التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٩

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٣

وفى هذه القصة ، يشير القرآن إشارة لامحة إلى أن داود لم يعرف كيف يفصل فى هذه القضية ، أو أنه فصل فيها فصلا لم يصب مقطع الحق منها .. وهذا لا يعيب داود عليه‌السلام ، ولا ينقص من قدره ، لأنه فصل بما أدى إليه اجتهاده .. فإذا أخطأ فله أجر ، وإن أصاب فله أجران .. هذا هو حكم المجتهد ، الذي تجرد من هواه .. ولا شك أن داود كان أبعد ما يكون عن الهوى.

ففى قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) إشارة إلى أن سليمان هو الذي عرف وجه الحق فى هذه القضية ، ووقع على الرأى الصحيح فيها .. وذلك بفهم آتاه الله سبحانه وتعالى إياه .. كما يقول سبحانه : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) وقوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) هو تعقيب على قوله تعالى (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) الذي قد يفهم منه أن سليمان قد أوتى فهما من الله وأن داود قد حرم هذا الفهم ، فكان ذلك دافعا لهذا الوهم .. إذ أن كلّا من داود وسليمان ، قد لبس من فضل الله ومن إحسانه حللا ، وأن كلّا منهما قد أوتى من الله حكما وعلما .. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون أحدهما أكثر علما من الآخر ، فالعلم درجات لا حدود لها ؛ والله سبحانه وتعالى يقول : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦ : يوسف).

والقرآن الكريم لم يكشف عن تفاصيل هذه القضية. ولم يتحدث عن الحكم الذي حكم به داود فيها ، ولا عن وجهة نظر سليمان فيما حكم به أبوه .. ذلك أن كل هذا لا يقدّم شيئا فى تحقيق الغاية التي جاءت لها القصة ، وهو أن الفصل فى الخصومات بين الناس أمر خطير ، يحتاج إلى علم واسع ، وبصيرة نافذة ، ونفس تجردت من كل هوى ، وإلا كان الخطأ والزلل ، الذي من شأنه إن شاع أفسد حياة الناس ، وأغرى بعضهم ببعض .. ومن جهة أخرى

٨١

فإنه مهما بلغ الإنسان من علم ، ومهما أوتى من نفاذ بصيرة ، ومن قدرة على التجرد من الهوى ، ومهما تحرّى العدل واجتهد فى تحقيقه ، فإنه قد يقع له أحيانا من المشكلات ما يغيم عليه فيه وجه الحق ، ويغيب عنه وجه الصواب .. ومن هنا كان على من يقوم للفصل فى الخصومات ، أن يكون على حذر دائما ، وألّا يعجل بالرأى الذي يظهر له لأول نظرة ، بل يقلب وجوه النظر كلها ، ويعرض بعضها على بعض .. فما كان منها أقرب إلى الحق والعدل أخذ به .. وفى هذا يقول النبي الكريم : «إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إلىّ ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض ، فمن قضيت له بحق أخيه ، فإنما ، هى قطعة من النار ، فليأخذها أو يدعها ..».

هذا ـ والله أعلم ـ هو المقصد الذي جاءت له هذه القصة .. وهى فى هذا النظم الذي جاءت عليه ، مؤدية ـ فى أكمل أداء وأتم صورة ، وأعجز إعجاز وإيجاز ـ المقصد الذي قصدت إليه.

أما القصة ، فهى ـ كما جاءت فى روايات المفسرين وأصحاب السير ـ تتلخص فيما يلى ، وهو مما يروى عن ابن عباس : كان لجماعة زرع ، وقيل كرم تدلّت عنا قيده ، وكان لآخرين غنم ترعى قريبا من هذا الزرع أو الكرم ، فغفل عنها رعاتها ، فانطلقت إلى الزرع ، فانتشرت فيه ، وعاثت فى أرجائه.

وجاء أصحاب الزرع يشكون أصحاب الغنم إلى داود ، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث! .. فلما لقى سليمان أصحاب الغنم قال لهم : كيف قضى بينكم؟ فأخبروه ، فقال : لو وليت أمركم لقضيت بغير هذا ، فلما علم داود بذلك دعاه ، فقال : كيف تقضى بينهم؟ قال : أدفع الغنم إلى أصحاب الحرث فيكون لهم أولادها وألبانها وصوفها ومنافعها ، ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا بلغ الحرث الحدّ الذي كان عليه ، أخذه أصحاب الحرث ، وردوا الغنم إلى أصحابها. فقصى داود بهذا!!

٨٢

وهكذا رأى داود وجه الحقّ ، فأخذ به ، ولم يمسك حكمه الذي استبان له أولا ..

قوله تعالى :

(وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ ؛ وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ).

(صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) : اللبوس هنا ما يلبس للحرب ، من دروع وغيرها.

(لِتُحْصِنَكُمْ) أي تكون لكم حصنا ووقاية فى القتال.

