقهاء يخصصون ذكر اسم الله فى آية الحج بالذكر على بهيمة الأنعام عند الذبح.

ونقول : إن اقتران كلمة «اسم» بلفظ الجلالة هكذا : «اسم الله» لا ينهض دليلا على اختصاص ذكر اسم الله بذبح الحيوان .. فقد جاء فى آيات أخرى ، الدعوة إلى ذكر الله ، مقترنة بلفظ «اسم» كما فى قوله تعالى :

١٨٠