(مِنْ بَأْسِكُمْ) : أي من عدوان بعضكم على بعض .. والبأس : الشدّة ، والقوّة.

وهذه الآية هى تفصيل لمجمل قوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ، وهى ـ من جهة أخرى ـ دفع لهذا الوهم الذي قد يتسرب لبعض العقول من قوله تعالى : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) والذي قد يقع منه فى الفهم. انتقاص لقدر داود عليه‌السلام ..

فداود عليه‌السلام. نبىّ كريم عند الله ، محفوف بفضله وإحسانه .. ومن فضل الله عليه أنه سخّر معه الجبال والطير ، تسبّح جميعها بحمد الله ، وتشكر له .. فإذا سبّح بحمد الله ، وجد الوجود كله من حوله ، من جماد وحيوان ، يسبّح معه ، ويأتمّ به فى هذا التسبيح ، فيكون من ذلك كلّه نشيد متناغم ، يملأ أسماع الكون ، فتفيض به مشاعر داود ، ويرتوى منه قلبه ، ويصبح كيانه كلّه نغما منطلقا بتمجيد الله ، مترنّما بتقديسه وحمده.

وفى قوله تعالى : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) إشارة إلى أن هذه الكائنات ، من جبال وطير ، مسخرات من الله ، لتسبيحه وتمجيده ، كما سخّر داود من الله لتسبيحه وتمجيده ، وأنها قد انضمت مع داود وتجاوبت معه ، وائتلفت به .. وهذا ما جعل لداود هذا الإحساس بها ، حين أزيل الحجاب بينه وبينها ،

٨٣

الأمر الذي لا يشاركه فيه كثير من العابدين المسبّحين .. وإلّا فإن الوجود كله فى أرضه وسمائه ، وفيما تحتوى أرضه سماؤه ، يسبّح بحمد الله ، ويصلّى له ، ويمجّده ، كما يقول سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (٤٤ : الإسراء) .. وهذا هو السرّ فى قوله تعالى : (مَعَ داوُدَ) بدلا من «لداود» .. فالجبال والطير هنا مسخرة معه للتسبيح والتمجيد ، وليست مسخرة له .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) (١٠ : سبأ).

وفى قوله تعالى : (وَكُنَّا فاعِلِينَ) ـ إشارة إلى أن هذا الفضل من الله سبحانه على داود ، كان بتقديره ، وبما أوجبه جلّ شأنه على نفسه من الإحسان إلى المحسنين من عباده .. وقد كان داود أحسن خلق الله صوتا .. وقد جعل «الزّبور» ترانيم ، ذات نغم شجى ، يسبح فيه بحمد الله .. فتتجاوب مع صوته الكائنات من جماد وحيوان ..

قوله تعالى :

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ .. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ).

أي أن من فضل الله تعالى على داود ، أن علمه صنعة الدروع. بعد أن ألان له الحديد ، كما يقول سبحانه : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) (١٠ ، ١١ : سبأ).

وفى قوله تعالى : (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) إشارة إلى أن هذه الدروع ، هى مما يدفع به الله بأس الناس ، ويردّ به عدوان بعضهم على بعض .. وهى نعمة تستوجب من الناس الحمد والشكر لله رب العالمين.

٨٤

وهنا سؤال :

كيف تكون هذه الدروع نعمة من نعم الله ، تستوجب الحمد والشكر ، وهى أداة من أدوات الحرب ، وعدّة من عدده؟ ثم هى من جهة أخرى ، قد تكون قوة من قوى البغي والعدوان ، يفيد منها أهل البغي والعدوان أكثر مما يفيد منها أهل الاستقامة ، والسلامة؟

والجواب على هذا ، من وجوه :

أولا : أن هذه الدروع فيها حصانة ، وصيانة لكثير من الدماء التي كان يمكن أن تراق ، وللأرواح التي كان يمكن أن تزهق فى القتال الذي يلتحم بين الناس .. فهى ـ كما ترى ـ عامل مخفف من ويلات الحرب ، ودافع لكثير من شرورها .. فلو قدّر أن يلتقى فى ميدان القتال أعداد من المتقاتلين بدروع وآخرون مثلهم بغير دروع ، لكان حصيد الحرب ، وحصيلتها من الدماء والأرواح فى الميدان الأول ، أقلّ بكثير جدا مما يقع فى الميدان الآخر ..

إذ كان الأولون يقاتلون وهم فى هذه الحصون من الدّروع ، على حين يقاتل الآخرون وهم فى معرض الهلاك مع كل طعنة أو ضربة! : : فهذه الدروع نعمة تستوجب الشكر من الناس جميعا ، أقويائهم وضعفائهم على السواء ..

ولا يدفع هذا ، بالقول بأن هذه الدروع فد تغرى الناس بعضهم ببعض ، وتدفع بهم إلى القتال ، إذ يجدون فى أيديهم ما يدفع عنهم خطر الحرب ، ويبعد من احتمال الموت فيها ..

فهذا القول ، وإن بدا فى ظاهره شيئا مقبولا ، إلا أنه فى حقيقته قائم على غير هذا الوجه ..

ذلك أن كل قوّة مستجلبة غير القوى الجسدية الإنسان ، هى متاحة للقوىّ والضعيف منهم ، وأن الضعيف ، يستطيع بهذه القوى المستجلبة أن يبطل

٨٥

فضل صاحب القوة الجسدية عليه ، وبهذا يتعادل الأقوياء والضعفاء ، ويكون من ذلك أن يكبح جماح أصحاب القوى الجسدية ، التي كانت أظهر قوة عاملة ، فى مجال البغي والعدوان وفى تسلط الأقوياء على الضعفاء ..

وننظر فى المجتمع الإنسانى اليوم ، فنجد أن اختراع القنبلة الذرية ، التي هى أشنع ما عرف من أدوات التدمير والإهلاك .. قد كانت فى أول أمرها يوم وقعت ليد أمة من الأمم ، كانت مصدر خطر عظيم فى يد هذه الأمة ، تكاد تهدد به العالم ، ولكن سرعان ما سعت غيرها من الأمم إلى امتلاك هذه القوة الرهبية ، وسرعان ما بطل مفعولها أو يكاد يبطل ، حيث أنها نذير بالشرّ العظيم للأطراف المتحاربة بها جميعا .. وهنا نلمح إشارة مضيئة من قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ـ تشير إلى قوله تعالى : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ .. فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) فالقصاص إزهاق نفس ، ولكن فيه حياة لنفوس ، إذ أن القصاص يقتل فى نفوس ، كثير من الناس ممن تحدثهم أنفسهم بالقتل ـ يقتل فيهم تلك النزعة الداعية إلى القتل ، خوفا من أن يقتل القاتل بمن قتله .. وكذلك الدروع التي يلبسها المتحاربون ، هى وقاية لكل منهما من عدوان الآخر عليه ..

وليس هذا شأن الدروع وحدها ، بل هو شأن كل وسائل القتال ، والدفاع. فهى وإن كانت أداة تدمير وهلاك ، هى فى الوقت نفسه عامل ردع وزجر .. بل إنها دعوة إلى السلام ، وإخماد نار الحروب ، إذا توازنت القوى بين الأمم. وقد كان من تدبير الله تعالى ، أن وضع هذه الدروع أول ما وضعها فى يد نبىّ كريم ، لا يكون منه بغى أو تسلط .. ثم أصبحت ملكا مشاعا فى الناس جميعا ..

وثانيا : أن القرآن الكريم فى حديثه عن الدروع ، وعن أنها نعمة تستوجب الشكر ، إنما يتحدث إلى المجتمع الإنسانى ، الذي من طبيعته البغي

٨٦

والعدوان ، والذي من شأن القوىّ فيه أن يبغى على الضعيف ، والذي إن كفّ فيه بعض الناس أيديهم عن الناس ، لم تكفّ الناس أيديهم عنهم .. وعلى هذا فإن حديث القرآن عن الدروع ، هو حديث عن واقع الحياة ، وعما يدور فى حياة الناس .. فامتلاك الناس لأدوات الحرب لا يغريهم بالحرب ، ولا يفتح لهم بابا لم يدخلوه ، فهم فى حرب دائمة .. وهذه الدروع وغيرها من أدوات الدفاع حماية للناس من الطعنات والضربات.

وثالثا : هذه الدروع أو لبوس الحرب ، لها دور سلبىّ لا إيجابى ، بمعنى أنها ـ فى ذاتها ـ تدفع الشر ، وتردّه ، ولا ينطلق منها شر إلى أحد .. كما هو الحال فى السيوف ، والحراب ، والمدافع ، وغيرها .. إنها أداة دفاع ، وليست أداة هجوم .. إنها تتلقى الضربات ، ولا تضرب ، ولا يضرب بها.

قوله تعالى :

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ) ..

هو معطوف على قوله تعالى : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) .. أي وكذلك سخّرنا لسليمان الريح عاصفة .. وقد بيّنا فى الآية السابقة السرّ فى تعدية الفعل (سَخَّرْنا) بأداة المعية «مع» وعدم تعديته بلام الملك «اللام» وقلنا إن الجبال والطير لم تكن مسخرة لداود ، بل كانت مسخّرة لتسبّح بحمد الله معه .. فهى مصاحبة له ، فى التسبيح .. وليست مسخّرة لخدمته ..

أما هنا ، فإن الريح مسخرة لسليمان ، خاضعة لأمره ، قد جعلها الله سبحانه وتعالى ، مطية ذلولا له ، تجرى بأمره رخاء حيث شاء ..

٨٧

وفى قوله تعالى : (عاصِفَةً) إشارة إلى قوة انطلاق هذه الريح ، وأنها فى قوة العاصفة فى اندفاعها ، ولكنها فى رقّة النسيم ولينه فى سيرها ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آية أخرى : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٣٦ : ص) فهى عاصفة ورخاء معا!!

هذا كلام الله!! ـ وفى قوله تعالى : (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) إشارة إلى مسبح هذه الريح ومسراها ، وأنها لا تتجاوز حدود الأرض المقدسة ، ولا تعمل خارج سمائها ..

وهذا ما ينبغى أن يفهم عليه قوله تعالى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) (١٢ : سبأ) فقد تضاربت أقوال المفسّرين فى هذه الريح ، وفى امتداد ملك سليمان بها ، وأنها كانت تقطع به ملكه فى شهر ذاهبة ، وشهر راجعة .. وهذا ما لا يتسع له ملك سليمان بحال أبدا ..

والمعنى الذي تفهم عليه هذه الآية الكريمة ، هو المعنى الذي يشعّ من قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) وهو أنها فى (غُدُوُّها) أي مسراها فى غدوة النهار ، تقطع من المسافة ما يقطعه السائر على قدميه ، أو على دابته فى شهر .. كذلك (رَواحُها) وهو رجوعها آخر النهار .. يقدّر بمسيرة شهر للراجل أو الراكب .. والغدوة قد تكون ساعة أو ساعتين ، أو ثلاثا ، أو أكثر ، وكذلك الرّوحة.

قوله تعالى :

(وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ).

أي وسخرنا لسليمان (مِنَ الشَّياطِينِ) أي من بعض الشياطين لا كلّهم ،

٨٨

من يغوصون له فى البحار ويستخرجون اللؤلؤ والمرجان وغيرها .. (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) أي أقل من هذا العمل ، كأن يسخّروا فى البناء ، وحمل الأحجار ، وغير هذا .. كما يقول سبحانه وتعالى فى آية أخرى : (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) (٣٧ : ص).

وفى قوله تعالى : (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) إشارة إلى أنهم محكومون بقدرة الله ، وأن تلك القدرة هى الحافظة لهم ، والممسكة بهم ، على خدمة سليمان ، وطاعة أمره .. ولو لا هذا لتفلّتوا منه ، وخرجوا عن طاعته ، فليس سليمان هو الذي سخر هذه الشياطين ، وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي سخرها له ..

____________________________________

الآيات : (٨٣ ـ ٩١)

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ(٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٩١)

____________________________________

٨٩

التفسير :

[أولياء الله وما يبتلون به]

قوله تعالى :

(وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

هو معطوف على قوله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) وهو عطف قصة على قصة. أي واذكر أيوب إذ نادى ربّه».

وذكر أيوب فى هذا المقام ، هو ذكر له دلالته العظيمة ، وذلك من وجوه :

أولا : أن أنبياء الله وأصفياءه يبتلون بالضرّ ، كما يبتلى الناس ، بل وكما يبتلى شرار الناس .. وأنه كما يبتلى الناس بالخير والشرّ ، كذلك يبتلى الأنبياء بالخير والشر ..

فأنبياء الله وأصفياؤه ، يبتلون من الله فيزدادون إيمانا وقربا منه ، وطمعا فى رحمته .. وأعداء الله يبتلون فيزدادون بعدا من الله ، وكفرا به ، ومحادّة له.

وثانيا : أن أنبياء الله وأصفياءه ، إذا ابتلوا فى شىء من أنفسهم أو أموالهم ضروا إلى الله ، وبسطوا إليه أكفهم وولّوا إليه وجوههم ، وطرقوا أبواب رحمته بالدعاء والرجاء .. فباتوا على أمن من كل خوف ، وعلى طمع ورجاء من كل خير ..

وثالثا : أن الله سبحانه وتعالى ، يتقبل من عباده المخلصين ما يدعونه به ، فلا يقطع أمداد رحمته عنهم ، ولا يخيّب رجاءهم فيه.

وانظر إلى هذا الأدب النبوي العظمى ، فى مناجاة الخالق جلّ وعلا .. فأيوب ـ عليه‌السلام ـ مع هذا البلاء العظيم ، الذي شمله فى نفسه وأهله وماله

٩٠

جميعا ، لم يستبدّ به الجزع ، ولم تستول عليه الحيرة ، ولم تحرقه أنفاس الضيق والألم .. بل ظلّ مجتمع النفس ، ساكن الفؤاد ، رطب اللسان بذكر الله .. فلما اشتد به الكرب ، ورهقه البلاء ، وأراد أن يذكر نفسه ، ويشكو لربّه ما يجد ، لم يزد على أن يقول بلسان رطب بالصبر ، وبأنفاس نديّة بالإيمان : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وكان أن سمع الله دعاءه ، واستجاب له ..

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ .. فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ .. رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ).

وهكذا يجزى الله المحسنين الصابرين .. كما يقول سبحانه : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) .. لقد كشف الله عن أيوب الضر الذي أصابه فى جسده ، ورزقه من البنين والأموال ضعف الذي ذهب منه ..

وقوله تعالى : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) أي أن ذلك العطاء كان رحمة منّا ، أصبنا بها عبدا من عبادنا المخلصين.

وقوله تعالى : (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) معطوف على «رحمة» أي وكان ذلك الذي فعلناه بعبدنا (أَيُّوبَ) تذكرة وموعظة (لِلْعابِدِينَ) أي الذين يعبدون الله ، ويحسنون عبادته ، ويصطبرون عليها ..

فالعابدون بما لهم من صلة بالله ، ربّما يقع فى نفوسهم أنهم بمنجاة من الابتلاء بالشر ، إذ لا يكاد يقع فى تصوّر الناس أن من وثّق طلته بالله ، وتقرب بالعبادات والطاعات إليه ، هو فى مأمن مما يقع للناس من ضرّ وأذى ، فى نفسه أو ولده أو ماله .. وإلّا فما ثمرة هذه الصلة ، وما فضل الطائعين على العاصين ، والأولياء على الأعداء؟

٩١

هذا ما جاء قوله تعالى : (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) لينبه إليه ، وليصحّح مشاعر العابدين خاصة ، بهذا الذي كان منه سبحانه لعبده أيّوب ـ عليه‌السلام ـ وما ابتلاه به ، فى نفسه ، وأهله ، وماله ، بما لم يكد يبتلى به أحد من عباد الله ..!

وقد كان أيوب ـ عليه‌السلام ـ من خير العابدين المقربين إلى الله ، حين مسّه الضرّ ، كما كان من خير الصابرين على البلاء ، الطامعين فى رحمة الله ، المطمئنين إلى قضائه فى عباده ، الواثقين بحكمته وبعدله .. بعد أن لبسه الضرّ وعاش فيه.

وإذن فليس المؤمنون ، العابدون ، الساجدون ، بمعزل عن الابتلاء بالضرّ والأذى ، بل إنهم أكثر الناس تعرضا للبلوى ، وذلك ليبتلى الله ما فى صدورهم ، وليمحص ما فى قلوبهم .. والله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) (١٨٦ : آل عمران) ويقول سبحانه : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢ : العنكبوت).

فأولياء الله وأحباؤه هم أكثر عباد الله تعرضا للابتلاء ، إذ كان ذلك هو الدواء المرّ ، الذي تذهب الجرعة ، منه بكثير من أمراض النفوس وعللها ، وهو النار المحرقة ، التي تنصهر فى حرارتها معادن الرجال ، فتصفّى من الخبث وتنقّى من الغثاء والزّبد! وبهذا تظهر عظمة الإنسان ، وتصفو موارده ، ويصبح ـ على ما يبدو عليه من ضعف ، وفقر ـ أقوى الأقوياء ، وأغنى الأغنياء ، ينظر إلى الدنيا ، وحطامها ، وما يتفاخر به الناس فيها من مال ، وجاه ، وسلطان ـ نظرته إلى أطفال يتلهون بلعبهم ، ويزهون بالجديد من ثيابهم!

ثم لعلك تسأل : أما كان غير هذا البلاء ، أولى بهم ، وهم أحباب الله وخلصاؤه؟ أو ما كان الإحسان إليهم بالخير أليق من التوجه إليهم بالمساءة

٩٢

والضرّ؟ وإذا لم يكن الإحسان .. فهلا كانت العافية من البلاء؟ وإذا كان هذا الابتلاء مرادا لغاية هى تطهير النفوس ، وتزكيتها ، وتخليصها من الآفات والعلل .. فهلا كان ذلك بالإحسان والإنعام .. وقدرة الله لا يعجزها شىء ، ولا يحدّها حدّ ، ولا يقيدها قيد؟

والجواب عن هذا كله :

أولا : أن الله سبحانه وتعالى كما ابتلى بالخير ، ابتلى بالشر ، كما يقول سبحانه وتعالى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (٣٥ : الأنبياء) .. وقد ابتلى الله ـ سبحانه ـ سليمان عليه‌السلام بالكثير الغدق من النعم ، فسخّر له الريح والجنّ ، وعلّمه لغة الحيوان والطير ، وجعلها جنودا من جنده ، ووضع بين يديه من القوى الظاهرة والخفية ، ما جعل له ملكا وسلطانا لم يكن لأحد من بعده كما يقول الله سبحانه وتعالى : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥ : ص) وقد أجاب الله سبحانه وتعالى ما طلب ، فقال سبحانه : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٦ ـ ٣٩ : ص) حتى إن سليمان نفسه ليستكثر هذا الإحسان الذي لا يكاد يتسع له وجوده ، فيقول : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦ : النمل) وحتى إنه ليجد نفسه عاجزا عن الوفاء بشكر القليل من هذا الفضل العظيم ، فيقول : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩ : النمل).

فالابتلاء بالإحسان والخير ، عند من يعرف قدر الإحسان ، وفضل المحسن وجلاله وعظمته ـ لا يقلّ مئونة وعبئا ، عن الابتلاء بالمساءة والضر .. إنه ابتلاء!

٩٣

وقد ابتلى الله سبحانه بعض أوليائه بالضر والمساءة ، فكان ذلك ـ فى حقيقته ـ إحسانا إليهم ، إذ سلك بهم مسالك الخير والإحسان ، وزادهم من الله قربا ومن رضاه رضى وزلفى ..

وانظركم لقى رسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو صفوة خلق الله ؛ وخاتم رسله ـ كم لقى على مسيرة دعوته ، وفى سبيل رسالته ، من أذى؟ وكم احتمل من مساءة وضرّ؟

أفرأيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين خرج إلى ثقيف ، يرجو عندهم من استجابة لله ورسوله ، ما أبته عليه قريش ، حتى إذا التقى بسادة ثقيف ، وعرض عليهم الإيمان بالله ، ردّوه أشنع رد ، ثم أغروا به سفهاءهم ، فرجموه حتى أدموه .. ثم أرأيت إلى رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وقد أخذ طريقه إلى خارج ثقيف ، وهو يحمل هذا الهمّ الثقيل ، حتى إذا بلغ إلى حيث انقطع عنه صوت الكلاب البشرية التي كانت تنبحه ، أسند ظهره إلى ظل شجرة هناك ، ومولاه زيد يضمد جراحه .. ثم ما كادت نفسه تهدأ ، وأنفاسه تنتظم ، حتى رفع رأسه إلى السماء ، وناجى ربه ، بتلك الكلمات الضارعة المشرقة ، التي تنبض حياة بمشاعر الإيمان ، وأنفاس التسليم والرضا .. استمع إليها ..

«إلهى .. أشكو إليك ضعف قوتى ، وقلة حيلتى ، وهوانى على الناس! «يا أرحم الراحمين .. أنت رب المستضعفين وأنت ربى.

«إلى من تكلنى؟ .. إلى بعيد يتجهمنى؟ أو قريب ملّكته أمرى؟

«إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى.

«غير أن عافيتك هى أوسع لى!

٩٤

«أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ـ أن يحلّ علىّ غضبك ، أو ينزل بي سخطك.

«لك العتبى حتى ترضى ..

«ولا حول ولا قوة إلا بك ..»

إنها مناجاة ، يتنفس فيها النبي أنفاس العافية ، ويطعم منها طعم الرضا ، ولهذا طالت تلك المناجاة ، ومشت كلماتها الهوينا على شفتى رسول الله ، كأنها تحمل أثقالا من الهموم التي ألمت به ، وتنطلق بها فى قافلة طويلة ممتدة بين الأرض والسماء!!

ثم انظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وقد أحاط به المشركون ، وتعاورته سهامهم ورماحهم ، وكادت تصل إليه سيوفهم ، وقد شجّ صلوات الله وسلامه عليه ، وكسرت ثنيتاه ، واستشهد كثير من أصحابه ، وأحبابه ، ومن بينهم عمه ، أسد الله ، حمزة بن عبد المطلب. ومع هذا ، فما قال النبي فى هذا المقام ، إلا القولة التي لا يقولها إنسان غيره فى هذه الدنيا .. قال ـ صلوات الله وسلامه عليه : «اللهم اهد قومى ، فإنهم لا يعلمون»!!

وكما ابتلى الله سبحانه ، أولياءه بالبأساء والضراء ، ابتلى أعداءه بالنعماء والسراء ، فكان ذلك بلاء عليهم ، ونقمة من نقم الله بهم .. لقد زادتهم تلك النعم بعدا عن الله ، وعمى عن الحق ، وضلالا عن الهدى.

والقرآن الكريم يذكر لنا قارون ، كمثل من أمثلة الابتلاء بالنعم ، عند من لا يقدر على الوفاء بها ، ولا يقدرها قدرها ، فكان أن عجل الله له الهلاك فى الدنيا ، ثم أعدّ له عذاب السعير فى الآخرة .. وكذلك فرعون ، الذي بسط له فى السلطان ، وأمدّه بموفور النعم ، فما زاده ذلك إلا كفرا بالله ، ومحادة له .. فمات تلك الميتة الشنعاء ، وكان مثلا وعبرة لأولى الأبصار ..

٩٥

أما فى الآخرة ، فهو إمام من أئمة الضلال ، وقائد من القواد إلى عذاب الجحيم .. (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ، فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ، وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ) (٩٨ : هود).

وثانيا : لا شك أنه سبحانه وتعالى قادر على أن يعفى أولياءه من البلاء وأن يجعل ابتلاءهم بالسراء لا بالضراء ، وأن يجعلهم طبيعة قائمة على الحمد والشكر ، وفطرة مفطورة على الاحتمال والصبر.

ولكن هذا وإن كان مما يفعله الله ببعض عباده وأحبابه ، كما كان ذلك لسليمان ـ فإن هناك درجة فوق تلك الدرجة ، وهى درجة الابتلاء بالضراء ، حيث يجد الإنسان نفسه وكأنه فى صراع ضار مع الحياة وخطوبها ، وحيث يرى نفسه وكأنه جبل راسخ شامخ تتحطم على صخوره الصلدة ، الأمواج الصاخبة ، وتتكسر تحت أقدامه القويّة ، العواصف العاتية .. وحيث يرى آخر الأمر وقد انتهى هذا الصراع ، وانجلى غبار المعركة ، وإذا به وبين يديه راية النصر ، وعلى جبينه تاج الفوز والظفر!

لقد كسب المعركة بهذا الجهد الذاتي ، وبهذا الثمن الغالي الذي قدمه من ذات نفسه ، عرقا متصببا وأرقا متصلا ، وعملا دائبا ..

وهذا ما يجعل للنصر هذا الطعم الحلو ، الذي لا يعرف مذاقه إلا من ابتلى وصبر ، وجاهد وبذل ، وحرم نفسه النوم فى ظل الراحة والرفاهة ، وبات ليله ساهرا ، ونهاره عاملا ..

وإنه لفرق كبير بين من يجد بين يديه طعاما طيبا حاضرا عتيدا ، لم يبذل فيه جهدا ، ولم يتكلّف له عملا ، وبين من فرغت يده من كل شىء ، فيجدّ ويعمل فى غير وناء أو فتور ، وهو على ما به من حرمان ومسغبة ، حتى إذا اجتمع له من سعيه ما يهيء به لنفسه طعاما ، كانت عنده كل لقمة من هذا الطعام ، أشهى وأطيب من تلك المائدة الحافلة بطيب الطعام

٩٦

والمثل لهذا ، ما نجد فى حياة الوارث الذي يعيش على ما ورث ، وبين العامل الذي يعيش من عرقه وكدحه وجهده ..! فحياة الوارث حياة رتيبة مملة ثقيلة ، ذات لون واحد ، لا يتبدل ، بينما حياة العامل خصبة مليئة بالحياة والحركة ، وتغاير الطعوم والألوان.

ونجد هذا فى الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ فأصحاب الرسالات الكبرى منهم ، هم الذين ابتلوا بالبأساء والضراء .. وعلى قدر ابتلائهم كانت منزلتهم عند ربهم.

إبراهيم عليه‌السلام ، ابتلى بإلقائه فى النار .. وبالأمر يذبح ولده إسماعيل بيده ، فكان خليل الرحمن وأبا الأنبياء ..

وموسى عليه‌السلام ، ابتلى من أول حياته ، بإلقائه فى اليم رضيعا ، ثم بقتله المصرىّ ، وطلب فرعون له ، وفراره إلى مدين .. ثم بلقاء فرعون ، ومواجهته بالدعوة إلى الإيمان بالله .. ثم كان ابتلاؤه الأكبر فى حياته بين بنى إسرائيل ، وفى خلافهم عليه ، وشرودهم منه .. فكان كليم الله.

وعيسى ـ عليه‌السلام ـ نشأ فى حجر الابتلاء ... تنعقد حوله ، وحول أمه التهم والظنون ، حتى إذا ظهر فى اليهود ، كان بينه وبينهم هذا الصراع الطويل المرير ، حتى لفّقوا له التهم ، وقدموه للحاكم الرومانى ، وطلبوا إليه أن يحكم عليه بالصلب ، حسب شريعتهم ، ولم يسترح لهم بال حتى حكم لهم بصلبه ، وحتى شبّه لهم أنهم صلبوه .. وكان كلمة الله.

ومحمد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قد لقى من قومه ألوان المساءة فى كل لحظة من لحظات تلك السنوات الثلاث عشرة التي قضاها فى مكة قبل الهجرة .. فلما هاجر كانت حياته قسما مشاعا بين الدعوة إلى الله ، والجهاد

٩٧

فى سبيل الله .. يقوم ليله ، ويصوم نهاره .. وما شبع من طعام قط ، ولا نام إلا على حشية من ليف .. وهو الذي كان يستطيع ـ لو أراد ـ أن يأكل فى صحاف من ذهب ، وأن ينام على فراش من حرير .. فكان خاتم الأنبياء وصفوة الخلق ..

وهكذا نجد الابتلاء بالضراء أرجح كفة من الابتلاء بالسراء ، فى ميزان الصياغة لمعادن الرجال ، وصبّهم فى قوالب الكمال والإحسان .. ولهذا كان أولو العزم من الرسل ، هم الذين ابتلوا وامتحنوا أشق امتحان ، وأثقل ابتلاء ..

وثالثا : الابتلاء بالشرّ ليس ضربة لازب لأولياء الله وأحبابه وأصفيائه ، ولكنه الشأن الغالب عليهم ، لأن ذلك أشكل بطبيعتهم ، وأقرب إلى نفوسهم ، لأنهم كلما ازدادوا من الله قربا انكشف لهم أمر الدنيا ، ومتاعها الغرور ، فنظروا إليها نظرة استخفاف واستصغار ، لكل ما فيها ومن فيها ، ثم إذا هم رأوا تكالب الناس وتزاحمهم على مواردها ، زادهم ذلك إحقارا لها ، وبعدا عنها.

فهذا الذي نرى فيه أولياء الله وأصفياءه ، من فاقة ، وضرّ ، وحرمان ، ونعدّه بلاء أو ابتلاء ، هو ـ فى الواقع ـ مطلب لتلك النفوس العظيمة ، ورغبة محببة لهذه القمم العالية من عباد الله ..

إنهم يزهدون فيما تطلبه النفوس ، راضين .. وإنهم ليجدون فى الحرمان ، من الغبطة والرضا ، ما لا يجده الواجدون من متع الحياة ومسراتها ..

وهكذا تطلب كل نفس غذاءها الذي يهنئوها ، ويطيب لها .. وشتان بين الكلاب والأسود .. حيث تتقاتل الكلاب على الجيف ، على حين تموت الأسود جوعا ولا تدنو منها ..

٩٨

رابعا ـ يبتلى المحسنون والصالحون من عباد الله بما يبتلون به ، وهم على وعد من الله سبحانه وتعالى ، بأن وراء الضيق فرجا ، وبأن مع العسر يسرا .. وأنهم إن صبروا اليوم على الضرّ والأذى ، فإنهم لعلى موعد بلقاء غد ينجلى فيه الكرب ، وتنقشع غمامات الضر .. (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١٥٥ ـ ١٥٧ : البقرة) ..

وكما قيل ، من أن الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى ، فكذلك كل نعمة من نعم الله ، لا يذوق حلاوة طعمها ، ولا يعرف جلال قدرها إلا من حرمها ، وطال حرمانه وافتقاده لها ، فإذا لقيها بعد هذا ، عرف كيف فضل الله عليه ، وكيف إحسانه إليه ، ومن ثم يعرف كيف يؤدّى لله بعض ما يجب له ، من حمد وشكران ..

(*)

قوله تعالى :

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ..

جاء ذكر إسماعيل ، بعد ذكر أيوب ، لأن كلا منهما قد ابتلى ابتلاء عظيما من الله ، وكلّا منهما كان من الصابرين على ما ابتلى به.

فأيوب ، قد كان فى عافية ، وفى نعمة ظاهرة ، ثم ابتلاء الله فى نفسه وماله وولده جميعا .. فصبر راضيا بحكم الله فيه ، مطمئنا إلى مواقع الرحمة منه ..

وإسماعيل .. قد رأى أبوه فى المنام أنه يذبحه بأمر من ربه ، فلما أخبره بأمر الله ، وطلب إليه رأيه ، لم يتردد فى الجواب ، وقال : (يا أَبَتِ افْعَلْ

٩٩

ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) ..

وقدّم أيوب على إسماعيل ، مع أنه فرع من إبراهيم ، وإسماعيل أصل .. لأن أيوب طالت محنته ، وطال انتظاره فى موقف البلاء سنين ، وهو صابر ومصابر ، ولم يضجر ، ولم يتكثر من الأنين والشكوى. أما إسماعيل فقد كان ابتلاؤه لساعة من الزمن ، ثم انجلى الكرب وزالت المحنة .. ومن جهة أخرى ، فإن إسماعيل كان ـ فى مواجهة هذا الابتلاء ما يزال غلاما ، لم يقع فى نفسه ، وقوعا واضحا كاملا أثر هذا الفعل الذي هو مساق إليه .. ولهذا كانت البلوى ، أو كان الجانب الأكبر منها واقعا على أبيه إبراهيم ، ومن أجل هذا كان حسابها مضافا إلى إبراهيم ، وإن كان لإسماعيل حسابه ، وهو حساب وإن قلّ ـ بالإضافة إلى أبيه ـ هو شىء عظيم رائع ، ترجح به موازينه فى الصابرين من عباد الله .. وذلك على حين كان أيوب فى دور الرجولة ، وفى حال لبس فيها الشباب ، والصحة ، وذاق حلاوة الغنى ، وعرف طعمها ، فكان انتزاع هذا كله منه ، أشدّ وقعا وأمرّ طعما مما لو وقع عليه ابتداء.

هذا وقد ذكر مع إسماعيل «إدريس» و«ذو الكفل».

أما إدريس فهو ممن ذكرهم الله من أنبيائه ، كما يقول سبحانه : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا :) (٥٦ : مريم) .. ولم يذكر القرآن عن إدريس أكثر من أنه كان نبيا وكان من الصابرين .. فلم يكن له فى القرآن قصة كقصة ، صالح ، وهود ، وإبراهيم ، ولوط ، وموسى ، وغيرهم من رسل الله ..

وأما «ذو الكفل» فلم يذكر إلا فى هذا الموضع ، وقد اجتمع مع النبيين الكريمين : إسماعيل وإدريس ، وشاركهما فى صفة الصبر .. كما يقول سبحانه (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ..

١٠٠